شرح الحديث 16 - 18 من بلوغ المرام

 

16 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ،

وَعِنْدَ الْأَرْبَعَةِ: "أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ".

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه مسلم في "صحيحه" (1/ 277/ 105) (رقم: 366)، وأبو داود في "سننه" (4/ 66) (رقم: 4123)، والترمذي في "سننه" – ت. شاكر (4/ 221) (رقم: 1728)، والنسائي في "سننه" (7/ 173 و 7/ 173) (رقم: 4241 و 4242)، وابن ماجه في "سننه"  (2/ 1193) (رقم: 3609).

 

والحديث صحيح: صححه الألباني في "تخريج مشكاة المصابيح" (1/ 155) (رقم: 498)، و"صحيح الجامع الصغير وزيادته" (1/ 150) (رقم: 511)، و"غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام" (ص: 35) (رقم: 28).

 

17 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "دِبَاغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طُهُورُهَا" صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ 

 

تخريج الحديث:

 

سنن أبي داود (4/ 66) (رقم: 4125)، سنن النسائي (7/ 173) (رقم: 4243)، مسند أبي داود الطيالسي (2/ 571) (رقم: 1339)، صحيح ابن حبان - محققا (10/ 381) (رقم: 4522):

عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَتَى عَلَى بَيْتٍ، فَإِذَا قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَسَأَلَ الْمَاءَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: «دِبَاغُهَا طُهُورُهَا»

 

صحيح: صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 634) (رقم: 3359)

 

18 - وَعَنْ مَيْمُونَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِشَاةٍ يَجُرُّونَهَا، فَقَالَ: "لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا! فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: "يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

 

سنن أبي داود (4/ 66)

4126): عَنْ الْعَالِيَةِ بِنْتِ سُبَيْعٍ، أَنَّهَا قَالَتْ:

"كَانَ لِي غَنَمٌ بِأُحُدٍ، فَوَقَعَ فِيهَا الْمَوْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهَا،

فَقَالَتْ لِي مَيْمُونَةُ: لَوَ أَخَذْتِ جُلُودَهَا فَانْتَفَعْتِ بِهَا، فَقَالَتْ: أَوَ يَحِلُّ ذَلِكَ،

قَالَتْ: نَعَمْ، مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَجُرُّونَ شَاةً لَهُمْ مِثْلَ الْحِمَارِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا» قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ،

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ»

 

وفي "صحيح مسلم" (1/ 276/ 100) (رقم: 363)، و "سنن أبي داود" (4/ 65_66) (رقم: 4120): عَنْ مَيْمُونَةَ، قَالَتْ:

"أُهْدِيَ لِمَوْلَاةٍ لَنَا شَاةٌ مِنَ الصَّدَقَةِ[1]، فَمَاتَتْ، فَمَرَّ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَلَا دَبَغْتُمْ إِهَابَهَا وَاسْتَنْفَعْتُمْ بِهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ: «إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا»

 

تخريج الحديث:

 

سنن أبي داود (4/ 66) (رقم: 4126)، سنن النسائي (7/ 174) (رقم: 4248)، مسند أحمد - عالم الكتب (6/ 334) (رقم: 26833)،

 

والحديث صحيح: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (5/ 194) (رقم: 2163)

 

من فوائد الحديث:

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 124)

هذه أحاديث في حكم الجلود التي تكون من ميتة، هل تطهر بالدباغ أو لا؟ تطهر، وأتى بها المؤلف في هذا الباب؛ لأن الجلةود تتخذ أوعية للماء والسمن وغير ذلك.

الأول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دبغ الإرهاب فقد طهر" الإهاب: هو الجلد ما لم يدبغ، فيقول: "إذا دبغ الإهاب"، يعني: الجلد قبل دبغه إذا دبغ فقد طهر،

وهذا لا شك أنه يعني بها الجلد النجس؛ لأن قوله: "فقد طهر" بعد ذكر الدبغ يدل على أنه كان قبل الدبغ نجس، إِذَنْ الرسولُ - عليه الصلاة والسلام- يتحدث عن الجلود النجسة إذا دبغت هل تطهر أو لا،

فالحديث يدل على أنها تطهر، والإهاب هنا اسم جنس محلا ب"أل" فيكون للعموم، ويؤيد العمومَ اللفظُ الذي ذكره عند الأربعة: "أيما إهاب دبغ فقد طهر". ووجه لك - أنه يؤيد العموم-: أن "أيما إهاب" أداة شرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم،

إذنْ، أيُّ إهاب دبغ، فإنه يطهر، وكذلك أيضا دباغ جلود الميتة طهورها يدل على أن الميتة إذا أخذت جلودها ودبغت فإنها تطهر.

وحديث ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة يجرونها فقال: "لو أخذتم إهابها" فقالوا: إنها ميتة، فقال: "يطهرها الماء والقرظ". القرظ: حب ينبت في الأثل ونحوه يدبغ به، فقال: "يطهرها الماء والقرظ"، وهذه يعرفها الدباغون.___

إذا نظرنا إلى الأحاديث الثلاثة الأول قلنا: إن الحديث عام، وإن أيَّ إهابٍ نَجِسٍ يُدْبَغُ؛ فإنه يطهر سواء كان هذا الإهاب مما يؤكل لحمه، وكان سبب نجاسته أن البهيمة ماتت، أو مما لا يؤكل.

وإذا نظرنا إلى حديث ميمونة وجدنا أن الحديث فيما يؤكل لحمه، ولكن هل نقول: إننا نربط العموم بالسبب، أو نقول: إن ذكر فرد من أفراد العموم لا يقتضي التخصيص؟

هذا محل خلاف بين العلماء؛

* منهم من يقول: (كل جلد دبغ فإنه يكون طاهرا سواء كان مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل)،

وبناء على هذا القول، لو دبغ جلد الكلب، صار طاهرا، جلد الذئب صار طاهرا، جلد الأسد صار طاهرا، جلد الثعبان صار طاهرا، كل جلد يدبغ يكون طاهرا.

وبهذا أخذ كثير من العلماء، ومنهم الظاهرية،

قالوا: كل جلد يدبغ، فإنه يكون طاهرا، وهذا القول فيه نوعُ سعَةٍ للناس باعتبار أنه يوجد الآن خِفَافٌ كثيرةٌ من جلود الثعابين أو غَيْرِهَا مِمَّا يَحْرُمُ أَكْلُهُ.

* والقول الثاني: (أن الجلد لا يطهُر بالدباغ)،

وهو مقابلُ الأولِ، لا يطهر بالدباغ مطلقا، حتى وإن كان جِلْدَ ما يؤكل، واستدلوا بحديث ضعيف: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب قبل أن يموت بشهر: (ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عَصَبٍ)،

لكن الحديث ضعيف، ولا يدل على النسخ، ولكن هؤلاء قالوا: إنه إذا دُبِغَ تَخِفُّ نجاستُهُ؛ فيجوز استعماله في اليابس دون الرطب،

يعني: يجوز أن تجعله وعاء للحبوب، وعاء للأشياء اليابسة كالدراهم، كالثياب وما أشبه ذلك،

أما الرطب فلا؛ لأنه على رأي هؤلاء لا يطهر بالدباغ هو نجس، والنجس إذا لاقى شيئا رطبا نجسه.

القول الثالث: (أنه يفرق بين جلود البهيمة التي تباح بالذكاة، وجلود البهيمة التي لا تباح بالذكاة)،

فجلود البهيمة التي تباح بالذكاة تطهر بالدباغ، وجلود البهيمة التي لا تحل لذكاة لا تطهر بالدباغ.

مثال الأول: جلد الشاة، لو أن شاة ماتت، وسلخوا جلدها ودبغوه، صار الجلد طاهرا يستعمل في اليابس والرطب، في الماء واللبن وكل شيء،

ولو أن ذئبا قتل أخذ جلده ودبغ، فإنه لا يطهر يكون نجسا،

وعللوا ذلك بأنه إذا كانت الذكاة لا تُحِلُّ هذا الذِّئْبَ ولاَ تُطَهِّرُهُ، فالدباغ من باب أولى ألا يُطَهِّرَ جِلْدَهُ بِخِلَافِ الشاةِ ونَحْوِهَا، وهذا القول وسط،

يعني: خلاصته___أنه إذا دبغ جلد الميتة التي تحل بالذكاة فإنه يطهر، وإذا دبغ جلد البهيمة التي لا تحل بالذكاة، فإنه يبقى على نجاسته، لكن يستعمل في اليابس؛ لأنه إذا استعمل في اليابس، فإن نجاسته لا تتعدى،

وألفاظ الحديث كما رأيتم، لكن قلنا: هل نحمل "أيما إهاب دبغ" أو "إذا دبغ الإهاب" على سبب الحديث الخاص ونقول: إن قوله: "الإهاب" يعني: إهاب الشاة ونحوها؛ لأنه قال ذلك حين مروا بالشاة التي يجرونها،

ونظير ذلك: أن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ رأى زحاما، قد ظلل عليه، وهو مسافر في رمضان، فقال: "ما هذا؟ " قالوا: صائم، قال: "ليس من البر الصيام في السفر". اهـ

 

قلت: يؤيد القول الثالث ما ورد في "سنن النسائي" (7/ 173) (رقم: 4243): عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ دَعَا بِمَاءٍ مِنْ عِنْدِ امْرَأَةٍ، قَالَتْ: مَا عِنْدِي إِلَّا فِي قِرْبَةٍ لِي مَيْتَةٍ، قَالَ: «أَلَيْسَ قَدْ دَبَغْتِهَا؟» قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ دِبَاغَهَا ذَكَاتُهَا»

 

وقال الله _تعالى_:

{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنعام: 145]

 

كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 316)

الْحَيَوَان عندنَا على ثَلَاثَة أَقسَام:

أَحدهَا: مَا لَا يخْتَلف الْمَذْهَب فِي نَجَاسَته حَيا وَمَيتًا، وَهُوَ الْكَلْب وَالْخِنْزِير، وَمَا تولد مِنْهُمَا أَو من أَحدهَا، فَهَذَا لَا يطهر جلده، قولا وَاحِدًا.

وَالثَّانِي: مَا لَا يخْتَلف___الْمَذْهَب فِي طَهَارَته حَال الْحَيَاة، وَهُوَ مَا يحل أكله،

فَفِي طَهَارَة جلده بالدباغ إِذا مَاتَ رِوَايَتَانِ:

* إِحْدَاهمَا: أَنه لَا يطهر، وَهُوَ قَول طَاوس وَسَالم بن عبد الله،

* وَالثَّانيِة: يطهر، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَعَن مَالك كالروايتين.

وَالثَّالِث: مَا يخْتَلف الْمَذْهَب فِي طَهَارَته حَيا على رِوَايَتَيْنِ، وَهُوَ مَا لَا يحل أكله غير الْكَلْب وَالْخِنْزِير والمتولد مِنْهُمَا،

فَهَذَا إِنَّمَا يطهر جلده بالدباغ على الرِّوَايَة الَّتِي تَقول إِنَّه طَاهِر.

وَقَالَ الشَّافِعِي: كل الْجُلُود تطهر إِلَّا جلد الْكَلْب وَالْخِنْزِير.

وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَدَاوُد: وَجلد الْخِنْزِير." اهـ

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (8/ 384)

قال النوويّ رحمه الله:...وفي هذا اللفظ دلالة على تحريم أكل جلد الميتة، وهو الصحيح، كما سيأتي تحقيقه، وللقائل الآخر أن يقول: المراد تحريم لحمها. انتهى

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (8/ 385)

وقال السنديّ رحمه اللهُ: ظاهره أن ما عدا المأكول من أجزاء الميتة غير محرّم الانتفاع به، كالشعر، والسنّ، والقرن، ونحوها، قالوا: لا حياة فيها، فلا تنجس بموت الحيوان. انتهى

 

الإفصاح عن معاني الصحاح (3/ 252)

هذا الحديث يحتج به من يرى طهارة جلد الميتة بالدباغ، وهذا لا يمكن العمل بإطلاقه إلا عند أبي يوسف وداود؛ فإن عندهما أن كل إهاب دبغ فقد طهر. فأما الشافعي رحمه الله فإنه يستثني جلد الكلب والخنزير. وأبو حنيفة رحمه الله يستثني جلد الخنزير، وإذا لم يكن العمل بعمومه حمل على غير الميتة.

* ويكون معنى طهارته بالدباغ: أن إزالة الأوساخ بدبغه مجزئ عن غسله بالماء.

 

تفسير الموطأ للقنازعي (1/ 334)

قالَ أَحْمَدُ: فِفِي هذَا الحَدِيثِ دَلِيل على أنَّ الانْتِفَاعَ بِجِلْدِ المَيْتَةِ إنَّمَا هُوَ بعدَ الدّبَاغِ، وَهُوَ مُوَافِق لِمَا رَوَاهُ ابنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ.

 

الموافقات (4/ 22)

قَالَ الْغَزَالِيُّ: "خُرُوجُ الْكَلْبِ عَنْ ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُسْتَمِعِ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِلدِّبَاغِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، بَلْ هُوَ الْغَالِبُ الْوَاقِعُ، وَنَقِيضُهُ هُوَ الْغَرِيبُ الْمُسْتَبْعَدُ".

وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ أَيْضًا، وَهُوَ مُوَافِقٌ4 لِقَاعِدَةِ الْعَرَبِ، وَعَلَيْهِ يحمل كلام الشارع بلا بد." اهـ

 

حجة الله البالغة (1/ 315)

قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا أدبغ الأهاب، فقد طهر " أَقُول:

اسْتِعْمَال جُلُود الْحَيَوَانَات المدبوغة أَمر شَائِع مُسلم عِنْد طوائف النَّاس، والسر فِيهِ أَن الدّباغ يزِيل النتن والرائحة الكريهة.

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 126)

القول الراجح عندي: أنه لا يطهر إلا ما تحله الذكاة؛ أي: لا يطهر جلد ميتة إلا إذا كانت تحل بالذكاة؛ لأنه يكون كالثوب إذا تنجس فطهر، وأما ما كان نجس العين من أصل الخلقة فلا يطهر بالدباغ. هذا أقرب الأقوال عندي، والله أعلم.

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 127)

ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره أن أي إهاب دبغ فقد طهر حتى لو كان إهاب كلب، ولكن الراجح: أن هذا العموم يكون عموما معنويا على حسب الوصف الذي ورد عليه فلا يخص بذلك الجلد، أي: جلد الشاة المعينة، فالعموم نوعان: عموم لكل جلد، وعموم في جلد مقيد لصفة، فهنا إذا دبغ الإهاب ما دمنا عرفنا أن سبب ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بشاة يجرونها، فمعلوم أن الشاة مما تحله الذكاة، فيكون المراد إذا دبغ الإهاب الذي من جنس الشاة فقد طهر.

فإذا قال قائل: كيف تخصصون الجلد أو النوع واللفظ عام؟

قلنا: نظيره أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظلل عليه وزحاما حوله، وكان في سفر فقال: "ما هذا؟ " قالوا: صائم، قال: "ليس من البر الصيام في السفر" أي: ليس من البر الصيام في السفر فيمن كان حاله كهذا الرجل، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر، حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في يوم شديد الحر، وأكثرنا ظلا صاحب كساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحة، ومعلوم أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- لا يدع البر ولا يفعل ما ليس ببر، وعلى هذا فيتعين أن يكون هذا العموم عاما في جنس من هذه حاله، وهذا لا ينافي قول العلماء: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأننا الآن لم نخصصه بالسبب، لو خصصناه بالسبب لقلنا: ليس من البر صيام هذا الرجل فقط، لكنا عممناه في جنسه، وهذا هو معنى قولنا: بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فعلى هذا يكون قوله: "إذا دبغ الإهاب". أي إهاب؟ إهاب هذا الجلد، يعني: الغنم، والغنم مما تحله الذكاة.

ومن فوائد إتيان المؤلف رحمه الله بلفظ الأربعة أصحاب السنن: "أيما إهاب": الإشارة بأن الأول في قوله: "الإهاب" في اللفظ الأول للعموم، حتى لا يقول قائل: إن "أل" للعهد "إذا دبغ الإهاب"، يعني: إهابكم هذا، وحينئذ نستفيد من هذا اللفظ ما استفدناه أولا أن الإهاب - أي إهاب كلن- من هذا النوع أو من هذا الجلد فإنه يطهر.____

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 128)

ومن فوائد هذا الحديث: الإشارة إلى أن النجاسة يراد إزالتها بأي مزيل، ولذلك لم يجعل النبي - عليه الصلاة والسلام- أداة للتطهير في الجلد - جلد الميتة- إلا الدباغ، فلو أنك غسلته بماء البحر لم يطهر حتى يدبغ؛ لماذا؟ لأن النجاسة لا تزول إلا بهذا، فعلم من ذلك: أن المقصود بالتطهير من النجاسات هو إزالتها بأي سبب، يتفرع على هذه الفائدة ما يوجد الآن من غسيل الثياب في الأبخرة كثياب الصوف، فإذا غسلتها بالبخار وزالت النجاسة تطهر، وهذا هو ما دلت عليه السنة، وهو أيضا ما دل عليه النظر؛ حيث إن النجاسة عين خبيثة متى وجدت فحكمها باق، ومتى زالت فحكمها زائل.

ومن فوائد حديث سلمة بن المحبق ما سبق: أن جلود الميتة دباغها تطهير لها.

ومن فوائد حديث ميمونة: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حفظ المالية وعدم إضاعة الأموال؛ حيث عرض عليهم أن يدبغوا جلد هذه الميتة حتى ينتفعوا بها، ولهذا قال: "لو أخذتم إهابها".

ومن فوائد الحديث: حسن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يباشر أمرهم بأخذه؛ لأنه يعلم أنهم تركوا ذلك استقذارا لها فلهم نوع من العذر، ولهذا عرض عليهم المسألة عرضا قال: "لو أخذتم إهابها".

ومن فوائد الحديث أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الغيب؛ ولتنظر لهذه الفائدة لقولهم: "إنها ميتة"، فهل يصح أن تأخذ هذه العلة من الحديث لأن الصحابة أخبروه؟ في هذا نظر، لكن فيه دليل على جواز مجادلة العالم الذي يخشى أن يكون خفي عليه بعض الشيء وتنبيهه ولا يعد هذا تنقصا له، ولا يعد هذا سوء أدب ممن ناقشه، الدليل على هذا قولهم: إنها ميتة لما قال: "لو أخذتم إهابها" وذها عرض منه صلى الله عليه وسلم أن يأخذوه، قالوا: إنها ميتة، كيف نأخذه.

ومن فوائد هذا الحديث: أن دباغ الجلد - جلود الميتة- يطهره لقوله: "يطهرها الماء والقرظ"، ويتفرع على ذلك أنه يجوز استعماله في اليابسات والمائعات، وفي الألبان وفي المرق، وفي كل شيء.

فإن قال قائل: هل يجب علي إذا أتيت باللبن من سقاء جلد ميتة مدبوغ أن أخبر من أسقيه أو لا يجب؟ لا يجب حتى لو علمت أنه لو علم بذلك لن يشرب؟ الظاهر: نعم، حتى لو علمت؛ لأن ذلك لا يضره، أما لم أخف عليه شيئا يكون ضارا له، ونظيره ما مر علينا في مسألة الذباب، لو سقط الذباب في الشراب وغمسته وأخرجته، ثم قدمته لإنسان يشرب، وعرفت بأن هذا الإنسان لو علم بأنه لو سقط فيه الذباب ما شرب هل يجب أن أخبره؟ لا يجب ما دام الشيء لا يضر فإنه لا يجب؛ لأن هذا إنما يستقذره لو علم به، وإذا لم يعلم فالأمر طبيعي، ثم قال:

 

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (8/ 386_387):

"في فوائده:

1 - (منها): بيان حكم جلود الميتة، وهو جواز الانتفاع بها، لكن بشرط أن تُدبغ.

2 - (ومنها): ما قال ابن أبي جمرة رحمه الله: فيه مراجعةُ الإمام فيما لا____يَفْهَم السامع معنى ما أَمَرَهُ، كأنهم قالوا: كيف تأمرنا بالانتفاع بها، وقد حُرِّمت علينا؟ فَبَيَّنَ له وجه التحريم.

3 - (ومنها): أنه يؤخذ منه جواز تخصيص الكتاب بالسنة؛ لأن لفظ القرآن: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، وهو شامل لجميع أجزائها في كل حال، فَخَصَّت السنةُ ذلك بالأكل.

4 - (ومنها): أن فيه حُسْنَ مراجعتهم، وبلاغتهم في الخطاب؛ لأنهم جَمَعُوا معانيَ كثيرةً في كلمة واحدة، وهي قولهم: "إنها ميتة".

5 - (ومنها): أن الزهريّ رحمه الله استَدَلَّ به على جواز الانتفاع بجلد الميتة مطلقًا، سواءٌ أدُبغَ أم لم يُدْبَغ؟ .

وتُعُقِّب بأنه صَحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - تقييده بالدباغ، فالحقّ أنه لا بدّ منه، وهو مذهب الجمهور.

6 - (ومنها): أنه استُدلّ به على جواز دفع الزكاة لموالي أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد ترجم به الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بقوله: "باب الصدقة على موالي أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم -"، ثم أورد حديث ابن عبّاس - رضي الله عنهما - هذا، وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه من كتاب الزكاة - إن شاء الله تعالى -.

7 - (ومنها): بيان مشروعيّة حفظ المال، والعمل في تنميته، حيث إن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أرشدهم إلى أخذ جلدها، وإصلاحه بالدباغ، ثم الانتفاع به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

عون المعبود وحاشية ابن القيم (11/ 122)

قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِهَابَ الْمَيْتَةِ إِذَا مَسَّهُ الْمَاءُ بَعْدَ الدِّبَاغِ يَنْجُسُ وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ طَاهِرٌ كَطَهَارَةِ الْمُذَكَّى وَأَنَّهُ إِذَا بُسِطَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ أَوْ خُرِزَ مِنْهُ خُفٌّ فَصُلِّيَ فِيهِ جَازَ انْتَهَى

 



[1]  وفي صحيح مسلم (1/ 276/ 10) (رقم: 363): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تُصُدِّقَ عَلَى مَوْلَاةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ فَمَاتَتْ فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ؟» فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ فَقَالَ: «إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا»

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين