شرح الحديث السادس والعشرون من بهجة قلوب الأبرار

 

الحديث السادس والعشرون: من خصائص النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

 

عن جابر بن عبد الله رضي الله عَنْهُمَا قَالَ :

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

"أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصرت بالرُّعبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ, وجُعلت لِيَ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَطَهُورًا. فأيُّما رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فليُصلّ، وأُحلّت لي الغنائم، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي. وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ. وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى الناس عامة" متفق عليه

 

تخريج الحديث :

 

أخرجه: البخاري في "صحيحه" (رقم: 438), ومسلم في "صحيحه" (رقم: 521)

 

طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 110)

«فُضِّلْت عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ» وَلِلشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَقَالَ مُسْلِمٌ «وَجُعِلْت لِي الْأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا»

وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إذَا لَمْ نَجِدْ الْمَاءَ» .

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ «وَجُعِلَ تُرَابُهَا لَنَا طَهُورًا» تَفَرَّدَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ بِذِكْرِ التُّرَابِ فِيهِ، وَلِأَحْمَدَ، وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ «وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا» وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

 

شرح المصنف :

 

بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ط الوزارة (ص: 62_65)

فضل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بفضائل كثيرة فاق بها جميع الأنبياء،

فكل خصلة___حميدة ترجع إلى العلوم النافعة، والمعارف الصحيحة، والعمل الصالح، فلنبينا منها أعلاها وأفضلها وأكملها،

ولهذا لما ذكر الله أعيان الأنبياء الكرام قال لنبيه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]

 

وهداهم: هو ما كانوا عليه من الفضائل الظاهرة والباطنة.

 

وقد تم ما أمر به، وفاق جميع الخلق، ولذلك خص الله نبينا بخصائص لم يشاركه فيها أحد من الأنبياء، منها: هذه الخمس التي عادت على أمته بكل خير وبركة ونفع.

 

إحداها : أنه نصر بالرعب مسيرة شهر،

وهذا نصر رباني وجندٌ من السماء يعين الله به رسولَه وأمته المتبعين لهديه،

فمتى كان عدوه عنه مسافة شهر فأقل، فإنه مرعوب منه، وإذا أراد الله نصر أحد ألقى في قلوب أعدائه الرعب، قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151]

وألقى في قلوب المؤمنين من القوة والثبات، والسكينة والطمأنينة ما هو أعظم أسباب النصر، فالله تعالى وعد نبينا وأمته بالنصر العظيم، وأن يعينهم بأسباب أرشدهم إليها، كالاجتماع والائتلاف، والصبر والاستعداد للأعداء بكل مستطاع من القوة إلى غير ذلك من الإرشادات الحكيمة، وساعدهم بهذا النصر،

وقد فعل _تبارك وتعالى_، كما هو معروف من حال نبينا _صلى الله عليه وسلم_ والمتبعين له من خلفائه الراشدين والملوك الصالحين، تم لهم من النصر والعز العظيم في أسرع وقتٍ، ما لم يتم لغيرهم.

...................................

 

الثانية: قوله: «وجعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا»

وحقق ذلك___بقوله: «فأينما أدركت أحدا من أمتي الصلاةُ، فعنده مسجده وطهوره»

فجميع بقاع الأرض مسجدٌ يصلى فيها من غير استثناء إلا ما نص الشارع على المنع منه،

 

وقد ثبت النهي عن الصلاة في المقبرة والحمام، وأعطان الإبل، وكذلك الموضع المغصوب والنجس لاشتراط الطهارة لبدن المصلي وثوبه وبقعته.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

«الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ» د ت ق

وصحّحه شيخنا الألباني في "أحكام الجنائز" ص270.

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ :

«صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ، وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ» ت ق وصححه الألباني

 

وكذلك من عدم الماء أو ضره استعماله، فله العدول إلى التيمم بجميع ما تصاعد على وجه الأرض، سواء التراب الذي له غبار أو غيره، كما هو صريح هذا الحديث مع قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]

 

فإن الصعيد: كل ما تصاعد على وجه الأرض من جميع أجزائها.

 

ويدل على أن التيمم على الوجه واليدين ينوب مناب طهارة الماء،

ويفعل به من : الصلاةِ والطوافِ ومسِّ الْمُصْحَفِ، وغير ذلك ما يفعل بطهارة الماء.

والشارع أناب التراب مناب الماء عند تعذر استعماله،

فيدل ذلك على أنه إذا تطهر بالتراب، ولم ينتقض وضوءه، لم يبطل تيممه بخروج الوقت ولا بدخوله، وأنه إذا نوى التيمم للنفل استباح الفرض كطهارة الماء، وأن حكمه حكم الماء في كل الأحكام في حالة التعذر.

............................................

 

الثالثة: قوله: «وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي»

وذلك لكرامته على ربه، وكرامة أمته وفضلهم، وكمال إخلاصهم، فأحلها لهم، ولم ينقص من أجر جهادهم شيئا، وحصل بها لهذه الأمة من سعة الأرزاق، وكثرة الخيرات، والاستعانة على أمور الدين والدنيا شيء لا يمكن عده،

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «وجعل رزقي تحت ظل رمحي»

مسند أحمد ط الرسالة (9/ 123)

5114 - قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ، وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ "

صحيح : إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (رقم :1269)

 

أما مَنْ قبلنا من الأمم، فإن جهادهم قليل بالنسبة لهذه الأمة، وهم دون هذه الأمة بقوة الإيمان والإخلاص، فمن رحمته بهم أنه منعهم من الغنائم ; لئلا يخل بإخلاصهم، والله أعلم.

...............................

 

الرابعة: قوله: «وأعطيت الشفاعة»

وهي الشفاعة العظمى التي يعتذر عنها كبار الرسل، ويُنْتَدَبُ لها خاتَمُهم محمدٌ _صلى الله عليه وسلم_، فيشفعه الله في الخلق، ويحصل له المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون، وأهل السماوات والأرض،

 

وتنال أمته من هذه الشفاعة الحظ الأوفر، والنصيب الأكمل، ويشفع لهم شفاعة خاصة، فيشفعه الله تعالى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لكل نبي دعوة قد تعجلها، وقد خبأت دعوتي شفاعة لأمتي فهي نائلة - إن شاء الله - من مات لا يشرك بالله شيئا» [خ م] ،

 

وقال: «أسعد الناس بشفاعتي: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه» [خ].

..............................

 

الخامسة: قوله: «وكان النبي» أي: جنس الأنبياء «يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عامة»

 

وذلك لكمال شريعته وعمومها وسعتها، واشتمالها على الصلاح المطلق، وأنها صالحة لكل زمان ومكان، ولا يتم الصلاح إلا بها،

وقد أسست للبشر أصولا عظيمة، متى اعتبروها صلحت لهم دنياهم كما صلح لهم دينهم." اهـ

 

فتح الباري لابن رجب (2/ 214 و 217)

وأما الشفاعة التي اختص بها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بين الأنبياء، فليست هي الشفاعة في خروج العصاة من النار؛ فإن هذه الشفاعة يشارك فيها الأنبياء والمؤمنون - أيضا -، كما تواترت بذلك النصوص، وإنما الشفاعة التي يختص بها من دون الأنبياء أربعة أنواع:

* أحدها: شفاعته للخلق في فصل القضاء بينهم.

* والثاني: شفاعته لأهل الجنة في دخول الجنة.

* والثالث: شفاعته في أهل الكبائر من أهل النار، فقد قيل: أن هذه يختص هو بها.

* والرابع: كثرة من يشفع له من أمته؛ فإنه وفر شفاعته وأدخرها إلى يوم القيامة.

وقد ورد التصريح بأن هذه الشفاعة هي المرادة في هذا الحديث....

وقد ذكر بعضهم: شفاعة خامسة خاصة بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي: شفاعته في تخفيف عذاب بعض المشركين، كما شفع لعمه أبي طالب، وجعل هذا من الشفاعة المختص بها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وزاد بعضهم شفاعة سادسة خاصة بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي: شفاعته في سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب. وسيأتي ما يدل عليه - أن شاء الله تعالى." اهـ

 

فتح الباري لابن رجب (2/ 219)

ومن تأمل هذه النصوص علم أن الخصال التي اختص بها عن الأنبياء لا تنحصر في خمس، وأنه إنما ذكر مرة ستا ومرة خمسا ومرة أربعا ومرة ثلاثا بحسب ما تدعو الحاجة إلى ذكره في كل وقت بحسبه. والله أعلم.

 

عمدة القاري شرح صحيح البخاري (4/ 8)

وَإِذا تَأَمَّلت وجدت هَذِه الْخِصَال اثْنَتَيْ عشرَة خصْلَة، وَيُمكن أَن تُوجد أَكثر من ذَلِك عِنْد إمعان التتبع، وَقد ذكر أَبُو سعيد النَّيْسَابُورِي فِي كتاب (شرف الْمُصْطَفى) أَن الَّذِي اخْتصَّ بِهِ نَبينَا من بَين سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام سِتُّونَ خصْلَة.

فَإِن قلت: بَين هَذِه الرِّوَايَات تعَارض، لِأَن الْمَذْكُور فِيهَا الْخمس والست وَالثَّلَاث؛ قلت: قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا يظنّ أَن هَذَا تعَارض، وَإِنَّمَا هَذَا من توهم أَن ذكر الْأَعْدَاد يدل على الْحصْر وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن من قَالَ: عِنْدِي خَمْسَة دَنَانِير مثلا، لَا يدل هَذَا اللَّفْظ على أَنه لَيْسَ عِنْده غَيرهَا، وَيجوز لَهُ أَن يَقُول مرّة أُخْرَى: عِنْدِي عشرُون، وَمرَّة أُخْرَى ثَلَاثُونَ، فَإِن من عِنْده ثَلَاثُونَ صدق عَلَيْهِ أَن عِنْده عشْرين وَعشرَة. فَلَا تعَارض وَلَا تنَاقض، وَيجوز أَن يكون الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أعلمهُ بِثَلَاث ثمَّ بِخمْس ثمَّ بست. قلت: حَاصِل هَذَا أَن التَّنْصِيص على الشَّيْء بِعَدَد لَا يدل على نفي مَا عداهُ، وَقد علم فِي مَوْضِعه.

 

فتح الباري لابن حجر (1/ 437)

فَالظَّاهِرُ اخْتِصَاصُهُ بِهِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا جَعَلَ الْغَايَةَ شَهْرًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ بَلَدِهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَعْدَائِهِ أَكْثَرُ مِنْهُ وَهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ حَاصِلَةٌ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَتَّى لَوْ كَانَ وَحْدَهُ بِغَيْرِ عَسْكَرٍ وَهَلْ هِيَ حَاصِلَةٌ لِأُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ فِيهِ احْتِمَالٌ

 

فتح الباري لابن حجر (1/ 437)

قَالَ بن التِّين :

"قِيلَ الْمُرَادُ (جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا) :

وَجُعِلَتْ لِغَيْرِي مَسْجِدًا وَلَمْ تُجْعَلْ لَهُ طَهُورًا، لِأَنَّ عِيسَى كَانَ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ وَيُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ."

كَذَا قَالَ، وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الدَّاوُدِيُّ.

وَقِيلَ : إِنَّمَا أُبِيحَتْ لَهُمْ فِي مَوْضِعٍ يَتَيَقَّنُونَ طَهَارَتَهُ بِخِلَافِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَأُبِيحَ لَهَا فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ إِلَّا فِيمَا تَيَقَّنُوا نَجَاسَتَهُ،

وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَبْلَهُ إِنَّمَا أُبِيحَتْ لَهُمُ الصَّلَوَاتُ فِي أَمَاكِنَ مَخْصُوصَةٍ كَالْبِيَعِ وَالصَّوَامِعِ،

وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِلَفْظِ : "وَكَانَ مَنْ قَبْلِي إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ."[1]

وَهَذَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ فَثَبَتَتِ الْخُصُوصِيَّةُ

 

 

من فوائد الحديث :

 

العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام لابن العطار (1/ 257)

وفي هذا الحديث:

جواز ذكر ما امتنَّ الله به على عبدِه، وخصَّه به، وعدمُ كتمانه، قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11].

وفيه دليل على: جواز الصلاة في جميع البقاع، إلا ما استثناه الشرع؛ من المقبرة، والمزبلة، والمجزرة، وسائر المواضع النجسة، ومواضع الشياطين.

وفيه دليل على: أَنَّ الأصلَ في الأرض الطهارةُ.

وعلى: تحليل الغنائم بشرطها.

وجواز ذكر العلم من غير سؤال، خصوصًا عند الاحتياج إليه.

والتعريف بنعم الله تعالى، وعدم الجهل، والله أعلم.

وقد يستدل به على: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ الأنبياءِ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - فُضِّلَ بأشياءَ على غيره منهم؛ وذلك دليل على أفضليتِه، والله أعلم.

ولا شكَّ أنه: يعرف فضل المتبوع بفضل التابعين -أيضًا-؛ فكما أنه - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ الأنبياء، فكذلك أمته خيرُ الأمم، وقد ثبتَ: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أهلُ الجنَّةِ عشرونَ ومِئَةُ صَفٍّ، أَنْتُمْ ثَمانونَ" (1)، والله أعلم.

* * *

 

عمدة القاري شرح صحيح البخاري (4/ 10_11)

ذكر استنباط الْأَحْكَام:

الأول: مَا قَالَه ابْن بطال: فِيهِ دَلِيل أَن الْحجَّة تلْزم بالْخبر كَمَا تلْزم بِالْمُشَاهَدَةِ، وَذَلِكَ أَن المعجزة بَاقِيَة مساعدة للْخَبَر مبينَة لَهُ دافعة لما يخْشَى من آفَات الْأَخْبَار، وَهِي الْقُرْآن الْبَاقِي، وَخص اسبحانه وَتَعَالَى نبيه بِبَقَاء معجزته لبَقَاء دَعوته وَوُجُوب قبُولهَا عل من بلغته إِلَى آخر الزَّمَان.

الثَّانِي: فِيهِ مَا خصّه ابه من الشَّفَاعَة، وَهُوَ أَنه لَا يشفع فِي أحد يَوْم الْقِيَامَة إلاَّ شفع فِيهِ، كَمَا ورد (قل يسمع، إشفع تشفع) . وَلم يُعْط ذَلِك مَن قبله من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام.

الثَّالِث: فِي قَوْله: (فأيما رجل أَدْرَكته الصَّلَاة فَليصل) ، يَعْنِي؛ يتَيَمَّم وَيُصلي، دَلِيل على تيَمّم الحضري إِذا عدم المَاء وَخَافَ فَوت الصَّلَاة، وعَلى أَنه لَا يشْتَرط التُّرَاب، إِذْ قد تُدْرِكهُ الصَّلَاة فِي مَوضِع من الأَرْض لَا تُرَاب عَلَيْهَا، بل رمل أَو جص أَو غَيرهمَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ احْتج بِهِ مَالك وَأَبُو حنيفَة فِي جَوَاز التَّيَمُّم بِجَمِيعِ أَجزَاء الأَرْض. وَقَالَ أَبُو عمر: أجمع الْعلمَاء على أَن التَّيَمُّم بِالتُّرَابِ ذِي الْغُبَار جَائِز، وَعند مَالك يجوز بِالتُّرَابِ والرمل والحشيش وَالشَّجر والثلج والمطبوخ كالجص والآجر. وَقَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ: يجوز بِكُل مَا كَانَ على الأَرْض حَتَّى الشّجر والثلج والجمد،...___

الرَّابِع: فِيهِ أَنه تعالى أَبَاحَ الْغَنَائِم للنَّبِي ولأمته كَمَا ذكرنَا." اهـ

 

تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (ص: 76)

هذا حديث عظيم، وفيه فوائد جمة، ونقتصر على البارزة منها:

1- تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء، وتفضيل أمته على سائر الأمم.

2- تعديد نِعَم الله على العبد، وإن ذكرها- على وجه الشكر لله، وذكر آلائه- يُعَدُّ عبادة، شكرًا لله.

3- كونه صلى الله عليه وسلم نُصِرَ بالرعب، وأحلت له الغنائم، وبعث إلى الناس عامة، وأعطي الشفاعة، وجعلت الأرض له ولأمته مسجداً وطهوراً، كل هذا من خصائصه. وقد عدت خصائصه فكانت سبع عشرة خصلة، وهى عند الصنعاني إحدى وعشرون ومن تتبع الجامعين الصغير والكبير وجد زيادة على هذا العدد ...

4- أن صحة الصلاة لا تختص ببقعة دون أخرى.

5- أن الأصل في الأرض الطهارة للصلاة والتيمم.

6- أن كل أرض صالحة ليتيمم منها.

7- سعة هذه الشريعة وعظمتها، لذا جعلت لتنظيم العالم كله في عباداته ومعاملاته، على اختلاف أمصاره، وتباعد أقطاره.

8- قوله: " أيما رجل " لا يراد به جنس الرجال وحده، وإنما يراد أمثاله من النساء أيضا، لأن النساء شقائق الرجال.

9- قال الصنعاني: إنما خص مسافة الشهر، دون مسافة أبعد منه، لأنه لم يكن بينه وبين من أظهر العداوة له أكثر من ذلك.

 

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (5/ 609)

في فوائده:

منها: ما ترجم به المصنف، وهو مشروعية التيمم بالصعيد، وقد تقدم المعنى المختار للصعيد وذكرُ مذاهب العلماء فيه في 202/ 321.

ومنها: مشروعية تعديد النعم تَحَدُّثًا بها، وإظهارا لها, لا فخرا وخُيَلاء، امتثالا لقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: آية 11].

ومنها: إلقاء العلم قبل السؤال.

ومنها: أن الأصل في الأرض الطهارة.___

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (5/ 610)

ومنها: أن صحة الصلاة لا تختص بالمسجد المبني لذلك، وأما حديث "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" فضعيف أخرجه الدارقطني من حديث جابر.

ومنها: ما استدل به صاحب المبسوط من الحنفية على إظهار كرامة الآدمي، وقال: لأن الآدمي خُلق من ماء وتراب، وقد ثبت أن كُلًا منهما طهور ففي ذلك بيان كرامته (1).

ومنها: ما قاله ابن بطال: فيه دليل أن الحجة تلزم بالخبر، كما تلزم بالمشاهدة، وذلك أن المعجزة باقية مساعدةٌ للخبر، مبينةٌ له، دافعة لما يخشى من آفات الأخبار، وهي القرآن الباقي، وخص الله سبحانه وتعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ببقاء معجزته لبقاء دعوته، ووجوب قبولها على من بلغته إلى آخر الزمان.

ومنها: ما خصه به الله سبحانه من الشفاعة، وهو أنه لا يشفع في أحد يوم القيامة إلا شُفِّع فيه "قُلْ تسْمَعْ، واشْفَعْ تُشَفعْ".

ومنها: إباحة الغنائم له، لأمته - صلى الله عليه وسلم - (2).

المسألة الخامسة: قد تقدم أن ذكر الخَمْس ليس للحصر، بل أخبر به على حسب ما أطْلَعَهُ الله تعالى عليه، وإلا فقد ثبت في حديث أبي هريرة مرفوعا عند مسلم: "فُضِّلتُ على الأنبياء بست .. " فذكر الخمس المذكورة في حديث جابر إلا الشفاعة، وزاد خصلتين، وهما: "وأُعْطيتُ جوامعَ الكلم، وختم في النبيون" قال الحافظ رحمه الله: فتحصل منه ومن حديث جابر سبع خصال، ولمسلم أيضا من حديث حذيفة: "فضلنا على الناس بثلاث خصال: جعلت صفوفنا كصفوف

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (5/ 611)

الملائكة" وذكر خصلة الأرض كما تقدم، وذكر خصلة أخرى، وهذه الخصلة المبهمة بَيَّنَها ابن خزيمة، والنسائي، وهي: "وأعْطيتُ هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش" يشير إلى ما حَطَّه الله تعالى عن أمته من الإصر، وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان، فصارت الخصال تسعا. ولأحمد من حديث علي: "أُعْطيتُ أربعا لم يعطهن أحد من الأنبياء: أُعْطيتُ مفاتيح الأرض، وسُمِّيتُ أحمدَ، وجُعلت أمتي خيرَ الأمم" وذكر خصلة التراب، فصارت الخصال اثنتى عشرة خصلة، وعند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: "فُضِّلْتُ على الأنبياء بست: غُفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجعلت أمتي خير الأم، وأعطيت الكوثر، وإن صاحبكم لَصَاحبُ لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه" وذكر ثنتين مما تقدم. وله من حديث ابن عباس رفعه: "فُضِّلتُ على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه، فأسْلَمَ، قال: ونسيت الأخرى".

قال الحافظ رحمه الله: فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة، ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع، وقد تقدم طريق الجمع بين هذه الروايات، وأنه لا تعارض فيها.

وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب شرف المصطفى أن عدد الذي اختص به نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن الأنبياء ستون خصلة. انتهى كلام الحافظ (1).

قال الحافظ جلال الدين السيوطي رحمه الله: بعد نقل كلام الحافظ ما نصه: وقد دعاني ذلك لمَّا ألفت التعليق الذي على البخاري في سنة بضع وسبعين وثمانمائة إلى تتبعها، فوجدت في ذلك شيئا كثيرًا في الأحاديث والآثار، وكتب التفسير، وشروح الحديث، والفقه___

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (5/ 612)

والأصول، والتصوف، فأفردتها في مُؤَلَّف سميته "أنموذج اللبيب، في خصائص الحبيب" وقسمتها قسمين: ما خص به عن الأنبياء، وما خص به عن الأمة، وزادت عدة القسمين على ألف خصيصة، وسار المُؤَلَّفُ المذكور إلى أقصى المغارب والمشارق، واستفاد كل عالم

وفاضل، وسَرَقَ منه كل مُدَّع وسارق. اه

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 352)

في هذا الحديث فوائد:

منها: منة الله - تبارك وتعالى- على هذه الأرمة؛ حيث خصها بخصائص لم تكن للأمم من قبلهم، وهذا داخل في ضمن قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110]. ولم يرد سوى هذا اللفظ فيما سواها من الأمم؛ ورد في بني إسرائيل أن الله فضلها على العالمين، لكن قال العلماء: أي: عالمي زمانهم لا على كل العالم؛ لأن هذه الأمة بالاتفاق هي خير الأمم.

ومنها: فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أعطاه الله تعالى ما لم يعط أحدا من الأنبياء قبله.

ومنها: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث يجمع بعض الأشياء المتشتتة في سياق واحد؛ لأن ذلك أوعى للقلب وأسمع للأذن، ولم يلزم إذا خص عددا معينا في موضع ألا يزيده في موضع آخر كما قد بينا في الشرح.

ومن فوائد هذا الحديث: إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم هذا السلاح الفتاك في عدوه وهو الرعب، فقد نصر بالرعب مسيرة شهر، وما دون ذلك من باب أولى.

وهل يثبت هذا لأحد من أمته؟ الجواب: إذا كانت الأمة على سيرة نبيها صلى الله عليه وسلم ثبت لها ذلك ولا شك؛ لأن المعنى الذي نصر من أجله الرسول صلى الله عليه وسلم إذا وجد في أمته فالنصر باق كما قال الله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} [التوبة: 32]. وعلى هذا فنقول: إذا تخلف النصر عن الأمة فلابد أن يكون لذلك سبب، وأسباب الخذلان كثيرة:

منها: المعصية. ومنها: الإعجاب بالنفس. ومنها: عدم الإخلاص في الجهاد كالذين يقاتلون لأجل القومية العربية، أو غيرها من القوميات، فإن النصر ليس مضمونا لعدم الإخلاص؛ لكن قد يكون من اجل أن يسلطوا على الآخرين لا انتصارا لهم، أن النصر إذا تخلف في هذه الأمة فلابد أن يكون له سبب، وأما إذا قامت الأمة بما قام به نبيها صلى الله عليه وسلم وخلفاؤها الراشدون فإنه لابد أن يحصل النصر، ومن تتبع التاريخ علم الشاهد لذلك.

نتكلم الآن عن قوله: "مسيرة شهر" دائما يكون في الحديث مسيرة ثلاثة أيام، مسيرة شهر، وفي القرآن خمسين سنة، خمسين عاما وما أشبه ذلك، فالمسيرة هنا مسيرة الشهر، بأي شيء توزن المسيرة؟ قال العلماء: توزن المسيرة فيما هو غالب في ذلك الوقت، والغالب في ذلك الوقت سير الإبل المحملة على عادة المسافر لا السريعة ولا البطيئة جدا، كل ما وجدت مسيرة يومين أو ثلاثة أيام أو ما أشبه ذلك، فاحملها على أن ذلك على مسيرة الإبل المحملة التي جرت العادة بالقياس بها.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الله جعل الأرض مسجدا وطهورا، والجعل ينقسم إلى قسمين: قسم بمعنى الشرع، وقسم بمعنى التصيير والخلق، ففي قوله تعالى: {وجعلنا الليل لباسا وجعلنا

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 353)

النهار معاشا} [النبأ: 10، 11]. ما هذا؟ الخلق والتصيير، أي: صبرناه معاشا، {وجعلنا الليا والنهار ءايتين} [الإسراء: 12]. كذلك وفي قوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة} [المائدة: 103]. أي: ما شرع؛ لأن البحيرة موجودة، العرب يفعلون البحيرة، والسائبة والوصيلة والحام، لكن {ما جعل} أي: ما شرع، هنا جعلت الأرض مسجدا من أي القسمين؟ الشرعي.

ومن فوائد هذا الحديث: أن جميع الأرض تصح فيها الصلاة، كل الأرض، فأي إنسان رآك تصلي وقال: صلاتك غير صحيحة في هذا المكان لابد أن تقول: ما هو الدليل؟ وعموم هذا يقتضي صحة صلاة الفريضة في جوف الكعبة، فتصح صلاة الفريضة في جوف الكعبة كما تصح النافلة، وصلاة النافلة ثبتت بها السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين في جوف الكعبة. والأصل أن ما ثبت في النقل ثبت في الفرض، وعندنا هذا العموم: "جعلت لي الأرض مسجدا".

فإن قال قائل: الفريضة لا تصح في الكعبة، ولا في الحجر؟

سألناه هل الكعبة في السماء أم في الأرض؟ فسيقول: في الأرض، إذا قال: في الأرض، قلنا: ما الذي أخرجه من هذا العموم: "جعلت لي الأرض".

يبقى على هذا: ما الذي يستثنى لننظر؟

أولا: المكان النجس يستثنى، المكان النجس لا يصلى فيه، ودليل ذلك: أنه لما بال الأعرابي في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصب عليه ذنوبا من ماء. وهذا يدل على أنه لابد أن تكون أرض المصلي طاهرة، وهذا نص صريج.

ثانيا: قول الله تعالى: {أن طهرا بيتي للطائفين والعكفين والركع السجود} [البقرة: 125]. وهذا يشمل الطهارة الحسية والمعنوية، هذا واحد؛ المقبرة لا تصح الصلاة فيها، ودليل ذلك أمرين:

الأمر الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي مرثد الغنوي: "لا تصلوا إلى القبور".

فإذا نهى عن الصلاة إلى القبور - أي: تجعلها قبله له- خوفا من الفتنة والشرك، فالصلاة بينها من باب أولى ولا شك.

الأمر الثاني: أنه روى الترمذي بإسناد لا بأس به، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام". فالمقبرة لا يصح الصلاة فيها لا فرضا ولا نفلا سواء كان ذلك بين

 

الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 112)

وفي رواية: (نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم)، وفي رواية: (نصرت بالرعب على العدو، وأوتيت جوامع الكلم، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي)].

* أما جوامع الكلم: فإنه يعني به اللغة العربية؛ لأن الله تعالى فضله بها،

 

الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 311_313)

وهذه الخمس فهي جامعة شاملة:

* أولها: أن الله تعالى نصره - صلى الله عليه وسلم - بالرعب، وهو أنه جعل جنده في قلوب أعدائه، وهو الرعب، فخذلهم وهزمهم، وبينه وبينهم مسيرة شهر مسافة، لا يصلها سهم ولا ينالها رمح، ولا يدركها عدو جواد من الخيل، وهي زهاء ثلاثمائة فرسخ.

وكان في قوله - صلى الله عليه وسلم - مخبرا لنا بهذا الحديث أن لله جنودا منها ما يرى صورته، ومنها ما يرى أثره، ومنه الرعب الذي نصر به نبيه.

فأما مسيرة شهر فالذي أراه فيه: أنه لما سخر الله الريح لسليمان فكان غدوها شهر ورواحها شهر، أي مسيرة شهر، إلا أن الرعب الذي يكون مسيرة___الحال، فحاله أتم، فقد فضلت حاله على سليمان من هذا الوجه، ومن وجه آخر، وهو أن سليمان كان يصل إلى الأعداء الذين يقاتلهم وقلوبهم لهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصل إلى الأعداء وقد سبقه الرعب فصارت قلوبهم له، فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لم يعطهن أحد قبلي) ثم عقب ذلك بقوله:

* (وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) يعني أن الله سبحانه أباحه الأرض شرقها وغربها، وأنها جعلت له مسجدا، وهذا مما يدل على كل عاقل أن الله تعالى علم كثرة أمته، وأنه لا يسعهم مسجد ولا جامع فجعل الأرض لهم كلها مسجدا، فأباح الله سبحانه وتعالى الصلاة في كل موضع من الأرض.

ثم لما علم الله عز وجل من حرص أمته على الطهور واهتمامهم بصلواتهم، أباحهم البسيطين، الثرى والماء، لطهورهم، فأوجب عليهم الطهارة بالماء إذا وجدوه، والتراب إذا عدموه، فلما نصروا بالرعب وأقاموا الفريضة ذكر إحلال الغنائم فقال:

* (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي) هذا يذكره - صلى الله عليه وسلم - مبينا به فضل أمته، فإنه يعني أن إيمان أمته زاد وصدق إلى أن لا يضره تناول الغنيمة في إخلاصهم في الجهاد، فإن من كان قبلهم إنما كانت الغنائم تأكلها النار؛ من أجل إيمان من تقدم لم يكن في قوة إيمان هذه الأمة؛ إذ الغنائم لا يؤثر تناولها في إخلاصهم في جهادهم وإرادتهم به وجه مولاهم وخالقهم.

وكان ذلك لنزول إيمان من تقدم عن درجة إيمان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت تأكلها احتياطا للغزاة، حينئذ جاهدوا من أجل الغنائم، من أجل الغنائم لأمة محمد يشير أن مقامهم أشرف من أن يكون جهادهم لأجل الغنائم.___

ثم ذكر الشفاعة : وهي شفاعة في الجمع كله، أولهم الأنبياء، وهذه الشفاعة العظمى تشمل كل مرسل، ومرسل إليه، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث إلى الناس عامة، يعني - صلى الله عليه وسلم - إني بعثت إلى الأسود والأحمر، والجن والإنس، مشيرا بهذا القول إلى كل من طلعت عليه الشمس في فج من فجاج الأرض إذا بلغته دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤمن به فهو من أهل النار." اهـ

 

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 149)

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أُعْطِيتُ خَمْسًا " تَعْدِيدٌ لِلْفَضَائِلِ الَّتِي خُصَّ بِهَا، دُونَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَظَاهِرُهُ: يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِأَنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْفُلْكِ - كَانَ مَبْعُوثًا إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مَعَهُ، وَقَدْ كَانَ مُرْسَلًا إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعُمُومَ فِي الرِّسَالَةِ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ الْبَعْثَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ لِأَجْلِ الْحَادِثِ الَّذِي حَدَثَ، وَهُوَ انْحِصَارُ النَّاسِ فِي الْمَوْجُودِينَ لِهَلَاكِ سَائِرِ النَّاسِ، وَأَمَّا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَعُمُومُ رِسَالَتِهِ فِي أَصْلِ بَعَثْتِهِ، وَأَيْضًا فَعُمُومُ الرِّسَالَةِ: يُوجِبُ قَبُولَهَا عُمُومًا فِي الْأَصْلِ وَالْفُرُوعِ، وَأَمَّا التَّوْحِيدُ، وَتَمْحِيصُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْتِزَامُ فُرُوعِ شَرْعِهِ لَيْسَ عَامًّا فَإِنَّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مَنْ قَاتَلَ غَيْرَ قَوْمِهِ عَلَى الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ التَّوْحِيدُ لَازِمًا لَهُمْ بِشَرْعِهِ، أَوْ شَرْعِ غَيْرِهِ: لَمْ يُقَاتَلُوا، وَلَمْ يُقْتَلُوا

 

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 150)

وَالْخُصُوصِيَّةُ الَّتِي يَقْتَضِيهَا لَفْظُ الْحَدِيثِ: مُقَيَّدَةٌ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الزَّمَانِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَنْفِي وُجُودَ الرُّعْبِ مِنْ غَيْرِهِ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ الْمَسَافَةِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لِغَيْرِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي سِيَاقِ الْفَضَائِلِ وَالْخَصَائِصِ، وَيُنَاسِبُهُ: أَنْ تُذْكَرَ الْغَايَةُ فِيهِ، وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ لَوْ وُجِدَ لِغَيْرِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْمَسَافَةِ لَحَصَلَ الِاشْتِرَاكُ فِي الرُّعْبِ فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ، وَذَلِكَ يَنْفِي الْخُصُوصِيَّةَ بِهَا.

 

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 150)

الثَّالِثُ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا " الْمَسْجِدُ: مَوْضِعُ السُّجُودِ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ يُطْلِقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى الْمَكَانِ الْمَبْنِيِّ لِلصَّلَاةِ الَّتِي السُّجُودُ مِنْهَا، وَعَلَى هَذَا: فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ " الْمَسْجِدُ " هَهُنَا عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، أَيْ جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، أَعْنِي مَوْضِعَ السُّجُودِ، أَيْ لَا يَخْتَصُّ السُّجُودُ مِنْهَا بِمَوْضِعٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ مَجَازًا عَنْ الْمَكَانِ الْمَبْنِيِّ لِلصَّلَاةِ؛

 

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 152)

الْخَامِسُ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكْتُهُ الصَّلَاةُ فَلِيُصَلِّ " مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عُمُومِ التَّيَمُّمِ بِأَجْزَاءِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَيُّمَا رَجُلٍ " صِيغَةُ عُمُومٍ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ مَنْ لَمْ يَجِدْ تُرَابًا، وَوَجَدَ غَيْرَهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ. وَمَنْ خَصَّ التَّيَمُّمَ بِالتُّرَابِ يَحْتَاجُ أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا يَخُصُّ بِهِ هَذَا الْعُمُومَ، أَوْ يَقُولُ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ يُصَلِّي، وَأَنَا أَقُولُ بِذَلِكَ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا: صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ. فَأَقُولُ بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " فَعِنْدَهُ طَهُورُهُ وَمَسْجِدُهُ " وَالْحَدِيثُ إذَا اجْتَمَعَتْ طُرُقُهُ فَسَّرَ بَعْضُهَا بَعْضًا.

 

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 153)

ادِسُ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: جَوَازُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَيَقْسِمَهَا كَمَا أَرَادَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: لَمْ يَحِلَّ مِنْهَا شَيْءٌ لِغَيْرِهِ وَأُمَّتِهِ. وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مَا يُشْعِرُ ظَاهِرُهُ بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْغَنَائِمِ بَعْضُهَا، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ " وَأُحِلَّ لَنَا الْخَمْسُ " أَوْ كَمَا قَالَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ فِي صَحِيحِهِ.

 

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 153) لابن دقيق العيد :

السَّابِعُ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ " ...

لِلْعَهْدِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ شَفَاعَتِهِ الْعُظْمَى، وَهِيَ شَفَاعَتُهُ فِي إرَاحَةِ النَّاسِ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ بِتَعْجِيلِ حِسَابِهِمْ، وَهِيَ شَفَاعَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا خِلَافَ فِيهَا، وَلَا يُنْكِرُهَا الْمُعْتَزِلَةُ.

وَالشَّفَاعَاتُ الْأُخْرَوِيَّةُ خَمْسٌ :

إحْدَاهَا: هَذِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِصَاصَ الرَّسُولِ بِهَا، وَعَدَمَ الْخِلَافِ فِيهَا، وَثَانِيَتُهَا: الشَّفَاعَةُ فِي إدْخَالِ قَوْمٍ الْجَنَّةَ مِنْ دُونِ حِسَابٍ، وَهَذِهِ قَدْ وَرَدَتْ أَيْضًا لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَعْلَمُ الِاخْتِصَاصَ فِيهَا، وَلَا عَدَمَ الِاخْتِصَاصِ. وَثَالِثَتُهَا: قَوْمٌ قَدْ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ، فَيُشْفَعُ فِي عَدَمِ دُخُولِهِمْ لَهَا. وَهَذِهِ أَيْضًا قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مُخْتَصَّةٍ. وَرَابِعَتُهَا: قَوْمٌ دَخَلُوا النَّارَ، فَيُشْفَعُ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْهَا، وَهَذِهِ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا عَدَمُ الِاخْتِصَاصِ، لِمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ مِنْ شَفَاعَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا " الْإِخْوَانُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَشْفَعُونَ ". وَخَامِسَتُهَا: الشَّفَاعَةُ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ لِأَهْلِهَا. وَهَذِهِ أَيْضًا لَا تُنْكِرُهَا الْمُعْتَزِلَةُ.

فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا: أَنَّ مِنْ الشَّفَاعَةِ مِنْهَا مَا عُلِمَ الِاخْتِصَاصُ بِهِ، وَمِنْهَا: مَا عُلِمَ عَدَمُ الِاخْتِصَاصِ بِهِ. وَمِنْهَا: مَا يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ،

فَلَا تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعُمُومِ، فَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ إعْلَامُ الصَّحَابَةِ بِالشَّفَاعَةِ الْكُبْرَى الْمُخْتَصُّ بِهَا هُوَ، الَّتِي صَدَّرْنَا بِهَا الْأَقْسَامَ الْخَمْسَةَ، فَلْتَكُنْ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ."



[1] وفي إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (1/ 317) للألباني : أخرجه أحمد (2/222) بسند حسن

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين