شرح الحديث 30 باب الوضوء - من بلوغ المرام

 

30 - وَعَنْ حُمْرَانَ:

"أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ،

* فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،

* ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ،

* ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،

* ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ،

* ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ،

* ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ.

ثُمَّ قَالَ: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ _صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا)." مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

 

نص الحديث:

 

وَعَنْ حُمْرَانَ:

"أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ،

و"الوضوء" هنا بفتح الواو على الأكثر: اسم للماء الْمُعَدّ للوضوء، وأما بالضم فهو الحدث الذي هو الفعل ["الفتح" 1/ 312 "كتاب الوضوء" رقم (159)]

 

* فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،

* ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ،

(ثُمَّ مَضْمَضَ) المضمضة: تحريك الماء في الفم، قال في "اللسان": ومَضْمَضَ إناءه - بالضاد المعجمة - ومَصْمَصَه - بالصاد المهملة -: إذا حرّكه، وقيل: إذا غسله، والمضمضة: تحريك الماء في الفم، ومضمض الماء في فيه: حرّكه، وتمضمض به. انتهى.

 

وقال في "المصباح": ومَضْمَضتُ الماء في فمي: حرّكته بالإدارة فيه، وتمضمضتُ بالماء: فعلتُ ذلك، قال الفارابيّ: والمضمضة: صوت الحيّة ونحوها، ويقال: هو تحريكها لسانها. انتهى

 

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: أصل هذه اللفظة - يعني المضمضة - مشعر بالتحريك، ومنه مضمض النعاس في عينيه، واستُعملت في هذه السنّة - أعني المضمضة في الوضوء - لتحريك الماء في الفم، وقال بعض الفقهاء: المضمضة أن يجعل الماء في فيه، ثم يَمُجّه، هذا أو معناه، فأدخل المجّ في حقيقة المضمضة، فعلى هذا لو ابتلعه لم يكن مؤدّيًا للسنّة، وهذا الذي يكثُر في أفعال المتوضّئين - أعني الجعل والمجّ - ويمكن أن يكون ذكر ذلك بناء على أنه الأغلب والعادة، لا أنه يتوقّف تأدّي السنّة على مجّه، والله تعالى أعلم. انتهى ["إحكام الأحكام" 1/ 169 - 171.]

 

وقال في "الفتح":

"أصل المضمضة في اللغة: التحريك، ثم اشتهر استعماله في وضع الماء في الفم، وتحريكه، وأما معناه في الوضوء الشرعيّ، فأكمله أن يضع الماء في الفم، ثم يُديره، ثم يمُجّه، والمشهور عند الشافعيّة: أنه لا يُشترط تحريكه، ولا مَجّه، وهو عجيبٌ، ولعلّ المراد أنه لا يتعيّن المجّ، بل لو ابتلعه، أو تركه حتى يسيل أجزأ. انتهى ["الفتح" 1/ 320 رقم (164)]

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 79)

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن المضمضة لا تحصل إلا بجعل الماء في الفم، ثم تحريكه؛ لأن هذا هو الذي يقتضيه المعنى اللغويّ لها، وأما المجّ، فليس من معناها، فلا يلزم، والله تعالى أعلم.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 79)

(وَاسْتَنْثَرَ) قال النوويّ رحمه الله:

قال جمهور أهل اللغة، والفقهاء، والمحدثون: الاستنثار: هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق،

وقال ابن الأعرابيّ، وابن قتيبة: الاستنثار الاستنشاق، والصواب الأوّل،

وتدلّ عليه الرواية الأخرى بلفظ: "استنشق، واستنثر"، فجمع بينهما،

قال أهل اللغة هو مأخوذ من النَّثْرة، وهي طرف الأنف، وقال الخطابيّ وغيره: هي الأنف، والمشهور الأول، قال الأزهريّ: رَوَى سلمة عن الفراء، أنه يقال: نَثَرَ الرجلُ، وانتَثَرَ، واستنثر: إذا حَرَّك النَّثْرَة في الطهارة، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله ["شرح النوويّ" (3/ 105)]

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 80)

"الراجح أن المضمضة والاستنشاق في الوضوء واجبتان؛ لأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يترك واحدًا منهما في وُضوئه، فكل من وصف وضوءه - صلى الله عليه وسلم - وصفه بهما، وفعلُهُ بيانٌ لِمُجْمَل الآية، والآية بصيغة الأمر {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، وكذلك النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بهما. وسيأتي تمام البحث في ذلك قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

 

* ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،

 

وفي توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 198)

"(وجهه): جمع الوجه: وجوه، وهو ما تحصُلُ به المواجهةُ، وهي المقابلة.

وحدُّه: من منابت شعر الرأس المعتاد إلى منتهى اللَّحْيَيْنِ طولاً، ومن الأُذُنِ إلى الأُذُنِ عرضًا، يؤخذ حده الشرعي من معناه اللغوي، حيث لم يجر له حَدٌّ في الشرع." اهـ

 

* ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ،

* ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ،

* ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ.

 

قال الإمام ابن دقيق العيد _رحمه الله_:

"هذا يدلّ على استحباب التكرار في غسل الرجل ثلاثًا.

وبعض الفقهاء لا يرى هذا العدد في الرِّجل كما في غيرها من الأعضاء، وقد ورد في الروايات: "فغسل رجليه حتى أنقاهما"، ولم يذكر عددًا، فاستُدِلّ به لهذا المذهب، وأُكّد من جهة المعنى بأن الرجل لقربها من الأرض في المشي عليها تكثُر فيها الأوساخ والأَدْرَانُ، فيُحال الأمر فيه على مجرّد الإنقاء من غير اعتبار العدد،

والرواية التي فيها ذكر العدد زائدةٌ على الرواية التي لم يُذكَر فيها، فالأخذ بها متعيِّنٌ، والمعنى المذكور لا يُنافي اعتبار العدد، فليُعْمَل بما دلّ عليه لفظ الحديث. انتهى ["إحكام الأحكام" (1/ 183 – 184)]

 

وفي "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 82) للإثيوبي:

"قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن دقيق العيد _رحمه الله_ أخيرًا هو الحقّ، وحاصله أنه يُستحبّ تثليث غسل الرجلين، كسائر الأعضاء، كما صرّح به في هذا الحديث، وأما القول بعدم استحباب التثليث، وتعليله بما ذكروه من كثر الأوساخ والأدران فيها يقتضي عدم اعتباره، فتعليل عقليّ في مقابلة النصّ، فلا اعتداد به،

 

ثُمَّ قَالَ: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ _صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا)." مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

 

وفي آخر الحديث كما في رواية مسلم في "صحيحه" (1/ 204)

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»

 

قال النوويّ رحمه الله:

المراد أنه لا يُحَدِّث بشيء من أمور الدنيا، وما لا يتعلق بالصلاة، ولو عَرَض له حديثٌ، فأعرض عنه بمجرد عروضه عُفِيَ عن ذلك، وحصلت له هذه الفضيلة - إن شاء الله تعالى - لأن هذا ليس من فعله، وقد عُفِي لهذه الأمة عن الخواطر التي تَعْرِض ولا تستقرّ. وقد تقدم بيان هذه القاعدة في "كتاب الإيمان"، والله تعالى أعلم. ["شرح النوويّ" (3/ 109)]

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه صحيح البخاري (1/ 43 و 1/ 44 و 3/ 31 و 8/ 92) (رقم: 159 و 164 و 1934 و 6433)، صحيح مسلم (1/ 204_205/ 3_4) (رقم:226)، سنن أبي داود (1/ 26_27) (رقم: 106_110)، سنن النسائي (1/ 64_65 و 1/ 80) (رقم: 84_85 و 116)، سنن ابن ماجه (1/ 105) (رقم: 285)

 

من فوائد الحديث:

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 88_93)

في فوائده (1):

1 - (منها): أن هذا الحديث أصل عظيم في بيان صفة الوضوء، فينبغي العناية ببيان الفوائد التي اشتمل عليها، وتفصيل مسائل الوضوء التي أشار إليها.

2 - (ومنها): بيان جواز الاستعانة على إحضار ما يتوضأ به من الماء، قال ابن الملقّن رحمه الله: "وهو مُجمع عليه من غير كراهة." انتهى ["الأعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 326]___

3 - (ومنها): أن فيه الاستدلال بفعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على الأحكام الشرعيّة، ومتابعته فيها، وتحرّي مقاربة فعله، وأنه - صلى الله عليه وسلم - هو المرجع في جميعها، كما قال الله عز وجل: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

4 - (ومنها): التعليم بالفعل؛ لأنه أبلغ، وأضبط للمتعلّم.

5 - (ومنها): استحباب غسل الكفّين قبل إدخالهما الإناء ثلاثًا، ولو لم يكن عقب نوم؛ احتياطًا.

6 - (ومنها): الإفراغ على اليدين في ابتداء الوضوء.

7 - (ومنها): الترتيب في غسل أعضاء الوضوء؛ لأن الراوي رتّبه بـ "ثُمّ" في مَعْرِض البيان، وهي للترتيب، ولحديث أبي داود أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "فتوضأ كما أمرك الله" [حديث صحيح، أخرجه أبو داود برقم (856).]،

ولحديث أبي داود وغيره: "إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يُسبغ الوضوء كما أمر الله، فيغسل وجهه، ويديه إلى المرفقين، ثم يمسح برأسه، ورجليه إلى الكعبين" [حديث صحيح، أخرجه أبو داود برقم (858)]

قال الخطّابيّ وغيره: "فيه من الفقه أن ترتيب الوضوء، وتقديم ما قدّمه الله في الذكر منه واجحب، وذلك معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله"، ثم عطف عليه بحرف الفاء الذي يقتضي الترتيب من غير تراخ،

وكلُّ من حكى وضوءه _صلى الله عليه وسلم_ حكاه مرتَّبًا، وفعله محمول على الوجوب؛ لأنه بيان لمجمل الآية [انظر "الخلافيّات للبيهقيّ" 11/ 467].

وقال شيخ الإسلام رحمه الله:

والمنكر أن تتعمّد تنكيس الوضوء، فلا ريب أن هذا مخالفٌ لظاهر الكتاب، ومخالفٌ للسنة المتواترة، فإن هذا لو كان جائزًا لكان قد وقع أحيانًا، أو تبيَّن جوازه - أي بالنصّ - كما في ترتيب التسبيح، لَمّا قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهنّ من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرّك بأيّهنّ بدأت". انتهى ["مجموع الفتاوى" 21/ 413]____

قال الجامع عفا الله عنه: قد تَبَيَّنَ بما ذُكر من الأدلّة أن ترتيب الوضوء كما رتّبه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - واجبٌ، لا يجوز تعمّده، فمن عكس، فليُعد وضوءه؛ لأنه لم يتوضّأ كما أمره الله عز وجل، والله تعالى أعلم بالصواب.

8 - (ومنها): أنه يؤخذ من قوله: "ثم أدخل يمينه في الإناء" على عدم اشتراط نيّة الاغتراف، قال الحافظ رحمه الله: ولا دلالة فيه لا نفيًا، ولا إثباتًا.

9 - (ومنها): ما قيل: إنه يؤخذ من الاغتراف من الماء القليل للتطهير أنه لا يصيِّره مستعملًا.

10 - (ومنها): أنه قد يُستدلّ به على أن المضمضة والاستنشاق يكونان بغرفة واحدة، وهو أحد الأوجه المستحبّة الآتي بيانها - إن شاء الله تعالى -.

11 - (ومنها): بيان تقديم اليمنى على اليسرى.

12 - (ومنها): أن الوضوء الواحد يكون بعضه بمرّة، وبعضه بمرّتين، وبعضه بثلاث.

13 - (ومنها): أن فيه الردّ على من جعل الاستنثار بمعنى الاستنشاق؛ لأنه ورد عطفه عليه في رواية: "ثم مضمض، واستنشق، واستنثر".

14 - (ومنها): بيان فضل الوضوء والصلاة بعده. وسيأتي قريبًا في باب خاصّ - إن شاء الله تعالى -.

15 - (ومنها): استحباب صلاة ركعتين، فأكئر عقب كل وضوء، وهو سنة مؤكدة، والأصحّ أنها تُصلَّى في أوقات النهي وغيرها؛ لأنها من ذوات الأسباب، ويدلّ لذلك ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال عند صلاة الفجر: "يا بلال حَدِّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؟ فإني سمعت دَفَّ نعليك بين يديّ في الجنة"، قال: ما عَمِلت عملًا أرجى عندي أني لم أتطهَّر طُهُورًا في ساعة ليل أو نهار، الأصليت بذلك الطُّهور ما كُتِب لي أن أصلي.

قال النوويّ رحمه الله: ولو صلى فريضةً أو نافلةً مقصودةً، حَصَلت له هذه الفضيلة، كما تحصل تحية المسجد بذلك. انتهى ["شرح النوويّ" 3/ 108]___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 91)

16 - (ومنها): الترغيب في الإخلاص، وتحذيرُ مَنْ لها في صلاته بالتفكير في أمور الدنيا من عدم القبول، ولا سيما إن كان في العزم على عمل معصية، فإنه يحضر المرء في حال صلاته ما هو مشغوفٌ به أكثر من خارجها. ووقع في رواية البخاريّ في "الرقاق" في آخر هذا الحديث ما نصّه: قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تغترّوا"؛ أي فتستكثروا من الأعمال السيئّة؛ بناءً على أن الصلاة تُكَفِّرها، فإن الصلاة التي تُكَفَّر بها الخطايا هي التي يقبلها الله، وأَنَّى للعبد بالاطلاع على ذلك؟ ["الفتح" 1/ 313 - 314].

17 - (ومنها): أنه يؤخذ منه الإفراغ على اليدين معًا، وجاء في رواية أخرى: "أفرغ بيده اليمنى على اليسرى، ثم غسلهما"، وهو قدرٌ مشترك بين غسلهما مجموعتين، أو مفترقين، والفقهاء مختلفون في أيّهما أفضل، قال ابن الملقّن رحمه الله: والذي يظهر أنه إن أمكن غسلهما معًا، فهو أفضل، وإلا قدّم الكفّ اليمنى، كما إذا غسل يده اليمنى إلى المرفق، فإن الأفضل تقديمها بلا شكّ. انتهى ["الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 326 - 327].

18 - (ومنها): استحباب التثليث في غسل الأعضاء.

19 - (ومنها): أن قوله: "ثم تمضمض، واستنثر"، وفي لفظ: "واستنشق"، وفي لفظ: "واستنشق، واستنثر" يفيد الترتيب بين غسل اليدين والمضمضة، والأصحّ عند الشافعيّة على وجه الاشتراط، وكذا الترتيب بين المضمضة والاستنشاق أيضًا، وإن كان بالواو دون "ثمّ"، قاله في "الإعلام" [1/ 328 - 329]

20 - (ومنها): أن قوله: "ثلاثًا" يفيد استحباب هذا العدد في كلّ ما ورد فيه.

21 - (ومنها): أن قوله: "ثم غسل رجليه" فيه التصريح بوجوب غسلهما، والردّ على من أوجب المسح. وسيأتي إيضاح ذلك قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

22 - (ومنها): أن فيه استحباب صلاة ركعتين بعد الوضوء، وتُفعل في___كلّ وقت حتى في وقت النهي عند الشافعيّة، وهو الأرجح، خلافًا للمالكيّة.

23 - (ومنها): أن الثواب الموعود مرتّبٌ على أمرين:

[الأول]: وضوؤه على النحو المذكور.

[الثاني]: صلاة ركعتين عقبه بالوصف المذكور في الحديث، والمرتّب على مجموع أمرين لا يلزم ترتيبه على أحدهما إلا بدليل خارج، وقد يكون فضيلة بوجود أحد جزئيه، فيصبح كلام من أدخل هذا الحديث في فضل الوضوء فقط؛ لحصول مطلق الثواب، لا الثواب المخصوص على مجموع الوضوء على النحو المذكور، والصلاة الموصوفة بالوصف المذكور. انتهى ["الإعلام" 1/ 351].

24 - (ومنها): أن فيه إثبات حديث النفس، وهو مذهب أهل الحقّ، ثم هو قسمان:

[الأول]: ما يَهْجُمُ عليها، ويتعذّر دفعه عنها.

[والثاني]: ما يسترسل معها، ويُمكن دفعه، وقطعه، فيُحمل الحديث عليه دون الأول؛ لعسره، وهو الذي يقتضيه لفظ: "لا يُحدّث"، فإنه يدلّ على معنى التكسّب، ولا يُحمل على الخواطر التي ليست من جنس مقدور العبد؛ لأنها معفوّ عنها بالنصّ، وهذا هو الرأي الراجح، وقد تقدّم البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم.

25 - (ومنها): أن حديث النفس يعمّ الخواطر الدنيويّة والأخرويّة، والحديث محمول على المتعلّق بالدنيا فقط؛ لأنه مأمور بالتفكر في معاني المتلوّ من القرآن، والذكر، والدعوات، وتدبّرها، وذلك إنما يحصل بحديث النفس، وليس كلّ أمر محمود، أو مندوب إليه بالنسبة إلى غير وقته، وحاله من أمور الآخرة، بل قد يكون أجنبيًّا عنها، مثابًا عليه، وقد رُوي عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يجهّز الجيش، وهو في الصلاة، واستعجل النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو في صلاة، وفرغ منها، وسئل عن ذلك، فقال: "كان عندي شيء من تبر، فكرهتُ أن يَحبسني، فقسمته"، أخرجه البخاريّ، وكلّ ذلك قربة خارجة عن مقصود الصلاة، وفي كتاب الصلاة للحكيم الترمذيّ، قال سعد - رضي الله عنه -: "ما قمت في صلاة، فحدّثت نفسي فيها بغيرها"، فقال الزهريّ: رحم الله سعدًا إن كان لمأمونًا على هذا، ما ظننت أن يكون هذا إلا في نبيّ.

قال ابن الملقّن رحمه الله: ويؤيّد ما سلف أنه جاء في رواية: "لا يُحدّث فيها نفسه بشيء من الدنيا، ثم دعا إلا استُجيب له"، ذكرها الحاكم الترمذيّ أيضًا في الكتاب المذكور.[1] انتهى ["الإعلام" 1/ 353 - 355]

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة القول أن المراد بقوله - رضي الله عنه -: "لا يحدّث نفسه. . إلخ" تحديث النفس بأمور لا تتعلّق بالصلاة، كأمور الدنيا، أو أمور الآخرة الأجنبيّة من الصلاة، كالتفكير في مسألة فقهيّة، فلا يشمل الخواطر التي لا تستقرّ، إذا دفعها، ولم يسترسل معها، فإنها لا تضرّ، وكذلك تحديث النفس بمعاني ما يقرؤه من كتاب الله عز جل، أو يذكر الله، أو يدعوه به، فإن ذلك من مقاصد الصلاة، فلا ينافي حصول الثواب الموعود، والله تعالى أعلم." اهـ

 

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله:

أجمع كلُّ مَن نَحفظ عنه من أهل العلم على أن غسل اليدين في ابتداء الوضوء سنة، يُستحبُّ استعمالها، وهو بالخيار إن شاء غسلهما مرةً، وإن شاء غسلهما مرتين، وإن شاء ثلاثًا، أيَّ ذلك شاء فَعَلَ، وغَسلُهما ثلاثًا أحبّ إليّ، وإن لم يَفعَل ذلك، فأدخل يده الإناء قبل أن يغسلهما فلا شيء عليه، ساهيًا ترك ذلك أم عامدًا، إذا كانتا نظيفتين، فإن أدخل يده الإناء، وفي يده نجاسة، ولم يغير للماء طَعْمًا، ولا لونًا، ولا ريحًا، فالماء طاهر بحاله، والوضوء به جائز. انتهى كلامه رحمه الله ["الأوسط" 1/ 375]

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 98_99)

في كيفيّة المضمضة، والاستنشاق:

قال النوويّ رحمه الله: تُستحب المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائمًا، فيكره ذلك؛ لحديث لقيط - رضي الله عنه - أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا"، وهو حديث صحيحٌ، رواه أبو داود، والترمذيّ، وغيرهما بالأسانيد الصحيحة، قال الترمذيّ: هو حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

قال: وعلى أيّ صفة وصل الماء إلى الفم والأنف حَصَلت المضمضة والاستنشاق، وفي الأفضل خمسة أوجه:

[الأول]: يتمضمض، ويستنشق بثلاث غرفات، يتمضمض من كل واحدة، ثم يستنشق منها.

[والوجه الثاني]: يَجمع بينهما بغرفة واحدة، يتمضمض منها ثلاثًا، ثم يستنشق منها ثلاثًا.

[والوجه الثالث]: يجمع أيضًا بغرفة، ولكن يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق.

[والرابع]: يفصل بينهما بغَرْفتين، فيتمضمض من إحداهما ثلاثًا، ثم يستنشق من الأخرى ثلاثًا.

[والخامس]: يفصل بستّ غرفات، يتمضمض بثلاث غرفات، ثم يستنشق بثلاث غرفات.

والصحيح الوجه الأول، وبه جاءت الأحاديث الصحيحة، في البخاريّ، ومسلم، وغيرهما.

وأما حديث الفصل فضعيف، فيتعين المصير إلى الجمع بثلاث غرفات، كما ذكرنا؛ لحديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - المذكور في الكتاب.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث الفصل هو ما أخرجه أبو داود في "سننه" عن طلحة بن مصرِّف، عن أبيه، عن جدّه، قال: دخلت - يعني على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ، والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق.

وفي إسناده والد طلحة مجهول.

قال: واتفقوا على أن المضمضة على كل قول مُقَدَّمة على الاستنشاق، وعلى كلّ صفة، وهل هو تقديم استحباب أو اشتراط؟ فيه وجهان: أظهرهما اشتراط؛ لاختلاف العضوين، والثاني استحباب، كتقديم يده اليمنى على اليسرى، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 99)

في اختلاف أهل العلم في حكم المضمضة، والاستنشاق:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: افترق أهل العلم فيما يجب على تارك المضمضة والاستنشاق في الجنابة والوضوء أربع فِرَقٍ:

فقالت طائفة: إذا تركهما في الوضوء يُعيدهما، هكذا قال عطاء، وحماد، وابن أبي ليلى، والزهريّ، وإسحاق بن راهويه.

وقالت طائفة: لا إعادة عليه، هكذا قال الحسن البصريّ، وإلى هذا القول رجع عطاء بن أبي رباح، وكذلك قال الحكم، وقتادة، والزهريّ، وربيعة، ويحيى الأنصاريّ، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، والأوزاعيّ، والشافعيّ.

وقالت فرقة: يعيد إذا ترك الاستنشاق خاصةً، وليس على من ترك المضمضة شيءٌ، هذا قول أحمد بن حنبل، وأبي عبيد، وأبي ثور.

وقالت فرقة رابعة: يجب عليه الإعادة إذا تركهما في الجنابة، وليس على من تركهما في الوضوء شيءٌ، رُوي هذا القول عن الحسن، وبه قال سفيان الثوريّ، وأصحاب الرأي، وقال أصحاب الرأي: هما سواء في القياس، غير أَنّا نَدَعُ القياس للأثر الذي جاء عن ابن عباس. قال أبو بكر: والحديث عن ابن عباس في هذا غير ثابت [أي لأنه من رواية عائشة بنت عجرد، عن ابن عبّاس. قال الدارقطنيّ: ليس لعائشة بنت عجرد إلا هذا الحديث، وهي لا تقوم بها حجة، انظر "سننه" 1/ 115، وفي سنده أيضًا الحجاج بن أرطاة ضعيف]___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 100)

قال ابن المنذر رحمه الله: والذي به نقول إيجاب الاستنشاق خاصةً، دون المضمضة؛ لثبوت الأخبار عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالاستنشاق، ولا نعلم في شيء من الأخبار أنه أمر بالمضمضة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه ماءً، ثم لْيَنْثُر"، وأمْره على الفرض، وأحقُّ الناس بهذا القول أصحابنا؛ لأنهم يرون الأمر فرضًا.

واعتَلَّ الشافعيّ في وقوفه عن إيجاب الاستنشاق أنه ذَكَر بأنه لم يعلم خلافًا في أن لا إعادة على تاركهما، ولو عَلِمَ في ذلك اختلافًا المرجع إلى أصوله أن الأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الفرض، ألا تراه إنما اعْتَلّ في تخلفه عن إيجاب السواك بأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر به، قال الشافعيّ: فلو كان السواك واجبًا أمرهم به، شَقَّ عليهم، أو لم يشقّ. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: ولا نعلم في شيء من الأخبار أنه أمر بالمضمضة"، هذا حسب علمه، وأما الواقع فخلاف ذلك، فقد أمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالمضمضة، فقد ثبت ذلك في حديث لقيط بن صَبِرَة - رضي الله عنه -، الطويل، وفيه: "فبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا"، وفي رواية من هذا الحديث: "إذا توضّأت فمضمض"، أخرجهما أبو داود، وغيره.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 104)

قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح عندي مذهب من أوجب استيعاب الرأس بالمسح؛ لثبوته من فعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وفعلُهُ بيان لمجمل الآية، والراجح أنها من قبيل المجمل، كما قال به بعض أهل العلم، وعزاه الشوكانيّ إلى ابن الحاجب، والزركشيّ، والزمخشريّ، ولم يصحّ في حديث واحد - كما قال ابن القيّم رحمه الله - أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - اقتصر على مسح بعض الرأس البتّة، ولكن كان إذا مسح بناصيته أكمل على العمامة، وأما حديث أنس - رضي الله عنه - عند أبي داود، "أنه - صلى الله عليه وسلم - أدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدَّم رأسه، ولم ينقض العمامة"، فمقصوده أنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسّ الشعر كلّه، ولم يَنف التكميل على العمامة، وقد أثبته حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - عند مسلم، وغيره بلفظ: "أنه - صلى الله عليه وسلم - توضّأ، فمسح بناصيته، وعلى العمامة"، على أن حديث أنس - رضي الله عنه - في إسناده نظرٌ - كما قال الحافظ رحمه الله - فلا يَقْوَى لِمُعارضة حديث المغيرة - رضي الله عنه -.

والحاصل أن الأرجح وجوب استيعاب الرأس بالمسح، وقد أشبعت الكلام في هذا في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 105_106):

قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح أن القول بعدم مشروعيّة تكرار مسح___الرأس هو الصواب؛ للأحاديث الكثيرة الصحيحة بذلك، كحديث عثمان بن عفان، وحديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنهما -، وكلاهما في "الصحيحين"، وفي بعض رواياتهما التصريح بأنه مسح مرّة واحدةً، وأما الأحاديث الواردة في التثليث فكلها معلولة، لا تقاوم هذه الأحاديث الصحيحة. قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله: والإنصاف أن أحاديث الثلاث لم تبلغ درجة الاعتبار حتى يلزم التمسّك بها لما فيها من الزيادة، فالوقوف على ما صحّ من الأحاديث الثابتة في "الصحيحين" وغيرهما من حديث عثمان، وعبد الله بن زيد - رضي الله عنهما -، وغيرهما هو المتعيّن، لا سيّما بعد تقييده في تلك الروايات بالمرة الواحدة.

ومما يؤيّد ذلك حديث: "من زاد على هذا فقد أساء وظلم"، صححه ابن خزيمة وغيره، فإنه قاضٍ بالمنع من الزيادة على الوضوء الذي قال بعده النبيّ - صلى الله عليه وسلم - هذه المقالة، كيف، وقد ورد في رواية سعيد بن منصور في هذا الحديث التصريح بأنه مسح مرّة واحدةً، ثم قال: "من زاد. . إلخ".

قال الحافظ رحمه الله: ويُحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح إن صحّت على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنها مسحات مستقلّة لجميع الرأس؛ جمعًا بين الأدلة. انتهى (1).

والحاصل أن مسح الرأس مرّة واحدةً هو الحقّ؛ لما ذكرناه من الأدلّة، وقد أشبعت الكلام في هذا في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 107)

قال ابن المنذر رحمه الله: والذي أحب أن يأخذ لمسح رأسه ماءً جديدًا، فإن لم يفعل، ومسح رأسه بما في يده من فضل الماء الذي غَسَلَ به ذراعيه رجوت أن يجزئه. انتهى (1).

قال الجامع عفا الله عنه: القول بأخذ الماء الجديد للرأس هو الحقّ؛ لثبوته عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فسيأتي للمصنّف رَحِمَهُ اللهُ حديث عبد الله بن زيد، وفيه: "ومسح برأسه بماءٍ غير فضل يده"، وأما ما استدلّ به ابن المنذر من حديث الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عَفْراء - رضي الله عنه - قالت: "أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتوضأ، ومسح رأسه بماءٍ بَقِي من وضوئه"، فحديث ضعيف؛ لأنه من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل عنها، وهو ضعيف، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 108)

وحاصله أن مسح الأذنين يكون بماء الرأس، ولا حاجة لتجديد الماء له، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 116)

قال الجامع عفا الله عنه:

هذا الذي حقّقه الإمام ابن المنذر رحمه الله من وجوب النيّة في الوضوء والغسل، والتيمّم، وأنه إذا تطهّر بنية صلاة، أو رفع حدث، يصلّي ما يشاء فرضًا ونفلًا هو الحقّ؛ لظهور حجّته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 117)

واستدلّ البيهقيّ رحمه الله على عدم وجوب التسمية بحديث رفاعة بن رافع - رضي الله عنه -، مرفوعًا: "لا تتمّ صلاة أحدكم حتى يُسبغ الوضوء، كما أمر الله، فيغسل وجهه ... " الحديث [حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه" (856)]

قال البيهقيّ: فهذا الحديث ليس فيه ذكر التسمية، فلو كان واجبًا لبيّنه - صلى الله عليه وسلم -. انتهى.

والحاصل أن أحاديث التسمية على فرض صحّتها محمولة على الاستحباب بدليل هذا الحديث، ولا يرد عليه القول بوجوب المضمضة، والاستنشاق، والاستنثار؛ لأنها داخلة في غسل الوجه، وقد أشبعت الكلام في هذا الموضوع في شرح النسائيّ، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 119)

قال الجامع عفا الله عنه: قد كنت رجّحت في شرح النسائيّ عدم وجوب تخليل اللحية كما يراه ابن المنذر وغيره، لكن الآن ترجّح عندي وجوبه؛ لثبوت الأحاديث بمجموع طرقها، كما بينت ذلك هناك، وفعله - صلى الله عليه وسلم - بيان لآية الوضوء؛ لأن الراجح أنها مجملة، ودلالة الآية على الوجوب واضح، فيكون فعله - صلى الله عليه وسلم - واجبًا؛ لكونه بيانًا لها، ولا يُخْرَج عن هذه القاعدة إلا إذا ثبتٌ نصّ، أو إجماع يدلّ على الاستحباب، كتثليث الغَسَلات، وهذه المسألة ليس فيها إجماع، كما سبق في كلام ابن المنذر، فقد أوجب التخليل بعض السلف، فيكون قولهم أرجحَ؛ لرجحان حجتهم، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب.

وكذلك يجب تخليل أصابع اليدين والرجلين؛ لحديث لقيط بن صبرة - رضي الله عنه -، قال: "قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؛ قال: أسبغ الوضوء، وخَلِّل بين الأصابع" [حديث صحيح أخرجه أبو داود، وغيره بإسناد صحيح.]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 121)

وقالت طائفةٌ: مَن قَدَّم عضوًا على عضو فعليه أن يعيد حتى يغسله في موضعه، هكذا قال الشافعيّ، وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور.

واحتج الشافعيّ بقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، وبأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا أراد الصفا قال: "نبدأ بما بدأ الله به"، قال الشافعيّ: ولم أعلم مخالفًا أنه إن بدأ بالمروة قبل الصفا أَلْغَى طوافًا حتى يكون بدؤه بالصفا. قال: وكما قلنا في الجمار: إن بدأ بالآخرة قبل الأولى أعاد، فكان الوضوء في هذا المعنى، وأوكد من بعضه. عندي. انتهى ["الأوسط" 1/ 423 - 424.].

قال الجامع عفا الله عنه:

عندي أن ما قاله الإمام الشافعيّ ومن معه أرجح؛ لظاهر قوله _صلى الله عليه وسلم_: "نبدأ بما بدأ الله به"، بل روي بصيغة الأمر: "ابدءوا بما بدأ الله"،

وأيضًا فإن النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ واظب عليه، فكل الأحاديث الصحيحة وصفت وضوءه مرتّبًا كما في الآية.

قال إمام الحرمين: لم ينقل أحدٌ قطّ أنه _صلى الله عليه وسلم_ نكّس وضوءه، فاطّرد الكتاب والسنّة على وجوب الترتيب. انتهى [راجع "عمدة القاري" 2/ 305]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 123)

في اختلاف أهل العلم في البدء بالميامن في الوضوء:

قال ابن المنذر رحمه الله: ثابتٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعجبه التيمن ما استطاع في ترجُّله، وتنعّله، ووضوئه.

ورَوَينا عنه أنه قال: "إذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم " [حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه بإسناد صحيح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا لَبِستم، وإذا توضأتم فابدءوا بأيامنكم"].

قال ابن المنذر رحمه الله: وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أنه بدأ، فغسل يده اليمنى، ثم اليسرى في وضوئه، وكذلك يفعل المتوضئ إذا أراد اتباع السنة.

وممن مذهبه أن المتوضئ يبدأ بيمينه قبل يساره: مالك، وأهل المدينة، وسفيان الثوري، وأهل العراق، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.

قال: وأجمعوا على أن لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه، وقد روينا عن علي بن أبي طالب وابن مسعود، أنهما قالا: لا تبالي بأيّ يديك بدأت، وعن علي أيضًا قال: لا يضرك بأي يديك بدأت، ولا بأي رجليك بدأت، ولا على أي جانبيك انصرفت، وعن ابن مسعود قال: ما أبالي بأيهما بدأت باليمنى أو اليسرى. انتهى ["الأوسط" 1/ 386 - 387].

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر وجوب التيامن في الوضوء والغسل؛ لأمره - صلى الله عليه وسلم - به، وهو للوجوب، ولمداومته عليه، لكن إن صحّ الإجماع، كما زعمه ابن المنذر، فذاك، وإلا فالأمر كما قلتُ، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 124)

وحاصله: أن تحريك الخاتم يلزم إن كان ضيّقًا لا يصل الماء إلى ما تحته؛ لأن وصول الماء إلى البشرة واجب، وأما إذا كان واسعًا لا يمنع وصول الماء، فلا يلزم تحريكه، ويمكن حمل قول من أطلق القول بالتحريك، وبعدمه على هذا التفصيل، فلا اختلاف في الحقيقة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

 

وقال عبد الله بن عبد الرحمن البسام التميمي (المتوفى: 1423هـ) _رحمه الله_ في "توضيح الأحكام من بلوغ المرام" (1/ 200_201):

"ما يؤخذ من الحديث:

1 - هذا الحديث جعله المؤلِّف -رحمه الله تعالى- أصلاً في بيان صفة وضوء النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وجعل ما بعده من الأحاديث والروايات مكمِّلات له.

2 - ينبغي لمن يريد عبادة من العبادات -ومنها الوضوء والطهارة- أنْ يستعد لها بأدواتها؛ لئلا يحتاج إلى ذلك أثناء أدائها.

3 - استحباب غسل اليدين ثلاثًا، قبل إدخالهما في ماء الوضوء عند الوضوء، وهو سنة بالإجماع؛ والدليل على أنَّ غسلهما سنة فقط: هو أنَّه لم يأت ذكر غسلهما في الآية، وفعل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- المجرَّد لا يدل على الوجوب، وإنَّما يدل على الاستحباب؛ وهذه قاعدة أصولية.

4 - استحباب التيمُّن في تناول ماء الوضوء، لغسل الأعضاء؛ فتكون اليد اليمنى هي المتناولة له.

5 - وجوب المضمضة والاستنشاق؛ فإنَّهما داخلان في مسمَّى الوجه، المنصوصِ على غسله في آية المائدة.

6 - لم يقيد المضمضة والاستنشاق بثلاث، ولكن ما دمنا علمنا أنَّ الفم والأنف من مسمَّى الوجه، فيكفي في استحباب التثليث فيهما ما جاء في الوجه.

7 - استحباب الاستنثار بعد الاستنشاق؛ قال العلماء: ويجوز بلعه.

8 - استحباب التثليث في غسل الوجه، والمضمضة، والاستنشاق، وغسل اليدين، والرجلين؛ فكل هذه الأعضاء يستحب التثليث فيها.___

9 - جوب غسل اليدين مع المرفقين.

10 - وجوب مسح الرَّأس؛ قال شيخ الإِسلام: اتفق الأئمة على أنَّ السنَّة مسح جميع الرأس؛ كما ثبت بالأحاديث الصحيحة.

11 - المسح مبني على التخفيف فلا يشرع تكريره، وإنَّما يقتصر فيه على مرَّة واحدة، يُقْبِلُ الماسح بيديه ثُمَّ يُدْبر؛ ليعم المسح جميع الرَّأس.

12 - الأذنان من مسمَّى الرأس؛ ولذا فإنَّ المشروع أنْ يُمْسَحَا بماءِ الرَّأس، ولا يُؤْخَذ لهما ماء جديد غير ماء الرَّأس.

13 - في الحديث التصريح بوجوب غسل الرجلين، والرد على من قال بمسحهما.

14 - فيه وجوب ترتيب غسل الأعضاء والموالاة بينها.

15 - ما جاء في هذا الحديث هو وضوء النَّبي -صلى الله عليه وسلم- الكامل.

16 - ينبغي للمتوضىء ولكلِّ قائمٍ بعبادةٍ من العبادات، أنْ يستحضر عند فعلها ثلاثة أمور:

(أ) طاعة الله؛ لِتَعْظُمَ العبادة في قلبه.

(ب) التقرُّب إلى الله؛ ليصل إلى درجة المراقبة، فيحسن عبادته.

(ج) الاقتداء بالنَّبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ليحصل على تحقيق المتابعة.

17 - الحديث اشتمل على الواجبات والمستحبات، والذي ينبغي للمسلم أنْ يمتثل أمر الشرع، من دون نظر إلى أنَّ هذا واجب أو مستحب، وإنَّما يفعله امتثالاً لشرع الله تعالى، واقتداءً بنبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، وطلبًا للأجر، ولا يأتي البحث عن الحُكْمِ إلاَّ عند تركه، لينظر هل ترك واجبًا أو مستحبًّا؛ وهذا في حقِّ المتعبد.

أمَّا البحث العلمي ومعرفة الأحكام، فيعرف هذا وهذا.

18 - فيه التعليم بالقول والفعل، وهذا ما يُسمَّى في التربية: بوسائل الإيضاح، وهذا التعليم عن طريق السمع والبصر.___

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 202)

19 - لم يصرِّح في هذا الحديث بالمضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة أو بأكثر، وقد يؤخذ منه الأول؛ لأنَّه ذكر تكرار غسل الوجه والكفين، وأطلق أخذ الماء للمضمضة والاستنشاق، وحديث عبد الله بن زيد يدل على أنهما من غرفة واحدة.

21 - الاستنثار يكون باليد اليسرى، وليس في الحديث ما يقتضي أنَّه باليمين.

22 - جواز الاستعانة بإحضار الطَّهُور.

23 - المضمضة أصلها يشعر بالتحريك؛ فيدل على تحريك الماء في الفم.

 

وقال الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ) _رحمه الله_ في "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" – ط. المكتبة الإسلامية (1/ 176_177):

ومن فوائد هذا الحديث: أنه يشرع غسل الكفين ثلاث مرات قبل الوضوء، دليله: أن عثمان فعل ذلك، وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا.

وهل هذا الغسل واجب؟ لا ليس بواجب بل هو سنة، والدليل على أنه ليس بواجب قول الله - تبارك وتعالى-: {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلىلصلوة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6]. ولم يذكر غسل الكفين، فدل هذا على أن غسل الكفين قبل غسل الوجه ليس بواجب وإنما هو سنة.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يشترط للوضوء مقارنة الاستنجاء خلافا للعامة، العامة يظنون أنهلا يمكن ان يتوضأ إلا باستنجاء حتى ولو كان مستنجيا قبلها ولو بساعة لابد أن يعيد الاستنجاء وهذا غلط. الاستنجاء الغرض منه تطهير المحل فقط، ولا علاقة له بالوضوء إطلاقا.

هل هذا الحديث يدل على أنه يجوز الوضوء بدون تقدم من استنجاء صحيح؟ قد يقال ذلك؛ لأن الآية الكريمة والواصفين لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلموا عن الاستنجاء؛ لأن الاستنجاء عمل مستقل، وهذه المسألة - أعني: هل يصح الوضوء قبل أن يتقدمه استنجاء أو استجمار شرعي- فيها خلاف بين العلماء؛ منهم من قال: لا يصح الوضوء قبل الاستنجاء فلو أن الإنسان لم يستجمر استجمارا شرعيا وإنما استجمر حتى يبس المحل وأنقى المحل بدون أن___يعتبر ذلك بثلاث مسحات ثم توضأ، فمن قال: إنه لا يصح الوضوء قبل الاستجمار الشرعي والاستنجاء قال: وضوؤه غير صحيح، وإذا كان قد صلى فصلاته غير صحيحة، وإذا قلنا: إنه يصح، وإنه لا علاقة للاستنجاء بالوضوء، وهذا هو القول الراجح قلنا: إن صلاته صحيحة.

ومن فوائد هذا الحديث: تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه، وهل هذا واجب؟ الجواب: لا، لو غسل وجهه أولا ثم تمضمض واستنشق واستنثر فلا بأس، لكن الأفضل أن يبدأ بالمضمضة والاستنشاق؛ لأن المضمضة والاستنشاق فيهما شيء من البطون، يعني: أنها باطنة، فكان البدء بتنظيفها أولى من الظاهرة؛ لأن الوجه ظاهر.

ومن الفوائد: مشروعية الاستنثار، فهل الاستنثار واجب؟ الجواب: لا، الاستنشاق هو الواجب والاستنثار سنة، كما أن المضمضة واجبة، ولفظ الماء سنة وليس بواجب." اهـ



[1]  وفي البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 93):

"قال الصنعانيّ في "العدّة" 1/ 190: وهي في "الزهد" لابن المبارك، و"مصنف ابن أبي شيبة"، قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "تخريج أحاديث الإحياء": أخرجه ابن أبي شيبة من حديث صلة بن أشيم مرسلًا، وهو في "الصحيحين" من حديث عثمان - رضي الله عنه - بزيادة في أوله دون قوله: "بشيء من الدنيا"، وزاد الطبرانيّ في "الأوسط": "إلا بخير". انتهى.

قال الزبيديّ في "إتحاف السادة المتّقين" 3/ 35: قال تلميذه الحافظ: لفظ ابن أبي شيبة في "المصنّف": "لم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه". انتهى.

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين