شرح الحديث 27 من بلوغ المرام لأبي فائزة البوجيسي _حفظه الله_

 

27 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا_:

أَنَّ النَّبِيَّ _صلى الله عليه وسلم_ قَالَ فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيْبُ الثَّوْبَ:

"تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ." مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

 

ترجمة أسماء

 

أَسْمَاءُ بنت أبي بكر الصدّيق عبد الله بن عثمان، زوج الزبير بن العوام - رضي الله عنه - التيميّة، وأمها قُتيلة بنت عبد العزَّى، قرشية من بني عامر بن لؤي.

وكانت تُلَقَّب ذات النطاقين،

قال أبو عمر: سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها هَيَّأَت له لَمّا أراد الهجرة سُفْرَةً، فاحتاجت إلى ما تَشُدُّها به، فشَقَّت خمارها نصفين، فشدت بنصفه السُّفْرة، واتخذت النصف الآخر مِنطَقًا،

قال: كذا ذكر ابن إسحاق وغيره، وأصل القصة في "صحيح مسلم" دون التصريح برفع ذلك إلى النبيّ - صلي الله عليه وسلم -،

وقد أسند ذلك أبو عمر من طريق أبي نَوْفل بن أبي عَقْرب قال: قالت أسماء للحجاج: كيف تُعَيّره - تعني ابنها عبد الله - بذات النطاقين؟ أَجَلْ قد كان لي نطاق، لا بد للنساء منه، ونطاق أُغَطّي به طعام رسول الله _صلى الله عليه وسلم_.

وقال ابن سعد: أخبرنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، وفاطمة بنت المنذر، عن أسماء، قال: "صَنَعْت سُفْرةً للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - في بيت أبي بكر، حين أراد أن يهاجر إلى المدينة، فلم نَجِد لسُفْرته ولا لسقائه ما نَرْبِطهما به، فقلت لأبي بكر: ما أجد إلا نطاقي، قال: شُقِّيه باثنين، فاربطي بواحد منهما السقاء، وبالآخر السفرة"، وسنده صحيح.

وبهذا السند عن عروة، عن أسماء، قالت:

"تزوجني الزبير، وما له في الأرض مال، ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه، قالت: فكنت أَعْلِف فرسه، وأكفيه مُؤْنَتَهُ، وَأَسُوْسُهُ وأَدُقّ النَّوَى لناضحه، وكنت أَنقُل النوى من أرض الزبير ... " الحديث،

وفيه: حتى أرسل إليّ أبو بكر بعد ذلك خادمًا، فكفتني سياسة الفرس،

قال: وقال الزبير بن بكار في هذه القصة: قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة"، فقيل لها: ذات النطاقين.

 

وقال ابن إسحاق:

أَسلَمَت قديمًا بعد إسلام سبعة عشر إنسانًا، وهاجرت إلى المدينة، وهي حامل بابنها عبد الله، وماتت بمكة بعد قتله بعشرة أيام، وقيل: بعشرين يومًا، وذلك في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين ["تهذيب التهذيب" (4/ 663)]

 

نص الحديث:

 

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا_:

أَنَّ النَّبِيَّ _صلى الله عليه وسلم_ قَالَ فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيْبُ الثَّوْبَ:

"تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ." مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

 

صحيح البخاري (1/ 55) (رقم: 227):

عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَتْ:

جَاءَتِ امْرَأَةٌ[1] النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيضُ[2] فِي الثَّوْبِ، كَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَالَ: «تَحُتُّهُ[3]، ثُمَّ تَقْرُصُهُ[4] بِالْمَاءِ، وَتَنْضَحُهُ[5]، وَتُصَلِّي فِيهِ»

 

وفي سنن الترمذي ت شاكر (1/ 255):

عَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ:

أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ عَنِ الثَّوْبِ يُصِيبُهُ الدَّمُ مِنَ الحَيْضَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: «حُتِّيهِ، ثُمَّ اقْرُصِيهِ بِالمَاءِ، ثُمَّ رُشِّيهِ، وَصَلِّي فِيهِ»

 

صحيح البخاري (1/ 69):

عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهَا قَالَتْ:

"سَأَلَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنَ الحَيْضَةِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟"

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_:

«إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ، ثُمَّ لِتُصَلِّي فِيهِ»

 

وفي "سنن أبي داود" (1/ 100) (رقم: 363): عن أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ تَقُولُ:

سَأَلْتُ النَّبِيَّ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يَكُونُ فِي الثَّوْبِ قَالَ: «حُكِّيهِ بِضِلْعٍ، وَاغْسِلِيهِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ»[6]

 

كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 451):

"(الحت) بِمَعْنى الحَكُّ. وَذَلِكَ للمستجسد من الدَّم.

و(القرص): الفرك. والنضح هَاهُنَا الْغسْل.

قَالَ ابْن قُتَيْبَة: "مَعْنَاهُ: اغسليه بأطراف أصابعك.

وَمِنْه: قيل: قَرَصْتُ فلَانا. وَإِنَّمَا أَمر بالقرص لِأَن الدَّم وَغَيره إِذا قرص فِي الْغسْل كَانَ أَحْرَى أَن يذهب أَثَره من أَن يغسل بِالْيَدِ كلهَا." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (1/ 172):

"قَوْله (تَقْرُصُهُ) بِالْمَاءِ بالصَّاد الْمُهْملَة، أَيْ: تَمْعَكُهُ بأطراف أصابعها." اهـ

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 157_158):

"وقال صلى الله عليه وسلم في الحيض يصيب الثوب، (تحته) يعني: تحت الدم، (ثم تقرصه بالماء)، والقرص: هو الدلك بأطراف الأصابع سواء كان بالماء أو ببل ريقها أو ما أشبه ذلك، (ثم تنضحه) تصب عليه الماء.

فهذه ثلاث مراتب:

الأولى: "الحت ومتى تحتاج إليه؟ إذا يبس.

والثانية: قرص بالماء، يعني: تدلكه بين أصبعين هكذا.

والثالثة: النضح، والمراد بالنضح هنا: الغسل، ثم قال: "ثم تصلي فيه"، وهذا كأنه – والله أعلم - النبي صلى الله عليه وسلم استفتى في ذلك في المرأة يصيب ثوبها الحيض أتصلي فيه أم لا؟ فقال: هذا وهذا.

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه البخاري في "صحيحه" (1/ 55 و 1/ 69) (رقم: 227 و 307)، ومسلم في "صحيحه" (1/ 240/ 110) (رقم: 291)، وأبو داود في "سننه" (1/ 99) (رقم: 360_361)، والترمذي في "سننه" – ت. شاكر (1/ 254) (رقم: 138)، والنسائي في "سننه" (1/ 155 و 1/ 195) (رقم: 293 و 394)، وفي "السنن الكبرى" (1/ 183) (رقم: 281)، وابن ماجه في "سننه" (1/ 206) (رقم: 629).

 

والحديث صحيح: صححه الألباني في "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" (1/ 312) (رقم: 281)

 

من فوائد الحديث:

 

سبل السلام (1/ 54)

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى نَجَاسَةِ دَمِ الْحَيْضِ، وَعَلَى وُجُوبِ غَسْلِهِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إزَالَتِهِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْحَتِّ وَالْقَرْصِ وَالنَّضْحِ لِإِذْهَابِ أَثَرِهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ الْعَيْنِ بَقِيَّةٌ فَلَا يَجِبُ الْإِلْحَافُ لِإِذْهَابِهَا، لِعَدَمِ ذِكْرِهِ فِي الْحَدِيثِ، أَيْ حَدِيثِ " أَسْمَاءَ " وَهُوَ مَحَلُّ الْبَيَانِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي غَيْرِهِ: [وَلَا يَضُرُّك أَثَرُهُ] .

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 293_295)

في فوائده:

1 - (منها): نجاسة دم الحيض، قال النوويّ - رحمه الله -: وفيه أن الدم نجسٌ، وهو بإجماع المسلمين. ["شرح النوويّ" (3/ 200)]____

2 - (ومنها): أنه لا يُعفَى عن يسير الدم وكثيره؛ لإطلاق النصّ، حيث لم يفرّق النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما قال: "فاغسلي عنك الدم"، بين القليل والكثير، ولم يسأل المرأة عن مقداره، وهذا مذهب الشافعيّ، ويؤيّده أيضًا قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4]، ولم يرخّصوا إلا في دم البراغيث؛ لعدم الاحتراز عنه.

وأما المالكيّة، والحنفيّة، فقد حملوا الحديث على الدم الكثير، والأول هو الأرجح.

قال الإمام ابن المنذر - رحمه الله -: غسل دم الحيضة يجب لأمر النبيّ - صلي الله عليه وسلم - بغسله، وحكم سائر الدماء كحكم دم الحيض، لا فرق بين قليل ذلك وكثيره، وليس لقول من قال: "إذا كان ما أدركه الطَّرْفُ منه لا تكون لمعة لا يُفسد الصلاة" معنًى؛ لأن الأخبار على العموم، ويدخل فيها قليل الدم وكثيره فيما أمر النبيّ - صلي الله عليه وسلم - من غسل دم الحيضة، وليس لأحد أن يستثني من ذلك شيئًا بغير حجة. انتهى ["الأوسط" (2/ 147)].

3 - (ومنها): أن طهارته شرط لصحّة الصلاة.

4 - (ومنها): أن هذه النجاسة، وأمثالها لا يُعتبَر في تطهيرها عدد، ولا تراب، وإنما الشرط فيها الإنقاء.

قال النوويّ - رحمه الله -: (اعلم): أن الواجب في إزالة النجاسة الإنقاء، فإن كانت النجاسة حُكْمية، وهي التي لا تشاهَدُ بالعين، كالبول ونحوه، وجب غسلها مرةً، ولا تجب الزيادة، ولكن يستحب الغسل ثانية وثالثة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا"، وقد تقدم بيانه، وأما إذا كانت النجاسة عينية، كالدم وغيره، فلا بُدّ من إزالة عينها، ويستحب غسلها بعد زوال العين ثانية وثالثة، وهل يشترط عصر الثوب إذا غسله؟ فيه وجهان، الأصح أنه لا يشترط، وإذا غسل النجاسة العينية، فبقي لونها لم يضرّه، بل قد حصلت الطهارة، وإن بقي طعمها، فالثوب نجس، فلا____بد من إزالة الطعم، وإن بقيت الرائحة ففيه قولان للشافعيّ، أصحهما يطهر، والثاني لا يطهر. انتهى ["شرح النوويّ" (3/ 200)]

5 - (ومنها): أن الماء متعيّن في إزالة النجاسة،

قال النوويّ: في هذا الحديث وجوب غسل النجاسة بالماء، ويؤخذ منه أن من غسل بالخلّ أو غيره من المائعات لم يجزه؛ لأنه ترك المأمور به. انتهى.

وهذا الذي قاله النوويّ فيه خلاف سيأتي تحقيقه، وترجيح خلافه، في المسألة التالية _إن شاء الله تعالى_.

6 - (ومنها): أن المرأة تصلّي في الثوب الذي تحيض فيه، وإن أصابه دم الحيض إذا غسلته، فلا يلزمها إعداد ثوب آخر للصلاة.

7 - (ومنها): مشروعيّة سؤال المرأة عما يُستحيى من ذكره، والإفصاح بذكر ما يُستقذر للضرورة.

8 - (ومنها): مشافهة المرأة للرجال الأجانب فيما يتعلّق بأمور الدين.

9 - (ومنها): استحباب فرك النجاسة اليابسة ليهون غسلها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب." اهـ

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 297)

"قال الجامع _عفا الله عنه_:

قد تحصّل مما سبق أن الماء هو الأصل في إزالة النجاسة مطلقًا، لكن ورد في طهارة بعض النجاسة استعمال غير الماء فيه، فإيجاب استعمال الماء في ذلك تنطّعٌ، وسلوك مسلك غير الإنصاف.

والحاصل: أن استعمال الماء في إزالة جميع أنواع النجاسات هو الأصل، وما ورد فيه تعيين تطهيره بغير الماء مثل الدباغ يتعيّن فيه ذلك، ولا يجوز تطهيره بالماء، وما ورد التخفيف في إزالته بغير الماء، كمسح النعلين من الأذى، فجائز استعمال الماء فيه، كما يجوز الاكتفاء بما ورد فيه من المسح أو غيره، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل." اهـ

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 158_160):

ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يعفى عن اليسير لقوله: "ثم تقرصه بالماء"، وهذا لا يكون غالبا إلا في الشيء القليل، أما في الشيء الكثير فلابد من حته بالراحة، يعني: براحة اليد كلها لكن القليل هو الذي يكون بالقرص، فيكون في هذا الحديث دليل على أن دم الحيض لا يعفى عن يسيره،

بقية الدماء القول الراجح فيها أنها ليست بنجسة، يعني: أن الدماء الخارجة من الإنسان ليست بنجسة؛ لأنني - إلى ساعتي هذه- ما وجدت دليلا يدل على النجاسة،

وقد تقرر أن الأصل في الأشياء الطهارة إلا بدليل، وذكرنا عند حديث "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت"

أن القاعدة ألا يكون نجسا؛ لأن ميتة الآدمي طاهرة، فما انفصل منه في حياته يكون طاهرا، كما لو قطعنا يدًا من يديه مثلا أو رِجْلاً من رجليه، فهي طاهرة،

وإذا قلنا بالنجاسة وهو قول جمهور العلماء، وهو القول الذي لا يعرف أكثر الطلبة إلا إياه، يقولون: إنه يعفى عن يسيره فما هو اليسير؟

هل اليسير ما استسهله كل إنسان بحبسه أو اليسير ما استسهله عامة الناس؟

في هذا قولان للفقهاء.

القول الأول: أن اليسير ما استسهله كل إنسان بحسب حاله.

والقول الثاني: أن العبرة بعامة الناس ومتوسطي الناس؛ فما رأوه يسيرا فهو يسير، وما رأوه كثيرا فهو كثير.

القول الأول له وجهة نظر وعليه مؤاخذة، وجهة النظر: أن الإنسان إذا رأى أن هذا الدم الذي أصابه يسير اطمأن وصلى بطمأنينة ولم يحصل منه قلق، ولا يرى أنه قصر في شيء، فيقال: أنت وربك، ولكن فيه مؤاخذة؛ المؤاخذة: أن الناس يختلفون؛ فمن الناس من يوسوس، النقطة التي كعين الجرادة يرى أنها كثيرة، ومن الناس من يكون متهاونا يرى النقطة التي هي أكبر من العصفور قليلة، وحينئذ يختلف الناس في التقدير فيكون الرجوع لأوساط الناس هو القول المترتب، ولهذا شواهد في الشريعة اللقطة تعرفون أنها إذا كانت يسيرة قليلة فإن الإنسان يملكها بمجرد لقيتها إذا لم يعرف صاحبها. اليسير عند من؟ عند أوساط الناس، فالرجوع إلى أوساط الناس أمر معتبر شرعا، فيرجع في القليل والكثير إلى أوساط الناس، لا نأخذ برأي المتهاون ولا برأي الموسوس، هذا بالنسبة لدم غير الحيض، أما الحيض فالحديث يدل على أن كثيره وقليله نجس، وليس لنا خروج عما تقتضيه السنة.___

* وبقينا في دم الاستحاضة هل هو نجس أو كسائر الدماء؟

نقول: إن الأقرب أنه نجس؛ لأنه خارج من سبيل، وقد يقول قائل: إنه ليس بنجس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بأنه "دم عرق"، ودم العروق إما نجس يعفى عن يسيره، وإما طاهر، وهذا دم عرق فلا يكون نجسا.

ثانيا: أن القول الراجح: أن المستحاضة يجوز لزوجها أن يطأها، وإباحة وطئها تقتضي أن يلامس النجاسة ولا يضر. هذا الذي يرجح أنه طاهر.

الذي يرجح أنه نجس، نقول: إنه خارج من سبيل وليس دم عرق طاهر حتى نقول إنه كسائر الدماء، وأما كون الزوج يباح له أن يطأها فالمسألة خلافية، من العلماء من يقول: لا يجوز أن يطأها إلا إذا خاف العنت، وحينئذ يكون وطأها هنا ضرورة وسوف يغسل ما أصابه منها، ومنهم من يقول بالجواز مطلقا وهو الراجح، لكن هذا للحاجة كما أن الإنسان يغسل النجاسة للحاجة ويمسها بيده، فهذا كذلك يريد أن يستمتع بزوجته الاستمتاع الذي أباحه الله.

والأقرب عندي: أن دم الاستحاضة كدم الحيض؛ يعني: أنه يجب التحرز منه، لكن أبيح للحاجة من جهة الزوج، وأما ما يصيب الثوب منه فلابد من غسله قليلا كان أو كثيرا.

من فوائد هذا الحديث: بيان أن الصحابة - رضي الله عنهم- عندهم بساطة في الأمور، المرأة تصلي في الثوب الذي تحيض فيه، والرجل يصلي في الثوب الذي يجامع فيه كما مر علينا من فعل الرسول - صلوات الله وسلامه عليه- وهذا يدل على بساطتهم وسهولة أمرهم وأنهم لا يتكلفون.

الآن بعض النساء لها ثوب للصلاة، وثوب لحمل الأولاد، وثوب للبذلة، وثوب للزينة، والرفرف مملوء من الثياب وغالبها أيضا - في العهد الحديث- متروك مهجور؛ لأنها خرجت موضة جديدة ولابد من التغيير، حتى لو كان الثوب من أحسن الثياب تقول: ما نريده، وهذا خطأ لكن نقول: لا قتر ولا سرف.

الصحابة - رضي الله عنهم- لم تفتح عليهم الدنيا إلا أخيرا ولو على هذا الوجه، لكن لما أنعم الله علينا فلا بأس أن تتخذ المرأة ثوبا للصلاة، وثوبا للبيت للأولاد، ولا نقول: إن هذا من باب الإسراف - إن شاء الله تعالى-.

من فوائد هذا الحديث: أنه يجب إزالة عين النجاسة قبل أن تغسل لقوله: "تحته"؛ لأنك____لو صببت الماء عليها لغسلها قبل أن تحتها ازداد اتساع النجاسة وصارت قد زادت مع الطين بلة فلذلك نقول: لابد من الحت أولا.

وهل يقاس عليها مثلها في النجاسة؟ الجواب: نعم، العذرة مثلا لابد أن تحتها أولا، ثم تغسل المكان، وفي هذا رد لما اشتهر عن بعض الناس أن دم الحيض لا يتجمد، وأن دم الاستحاضة يتجمد، وعللوا ذلك بأن دم الحيض انفجار البويضات في الرحم، ثم يتسرب الدم فتكون قد تجمدت أولا، فإذا خرجت فإنها لا تتجمد، لكن ظاهر هذا الحديث "تحته" يدل على أنه يتجمد فليراجع هذا الموضوع، وكنت بالأول مقتنعا بأن هذا هو الفرق بين دم الاستحاضة، ودم الحيض مع الفروق التي ذكرها الفقهاء، لكن هذا الحديث يمنع الاقتناع بهذا الرأي.

ومن فوائد هذا الحديث أيضا: التدرج في إزالة النجاسة لقوله: (ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه)." اهـ كلام الشيخ العثيمين _رحمه الله_

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 187_189):

* ما يؤخذ من الحديث:

1 - نجاسة دم الحيض، وأنَّه لا يُعْفَى عن يسيره؛ فتجب إزالته من الثوب والبدن وغيرهما ممَّا يجب تطهيره؛ لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بغسله؛ كما هي سُنَّته في إزالة النَّجاسات.____

2 - أنَّ إزالةَ النجاسة مِنَ الثوبِ والبدنِ والبُقْعَةِ شرطٌ مِنْ شروطِ الصلاة؛ فلا تَصِحُّ الصلاةُ مع وجودها والقدرةُ على إزالتها؛ وذلك للأمر بغسل دم الحيض قبل الإتيان بالصلاة.

3 - وجوب حتِّ يابسه ليزول جرمه، ثمَّ دلكه بالماء، ثمَّ غسله بعد ذلك لتزول بقيَّه نجاسته، فيراعى فيه هذا الترتيب الذي هو الأمثل في إزالة النجاسة اليابسة؛ لأنَّه لو عكس لانتشرف النَّجاسة، فأصابت ما لم تصبه من قبل.

4 - جواز الصلاة في الثوب الذي حاضت به المرأة؛ فإنَّه بعد حتِّ ما أصابه، ثمَّ إتباعه بالماء، صار الثوب طاهرًا.

أمَّا بدن المرأة الحائض وعرقها ونحوه: فطاهر؛ فإنَّها لم تُؤْمَرْ بغَسْلِ ثوب حيضها، إلاَّ ما أصابه من بُقَعِ دمِ الحيض، وما عداه باقٍ على أصل الطهارة.

5 - قوله: "ثمَّ تُصَلِّي فيه" دليلٌ على أنَّ النجاسة اليابسة لا تزول ويطهر محلها إلاَّ بهذه العمليات الثلاث، وأنَّها إنْ لم تفعل ذلك، فثوبها لم يطهر، وصلاتها لم تصح.

أمَّا الدم -وما تولد عنه من قيحٍ وصديد- الخارج من بقية البدن: فجمهور العلماء -وحُكِيَ إجماعًا- أنَّه نجس، لكن يُعْفى عن يسيره، وبهذا خالف دم الحيض والاستحاضة؛ فلا يُعْفَى عن شيءٍ منهما.

6 - الحديث دليل على أنَّ الواجب هو إزالة النجاسة فقط، وأنَّه لا يشترط عددٌ معيَّنٌ من الغسلات، فلو زالت بغسلةٍ واحدةِ، طَهُرَ المحل.

وهذا هو القول الرَّاجح من أقوال أهل العلم، وسيأتي بيان الخلاف في ذلك إنْ شاء الله تعالى.

7 - استدل به بعضُ العلماء -ومنهم أصحابنا- على أنَّه لابُدَّ في غسل النجاسات من الماء؛ فلا يكفي غيره؛ مِنْ حَتٍّ أو قرصٍ أو دَلْكٍ، أو شمسٍ أو ريح، وقالوا: إنَّ الماءَ هو المتعيِّن؛ لإزالة النجاسة دون غيره، ولو كانت قويةَ___الإزالة والتطهير؛ فإن الماء هو المتعين؛ لأنَّه جاء منصوصًا عليه في هذا الحديث؛ وهو الأصل في التطهير، لوصفه بذلك في الكتاب والسنَّة.

أمَّا شيخ الإِسلام: فيرى أنَّ التطهير قد يكون بغير الماء، وأمَّا تعينه وعدم إجزاء غيره، فيحتاج إلى دليل، ولم يَرِدْ دليلٌ يقضي بحصر التطهير بالماء، ومجرَّدُ الأمر به لا يستلزمُ الأمرَ به مطلقًا؛ فقد أَذِنَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالإزالة بغير الماء في مواضع منها الاستجمارُ، ومنها قولُهُ في ذيل المرأة: "يطهره ما بعده" [رواه الترمذي (143)]، وقوله في النعلين: "ثمَّ ليدلكهما بالتراب؛ فإنَّ التراب لهما طهور" [رواه أبو داود (386)].

وهذا القول هو الصوابُ والله أعلم." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (1/ 331):

"قَالَ الْخَطَّابِيُّ:

"فِي هَذَا الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَاتِ إِنَّمَا تُزَالُ بِالْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ لِأَنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ بِمَثَابَةِ الدَّمِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِجْمَاعًا،

وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ،

أَيْ: يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ،

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ تَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ وَمِنْ حُجَّتِهِمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ: (مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ، تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، قَالَتْ بِرِيقِهَا، فَمَصَعَتْهُ بِظُفُرِهَا)،

وَلِأَبِي دَاوُدَ: (بَلَّتْهُ بِرِيقِهَا)،

وَجْهُ الْحُجَّةِ مِنْهُ: أَنه لَو كَانَ الرِّيق لايطهر، لَزَادَ النَّجَاسَةُ.

وَأُجِيبَ: بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ قَصَدَتْ بِذَلِكَ تَحْلِيلَ أَثَرِهِ، ثُمَّ غَسَلَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ فِي بَابِ هَلْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبٍ حَاضَتْ فِيهِ.

فَائِدَةٌ: تُعُقِّبَ اسْتِدْلَالُ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى تَعْيِينِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَلِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا الشَّرْط.

وَأجِيب: بِأَن الْخَبَر نَص على الماء، فَإِلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ بِالْقِيَاسِ، وَشَرْطُهُ: أَنْ لَا يَنْقُصَ الْفَرْعُ عَنِ الْأَصْلِ فِي الْعِلَّةِ، وَلَيْسَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ مَا فِي الْمَاءِ مِنْ رِقَّتِهِ وَسُرْعَةِ نُفُوذِهِ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ وَسَيَأْتِي بَاقِي فَوَائِدِهِ فِي بَابِ غَسْلِ دَمِ الْحَيْضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى." اهـ

 

عمدة القاري شرح صحيح البخاري (3/ 141)

بَيَان استنباط الْأَحْكَام:

* مِنْهَا: مَا قَالَه الخاطبي: إِن فِيهِ دَلِيلا على أَن النَّجَاسَات إِنَّمَا تَزُول بِالْمَاءِ دون غَيره من الْمَائِعَات، لَان جَمِيع النَّجَاسَات بِمَثَابَة الدَّم، لَا فرق بَينه وَبَينهَا إِجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ اسْتدلَّ بِهِ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) على أَصْحَابنَا فِي وجوب الطَّهَارَة بِالْمَاءِ دون غَيره من الْمَائِعَات الطاهرة. قلت: هَذَا خرج مخرج الْغَالِب لَا مخرج الشَّرْط، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم} (النِّسَاء: 23) وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن المَاء أَكثر وجودا من غَيره، أَو نقُول: تَخْصِيص الشَّيْء بِالذكر لَا يدل على نفي الحكم عَمَّا عداهُ، أَو نقُول: إِنَّه مَفْهُوم لقب، وَلَا يَقُول بِهِ إمامنا.[7]

وَمِنْهَا: أَنه يدل على وجوب غسل النَّجَاسَات من الثِّيَاب،

وَقَالَ ابْن بطال: حَدِيث أَسمَاء أصل عِنْد الْعلمَاء فِي غسل النَّجَاسَات من الثِّيَاب، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث مَحْمُول عِنْدهم على الدَّم الْكثير، لِأَن الله تَعَالَى شَرط فِي نَجَاسَته أَن يكون مسفوحاً، وَهُوَ كِنَايَة عَن الْكثير الْجَارِي إلاَّ أَن الْفُقَهَاء اخْتلفُوا فِي مِقْدَار مَا يتَجَاوَز عَنهُ من الدَّم، فَاعْتبر الْكُوفِيُّونَ فِيهِ، وَفِي النَّجَاسَات دون الدِّرْهَم فِي الْفرق بَين قَلِيله وَكَثِيره. وَقَالَ مَالك: قَلِيل الدَّم مَعْفُو، وَيغسل قَلِيل سَائِر النَّجَاسَات. وَرُوِيَ عَن ابْن وهب: إِن قَلِيل دم الْحيض ككثيره وكسائر الأنجاس، بِخِلَاف سَائِر الدِّمَاء، وَالْحجّة فِي أَن الْيَسِير من دم الْحيض كالكثير قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأسماء: (حتيه ثمَّ اقرصيه) ، حَيْثُ لم يفرق بَين قَلِيله وَكَثِيره، وَلَا سَأَلَهَا عَن مِقْدَاره وَلم يحد فِيهِ مِقْدَار الدِّرْهَم وَلَا دونه. قلت: حَدِيث عَائِشَة: (مَا كَانَ لإحدانا إلاَّ ثَوَاب وَاحِد فِيهِ تحيض فَإِن أَصَابَهُ شَيْء من دم بلته بريقها، ثمَّ قصعته بريقها) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا، وَلَفظه: (قَالَت بريقها فمصعته) ، يدل على الْفرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا فِي الدَّم الْيَسِير الَّذِي يكون معفواً عَنهُ، وَأما الْكثير مِنْهُ فصح عَنْهَا. أَي: عَن عَائِشَة. أَنَّهَا كَانَت تغسله، فَهَذَا حجَّة عَلَيْهِم فِي عدم الْفرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير من النَّجَاسَة، وعَلى الشَّافِعِي أَيْضا فِي قَوْله: (إِن يسير الدَّم يغسل كَسَائِر الأنجاس إلاَّ دم الراغيث، فَإِنَّهُ لَا يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ) . وَقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، أَنه لَا يرى بالقطرة والقطرتين بَأْسا فِي الصَّلَاة، وعصر ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بثرة فَخرج مِنْهَا دم فمسحه بِيَدِهِ وَصلى، فالشافعية لَيْسُوا بإكثر إحتياطاً من أبي هُرَيْرَة وَابْن عمر، وَلَا أَكثر رِوَايَة عَنْهُمَا حَتَّى خالفوهما، حَيْثُ لم يفرقُوا بَين الْقَلِيل وَالْكثير، على أَن قَلِيل الدَّم مَوضِع ضَرُورَة، لِأَن الْإِنْسَان لَا يَخْلُو فِي غَالب حَاله من بثرة أَو دمل أَو برغوث، فعفى عَنهُ، وَلِهَذَا حرم الله المسفوح مِنْهُ، فَدلَّ أَن غَيره لَيْسَ بِمحرم، وَأما تَقْدِير أَصْحَابنَا الْقَلِيل بِقدر الدِّرْهَم، فَلَمَّا ذكره صَاحب (الاسرار) عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود أَنَّهُمَا قدرا النَّجَاسَة بالدرهم، وكفي بهما حجَّة فِي الِاقْتِدَاء. وَرُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا أَنه قدره بظفره، وَفِي (الْمُحِيط) : وَكَانَ ظفره قَرِيبا من كفنا، فَدلَّ على أَن مَا دون الدِّرْهَم لَا يمْنَع. وَقَالَ فِي (الْمُحِيط) أَيْضا: الدِّرْهَم الْكَبِير مَا يكون مثل عرض الْكَفّ، وَفِي صَلَاة الأَصْل: الدِّرْهَم الْكَبِير المثقال يَعْنِي: يبلغ مِثْقَالا. وَعند السَّرخسِيّ: يعْتَبر بدرهم زَمَانه، وَأما الحَدِيث الَّذِي روايه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) عَن روح بن غطيف عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (تُعَاد الصَّلَاة من قدر دِرْهَم من الدَّم) ، وَفِي لفظ: (إِذا كَانَ فِي الثَّوْب قدر الدِّرْهَم من الدَّم غسل الثَّوْب وأعيدت الصَّلَاة) . وَإِن اصحابنا لم يحتجوا بِهِ، لِأَنَّهُ حَدِيث مُنكر، بل قَالَ البُخَارِيّ: إِنَّه بَاطِل. فَإِن قلت: النَّص وَهُوَ قَوْله: {وثيابك فطهر} (المدثر: 4) لم يفصل بَين الْقَلِيل وَالْكثير، فَلَا يُعْفَى الْقَلِيل. قلت: الْقَلِيل غير مُرَاد مِنْهُ بِالْإِجْمَاع بِدَلِيل عَفْو مَوضِع الِاسْتِنْجَاء فَتعين الْكثير، وَقد قدر الْكثير بالآثار.

وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الدّلَالَة على أَن الدَّم نجس بِالْإِجْمَاع.

وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الدّلَالَة على أَن الْعدَد لَيْسَ بِشَرْط فِي إِزَالَة النَّجَاسَة بل المُرَاد الإنقاء.

وَمِنْهَا: أَنَّهَا إِذا لم تَرَ فِي ثوبها شَيْئا من الدَّم ترش عَلَيْهِ مَاء وَتصلي فِيهِ." اهـ

 

في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/ 604_608):

"فقه الحديث:

يستفاد من هذه الأحاديث أحكام كثيرة أذكر أهمها:

الأول: أن النجاسات إنما تزال بالماء دون غيره من المائعات، لأن جميع

النجاسات بمثابة دم الحيض، ولا فرق بينه وبينها اتفاقا. وهو مذهب الجمهور

وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز تطهير النجاسة بكل مائع طاهر.

قال الشوكاني (1 / 35):

"والحق: أن الماء أصل في التطهير لوصفه بذلك كتابا وسنة وصفا مطلقا غير مقيد

لكن القول بتعينه وعدم إجزاء غيره يرده حديث مسح النعل وفرك المني، وإماطته

بإذخرة، وأمثال ذلك كثير، فالإنصاف أن يقال أنه يطهر كل فرد من أفراد النجاسات المنصوص على تطهيرها بما اشتمل عليه النص، لكنه إن كان ذلك الفرد

المحال عليه هو الماء

فلا يجوز العدول إلى غيره للمزية التي اختص بها وعدم مساواة غيره له فيها، وإن كان ذلك الفرد غير الماء جاز العدول عنه إلى الماء لذلك، وإن وجد فرد من أفراد النجاسة لم يقع من الشارع الإحالة في تطهيره على فرد من أفراد المطهرات بل مجرد الأمر بمطلق التطهير فالاقتصار على الماء هو اللازم لحصول الامتثال به بالقطع، وغيره مشكوك فيه. وهذه طريقة متوسطة بين القولين لا محيص عن سلوكها."____

قلت: وهذا هو التحقيق فشد عليه بالنواجذ. ومما يدل على أن غير الماء لا يجزىء في دم الحيض قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني: "يكفيك الماء" [د حم][8]

فإن مفهومه أن غير الماء لا يكفي. فتأمل.

* الثاني: أنه يجب غسل دم الحيض ولو قل، لعموم الأمر،

وهل يجب استعمال شيء من المواد لقطع أثر النجاسة كالسدر والصابون ونحوهما؟ فذهب الحنفية وغيرهم إلى عدم الوجوب مستدلين بعدم ورود الحاد في الحديثين الأولين، وذهب الشافعي والعترة كما في " نيل الأوطار " (1 / 35 - 36) إلى الوجوب واستدلوا بالأمر بالسدر في الحديث الثالث وهو من المواد،

وجنح إلى هذا الصنعاني فقال في "سبل السلام" (1 / 55) ردا على الشارح المغربي في قوله " والقول الأول أظهر ":

" وقد يقال: قد ورد الأمر بالغسل لدم الحيض بالماء والسدر، والسدر من الحواد والحديث، الوارد به في غاية الصحة كما عرفت، فيقيد به ما أطلق في غيره (كالحديثين السابقين) ويخص الحاد بدم الحيض، ولا يقاس عليه غيره من النجاسات، وذلك لعدم تحقق شروط القياس، ويحمل حديث " ولا يضرك أثره "،

وقول عائشة: " فلم يذهب " أي بعد الحاد ".

قلت: وهذا هو الأقرب إلى ظاهر الحديث، ومن الغريب أن ابن حزم لم يتعرض له

في " المحلى " (1 / 102) بذكر، فكأنه لم يبلغه.

* الثالث: أن دم الحيض نجس للأمر بغسله، وعليه الإجماع كما ذكره الشوكاني

(1 / 35) عن النووي،

وأما سائر الدماء فلا أعلم نجاستها اللهم إلا ما ذكره القرطبي في " تفسيره " (2 / 221) من " اتفق العلماء على نجاسة الدم."

هكذا قال " الدم " فأطلقه، وفيه نظر من وجهين:

الأول: أن ابن رشد ذكر ذلك مقيدا، فقال في " البداية " (1 / 62) :___

" اتفق العلماء على أن دم الحيوان البري نجس " واختلفوا في دم السمك.. ".

والثاني: أنه قد ثبت عن بعض السلف ما ينافي الإطلاق المذكور، بل إن بعض ذلك في حكم المرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

1 - قصة ذلك الصحابي الأنصاري الذي رماه المشرك بثلاثة أسهم وهو قائم يصلى

فاستمر في صلاته والدماء تسيل منه. وذلك في غزوة ذات الرقاع، كما أخرجه

أبو داود وغيره من حديث جابر بسند حسن كما بينته في " صحيح أبي داود " (192)

ومن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بها، لأنه يبعد أن لا يطلع النبي

صلى الله عليه وسلم على مثل هذه الواقعة العظيمة. ولم ينقل أنه أخبره بأن

صلاته بطلت كما قال الشوكاني (1 / 165) .

2 - عن محمد بن سيرين عن يحيى الجزار قال: صلى ابن مسعود وعلى بطنه فرث ودم

من جزور نحرها، ولم يتوضأ. أخرجه عبد الرزاق في " الأمالي " (2 / 51 / 1)

وابن أبي شيبة في " المصنف " (1 / 151 / 1) والطبراني في " المعجم الكبير "

(3 / 28 / 2) وإسناده صحيح أخرجوه من طرق عن ابن سيرين ويحيى ابن الجزار

قال ابن أبي حاتم (4 / 2 / 133) : " وقال أبي وأبو زرعة: ثقة ".

3 - ذكر ابن رشد اختلاف العلماء في دم السمك، وذكر أن السبب في اختلافهم هو

إختلافهم في ميتته، فمن جعل ميتتة داخلة تحت عموم التحرير جعل دمه كذلك، ومن

أخرج ميتتة أخرج دمه قياسا على الميتة ".

فهذا يشعر بأمرين:

أحدهما: أن إطلاق الاتفاق على نجاسة الدم ليس بصواب لأن هناك بعض___الدماء اختلف في نجاستها كدم السمك مثلا، فما دام أن الاتفاق على إطلاقه لم يثبت، لم يصح

الاستدلال به على موارد النزاع، بل وجب الرجوع فيه إلى النص، والنص إنما دل

على نجاسة دم الحيض، وما سوى ذلك فهو على الأصل المتفق عليه بين المتنازعين

وهو الطهارة فلا يخرج منه إلا بنص تقوم به الحجة.

الأمر الآخر: أن القائلين بنجاسة الدماء ليس عندهم حجة إلا أنه محرم بنص

القرآن فاستلزموا من التحريم التنجيس كما فعلوا تماما في الخمر ولا يخفى أنه

لا يلزم من التحريم التنجيس بخلاف العكس كما بينه الصنعاني في " سبل السلام "

ثم الشوكاني وغيرهما، ولذلك قال المحقق صديق حسن خان في " الروضة الندية "

(1 / 18) بعد أن ذكر حديث أسماء المتقدم وحديث أم قيس الثالث:

" فالأمر بغسل دم الحيض وحكه بضلع يفيد ثبوت نجاسته، وإن اختلف وجه تطهيره،

فذلك لا يخرجه عن كونه نجسا، وأما سائر الدماء فالأدلة مختلفة، مضطربة

والبراءة الأصلية مستصحبة، حتى يأتي الدليل الخالص عن المعارضة الراجحة

أو المساوية، ولو قام الدليل على رجوع الضمير في قوله تعالى (فإنه رجس)

إلى جميع ما تقدم في الآية الكريمة من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير،

لكان ذلك مفيدا لنجاسة الدم المسفوح والميتة، ولكن لم يرد ما يفيد ذلك،

بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل أو إلى الأقرب، والظاهر الرجوع إلى الأقرب

وهو لحم الخنزير، لإفراد الضمير ولهذا جزمنا هنا بنجاسة لحم الخنزير دون

الدم الذي ليس بدم حيض. ومن رام تحقيق الكلام في الخلاف الواقع في مثل هذا

الضمير المذكور في الآية، فليرجع إلى ما ذكره أهل الأصول في الكلام على القيد

الواقع بعد جملة مشتملة على أمور متعددة ".

ولهذا لم يذكر الشوكانى في النجاسات من " الدرر البهية " الدم على عمومه،

وإنما دم الحيض فقط، وتبعه على ذلك صديق حسن خان كما رأيت فيما نقلته عنه____

سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/ 608)

آنفا. وأما تعقب العلامة أحمد شاكر في تعليقه على " الروضة " بقوله:

" هذا خطأ من المؤلف والشارح، فإن نجاسة دم الحيض ليست لأنه دم حيض بل لمطلق

الدم، والمتتبع للأحاديث يجد أنه كان مفهوما أن الدم نجس، ولو لم يأت لفظ

صريح بذلك، وقد كانوا يعرفون ما هو قذر نجس بالفطرة الطاهرة ".

قلت: فهذا تعقب لا طائل تحته، لأنه ليس فيه إلا مجرد الدعوى، وإلا فأين

الدليل على نجاسة دم الحيض ليس لأنه دم حيض بل لمطلق الدم؟ ولو كان هناك دليل

على هذا لذكره هو نفسه ولما خفي إن شاء الله تعالى على الشوكاني وصديق خان

وغيرهما. ومما يؤيد ما ذكرته أن ابن حزم على سعة اطلاعه لم يجد دليلا على

نجاسة الدم مطلقا، إلا حديثا واحدا وهو إنما يدل على نجاسة دم الحيض فقط كما

سيأتي بيانه، فلو كان عنده غيره لأورده، كما هي عادته في استقصاء الأدلة لا

سيما ما كان منها مؤيدا لمذهبه.

وأما قول الشيخ أحمد شاكر:

" والمتتبع للأحاديث يجد أنه كان مفهوما أن الدم نجس ".

فهو مجرد دعوى أيضا، وشيء لم أشعر به البتة فيما وقفت عليه من الأحاديث بل

وجدت فيها ما يبطل هذه الدعوى كما سبق في حديث الأنصاري وحديث ابن مسعود.

ومثل ذلك قوله:

" وقد كانوا يعرفون ما هو قذر نجس بالفطرة الطاهرة ".

فما علمنا أن للفطرة مدخلا في معرفة النجاسات في عرف الشارع، ألا ترى أن الشارع حكم بطهارة المني، ونجاسة المذي، فهل هذا مما يمكن معرفته بالفطرة، وكذلك ذهب الجمهور إلى نجاسة الخمر، وإنها تطهر إذا تخللت، فهل هذا مما يمكن معرفته بالفطرة؟ اللهم لا. فلو أنه قال " ما هو قذر " ولم يزد لكان مسلما. والله تعالى ولي الهداية والتوفيق." اهـ



[1]  وفي فتح الباري لابن حجر (1/ 331):

"قَوْلُهُ (جَاءَتِ امْرَأَةٌ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ أَسْمَاءَ هِيَ السَّائِلَةُ.

وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ فَضَعَّفَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِلَا دَلِيلٍ وَهِيَ صَحِيحَةُ الْإِسْنَادِ لَا عِلَّةَ لَهَا وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يُبْهِمَ الرَّاوِي اسْمَ نَفْسِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ." اهـ

[2]  في فتح الباري لابن حجر (1/ 331):

"قَوْلُهُ (تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ) أَيْ يَصِلُ دَمُ الْحَيْضِ إِلَى الثَّوْبِ وَلِلْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ." اهـ

[3]  وفي فتح الباري لابن حجر (1/ 331):

"قَوْلُهُ (تَحُتُّهُ) بِالْفَتْحِ وَضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ، أَيْ: تَحُكُّهُ، وَكَذَا رَوَاهُ بن خُزَيْمَةَ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ: إِزَالَةُ عَيْنِهِ." اهـ

[4]  فتح الباري لابن حجر (1/ 331):

"قَوْلُهُ (ثُمَّ تَقْرُصُهُ) بِالْفَتْحِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ كَذَا فِي رِوَايَتِنَا وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ فِيهِ الضَّمُّ وَفَتْحُ الْقَافِ وَتَشْدِيدُ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ تُدَلِّكُ مَوْضِعَ الدَّمِ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهَا لِيَتَحَلَّلَ بِذَلِكَ وَيَخْرُجَ مَا تَشَرَّبَهُ الثَّوْبُ مِنْهُ."

[5]  وفي فتح الباري لابن حجر (1/ 331):

قَوْلُهُ (وَتَنْضَحُهُ) بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الْحَاءِ، أَيْ: تَغْسِلَهُ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: "الْمُرَادُ بِهِ: الرَّشُّ، لِأَنَّ غَسْلَ الدَّمِ اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ. وَأَمَّا النَّضْحُ، فَهُوَ لِمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنَ الثَّوْبِ." اهـ

[6]  صحيح: صححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/ 603) (رقم: 300)

[7]  وسبق التعقب عليه من كلام الحافظ قبل قليل!

[8]  أخرجه أحمد في "مسنده" – ط. عالم الكتب (2/ 364 و 2/ 380) (رقم: 8767 و 8939) _واللفظ له_، وأبو داود في "سننه" (1/ 100) (رقم: 365):

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ يَسَارٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ، لَيْسَ لِي إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ ، وَأَنَا أَحِيضُ فِيهِ ، قَالَ: فَإِذَا طَهُرْتِ فَاغْسِلِي مَوْضِعَ الدَّمِ ، ثُمَّ صَلِّي فِيهِ ، قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنْ لَمْ يَخْرُجْ أَثَرُهُ ، قَالَ : يَكْفِيكِ الْمَاءُ ، وَلاَ يَضُرُّكِ أَثَرُهُ."

صححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/ 593) (رقم: 298).

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين