شرح الحديث 21 من بلوغ المرام لأبي فائزة البوجيسي

 

21 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ _رضي الله عنه_:

"أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ _صلى الله عليه وسلم_ انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةٍ مِنْ فِضَّةٍ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ

 

نص الحديث وشرحه:

 

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ _رضي الله عنه_:

"أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ _صلى الله عليه وسلم_ انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ[1] سِلْسِلَةٍ مِنْ فِضَّةٍ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ

 

وفي "صحيح البخاري" (7/ 113) (رقم: 5638): عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، قَالَ:

"رَأَيْتُ قَدَحَ النَّبِيِّ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ[2]، وَكَانَ قَدْ انْصَدَعَ فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ،

قَالَ: "وَهُوَ قَدَحٌ جَيِّدٌ عَرِيضٌ مِنْ نُضَارٍ[3]،

قَالَ: قَالَ أَنَسٌ:

«لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ فِي هَذَا القَدَحِ أَكْثَرَ مِنْ كَذَا وَكَذَا»

قَالَ: وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ:

"إِنَّهُ كَانَ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ،

فَقَالَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: "لاَ تُغَيِّرَنَّ شَيْئًا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، فَتَرَكَهُ."

 

شرح مشكل الآثار (4/ 43) (رقم: 1416): إنَّ ابْنَ عُمَرَ مُنْذُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى عَنِ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ " لَمْ يَكُنْ يَشْرَبُ فِي قَدَحٍ مُفَضَّضٍ،

فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ:

أَنَّ الَّذِي كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَشْرَبُ فِي الْإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ لَيْسَ مِمَّا رَوَيْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ إذْ كَانَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ نَهْيُهُ عَنِ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ ,

وَالْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا عَلَى ذَلِكَ لَا ___يَخْتَلِفُونَ فِيهِ , وَإِنَّمَا الَّذِي جِئْنَا بِهَذَا الْبَابِ مِنْ أَجْلِهِ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنَ الشُّرْبِ فِي الْإِنَاءِ الْخَشَبِ إذَا كَانَ فِيهِ فِضَّةٌ كَالضَّبَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا فَيُبِيحُ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ:

* وَمِمَّنْ كَانَ يُبِيحُهُ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ،

* وَيَكْرَهُهُ بَعْضُهُمْ وَيَنْهَى عَنْهُ، مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ.

كَمَا اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَبْلَهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَأَطْلَقَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَحَظَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَلَيْسَ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي قَدَحِ رَسُولِ اللهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى مِنْ ذَيْنِكَ الْقَوْلَيْنِ: مَا قَالَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ مِنْهُمَا.

وَقَدْ وَجَدْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ، وَأَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ أَعْلَامَ الْحَرِيرِ الَّتِي فِي الثِّيَابِ مِنْ عَيْنِ الْحَرِيرِ مِنَ الْكَتَّانِ وَمِنَ الْقُطْنِ،

فَكَانَ مِثْلُ ذَلِكَ نَهْيَهُ عَنِ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ يَخْرُجُ مِنْهُ الشُّرْبُ فِي آنِيَةِ الْخَشَبِ الَّتِي فِيهَا الْمَسَامِيرُ وَالضَّبَّاتُ مِنَ الْفِضَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا." اهـ

 

شرح مشكل الآثار (4/ 40) (رقم: 1412) - حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ:

" رَأَيْتُ عِنْدَ أَنَسٍ قَدَحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ فِضَّةٌ أَوْ شُدَّ بِفِضَّةٍ "

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ مِمَّا فَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ مِمَّا فِيهِ أَعْظَمُ الْحُجَّةِ فِي إبَاحَتِهِ , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بَعْدَهُ، فَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ دَلَّ أَنْ لَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَقَدْ صَارَ فِي إبَاحَةِ هَذَا الْمَعْنَى لِمَنْ يَقُولُ بِإِبَاحَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَوْلُ رَجُلٍ [ص:41] جَلِيلٍ فَقِيهٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." اهـ

 

صحيح مسلم (3/ 1591) (2008):

عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: " لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحِي هَذَا الشَّرَابَ كُلَّهُ: الْعَسَلَ وَالنَّبِيذَ، وَالْمَاءَ وَاللَّبَنَ "

 

تخريج الحديث:

 

صحيح البخاري (4/ 83 و 7/ 113) (رقم: 3109 و 5638)، مسند أحمد – ط. عالم الكتب (3/139 و 3/259) (رقم: 12410_12411 و 13721_13722)، المعجم الأوسط (8/ 87) (رقم: 8050)، شرح مشكل الآثار (4/ 41) (رقم: 1413)، السنن الكبرى للبيهقي (1/ 47) (رقم: 113_116)، دلائل النبوة للبيهقي مخرجا (7/ 277)، شرح السنة للبغوي (11/ 369) (رقم: 3032)،

 

من فوائد الحديث:

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 166)

* ما يؤخذ من الحديث:

1 - ما دام أن الأصل في استعمال الذهب والفضة هو التحريم؛ كما جاء في النصين المتقدِّمين وأمثالهما، فإنَّ ما أُبيح منهما يتقيد بمورد النص.

2 - جواز إصلاح الإناء المنكسر بضبة يسيرة أو سلسلة لطيفة، عند الحاجة إلى إصلاح الإناء المنكسر.

3 - الحاجة هنا ليس معناها أنَّه لا يجد غيرها من الحديد والنحاس والصفر أو نحوها، وإنَّما معناها أنْ يتعلَّق بإصلاحه غرض من غير أغراض الزينة، وتجميل الإناء وتحسينه." اهـ

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 167)

* فائدة:

يباح للنِّساء من حلي الذهب والفضَّة ما جرت عادتهنَّ بلبسه ولو كثر، ويباح للرجل خاتم من فضَّة لا من ذهب، ويباح تحلية السِّلاح وأدوات القتال بما جرت به العادة أيضًا، وكذا ما دعت إليه حاجة من رباط أسنان، واتخاذ أنف ونحو ذلك.

وما عدا ما جاءت النصوص بإباحته، فإنَّه حرام لا يجوز:

فلا يجوز للذكور كبارًا أو صغارًا لبس الذهب أو الفضَّة، ولا جعله سلاسل أو ساعات، أو أزارير أو رباط كبك، أو قلمًا أو مفتاحًا، أو أي نوع من أنواع الملابس، أو استعماله في أكل أو شرب أو غير ذلك، أو اتخاذ أواني الذهب أو الفضَّة تحفًا، أو غيره.

أمَّا استعمال الفضَّة في الفنادق الرَّاقية والمطاعم الممتازة أدواتٍ للأكل، كجعلها صحونًا أو ملاعق وشوكًا ونحو ذلك، فلا شكَّ في تحريمه ومخالفته للنُّصوص النَّاهية عنه.

وعلى ولاة الأمور والقادرين: إنكاره، ومنعهم من ذلك." اهـ

 

شرح السنة للبغوي (11/ 370):

"فِيهِ بَيَان أَن تضبيب الْإِنَاء بقليلٍ من الْفضة عِنْد الْحَاجة جائزٌ، فَأَما الْكثير للزِّينَة، فحرامٌ، أما الْقَلِيل للزِّينَة أوِ الْكثير للْحَاجة فمكروهٌ." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (10/ 101):

"وَفِي الْحَدِيثِ: جَوَازُ اتِّخَاذِ ضَبَّةَ الْفِضَّةِ،

وَكَذَلِكَ السِّلْسِلَةِ وَالْحَلْقَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ:

* قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَنَعَهُ مُطْلَقًا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ.

* وَعَنْ مَالِكٍ: يَجُوزُ مِنَ الْفِضَّةِ إِنْ كَانَ يَسِيرًا،

* وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ قَالَ: لِئَلَّا يَكُونَ شَارِبًا عَلَى فِضَّةٍ،

* فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ: أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَخْتَصُّ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ فِي مَوْضِعِ الشُّرْبِ.

وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَقَالَ بِهِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ،

وَقَالَ بن الْمُنْذِرِ تَبَعًا لِأَبِي عُبَيْدٍ: الْمُفَضَّضُ لَيْسَ هُوَ إِنَاءُ فِضَّةٍ،

وَالَّذِي تَقَرَّرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الضَّبَّةَ إِنْ كَانَتْ مِنَ الْفِضَّةِ وَهِيَ كَبِيرَةٌ لِلزِّينَةِ تَحْرُمُ أَوْ لِلْحَاجَةِ فَتَجُوزُ مُطْلَقًا، وَتَحْرُمُ ضَبَّةُ الذَّهَبِ مُطْلَقًا.

وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ ضَبَّتَيِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ عَنْ أَبِيه عَن بن عُمَرَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَزَادَ فِيهِ أَوْ فِي إِنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ بِجَهَالَةِ حَالِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ وَوَلَدِهِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ الصَّوَابُ مَا رَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَن بن عُمَرَ مَوْقُوفًا أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْرَبُ فِي قَدَحٍ فِيهِ ضَبَّةُ فِضَّةٍ وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَن لُبْسِ الذَّهَبِ وَتَفْضِيضِ الْأَقْدَاحِ ثُمَّ رَخَّصَ فِي تَفْضِيضِ الْأَقْدَاحِ وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ حُجَّةً فِي الْجَوَازِ لَكِنْ فِي سَنَدِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِنَاءِ مِنَ النُّحَاسِ أَوِ الْحَدِيدِ الْمَطْلِيِّ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهُ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ حُرِّمَ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا وَفِي الْعَكْسِ وَجْهَانِ كَذَلِكَ وَلَوْ غُلِّفَ إِنَاءُ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ بِالنُّحَاسِ مَثَلًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَكَذَلِكَ وَجَزَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ كَحَشْوِ الْجُبَّةِ الَّتِي مِنَ الْقُطْنِ مَثَلًا بِالْحَرِيرِ

وَاسْتُدِلَّ بِجَوَازِ اتِّخَاذِ السَّلْسَلَةِ وَالْحَلْقَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ لِلْإِنَاءِ رَأْسٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ وَهَذَا مَا نَقَلَهُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَالْخُوَارِزْمِيُّ،

وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ،

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ كَالتَّضْبِيبِ وَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ وَالتَّفْصِيلُ. وَاخْتَلَفُوا فِي ضَابِطِ الصِّغَرِ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ: الْعُرْفُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ: مَا يَلْمَعُ عَلَى بُعْدٍ كَبِيرٍ، وَمَا لَا، فَصَغِيرٌ. وَقِيلَ: "مَا اسْتَوْعَبَ جُزْءًا مِنَ الْإِنَاءِ كَأَسْفَلِهِ أَوْ عروته أَو شفته كَبِيرٌ، وَمَا لَا، فَلَا. وَمَتَى شَكَّ، فَالْأَصْلُ الْإِبَاحَةُ وَالله أعلم." اهـ

 

الإفصاح عن معاني الصحاح (5/ 325)

* في هذا الحديث جواز تضبيب القدح بالفضة، ولا يكون ذلك من متاع الدنيا المذموم؛ بل هو من المعاون على العبادة.

* وفيه أنه يستحب اتخاذ القدح من الشيء الخالص لأن النضار هو الخالص من كل شيء، وقيل النضار: أقداح حمر شبهت بالذهب، ويقال للذهب: النضار. وهذا يدل على أنه يستحب للإنسان أن لا يستعمل ألا الأجود من كل شيء، فإن ذلك أبلغ لما يراد في جنسه، وأما الحلقة التي اتخذت فيه من حديد فلا أرى ذلك إلا ليعلقه الراكب معه إذا ركب فيكون أحفظ له وأصون للراكب عن الاشتغال به في غير وقت الحاجة إليه.

* وأما قوله: قد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدحي هذا الشراب كله، فإنه عنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من المنعمين المترفين الذين عندهم لكل شراب آنية مفردة، وأنه كان يشرب كل الشراب في هذا القدح، ويعني بالنبيذ النبيذ من الماء والتمر قبل أن يشتد أو يعود إلى حال يسكر كثيره، فإن ذلك لا يجوز شربه وقد سبق بيان هذا فيما تقدم.

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 134):

"فيستفاد من هذا الحديث فوائد:

* أولا: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حفظ المالية ما دام يمكن حفظها؛ وجه ذلك: أنه لما انكسر قدحه لم يرم به، بل أصلحه واستعمله.

ومنها: أن هذا يعتبر ركنا من أركان الاقتصاد، وهو ألا يضع الإنسان شيئا من ماله يمكنه أن ينتفع به، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، والمال - كما تعلمون- جعله الله تعالى قياما للناس، تقوم به مصالح دينهم ودنياهم، فلابد من أن يحافظ الإنسان على ماله؛ لأنه مسئول عنه، ولأنه به قيام دينه ودنياه كما قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} [النساء: 5].

ومنها: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان يشرب في الأواني ولو كانت مربوطة.

ومنها: أنه تجوز السلسلة من الفضة يربط بها الأواني، ولا يعد ذلك من الشرب في آنية الفضة؛ لأن العبرة بأصل الإناء،

وهل يلحق بذلك العروة أو لا؟ يعني: مثلا لو أن هذا الإناء يحتاج إلى عروة من فضة هل يجوز أو لا؟

نقول: أما إذا احتيج إليها فنعم، وأما إذا لم نحتج إليها فلا، وذلك أنه لا يتم القياس على هذه المسألة إلا إذا دعت الحاجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اتخذ السلسلة لحاجته إليها، لم يتخذها زينة.

ومن فوائد هذا الحديث: جواز مباشرة الفضة التي ربط بها الإناء عند الشرب وعند الأكل، وجه ذلك: أن أنسا لم يذكر أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- كان يتوقى مباشرة هذه السلسلة، قلت ذلك؛ لأن بعض العلماء - رحمهم الله- يقولون: يكره أن يباشر هذه السلسلة من الفضة؛ لأنه إذا باشرها صار مباشرا للفضة.

فنقول:

أولا: لا دليل عليها، بل ظاهر الدليل أنه لا بأس؛ لأنه لم ينقل عن الرسول - عليه الصلاة والسلام- أنه كان يتوقاها.

ثانيا: أن الشيء إذا أذن فيه كان مباحا، فما دام الشرع قد أذن فيه فإنه يكون مباحا، فمثلا إذا كان الإناء مربعا عند بعض الفقهاء يقول: لا تشرب من الربعة التي فيها شريط الفضة؛ لأنك تباشرها فيكره أن يباشر الفضة، والصواب خلاف ذلك لا بأس أن يباشرها.___

وهل يقاس على شريط الفضة شريط الذهب، بمعنى: أنه لو كسر قدح الإنسان هل يجوز أن يربطه بشريط من الذهب؟

الجواب: لا يصح، لماذا؟ لأن الأصل مع استعمال الذهب والفضة في الأكل والشرب، وإذا كان هذا هو الأصل فإننا لا نخرج عن الأصل إلا بقدر ما جاءت به السنة،

والسنة جاءت بالفضة دون الذهب هذا من وجه،

ومن وجه آخر: أن الذهب أغلى من الفضة عند جميع الناس، فلا يمكن أن يلحق الأعلى بالأدنى، ولو كان ذلك واردا في الذهب لقسنا عليه الفضة، أما العكس فلا؛ لأن الذهب أغلى من الفضة فلا تقاس عليه.

ثم انتهى المؤلف من باب الآنية، وانتقل إلى باب إزالة النجاسة وبيانها، وهذا الترتيب ترتيب المؤلف، وكثير من العلماء رتب هذا الترتيب أي أنه لما ذكر الماء ومتى يتنجس ذكر بماذا يطهر، ونحن نقول: إن الماء إذا تنجس فإنه يطهر بعدة أشياء.

أولا: إذا زال تغيره، فإنه يطهر، وعرفتم فيما سبق أنه إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه صار نجسا، فإذا زال هذا التغير من طعمه ولونه وريحه صار طهورا سواء زال بفعل آدمي أو بطول مكثه أو بأس سبب من الأسباب متى زال تغير الماء النجس قليلا كان أو كثيرا صار طهورا، الدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الماء إلى قسمين: طهور، ونجس؛ فما تغير بالنجاسة فهو نجس، وما لم يتغير بها فهو طهور، فنقول: الحكم يدور مع علته إذا وجد ما دام التغير باقيا فهو نجس، وإذا زال طهر. هذه واحدة.

ثانيا: يطهر بإضافة ماء إليه بان يضيف إليه شيئا من الماء حتى تزول نجاسته.

ثالثا: إذا قدرنا أن الماء كثير ونزح منه الجانب المتغير، وبقي الجانب الذي لم يتغير يطهر أو لا؟ نعم، يطهر هذه ثلاث وسائل لتطهير الماء، أما غير الماء فسيأتي - إن شاء الله- بل سبق تطهير الأرض بماذا؟ تطهر الأرض بصب ماء على وحل النجاسة، وإذا كانت النجاسة ذات جزم أزيل جزمه أولا، ثم صب الماء على أثره، أثر الجرم؛ يعني: لنفرض أن النجاسة التي وقعت على الأرض غائط ماذا نعمل؟ نزيل الغائط أولا ثم نصب الماء على أثره، دم جف ماذا نفعل؟ تزيل الدم أولا ثم نصب على أثره ما يزيل أثره.

مسألة مهمة:

يقول "باب إزالة النجاسة وبيانها"، وهنا نسأل هل يشترط في إزالة النجاسة النية؟ لا يشترط؛ لأنها ليست عبادة مأمورا بها بل هل قذر أمر بإزالته، فإذا زالت طهر المكان فلو قدر___أن إنسانا أصابت ثوبه نجاسة وهو معلق في السقف فنزل المطر وأزال النجاسة وهم لم يعلم هل يطهر؟ يطهر، وكذا لو سقط الثوب في بركة ماء وزالت النجاسة، فإن الثوب يطهر ولو بلا نية، وأما بيان النجاسة فسيأتي - إن شاء الله- بيانها، وهنا ينبغي أن نحصر أنواع النجاسة؛ وذلك لأن الأعيان الطاهرة أضعاف أضعاف أعيان النجاسة، وذلك بأن أصله قاعدة مهمة وهي أن الأصل في الأشياء الطهارة، فمن زعم أن شيئا من الأشياء نجس طالبناه بالدليل، وهذا أصل نافع، وهل يلزم من كون الشيء محرما أن يكون نجسا؟ لا يلزم، وهل يلزم من كون الشيء نجسا أن يكون محرما؟ نعم يلزم هذه أيضا قاعدة." اهـ



[1]  وفي البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (2/ 26): "وقال الخليل: "الشَّعْبُ: الاجتماع. والشَّعْبُ: الافتراق. قال الهرويّ: "هو من الأضداد." وقال ابن دُريد: ليس كذلك، ولكنّها لغة لقوم. انتهى." اهـ

وقال القاضي في "مطالع الأنوار على صحاح الآثار" (6/ 61):

قوله: "اتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً"، هذا (بالفتح)، وهو: الصدع في الشيء، (يقال: شعبتُ الشيء)، شعبًا: لأَمْتُه، وأيضًا: فرقتُه. قَالَ الهروي: هو من الأضداد. قال ابن دريد: ليس من الأضداد؛ إنما هما لغتان لقوم." اهـ

[2]  وفي فتح الباري لابن حجر (10/ 100):

"وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْقَدِيمَةِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ رَأَيْتَ هَذَا الْقَدَحَ بِالْبَصْرَةِ وَشَرِبْتُ مِنْهُ وَكَانَ اشْتَرَى مِنْ مِيرَاثِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ بِثَمَانِمِائَةِ أَلْفٍ." اهـ

[3]  وفي شرح السنة للبغوي (11/ 370): "يُقال: النضارُ: شجرُ الأثلِ، وَأَرَادَ أنّهُ من هَذِه الأقداح الحُمرِ، وَيُقَال: النضارُ: النبعُ، وهُو شجرٌ يُتخذُ مِنْهُ القِسِيُّ." اهـ

وفي فتح الباري لابن حجر (10/ 100): "وَالنُّضَارُ (بِضَمِّ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ): الْخَالِصُ مِنَ الْعُودِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَيُقَالُ: أَصْلُهُ مِنْ شَجَرِ النَّبْعِ، وَقِيلَ: مِنَ الْأَثْلِ، وَلَوْنُهُ: يَمِيلُ إِلَى الصُّفْرَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ: "هُوَ أَجْوَدُ الْخَشَبِ لِلْآنِيَةِ." وَقَالَ فِي "الْمُحْكَمِ": النُّضَارُ: التِّبْرُ وَالْخَشَبُ." اهـ

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين