شرح الحديث 33 من صحيح الترغيب

 

33 - (12) [حسن] وعن أبي سعيد بن أبي فَضالة -وكان من الصحابة- قال : سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:

"إذا جمعَ اللهُ الأوّلين والآخِرينَ ليومِ القيامةِ، ليومٍ لا ريبَ فيه، نادى منادٍ: (من كان أشركَ في عملِه لله أحداً، فليطلبْ ثوابَه من عندِه، فإنّ الله أغنى الشركاء[1] عن الشرك".

رواه الترمذي في التفسير من "جامعه" (1)، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي.

__________

(1) قلت: وقال: "حديث حسن".


ترجمة أبي سعد بن أبي فضالة _رضي الله عنه_:

 

وفي تهذيب الكمال في أسماء الرجال (33/ 342) للمزي :

"أبو سعد بْن أَبي فضالة الأَنْصارِيّ الحارثي، ويُقال: أَبُو سَعِيد بْن فضالة بْن أَبي فضالة، له صحبة." اهـ


وفي الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/ 1668) لابن عبد البر : "له صحبة. يعد فِي أهل المدينة." اهـ


وفي مختصر تاريخ دمشق (28/ 335):

"وقدم الشام، وشهد الفتوح بها.

وقال: اصطحبت أنا وسهيل بن عمرو إلى الشام حين ندب أبو بكر البعوث، فقال لي سهيل: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: مقام أحدكم في سبيل الله ساعةً خير له من عمله في أهله عمره. فأنا مقيم في سبيل الله حتى أموت، لا أرجع إلى مكة أبداً.

قال خليفة بن خياط: ومن الأنصار، ممن لم يحفظ لنا نسبه إلى أقصى آبائه: أبو سعد بن أبي فضالة." اهـ

 

تخريج الحديث :

 

أخرجه الترمذي في سننه (5/ 314) (رقم : 3154)، وابن ماجه في سننه (2/ 1406) (رقم : 4203)، وأحمد في مسنده (رقم : 15838 و 17888)، وابن حبان في صحيحه (رقم : 404 و 7345)، والطبراني في المعجم الكبير (22/ 307) (رقم : 778)، والبيهقي في شعب الإيمان (9/ 144) (رقم : 6398)، والدولابي في الكنى والأسماء (1/ 101) (رقم : 209)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (5/ 2908) (رقم : 6820)

 

من فوائد الحديث :

 

شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (11/ 3371):

"جمع الله الخلق ليوم لا بد من حصوله، ولا يشك في وقوعه، لتجزى كل نفس بما كسبت." اهـ

 

الذخيرة للقرافي (13/ 251)

الرِّيَاءُ هُوَ إِيقَاعُ الْقُرْبَةِ يَقْصِدُ بِهَا النَّاسَ، فَلَا رِيَاءَ فِي غَيْرِ قُرْبَةٍ كَالتَّجَمُّلِ بِاللِّبَاسِ وَنَحْوِهِ، لَا رِيَاء فِيهِ.

وَإِرَادَة غير النَّاس بالقربة لَيْسَ رِيَاءً كَمَنْ حَجَّ لِيَتَّجِرَ أَوْ غَزَا لِيَغْنَمَ لَا يُفْسِدُ بِذَلِكَ قُرْبَتَهُ.

وَالرِّيَاءُ قِسْمَانِ:

* رِيَاءُ إِخْلَاصٍ: وَهُوَ أَنْ لَا يَفْعَلَ الْقُرْبَةَ إِلَّا لِلنَّاسِ،

* وَرِيَاءُ شِرْكٍ: وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلنَّاسِ. وَهُوَ أَخَفُّهُمَا وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاع وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:

{الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 6، 7]

وَمَتَى شَمِلَ الرِّيَاءُ الْعِبَادَةَ بَطَلَتْ إِجْمَاعًا لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: (أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشَرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ لِلشَّرِيكِ).

فَإِنْ شَمِلَ بَعْضَ الْعِبَادَةِ وَهِيَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ آخِرُهَا عَلَى أَوَّلِهَا كَالصَّلَاةِ فَقَدْ وَقَعَ لِلْعُلَمَاءِ فِي صِحَّتِهَا تَرَدُّدٌ (حَكَاهُ المحاسبي فِي الرِّعَايَة وَالْغَزالِيّ فِي الإحباء).

وَمَتَى عَرَضَ الرِّيَاءُ فِي الْعِبَادَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا أَمر بِدفع الرقاء وَعَمَلِ الْعِبَادَةِ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ وَلَصِقَ الرِّيَاءُ بِصَدْرِهِ فَإِنْ كَانَتِ الْقُرْبَةُ مَنْدُوبَةً تَعَيَّنَ التَّرْكُ لِتَقَدُّمِ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمَنْدُوبِ أَوْ وَاجِبَةً أُمِرَ بِمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ إِذْ لَا سَبِيلَ لِتَرْكِ الْوَاجِبِ.

وَأَغْرَاضُ الرِّيَاءِ: ثَلَاثَةٌ اسْتِجْلَابُ الْخُيُورِ وَدَرْءُ الشُّرُورِ وَالتَّعْظِيمُ مِنَ الْخَلْقِ. وَبَسْطُ هَذَا الْبَابِ وَمُدَاوَاتُهُ إِذَا عَرَضَ، مَبْسُوطٌ فِي كِتَابِ الرَّقَائِقِ.

وَمِمَّا يَلْحَقُ بِالرِّيَاءِ: تَرْكُ الْعَمَلِ خَشْيَةَ الرِّيَاءِ فَإِنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَتَرْكِ الْمُفْسِدَاتِ لَا بِتَرْكِ الْعَمَلِ لِأَجَلِ الْمُفْسِدَاتِ." اهـ

 

شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية (1/ 123)

وأما الرياء فقد قال العراقي في «الفروق» : إنه حرام محصل للإثم ومبطل لثواب العبادة.

الرياء على قسمين:

أحدهما: أن يعمل الذي أمره الله ويقصد به وجه الله تعالى وأن تعظمه الناس أو بعضهم.

ثانيهما: أن يعمل الذي أمره الله ولا يريد وجه الله تعالى بالنية بل الناس فقط،

ويسمى القسم الأول: (رياء الشرك)، لأنه للخلق وللحق،

والثاني: (رياء الإخلاص)، لأنه لا شريك فيه بل هو خالص للخلق.

ومقصود المرائي يعمله ثلاثة أشياء: تعظيم الخلق له، وجلب المنافع الدنيوية له، ودفع المضار الدنيوية عنه.

وإنما كان حراماً لأنه شرك وتشريك مع الله في طاعته، وقد صح في صحيح مسلم وغيره: «إن الله تعالى يقول: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته له، أو تركته لشريكي» [م]

فهذا الحديث ظاهر في عدم الاعتداد بذلك العمل عند الله تعالى." اهـ

 

صحيح ابن حبان - مخرجا (2/ 130)

ذِكْرُ نَفْيِ وُجُودِ الثَّوَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْعُقْبَى لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فِي عَمَلِهِ

 

التوضيح لشرح الجامع الصحيح (10/ 264) لابن الملقن (ت: 804 هـ):

"فالرياء يبطل الصدقة وجميع الأعمال؛ لأن المرائي إنما يفعل ذلك من أجل الناس ليحمدوه على عمله، فلم يحمده الله تعالى حين رضي بحمد الناس عوضًا من حمد الله وثوابه، وراقب الناس دون ربه." اهـ

 

شرح المصابيح لابن الملك (1/ 54)

قيل: فيه دليل على أنه لا تجوز الأضحية بسُبعِ بدنة إذا كان فيها شِركةُ لحم، وأنه لا يجوز أكل ذبيحة ذكر عليها اسم الله وغيره كـ: بسم الله ومحمدٍ بالجر.

 

تطريز رياض الصالحين (ص: 907)

فيه: أن الرياء من الشرك، وهو يحبط ثواب العمل الذي قارنه.

 

صحيح ابن حبان - مخرجا (16/ 340)

ذِكْرُ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تُقْبَلُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَّا مِمَّنْ كَانَ مُخْلِصًا فِي إِتْيَانِهَا فِي الدُّنْيَا

 

تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي (ص: 24)

فَفِي هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ شَيْئًا إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَالِصًا فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَمَصِيرُهُ إِلَى جَهَنَّمَ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا} [الإسراء: 18]، يَعْنِي:

مَنْ أَرَادَ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا وَلَا يُرِيدُ ثَوَابَ الْآخِرَةِ أَعْطَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا مِقْدَارَ مَا شِئْنَا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا (لِمَنْ نُرِيدُ)، يَعْنِي لِمَنْ نُرِيدُ أَنْ نُهْلِكَهُ، وَيُقَالُ لِمَنْ نُرِيدُ أَنْ نُعْطِيَهُ بِإِرَادَتِنَا أَيَّ مَتَاعٍ، لَا بِإِرَادَتِهِ

(ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ)، يَعْنِي: أَوْجَبْنَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا يَعْنِي يَدْخُلُهَا مَذْمُومًا،

 

شرح رياض الصالحين (6/ 341_342):

"وفي هذا: دليل على أن الرياء إذا شارك العبادة فإنها لا تقبل فلو أن الإنسان صلى أول ما صلى وهو يرائي الناس لأجل أن يقولوا فلان ما شاء الله يتطوع يصلي ويكثر الصلاة فإنه لا حظ له في صلاته ولا يقبلها الله عز وجل حتى لو أطال ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها____

وصار لا يتحرك وصارت عينه في موضع سجوده فهي غير مقبولة لماذا؟ لأنه أشرك مع الله غيره يصلي لله والناس، الله غني عن عبادته سبحانه وتعالى لا تقبل...

لكن إن طرأ الرياء على الإنسان يعني رجل مخلص شرع في الصلاة ثم صار في قلبه شيء من الرياء فهذا إن دافعه، فلا يضره، لأن الشيطان يأتي للإنسان في عبادته التي هو مخلص فيها من أجل أن يفسدها عليه بالرياء هذا لا يضر،

ولا ينبغي أن يكون ذليلا أمام ما يلقيه الشيطان من الرياء بل يجب أن يصمد وأن يستمر في عبادته لا يقول والله أنا صار معي رياء أخاف أن تبطل لا بل يستمر والشيطان إذا دحرته اندحر من شر الوسواس الخناس " اهـ

 

جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (1/ 79)

وَتَارَةً يَكُونُ الْعَمَلُ لِلَّهِ، وَيُشَارِكُهُ الرِّيَاءُ، فَإِنْ شَارَكَهُ مِنْ أَصْلِهِ فَالنُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ وَحُبُوطِهِ أَيْضًا. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشَرِيكَهُ» وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلَفْظُهُ: فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ.

 

محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهرى (المتوفى: 1367هـ) في «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» (ص: 84)

قال الراغب: وشرك الإنسان في الدين ضربان؛

أحدهما: الشرك العظيم، وهو إثبات شريك لله تعالى، يُقال: أشرك فلان بالله، وذلك أعظم كفر،

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 116]

وقال تعالى: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72]

وقال تعالى: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} [الممتحنة: 12]

وقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] .

والثاني: الشرك الصغير، وهو مراعاة غير الله معه في بعض الأمور، وهو الرياء، والنفاق المشار إليه بقوله: {شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190] وقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] .

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (45/ 193)

قد تكلّم العلماء في الرياء، وأقسامه، فمنهم: الغزاليّ _رحمه الله_ حيث قال: "درجات الرياء أربعة أقسام:

الأولى: وهي أغلظها، أن لا يكون مراده الثواب أصلًا، كالذي يصلي بين أظهر الناس، ولو انفرد لكان لا يصلي، بل ربما يصلي من غير طهارة، مع الناس، فهذا جرّد قَصْده للرياء، فهو الممقوت عند الله تعالى.

والثانية: أن يكون له قصد الثواب أيضًا، ولكن قصدًا ضعيفًا بحيث لو___كان في الخلوة، لكان لا يفعله، ولا يحمله ذلك القصد على العمل، ولو لم يكن الثواب لكان قَصد الرياء يحمله على العمل، فقَصْد الثواب فيه لا ينفي عنه المقت.

والثالثة: أن يكون قَصْد الثواب والرياء متساويين، بحيث لو كان واحد خاليًا عن الآخر لم يبعثه على العمل، فلما اجتمعا انبعثت الرغبة، وظواهر الأخبار تدلّ على أنه لا يَسْلَم رأسًا برأس.

والرابعة: أن يكون اطلاع الناس مرجحًا مقويًا لنشاطه، ولو لم يكن، لم يترك العبادة، ولو كان قَصْد الرياء وحده لَمَا أقدم، فالذي نظنه، والعلم عند الله أنه لا يحبَطُ أصلُ الثوابِ، ولكنه يُنقص منه، أو يعاقب على مقدار قَصْد الرياء، ويثاب على مقدار قصد الثواب.

وأما قوله: "أنا أغنى الشركاء" فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان، أو كان قصد الرياء أرجح. انتهى، ذكره القاري في "المرقاة"[2]

 

قال ابن رجب في شرح الأربعين: العمل لغير الله أقسام:

تارةً يكون: رياءً محضًا؛ بحيث لا يُراد به سوى مراءاة المخلوقين؛ لغرضٍ دنيوي؛ كحال المنافقين في صلاتهم.

وهذا الرِّياء لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصَّلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة، والحج، وغيرهما من الأعمال الظاهرة التي يتعدَّى نفعها؛ فإنَّ الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا شك أنَّه حابط، وأنَّ صاحبه يستحق المقت من الله تعالى، والعقوبة.

وتارةً: يكون العمل لله، ويشاركه الرِّياء:

فإنَّ شاركه من أصله، فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضًا وحبوطه.

ففي صحيح مسلم (2985) عن أبي هريرة، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يقول الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشِّرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه".

وممَّن يروى عنه هذا المعنى -أنَّ العمل إذا خالطه شيءٌ من الرِّياء، كان باطلاً- طائفة من السلف؛ منهم عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، والحسن، وسعيد بن المسيب، وغيرهم.

ولا نعرف عن السلف في هذا خلافًا، وإنْ كانَ فيه خلافٌ عن بعض المتأخرين.

وقد روي عن مجاهد؛ أنَّه قال في حجِّ الجمَّال، وحج التاجر: هو تامٌّ لا ينقص من أجورهم شيء، وهذا محمولٌ على أنَّ قصدهم الأصلي، كان هو الحج دون التكسب.___

وأمَّا إذا كان أصل العمل لله، ثمَّ طرأتْ عليه نية الرِّياء: فإنْ دفعه، فلا يضره بغير خلاف، وإنْ استرسل معه، فهل يحبط عمله، أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته؟:

في ذلك خلافٌ بين العلماء من السلف، وأرجو أنَّ عمله لا يبطل بذلك، وأنَّه يجازى على نيته الأولى.

ويستدل لهذا القول بما أخرجه أبو داود في مراسيله (ص 242) عن عطاء الخراساني؛ أنَّ رجلاً قال: "يارسول الله، إنَّ بني سلمة كلهم يقاتلون في سبيل الله، منهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نجدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله، فأيهم الشهيد؟ قال: كلهم إذا كان أصل أمره أنْ تكون كلمة الله هي العليا".

وذكر ابن جرير أنَّ هذا الاختلاف إنَّما هو في عملٍ يرتبط آخره بأوله؛ كالصَّلاة، والصيام، والحج، فأمَّا الَّذي لا ارتباط فيه؛ كالقراءة، والذكر، وإنفاق المال، ونشر العلم، فإنَّه ينقطع بنية الرِّياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية.

وأمَّا إذا عمل العمل خالصًا، ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين: فذلك فضل الله ورحمته، فإذا استبشر بذلك، لم يضره ذلك،

وفي هذا المعنى حديث أبي ذرٍّ عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه سئل عن الرَّجل يعمل لله عمل الخير، ويحمده النَّاس عليه؟ فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن" [رواه مسلم (2642)]." اهـ

 

تحفة الأحوذي (8/ 476):

"وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوْرَدَهُ التِّرْمِذِيُّ هَا هُنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ _تَعَالَى_: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]." اهـ

 

الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 181_182):

"* في هذا الحديث من الفقه : أبلغ التشديد في أمر الشرك؛ بأبلغ لطف في النطق، وذلك أن الله سبحانه وتعالى حرم أن يشرك به، فإذا أشرك به أحد من عبيده تنزه سبحانه عن ذلك الشرك نطقا، كما تنزه عنه سبحانه حقيقة،

ثم إنه سبحانه لما كان جالب هذا الإشراك هو هذا العبد بجهله، مع__كونه ملكا لله _عز وجل_، تنزه الله عن ذلك بأن ترك العبد الذي جلب الشرك وما أثاره جهله." اهـ

 

الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 182):

"والله سبحانه وتعالى خالق القوى غير محتاج إلى شركة غيره، فهو سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك." اهـ

 

المدخل لابن الحاج (2/ 122)

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِي التَّعْلِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يُظْهِرَ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى غَيْرِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، ثُمَّ هُوَ فِي حَقِّ الْمُتَعَلِّمِ آكَدُ؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مُتَّصِفٌ بِالْجَهْلِ،

فَيَحْرِصُ عَلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ مِنْ الشَّوَائِبِ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، لَا لِأَجْلِ:

* أَنْ يَرْتَفِعَ قَدْرُهُ عِنْدَ النَّاسِ،

* أَوْ يُعْرَفَ بِالْعِلْمِ،

* أَوْ لِمَعْلُومٍ يَأْخُذُهُ بِهِ،

* أَوْ لِأَنْ يَرْأَسَ بِهِ عَلَى الْجُهَّالِ،

* أَوْ لَأَنْ يُشَارَ إلَيْهِ،

* أَوْ لَأَنْ يُسْمَعَ قَوْلُهُ،

* إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُظُوظِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا الَّتِي تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، بَلْ يَفْعَلَ ذَلِكَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يُرِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ." اهـ

 

المدخل لابن الحاج (2/ 122_123):

"وَلَا تَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ: أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَإِذَا كَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ فَيَتَعَيَّنُ تَخْلِيصُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَبْتَدِئُهُ أَوَّلًا بِالْإِخْلَاصِ الْمَحْضِ، حَتَّى يَكُونَ الْأَصْلُ طَيِّبًا فَتَأْتِيَ الْفُرُوعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الطَّيِّبِ فَيُرْجَى خَيْرُهُ، وَتَكْثُرَ بَرَكَتُهُ، وَالْقَلِيلُ مِنْ الْعِلْمِ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ فِيهِ أَنْفَعُ وَأَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ الْكَثِيرِ مِنْهُ مَعَ تَرْكِ الْمُبَالَاةِ بِالْإِخْلَاصِ فِيهِ___

وَمِنْ مَرَاقِي الزُّلْفَى لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِوَجْهِ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ مُعَانًا، وَمَنْ طَلَبَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ مُهَانًا انْتَهَى هَذَا إذَا كَانَ هُوَ الدَّاخِلُ بِنَفْسِهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ وَلِيُّهُ هُوَ الَّذِي يُرْشِدُهُ لِذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُعَلِّمَهُ النِّيَّةَ فِيهِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُرْشِدَهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بِسَبَبِ أَنْ يَرْأَسَ بِهِ، أَوْ يَأْخُذَ مَعْلُومًا عَلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِنَّ هَذَا سُمٌّ قَاتِلٌ يُخْرِجُ الْعِلْمَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ يَقْرَأُ، وَيَجْتَهِدُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.

فَإِنْ جَاءَ شَيْءٌ مِنْ غَيْبِ اللَّهِ تَعَالَى قَبِلَهُ عَلَى سَبِيلِ أَنَّهُ فُتُوحٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ لَا لِأَجْلِ إجَارَةٍ، أَوْ مُقَابَلَةٍ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ إذْ أَنَّ أَعْمَالَ الْآخِرَةِ لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهَا عِوَضٌ." اهـ

 

الموافقات (2/ 354_355) للشاطبي:

"فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ التَّعَبُّدِ، فَحَقُّهُ أَنْ يَقُومَ بِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ حَظٍّ، فَإِنَّ طَلَبَ الْحَظِّ بِالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِحُقُوقِ السَّيِّدِ بَلْ بِحُظُوظِ نفسه.___

وَأَمَّا النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا النَّظَرِ، فَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى إِخْلَاصِ الْأَعْمَالِ لِلَّهِ، وَعَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ مِنْهَا فَلَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} [الْبَيِّنَةِ: 5] .

وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 110] .

وَفِي الْحَدِيثِ: "أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ." اهـ

 

الموافقات (3/ 9)

فَالْعَمَلُ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَصْدُ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، وَإِذَا عُرِّيَ عَنِ الْقَصْدِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا؛ كَفِعْلِ النَّائِمِ وَالْغَافِلِ وَالْمَجْنُونِ.



[1] وفي المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 109) للزيداني:

"يعني: أنا أكثر الشركاء استغناءً، لا حاجة لي إلى شريك، فأفعل التفضيل قد يضاف إلى جمعٍ يكون في المضاف إليهم الشيءُ الذي يكون في المضاف، ولكن يكون في المضاف أكثر، مثل أن تقول: زيدٌ أفضلُ القوم؛ يعني: الفضل في زيدٍ وفي القوم موجودٌ ولكنْ في زيد أكثر، وقد يضاف ولا يكون في المضاف إليهم شيءٌ مما يكون في المضاف، نحو قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] مع أنه لا خيريةَ ولا حُسنَ لأصحاب النار.

يعني: قد يكون بعض الناس غنيًا عن الشريك، ولكن لم يكن استغناؤه عن الشريك في جميع الأوقات، وقد يكون مستغنيًا في بعض الأوقات ومحتاجًا في بعضها، وأنا غنيٌّ عن الشركاء والضِّدِّ والند والظهير أبدًا؛ لأن الحاجة والعجز والفقر وغيرها من أوصاف المخلوقات لا سبيل لشيء منها إليَّ، فمَن عَمِلَ عملًا لا يكون خالصًا لي - بل عملُه للرياء والسمعة - لا أقبلُ ذلك العمل منه." اهـ

وفي شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (11/ 3369):

"((مح)) [النووي]: معناه: أنا أغنى عن المشاركة وغيرها فمن عمل شيئا لي ولغيري، لم أقبله بل أتركه مع ذلك الغير، ويدل عليه الحديث الول من الفصل الثاني. ويجوز أن يرجع إلى العامل، والمراد بالشرك الشركة." اهـ

[2] بل ذكره من هو أقدم من القاري، وهو الطيبي في شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (11/ 3369). وما قاله الغزالي، فانظره في "إحياء علوم الدين" (3/ 301-302)، ط. دار المعرفة - بيروت.

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين