شرح الحديث 34 - باب الوضوء - من بلوغ المرام لأبي فائزة البوجيسي

 

34 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _رضي الله عنه_ قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:

"إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

 

نص الحديث وشرحه:

 

طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 52):

"(الِاسْتِنْشَاقُ): هُوَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَاءُ خَيَاشِيمَهُ، وَهُوَ مِنْ اسْتِنْشَاقِ الرِّيحِ إذَا شَمَّهَا مَعَ قُوَّةٍ قَالَهَا الْجَوْهَرِيُّ، وَالْمَنْخِرُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَفِي مِيمِهِ لُغَتَانِ الْفَتْحُ، وَالْكَسْرُ، وَ(الِانْتِثَارُ): مَأْخُوذٌ مِنْ النَّثْرَةِ، وَهِيَ طَرَفُ الْأَنْفِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هِيَ الْأَنْفُ.

وَاخْتُلِفَ فِي حَقِيقَةِ الِانْتِثَارِ. فَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ هُوَ إخْرَاجُ الْمَاءِ مِنْ الْأَنْفِ بَعْدَ الِاسْتِنْشَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ.

وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: (إنَّ الِاسْتِنْثَارَ: هُوَ الِاسْتِنْشَاقُ)،

وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ)، بَعْدَ قَوْلِهِ: (فَلْيَسْتَنْشِقْ) [م][1]." اهـ

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 247)

قال العلماء رحمهم الله تعالى: الْخَيشوم أعلى الأنف، وقيل: هو الأنف كلُّه، وقيل: هي عظام رِقَاقٌ لَيِّنةٌ في أقصى الأنف، بينه وبين الدماغ، وقيل: غير ذلك، وهو اختلاف متقارب المعنى.

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه البخاري في صحيحه (4/ 126) (رقم: 3295)، ومسلم في صحيحه (1/ 212/ 23) (رقم: 238)، والنسائي في سننه (1/ 67) (رقم: 90)، وفي "السنن الكبرى" (1/ 109) (رقم: 96)، وأحمد في "مسنده" - عالم الكتب (2/ 352) (رقم: 8622)، وابن خزيمة في صحيحه (1/ 77) (رقم: 149)، وأبو عوانة في المسند المستخرج (1/ 209) (رقم: 677)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 82) (رقم: 226)، والبغوي في "شرح السنة" (1/ 413) (رقم: 212).

 

والحديث صحيح: صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (7/ 1689) (رقم: 3961)، مشكاة المصابيح (1/ 125) (رقم: 392)، صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 121) (رقم: 330)

 

من فوائد الحديث:

 

طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 53_54):

"فِي بَيَانِ حِكْمَةِ الِاسْتِنْشَاقِ، ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:

أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ» [خ م]

فَبَيَّنَ سَبَبَ الْأَمْرِ، وَهُوَ تَطْهِيرُ آثَارِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ احْتِمَالَيْنِ فِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنَّهُ يَبِيتُ عَلَى الْخَيَاشِيمِ جَمْعُ خَيْشُومٍ، وَهُوَ أَعْلَى الْأَنْفِ أَوْ هُوَ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ؛ لِأَنَّ مَا يَنْعَقِدُ مِنْ الْغُبَارِ وَرُطُوبَةِ الْخَيَاشِيمِ قَذَارَةٌ تُوَافِقُ الشَّيْطَانَ.

قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ: وَهَذَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي نِسْبَتِهِمْ الْمُسْتَخْبَثَ، وَالْمُسْتَبْشَعَ إلَى الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ تَكْسِيلِهِ عَنْ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ كَمَا قَالَ «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ» الْحَدِيثَ وَلَا مَانِعَ مِنْ الْحَقِيقَةِ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَيْهَا فَقَدْ يُقَالُ هَذَا مَخْصُوصٌ بِالْوُضُوءِ الَّذِي يَعْقُبُ النَّوْمَ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا لِلِاسْتِنْشَاقِ مَعْنًى آخَرَ فَذَكَرُوا أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَقْدِيمِهِ وَتَقْدِيمِ الْمَضْمَضَةِ وَغَسْلِ الْكَفَّيْنِ عَلَى غَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْوَاجِبَةِ حَتَّى يَعْرِفَ الْمُتَوَضِّئُ بِذَلِكَ أَوْصَافَ الْمَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ___الرَّائِحَةُ، وَالطَّعْمُ، وَاللَّوْنُ هَلْ هِيَ مُتَغَيِّرَةٌ أَمْ لَا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا فَإِنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَالْعِلَّةُ الْمَنْصُوصَةُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَذَكَرَ لَهُ الْخَطَّابِيُّ مَعْنًى آخَرَ فَقَالَ وَتَرَى أَنَّ مُعْظَمَ مَا جَاءَ مِنْ الْحَثِّ، وَالتَّحْرِيضِ عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ فِي الْوُضُوءِ إنَّمَا جَاءَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَعُونَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَتَنْقِيَةِ مَجْرَى النَّفْسِ الَّتِي تَكُونُ بِهِ التِّلَاوَةُ وَبِإِزَالَةِ مَا فِيهِ مِنْ التَّفْلِ تَصِحُّ مَخَارِجُ الْحُرُوفِ.

 

طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 54)

مَبِيتُ الشَّيْطَانِ عَلَى الْخَيْشُومِ هَلْ هُوَ لِعُمُومِ النَّائِمِينَ أَوْ مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا يَحْتَرِسُ بِهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فِي مَنَامِهِ كَقِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا عِنْدَ النَّوْمِ لَا يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ، وَأَيُّ قُرْبٍ أَقْرَبُ مِنْ مَبِيتِهِ عَلَى خَيَاشِيمِهِ؟ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ لَمْ يَقْرَبْهُ أَيْ لَمْ يَقْرَبْ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِيهِ، وَهُوَ الْقَلْبُ، وَإِنْ بَاتَ عَلَى الْخَيْشُومِ فَيَكُونُ مَحْفُوظًا مِنْهُ مَعَ الْقُرْبِ مِنْ الْبَدَنِ لَهُ دُونَ الْقَلْبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 54)

قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الِاسْتِنْشَاقِ لَا تَحْصُلُ بِإِيصَالٍ الْمَاءِ إلَى الْخَيْشُومِ بَلْ بِالِانْتِثَارِ عَقِبَهُ؛ لِأَنَّهُ فَائِدَةُ الِاسْتِنْشَاقِ وَبِهِ يُشْعِرُ بَعْضُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا كَاشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ مَجَّ الْمَاءِ مِنْ الْفَمِ فِي حُصُولِ الْمَضْمَضَةِ، وَإِنْ كَانَ الرَّافِعِيُّ قَدْ جَزَمَ بِالِاكْتِفَاءِ فِيهَا بِإِيصَالِ الْمَاءِ إلَى الْأَنْفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (2/ 453_454):

يستفاد من الحديث:

* تأكد الاستنثار عند الاستيقاظ من النوم، وقد تقدم حكمه، واختلاف العلماء فيه في الباب السابق،

* وأن علته كون الشيطان يبيت على خيشوم الإنسان، ومبيت الشيطان، إما حقيقة؛ لأنه أحد منافذ الجسم يتوصل منها إلى القلب،

* والمقصود من الاستنثار إزالة آثاره، وإما مجاز، فإن ما ينعقد فيه من الغبار والرطوبة___قذرات توافق الشيطان، فالمراد أن الخيشوم محل قذر لبيتوتة الشيطان، فينبغي للإنسان تنظيفه، قاله السندي.

قال الجامع عفا الله عنه: الأول: هو الصحيح، ولا داعي للمجاز مع أن الحقيقة هي الأصل، ولا مانع من وقوعها، والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب."اهـ

 

الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 243_244):

"* في هذا الحديث إشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الوضوء عند القيام من نوم الليل؛ فإنه بذلك يصلح له الاستنثار، وذلك الاستنثار هو الذي يطرد الشيطان، وإلا فالأمة مجمعة على أنه إذا انتبه من نومه لم يجب عليه الاستنثار.

* وقوله: (يبيت على خيشومه)، فيه ما ينبه على أن الشيطان يخرج من النفس، ويدخل مع النفس، ولعل الله شرع الاستنثار في الوضوء ليغسل آثار الشيطان.___والخيشوم: الأنف، وخياشيم الجبال: أنوفها." اهـ

 

الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (1/ 144):

"الإنسان ما دام متيقظا وسوس إليه الشيطان بطريق ما يرد على السمع ويتراءى للبصر ويترقب الفرصة منه عند النطق، إلى غير ذلك من الأحوال.

فإذا نام انسدت فيه تلك المداخل، ولم يبق إلا مدخل النفس من الخيشوم، فيترصد هنالك للتعرض له بما يؤذيه،

ثم إن الخيشوم باب مفتوح إلى قبة الدماغ، وفيه محل القسوة المتخيلة التي هي مناطُ الرؤيا الصالحة ومثار الأحلام الكاذبة،

فلا يزال بائتا دون ذلك الباب، يعبث ينفخه ونفثه في عالم الخيال فرأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يمحو باستعمال الطهور المبارك على وجه التعبد آثارَ تلك النفخات والنفثات عن مجاري الأنفاس والله أعلم." اهـ

 

[تعليق]: وفي تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 189) للبيضاوي:

"و(الخيشوم): أقصى الأنف المتصل بالبطن المقدم من الدماغ، الذي هو موضع الحس المشترك، ومستقر الخيال،

فإذا نام تجتمع فيه الأخلاط، وييبس عليه الْمُخاطُ، ويكل الحس، ويتشوش الفكْرُ، فيرى أضغاث أحلام،

فإذا قام من نومه وترك الخيشوم بحاله، استمر الكسل والكلال، واستعصى عليه النظر الصحيح، وعسر الخضوع___والقيام على حقوق الصلاة وآدابها، وهو المراد من بيتوتة الشيطان في الخيشوم، والأمر بطرده بالاستنثار." اهـ

 

المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 394_395):

"إذا كان الرجلُ يقظانَ يوسوسه الشيطانُ، ويأمره بالسوء من كلِّ طريق، ويوقعُ في قلبه الوَسْوَسة، فإذا نام الرجلُ عَلِمَ الشيطانُ أنه لا يمكنه وسوسةٌ؛ لأنه زالَ بالنوم إحساسُه، ورُفِعَ عنه بالنوم قَلَمُ التكليف، فيبيت الشيطان في داخل أنفه؛___ليلقيَ في دماغه الرؤيا الفاسدة، ويمنعَه عن الرؤيا الصالحة؛ لأن محلَّ الرؤيا الدماغ، وكثيرٌ من الناس قد يَضِلُّ ويقعُ في الفتنة بالرؤيا الفاسدة، مثل أن يريَه الشيطان ويقول له: إنك نبيٌّ، أو إنك وليٌّ، أو أمرَه بشيءٍ لم يكن شرعيًا، أو نهاه عن شيءٍ هو شرعي.

فأمر النبي - عليه السلام - أمتَه أنَّ يغسِلُوا داخلَ أنوفهم؛ لإزالة لَوْثِ الشيطان ونَتْنهِ منها، وطريقُ دفع الرؤيا الفاسدة أن يضطجع الرجل بالوضوء على جنبه الأيمن، ويذكرَ اسم الله تعالى، ويقرأَ القرآن حتى يدركَه النوم، فإذا نام كذلك لا يقربُه الشيطانُ حتى يستيقظ.

 

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 403)

وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ الْغَلْقَ وَجَاءَ الْأَمْرُ بِكَظْمِ الْفَمِ فِي التَّثَاؤُبِ مِنْ أَجْلِ عَدَمِ دُخُولِ الشَّيْطَانِ فِي الْفَمِ،

 

سبل السلام (1/ 64_65):

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِنْثَارِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ مُطْلَقًا، إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ» الْحَدِيثَ، فَيُقَيَّدُ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ بِهِ هُنَا بِإِرَادَةِ الْوُضُوءِ، وَيُقَيَّدُ النَّوْمُ بِمَنَامِ اللَّيْلِ كَمَا يُفِيدُهُ لَفْظُ يَبِيتُ، إذْ الْبَيْتُوتَةُ فِيهِ، قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ خُرِّجَ عَلَى الْغَالِبِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ نَوْمِ اللَّيْلِ وَنَوْمِ النَّهَارِ.

وَالْحَدِيثُ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الِاسْتِنْثَارِ دُونَ الْمَضْمَضَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَجَمَاعَةٍ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَجِبُ، بَلْ الْأَمْرُ لِلنَّدَبِ، وَاسْتَدَلُّوا «بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَعْرَابِيِّ تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَك اللَّهُ»

وَعَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ «لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدٍ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَيَمْسَحَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ» كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ.

وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ رِوَايَاتِ صِفَةِ وُضُوئِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مِنْ حَدِيثِ " عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ "؛ وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَدَمُ ذِكْرِهِمَا مَعَ اسْتِيفَاءِ صِفَةِ___وُضُوئِهِ، وَثَبَتَ ذِكْرُهُمَا أَيْضًا، وَذَلِكَ مِنْ أَدِلَّةِ النَّدْبِ." اهـ

 

[تعليق]: والصواب أن ذلك واجب، لأن الأنف من الوجه، وغسل الوجه من واجبات الوضوء.

مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 89_90):

"والراجح أنه محمول على___الحقيقة، وموكول معرفته وعلمه إلى الشارع، فإن الله تعالى خص نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأسرار يقصر عن دركها العقول والأفهام. فالصواب في أمثال هذه الأحاديث أن يؤمن بظواهرها، ويحترز عن بيان كيفياتها، وظاهر الحديث يقتضي أن يحصل لكل نائم.

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 212_213):

"* ما يؤخذ من الحديث:

1 - بعض الروايات قيدت هذا الاستنثار عند الوضوءة فيكون هو المنصوص عليه مع الوضوء، وبعض الرويات أطلقته ولم تقيده، فالأولى الاستنثار ثلاثًا، إنْ لم يصادف بعد الاستيقاظ من نوم الليل وضوء؛ فإنَّ فيه شَبَهًا قويًّا بغسل اليدين بعد الاستيقاظ من البيتوتة.

2 - يدل الحديث على مشروعية الاستنثار؛ لأنَّه ورد بصيغة الإرشاد، والاستنثار يلزم منه الاستنشاق.

3 - تقييده بنوم الليل، أخذًا من لفظ "يبيت"؛ فإنَّ البيتوتة لا تكون إلاَّ من نوم الليل، ولأنَّه مظنَّة الطول والاستغراق.

4 - علَّل ذلك بأنَّ الشيطان يبيت على خيشومه.

قال القاضي عياض: يحتمل أنْ يكون على حقيقته؛ فإنَّ الأنف أحد منافذ الجسم، وليس شيء من منافذه ليس عليه غلق، سوى الأنف والأذنين، وجاء الأمر بالكظم عند التثاؤب من أجل دخول الشيطان حيننئذٍ في الفم.

5 - الاحتراس من الشيطان؛ فإنَّه يريد الولوج إلى ابن آدم مع كلِّ طريق، وهو يجري منه مجرى الدم، ويحاول إضلاله وإفساد عباداته، فابن آدم ملاحَقٌ ومحاصَر منه، والمعصوم من عصمه الله تعالى، واستعان بالله عليه، واستعاذ بالله من شرِّه.

6 - مثل هذه الأحكام السمعية إذا صحَّت، فالواجب على المؤمن التصديق بها والتسليم، ولو لم يدرك كيفيتها؛ قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}.

7 - يرى شيخ الإِسلام ابن تيمية: أنَّ غسل يدي المستيقظ من نوم الليل، والاستنثار بعد النوم: أنَّ ذلك من ملامسة الشيطان، فقد علَّل الغسل بأنَّ أحدكم لا يدري أين باتت يده، وهنا علَّل الاستنثار بأنَّ الشيطان بات على___خيشومه؛ فعلم أنَّ ذلك هو سبب الغسل والاستنثار.

8 - اسْتَدَلَّ بهذا الحديث من يرى غسل النجاسة ثلاث مرَّات، وهي إحدى الروايات الثلاث عن الإمام أحمد، ولكن ما دام أنَّنا لم نتحقَّق موجب الاستنثار ثلاثًا، وأنَّ ذلك خاصٌّ بنوم الليل دون النَّهار، فإنَّ الاستدلال بهذا الحديث، وبحديث غسل اليدين ثلاثًا من نوم الليل -ليس بواضح، مع وجود أدلَّة كثيرة صحيحة، دالَّةٍ على الاكتفاء بغسلة واحدة، تذهب بعين النجاسة، عدا نجاسة الكلب.

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 180_181):

في هذا الحديث فوائد منها: أمر من استيقظ من النوم أن يستنثر ثلاثا، يستفاد من قوله: "فليستنثر ثلاثا"، وهل هذا الأمر للوجوب أو لا؟ نقول: الأصل في الأمر الوجوب لاسيما وأن النبي صلى الله عليه وسلم علل ذلك بأمر يجب التنزه عنه، وهو أثر الشيطان الذي يبيت على الخيشوم.

ومن فوائد هذا الحديث: تكرار التطهير ثلاثا لقوله: "فليستنثر ثلاثا"

فهل يؤخذ من هذا أن إزالة النجاسة لابد أن تكون بثلاث غسلات، وأنه لا يكتفى بمرة واحدة ولو زالت النجاسة؟

يحتمل هذا وهذا، ويحتمل أن يقال: إنه يقاس عليه بقية النجاسات كما ذهب إليه بعض الفقهاء، وقال: إنه يشترط في إزالة النجاسة أن تكون بثلاث غسلات، والمذهب - كما هو معروف عندكم- لابد من سبع غسلات.

ومن فوائد هذا الحديث: اعتبار التثليث في كثير من الأحكام الشرعية كما في هذا الحديث ونظائره.

ومن فوائد هذا الحديث: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قرن الحكم بعلته، وقرن الحكم بالعلة له فوائد:

منها: العموم إذا كانت هذه لعلة موجودة في غير ما نص عليه.___

ومنها: تنشيط الإنسان على العمل أو نفوره منه؛ فإن كان في خير فإنه ينشط، وإن كان في غيره فإنه يهرب ولا ينشط، وهذا من باب الترهيب لقوله: "فإن الشيطان يبيت على خيشومه".

ومنها: ثبوت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن علمه بأن الشيطان يبيت على خيشومه لا يدرك بالحس؛ فإنه لو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يطلعوا على هذا ما اطلعوا عليه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك عن طريق الوحي؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام- لا يعلم الغيب.

ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره العموم، أي: عموم الأمر بالاستنثار في كل نوم لقوله: "من نومه"، ولكن العلة تقتضي التخصيص حيث قال: "فإن الشيطان يبيت على خيشومه". فمن العلماء من أخذ بالعموم، وقال: إن تعليل بعض أفراد العام بعلة لا يقتضي التخصيص. ومن العلماء من قال: بل العلة تخصيص العام، وعلى كل حال: الاحتياط أن يستنثر الإنسان ثلاثا حتى في نوم النهار؛ لأن اللفظ يحتمله، وعود العلة على بعض أفراده لا يقتضي التخصيص، كما أن عود الحكم على بعض الأفراد داخل في التخصيص.



[1]  أخرجه صحيح مسلم (1/ 212/ 21) (رقم: 237)، سنن أبي داود (1/ 34) (رقم: 140)، سنن النسائي (1/ 65) (رقم: 86)

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين