شرح الحديث 12 من بلوغ المرام

 

12 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _رضي الله عنه_ قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_:

"إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً، وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً." أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ،

وَزَادَ: "وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ"

 

تخريج الحديث:

 

صحيح البخاري (4/ 130 و 7/ 140) (رقم: 3320 و 5782)، سنن أبي داود (3/ 365) (رقم: 3844)، سنن ابن ماجه (2/ 1159) (رقم: 3505)

 

نص الحديث

 

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _رضي الله عنه_ قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_:

"إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ[1] فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً، وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً." أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ،

وَزَادَ: "وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ"

 

سنن أبي داود (3/ 365)

3844 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَامْقُلُوهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً، وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً، وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ فَلْيَغْمِسْهُ كُلُّهُ»

 

المعجم الأوسط (2/ 160)

1575 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: نا مُحَمَّدٌ قَالَ: نا الْقَاسِمُ بْنُ يَزِيدَ الْجَرْمِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الذُّبَابُ كُلُّهُ فِي النَّارِ إِلَّا النَّحْلَ»

وأخرجه مصنف عبد الرزاق الصنعاني (4/ 451 و 5/ 213) (رقم: 8417 و 9415)، المعجم الأوسط (4/ 11) (رقم: 3482)، وفي المعجم الكبير للطبراني (12/ 389) (رقم: 13436)، معجم أبي يعلى الموصلي (ص: 126) (رقم: 133).

وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 647) (رقم: 3442)

 

فتح الباري لابن حجر (10/ 250)

قَالَ الْجَاحِظُ: "كَوْنُهُ فِي النَّارِ لَيْسَ تَعْذِيبًا لَهُ، بَلْ لِيُعَذَّبَ أَهْلُ النَّارِ بِهِ."

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الطُّيُورِ يَلَغُ إِلَّا الذُّبَابُ."

وَقَالَ أَفْلَاطُونُ: الذُّبَابُ أَحْرَصُ الْأَشْيَاءِ حَتَّى إِنَّهُ يُلْقِي نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ هَلَاكُهُ، وَيَتَوَلَّدُ مِنَ الْعُفُونَةِ وَلَا جَفْنَ لِلذُّبَابَةِ لِصِغَرِ حَدَقَتِهَا، وَالْجَفْنُ يَصْقُلُ الْحَدَقَةَ، فَالذُّبَابَةُ تَصْقُلُ بِيَدَيْهَا، فَلَا تَزَالُ تمسح عينيها. وَمن عَجِيب أمره: أَن رجعيه يَقَعُ عَلَى الثَّوْبِ الْأَسْوَدِ أَبْيَضَ وَبِالْعَكْسِ، وَأَكْثَرُ مَا يَظْهَرُ فِي أَمَاكِنِ الْعُفُونَةِ. وَمَبْدَأُ خَلْقِهِ مِنْهَا ثُمَّ مِنَ التَّوَالُدِ. وَهُوَ مِنْ أَكْثَرِ الطُّيُورِ سِفَادًا، رُبَّمَا بَقِيَ عَامَّةَ الْيَوْمِ عَلَى الْأُنْثَى،

وَيُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ سَأَلَ الشَّافِعِيَّ: "لِأَيِّ عِلَّةٍ خُلِقَ الذُّبَابُ." فَقَالَ: مَذَلَّةً لِلْمُلُوكِ." وَكَانَتْ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ ذُبَابَةٌ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "سَأَلَنِي، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي جَوَابٌ، فَاسْتَنْبَطْتُهُ مِنَ الْهَيْئَةِ الْحَاصِلَةِ."

وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَالِقِيُّ: "ذُبَابُ النَّاسِ يَتَوَلَّدُ مِنَ الزِّبْلِ وَإِنْ أُخِذَ الذُّبَابُ الْكَبِيرُ فَقُطِعَتْ رَأْسُهَا وَحُكَّ بِجَسَدِهَا الشَّعْرَةُ الَّتِي فِي الْجَفْنِ حَكًّا شَدِيدًا أَبْرَأَتْهُ، وَكَذَا دَاءُ الثَّعْلَبِ، وَإِنْ مُسِحَ لَسْعَةُ الزُّنْبُورِ بِالذُّبَابِ، سَكَنَ الْوَجَعُ." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (10/ 251)

وَلَمْ يَقَعْ لِي فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ تَعْيِينُ الْجَنَاحِ الَّذِي فِيهِ الشِّفَاءُ مِنْ غَيْرِهِ لَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ تَأَمَّلَهُ فَوَجَدَهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الْأَيْسَرِ فَعُرِفَ أَنَّ الْأَيْمَنَ هُوَ الَّذِي فِيهِ الشِّفَاءُ وَالْمُنَاسَبَةُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ وَيُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ

 

من فوائد الحديث:

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 148_149):

* ما يؤخذ من الحديث:

1 - طهارة الذباب في حال حياته ومماته، وأنَّه لا ينجس ما وقع فيه من سائل أو جامد.

2 - استحباب غمسه كله فيما وقع فيه من سائل، ثمَّ نزعه وإخراجه، والانتفاع بما وقع فيه فهو باقٍ على طهارته وماليته.

وإنْ كان ما وقع فيه جامدًا، ألقاه وما حوله؛ لعدم سريان مضرته في بقية أجزاء الجامد.

3 - أنَّ في أحد جناحي الذباب داءً، وفي الجناح الآخر شفاء، فإذا وقع في الشراب، رفع الجناحَ الذي فيه الشفاء، وغمس في الشراب الجناحَ الذي فيه الداء؛ ليحافظ على السِّلاح الذي أودعه الله بجناحه من العطب، فيبقى ذخيرة له في حياته عند حاجته إليه، فكان من حكمة الله تعالى أنْ أمر أنْ يغمس جناحه الذي فيه الشفاء حتى يُقابَلَ داؤُهُ بدوائه، فيكون مضادًّا له وتزول مضرته. أمَّا إراقته: ففيها إضاعة مال وإفساد، والشرع ليس لعصرٍ من العصور أو شعب من الشعوب؛ فقد يكون لهذا الشراب قيمته الكبيرة في زمنٍ من الأزمنة، ومكان من الأمكنة، وشعبٍ من الشعوب.

4 - في الحديث إعجاز علمي؛ فقد جاء العلم الحديث بمبتكرات واكتشافات؛ فأثبتت وجود حقيقة علمية في وجود داء ضار في أحد جناحي الذباب، بينما أثبت وجود دواء مضاد له في الجناح الآخر، ولله في شرعه أسرار!!.

5 - قاس العلماء على طهارة الذباب كل ما ليس له نَفْسٌ سائلةٌ من الحشرات، فحكموا بطهارتها، وأنَّها لا تنجس ما سقطت فيه من أطعمة أو أشربة، قليلة كانت تلك الأطعمة أو الأشربة أو كثيرة؛ ذلك أنَّ سبب التنجُّس هو الدم المحتقن في الحيوان بعد موته، وهذا السبب غير موجود فيما ليس له دم سائل؛ كالنحلة، والزنبور، والبعوضة، وأمثال ذلك.____بحثٌ فيه ردٌّ لمطاعن الزنادقة في هذا الحديث:

طعن بعض الزنادقة في هذا الحديث، بل تعدَّاه الطعن إلى الطعن في أبي هريرة -رضي الله عنه- ومن هؤلاء "محمود أبو ريَّة" في كتابه الذي أسماه "أضواء على السنَّة المحمدية"، وردَّ عليه الشيخ العلَّامة: عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي في كتابه "الأنوار الكاشفة"، وقال: وقع إليَّ كتاب جمعه أبو رية، فطالعته وتدبرته، فوجدته جمعًا وترتيبًا وتكميلاً للمطاعن في السنة النبويَّة، والجواب عن الطعن في هذا الحديث نلخِّصها في الفقرات التالية:

أولًا: الحديث الذي معنا من الأحاديث التي انتقاها واختارها الإمام البخاري لصحتها ووضعها في صحيحه، وحسبك بهذا الإمام الجليل وبكتابه الذي أجمعَتِ الأمَّةُ على قبوله فتلقته بالقبول والرضا، والاعتمادِ والعملِ بما فيه.

ثانيًا: حديث الذباب لم ينفردْ بروايته أبو هريرة، وإنَّما رواه أيضًا أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك؛ كما جاء ذلك في مسند الإمام أحمد (3/ 24).

ثالثًا: من هو الذي يتطاول حتَّى ينال من طرف صحابي من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتَّى يصل إلى أحفظهم لأحاديث رسوله، وأكثرهم لها نقلاً، الذي دعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحفظ وبطء النسيان، والذي فرَّغ نفسه لحفظ الحديث؛ فلا زراعةَ تشغله، ولا تجارةَ تلهيه، وإنَّما ليله ونهاره يتابع ما يلفظ به النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحكمة، ثُمَّ يَسْهَرُ عليها ليله لحفظها، ويثبِّتها في قلبه.

رابعًا: قال الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي: علماء الطبيعة يعترفون بأنَّهم لم يحيطوا بكلِّ شيءٍ علمًا، ولا يزالون يكتشفون الشيء بعد الشيء، فبأي إيمان ينفي أبو رية وأضرابُهُ أنْ يكون الله تعالى أطلع رسوله -صلى الله عليه وسلم- على أمرٍ لم يصل إليه علم الطبيعة بعد، هذا وخالق الطبيعة ومدبِّرها هو واضعُ الشريعة.

خامسًا: أثبت الأطباء الحديثون أنَّ في أحد جناحي الذباب داءً، وفي الآخر شفاءً، وبهذا _والحمد لله_ وضح الحقُّ؛ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)} [النساء]." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (10/ 251)

وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ لَا يَنْجَسُ بِوُقُوعِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ فِيهِ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْمُرُ بِغَمْسِ مَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ إِذَا مَاتَ فِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِفْسَادٌ وَقَالَ بَعْضُ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْ غَمْسِ الذُّبَابِ مَوْتُهُ فَقَدْ يَغْمِسُهُ بِرِفْقٍ فَلَا يَمُوتُ وَالْحَيُّ لَا يُنَجِّسُ مَا يَقَعُ فِيهِ كَمَا صَرَّحَ الْبَغَوِيُّ بِاسْتِنْبَاطِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ لَمْ يَقْصِدِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَيَانَ النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ وَإِنَّمَا قَصَدَ بَيَانَ التَّدَاوِي مِنْ ضَرَرِ الذُّبَابِ وَكَذَا لَمْ يَقْصِدْ بِالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَالْإِذْنِ فِي مَرَاحِ الْغَنَمِ طَهَارَةً وَلَا نَجَاسَةً وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْخُشُوعَ لَا يُوجَدُ مَعَ الْإِبِلِ دُونَ الْغَنَمِ قُلْتُ وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ حُكْمٌ آخَرُ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِغَمْسِهِ يَتَنَاوَلُ صُوَرًا مِنْهَا أَنْ يَغْمِسَهُ مُحْتَرِزًا عَنْ مَوْتِهِ كَمَا هُوَ الْمُدَّعَى هُنَا وَأَنْ لَا يَحْتَرِزَ بَلْ يَغْمِسُهُ سَوَاءً مَاتَ أَوْ لَمْ يَمُتْ وَيَتَنَاوَلُ مَا لَوْ كَانَ الطَّعَامُ حَارًّا فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَمُوتُ بِخِلَافِ الطَّعَامِ الْبَارِدِ فَلَمَّا لَمْ يَقَعِ التَّقْيِيدُ حُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ يُصَدَّقُ بِصُورَةٍ فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صُورَةٍ مُعينَة حمل عَلَيْهَا وَاسْتشْكل بن دَقِيقِ الْعِيدِ إِلْحَاقَ غَيْرِ الذُّبَابِ بِهِ فِي الحكم الْمَذْكُور بطرِيق أُخْرَى فَقَالَ وَرَدَ النَّصُّ فِي الذُّبَابِ فَعَدُّوهُ إِلَى كُلِّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ وَفِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الذُّبَابِ قَاصِرَة وَهِي عُمُوم البلوي بِهِ وَهَذِهِ مُسْتَنْبَطَةٌ أَوِ التَّعْلِيلُ بِأَنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً وَهَذِهِ مَنْصُوصَةٌ وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ لَا يُوجَدَانِ فِي غَيْرِهِ فَيَبْعُدُ كَوْنُ الْعِلَّةِ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ لَا دَمَ لَهُ سَائِلٌ بَلِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ جُزْءُ عِلَّةٍ لَا عِلَّةٌ كَامِلَةٌ انْتَهَى وَقَدْ رَجَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ مَا يَعُمُّ وُقُوعُهُ فِي الْمَاءِ كَالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ وَمَا لَا يَعُمُّ كَالْعَقَارِبِ يُنَجِّسُ وَهُوَ قَوِيٌّ

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا___

فتح الباري لابن حجر (10/ 252)

الْحَدِيثِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فَقَالَ كَيْفَ يَجْتَمِعُ الشِّفَاءُ وَالدَّاءُ فِي جَنَاحَيِ الذُّبَابِ وَكَيْفَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يُقَدِّمَ جَنَاحَ الشِّفَاءِ وَمَا أَلْجَأَهُ إِلَى ذَلِكَ قَالَ وَهَذَا سُؤَالُ جَاهِلٍ أَوْ مُتَجَاهِلٍ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانِ قَدْ جَمَعَ الصِّفَاتِ الْمُتَضَادَّةَ وَقَدْ أَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَهَا وَقَهَرَهَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ وَجَعَلَ مِنْهَا قُوَى الْحَيَوَانِ وَإِنَّ الَّذِي أَلْهَمَ النَّحْلَةَ اتِّخَاذَ الْبَيْتِ الْعَجِيبِ الصَّنْعَةِ لِلتَّعْسِيلِ فِيهِ وَأَلْهَمَ النَّمْلَةَ أَن تدخر قوتها أَو أَن حَاجَتِهَا وَأَنْ تَكْسِرَ الْحَبَّةَ نِصْفَيْنِ لِئَلَّا تَسْتَنْبِتَ لَقَادِرٌ عَلَى إِلْهَامِ الذُّبَابَةِ أَنْ تُقَدِّمَ جَنَاحًا وتؤخر آخر وَقَالَ بن الْجَوْزِيِّ مَا نُقِلَ عَنْ هَذَا الْقَائِلِ لَيْسَ بِعَجِيبٍ فَإِنَّ النَّحْلَةَ تُعَسِّلُ مِنْ أَعْلَاهَا وَتُلْقِي السُّمَّ مِنْ أَسْفَلِهَا وَالْحَيَّةُ الْقَاتِلُ سُمُّهَا تَدْخُلُ لُحُومَهَا فِي التِّرْيَاقِ الَّذِي يُعَالَجُ بِهِ السُّمُّ وَالذُّبَابَةُ تُسْحَقُ مَعَ الْإِثْمِدِ لِجَلَاءِ الْبَصَرِ وَذَكَرَ بَعْضُ حُذَّاقِ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ فِي الذُّبَابِ قُوَّةً سُمِّيَّةً يَدُلُّ عَلَيْهَا الْوَرَمُ وَالْحَكَّةُ الْعَارِضَةُ عَنْ لَسْعِهِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ لَهُ فَإِذَا سَقَطَ الذُّبَابُ فِيمَا يُؤْذِيهِ تَلَقَّاهُ بِسِلَاحِهِ فَأَمَرَ الشَّارِعُ أَنْ يُقَابِلَ تِلْكَ السُّمِّيَّةَ بِمَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَنَاحِ الْآخَرِ مِنَ الشِّفَاءِ فَتَتَقَابَلُ الْمَادَّتَانِ فَيَزُولُ الضَّرَرُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ عَلَى أَنَّهَا تَنْجَسُ بِالْمَوْتِ كَمَا هُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَنْجَسُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ." اهـ

 

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (33/ 69)

فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم الذباب إذا وقع فِي الإناء، وهو أنه لا يتنجّس، حيث أمر صلّى الله تعالى عليه وسلم بغمسه فيه. (ومنها): طهارة الذباب فِي حال حياته، ومماته. (ومنها): استحباب غمس كلّه فيما وقع فيه، ثم نزعه، وإخراجه، والانتفاع بما وقع فيه. (ومنها): أن فِي أحد جناحي الذباب دواءً، وفي الآخر شفاءً، وأنه يتّقي بجناحه الذي فيه الدواء؛ ولذلك أمر الشارع بغمسه كلّه، حَتَّى تحصل معالجة ذلك الداء بالداء الذي الذي فيه. (ومنها): أنه استُدِلَّ بِقَوْلِهِ: "ثُمَّ لِيَنْزِعهُ" عَلَى أنَّها تَنْجُس بِالموْتِ، كما هُو أصَحّ القوْلينِ لِلشَّافِعِي، والْقَوْل الآخَر، كقوْلِ أبِي حَنيفة، أنها لا تَنْجُس.

(ومنها): استُدِلَّ بِه عَلَى أن المَاء الْقَلِيل لا يَنْجُس بِوُقُوع ما لا نَفْس لهُ سَائِلة فِيهِ، وَوَجْه الاسْتِدْلال -كَمَا رواهُ البيهقِيُّ، عن الشَّافِعِيّ- أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم-، لا يأمُر بِغَمْسِ ما يُنَجِّس الْمَاء، إِذَا مَات فِيهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ إِفْسَاد. وَقَالَ بَعْض منْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ: لا يَلْزَم منْ غَمْس الذُّباب موْته، فَقَدْ يغمِسهُ بِرِفْقٍ، فلا يمُوت، والحَيّ لا يُنجِّس ما يَقَع فِيهِ، كَمَا صَرَّحَ البَغَوِيُّ بِاسْتِبَاطِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيث. وَقَالَ أبُو الطَّيِّب الطَّبرِيُّ: لم يَقْصِد النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- بِهَذا الْحَدِيث بَيَان النَّجَاسة والطَّهَارة، وإِنَّمَا قَصَد بَيَان التَّدَاوِي مِن ضَرَر الذُّبَاب، وَكَذا لمْ يَقْصِد بِالنَّهْى عن الصَّلاة فِي مَعَاطِن الإبِل، والإذْن فِي مَرَاح الغَنَم، طَهَارَة، وَلا نَجَاسَة، وإِنَّمَا أَشَار إِلَى أَنَّ الخُشُوع لا يُوجَد مَعَ الإبِل، دُون الغَنَم.

قَالَ الحافظ: وهُوَ كَلام صَحِيح، إِلَّا أنَّهُ لا يَمْنَع أن يُسْتَنْبَط مِنْهُ حُكْم آخَر، فَإِنَّ الْأَمْر بِغَمْسِهِ، يتَنَاول صُورًا، مِنْها أن يَغْمِسهُ مُحْترِزًا عن موْته، كَمَا هُو الْمُدَّعى هُنَا، وَأَنْ لا يَحْترِز بَلْ يَغْمِسهُ، سَوَاء مَاتَ، أَوْ لَمْ يمُتْ، وَيتَنَاوَل مَا لَوْ كَانَ الطَّعَام حارًّا، فإِنَّ الْغالِب أنَّهُ فِي هذِهِ الصُّورة يمُوت، بِخِلَافِ الطَّعَام البَارِد، فلمَّا لَمْ يَقَع التَّقْيِيدُ، حُمِلَ عَلَى____

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (33/ 70)

العُمُوم، لَكِنْ فِيهِ نَظَر؛ لِأنَّهُ مُطْلَقٌ يَصْدُق بِصُورةٍ، فَإِذا قام الدَّلِيل عَلَى صُورَة مُعَيَّنَة، حُمِلَ عَليْهَا.

وَاسْتَشْكَلَ ابْن دَقِيق الْعِيد، إِلْحَاق غير الذُّبَاب بِهِ فِي الْحُكم الْمَذْكُور، بِطَرِيقٍ آخَر، فَقَالَ: وَرَدَ النَّصّ فِي الذُّباب، فعدَّوْهُ إِلى كُلّ مَا لا نَفْس لهُ سَائِلة، وفِيهِ نَظَر؛ لِجَوازِ أَنْ تكُون العِلَّة فِي الذُّباب قَاصِرة، وهِي عُمُوم البَلْوى، وهذِهِ مُسْتَنْبطة، أو التَّعْلِيل بِـ "إنَّ فِي أَحَد جناحيهِ داء، وفِي الآخَر شِفَاء"، وهذِهِ مَنْصُوصة، وهَذَانِ المَعْنيَانِ لا يُوجَدانِ فِي غيره، فَيَبعُد كوْن العِلَّة مُجَرَّد كوْنه لَا دَم لهُ سَائِل، بل الَّذِي يظهر أنَّهُ جُزْء عِلَّة، لا عِلَّة كَامِلة. انْتَهَى.

وَقَدْ رجَّحَ جَمَاعَة منْ المُتَأخِّرِين أنَّ مَا يَعُمّ وُقُوعه فِي الْمَاء، كَالذُّبَابِ، والْبَعُوض لا يُنجِّس الْمَاء، وَمَا لا يَعُمّ كالْعَقَارِب يُنْجِّس، وهُو قَوِيّ.

(ومنها): ما قاله الخَطَّابيُّ رحمه الله تعالى: تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَدِيث منْ لا خَلاق لهُ، فَقَالَ: كَيْف يَجْتَمِع الشِّفَاء والدَّاء فِي جَنَاحَي الذُّبَاب؟ وكَيْف يَعْلَم ذَلِكَ منْ نَفْسه، حَتَّى يُقدِّم جَنَاح الشِّفاء، وما ألْجَأهُ إِلى ذَلِكَ؟ قَالَ: وهَذا سُؤَال جَاهِلٍ، أو مُتَجَاهِلٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِن الْحَيَوان، قَدْ جَمَع الصِّفَات المُتَضادَّة. وَقَدْ ألَّف الله بينها، وقَهَرهَا عَلَى الاجْتِماع، وَجَعل مِنْهَا قُوَى الْحَيوانِ، وإِنَّ الَّذِي ألْهَمَ النَّحْلة اتِّخَاذ الْبَيْت الْعَجِيب الصَّنْعَة؛ لِلتَّعْسِيلِ فِيهِ، وألْهَم النَّملة أَنْ تدَّخِر قُوتَها أَوَان حَاجَتهَا، وَأَنْ تَكْسِر الْحَبَّة نِصْفَيْنِ، لِئلَّا تَسْتَنبِت، لَقَادِرٌ عَلَى إِلْهَام الذُّبَابة أنْ تُقدِّم جَنَاحًا، وتُؤَخِّر آخَر.

وَقَالَ ابن الْجَوْزِيّ: ما نُقِلَ عَنْ هَذَا الْقَائِل، ليْسَ بِعَجِيب، فإِنَّ النَّحْلة تُعَسِّل منْ أعْلاهَا، وتُلْقِي السُّمّ منْ أسْفلَها، والْحَيَّةُ الْقَاتِلُ سُمُّها تُدْخَل لُحُومُها فِي التِّرْيَاق الَّذِي يُعَالَج بِهِ السُّمّ، والذُّبَابةُ تُسْحَقُ مع الإِثْمِد لِجَلاءِ البَصَر.

وَذَكَر بَعْض حُذَّاق الأطِبَّاء، أنَّ فِي الذُّبَاب قُوَّةً سُمِّيَّةً يدُلّ عَلَيْهَا الْوَرَمُ، والْحَكَّة الْعَارِضَة عَن لَسْعه، وَهِيَ بِمَنْزِلةِ السِّلاح لهُ، فَإِذَا سَقَط الذُّباب فِيمَا يُؤْذِيه، تلَقَّاهُ بِسِلاحِهِ، فَأمَر الشَّارعُ أن يُقابِل تِلك السُّمِّيِّة، بِمَا أوْدعهُ الله تعالى فِي الجَنَاح الآخَر مِن الشِّفاء، فتَتَقَابل المَادَّتَانِ، فيزُول الضَّرَر بِإِذْنِ الله تعالى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ومن الملاحدة الذين طعنوا فِي هَذَا الحديث، بل تعدّاه إلى الطعن فِي أبي هريرة رضي الله تعالى عنه راويه محمود أبو ريّة فِي كتاب سمّاه "أضواء عَلَى السنّة المحمّدية"، وهو أحقّ بأن يُسمّى "ظلمات عَلَى السنّة" وَقَدْ قام بردّ ضلالاته العلّامة الفهّامة الدّرّاكة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلّميّ فِي كتابه "الأنوار الكاشفة"، فَقَالَ فيه: وقع إليّ كتاب جمعه أبو ريّة، فطالعته، وتدبّرته، فوجدته جمعًا،____

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (33/ 71)

وترتيبًا، وتكميلًا للمطاعن فِي السنة النبويّة، والجواب عن الطعن فِي هَذَا الحديث، نلخّصها فِي الفقرات الآتية:

1 - الحديث الذي معنا منْ الأحاديث التي انتقاها، واختارها الإمام البخاريّ لصحّتها، ووضعها فِي "صحيحه"، وحسبك بهذا الإمام الجليل، وبكتابه الذي أجمعت الأمة عَلَى قبوله، فتلقته بالقبول والرضا، والاعتماد والعمل بما فيه.

2 - حديث الذباب لم ينفرد بروايته أبو هريرة، وإنما رواه أبو سعيد الخدريّ، وأنس ابن مالك، كما جاء ذلك فِي "مسند الإمام أحمد".

3 - منْ هو الذي يتطاول؟ حَتَّى ينال منْ طرف صحابيّ منْ أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حَتَّى يصل إلى أحفظهم لأحاديث رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وأكثرهم لها نقلًا، الذي دعا له النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بالحفظ، وعدم النسيان، والذي فرّغ نفسه لحفظ الحديث، فلا زراعة تشغله، ولا تجارة تُلهه، وإنما ليله ونهاره يتابع ما يلفظ به النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم منْ الحكمة، ثم يَسهَر ليله ليحفظها، ويُثبتها فِي قلبه.

4 - قَالَ الشيخ المعلّميّ رحمه الله تعالى: علماء الطبّ يعترفون بأنهم لم يُحيطوا بكل شيء علمًا، ولايزالون يكتشفون الشيء بعد الشيء، فبأيّ إيمان ينفي أبو ريّة، وأضرابه أن يكون الله تعالى أطلع رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم عَلَى أمر لم يصِل إليه علم الطبيعة بعدُ، هَذَا، وخالق الطبيعة، ومدبّرها هو واضع الشريعة.

5 - أثبت الأطبّاء الحديثون أن فِي أحد جناحي الذباب داءً، وفي الآخر شفاء، وبهذا -والله- وضح الحقّ، ومن أصدق منْ الله حديثًا (1) انتهى كلام المعلمي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 108)

أما فوائد الحديث: فنقول في الحديث فوائد؛ منها: شمول الشريعة الإسلامية في بيان أمراض الأبدان وبيان أمراض القلوب، ولهذا ما من شيء يحتاج الناس إليه حتى في أبدانهم إلا بينه الله ورسوله، وهذه قاعد عامة لا يشذ منها شيء.

أما أمراض القلوب والعبادات فهذا أمر معروف، وكذلك أيضا أمراض الأبدان في الكتاب والسنة أصول، لا نص على كل مسألة وكل فرد وكل جزء أصول عامة يستفاد منها في الطب.____

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 109)

ومن فوائد هذا الحديث: أن الذباب ليس بنجس، لا حيا ولا ميتا، من أين تؤخذ؟ من قوله: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه"، لو كان نجسا لأرقنا الماء؛ لأن الماء القليل سوف يتأثر بمثل الذباب لاسيما إذا وقع فيه ذباب كثير.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الذباب إذا وقع في الطعام الجامد فإنه لا يغمس من أين يؤخذ؟ يؤخذ من المنطوق أم من المفهوم؟ من المفهوم، هذا من جهة الدلالة الشرعية. الدلالة العقلية: أنك لو غمسته في طعام، فإنه سوف يتفتت في هذا الطعام ولزدت الطين بلة، ويكره الطعام حينئذ للإنسان.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الذباب قلنا: إنه طاهر حيا ميتا، هل يقاس على الذباب غيره؟ العلماء - رحمهم الله- قالوا: نعم يقاس عليه كل شيء ليس له دم يسيل فإنه طاهر حيا وميتا، حتى لو كان حراما فهو طاهر حيا وميتا، فمثلا الجعلان طاهر لو وقع الجعل في الماء فالماء طاهر، العقرب طاهر؛ لأنه ليس له دم، فإذا وقعت في ماء ولو تغير الماء فهو طاهر؛ لأنها لا تنجس بالموت.

"الوزغ" قال أصحابنا - رحمهم الله--: للوزغ نفس سائلة نص عليه الإمام أحمد، يعني: له دم يسيل، وأنا أسألكم هل قتلتم وزغا؟ نعم، فهل له دم؟ نعم، الحمد لله إذن الوزغ لا يدخل في هذا الباب؛ لأنه له نفس سائلة.

ومن فوائد هذا الحديث: قدرة الله عز وجل، وأنه قادر على كل شيء، فالذباب - كما تعلمون- دويبة هشة ضعيفة مهينة، وقد جمع الله فيها بين شيئين متضادين هما الداء والشفاء، وهذا يدل على كمال قدرة الله عز وجل، نحن نعرف أن الله على كل شيء قدير فيما إذا خلق في ها مصلحة، وهذا مضرة في ذاتين منفصلتين، ولكم في ذات واحدة فيها مضرة ومنفعة.

يؤخذ من هذا أيضا: أن الله تعالى قد يحكم في الشيء بحل وحرمة في جسد واحد يكون بعضه حلالا وبعضه حراما ممكن في الشريعة الإسلامية؟ لا، ليس في الشريعة الإسلامية حيوان بعضه حلال وبعضه حرام، في الشريعة اليهودية نعم {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} [الأنعام: 146]. هذه ذات مستقلة {كل ذي ظفر}.

يقول العلماء: كل ما أرجله غير مشقوقة فهو من ذوات الظفر مثل الإبل، {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها} [الأنعام: 146]. واللحوم حلال والشحوم حرام {حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورها} يعني: ما عدا الظهر فهو حلال، وذلك - والله أعلم- لمشقة تخليصه من اللحم، {أو الحوايا} يعني: ما حملته الحوايا.___

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 110)

الحوايا ما هي؟ الحوايا: الأمعاء الملتوية، {وأما ما اختلط بعظم} وذلك - والله أعلم- لمشقة التخليص، فمثلا الآلية حرام أم ماذا؟ حرام، اللحم حلال، الشحم المستثنى حلال؛ فهذا حيوان واحد صار بعضه حلالا وبعضه حراما.

الذباب حيوان واحد بعضه مرض وبعضه شفاء، على رأي بعض العلماء من علماء المسلمين، هناك حيوان بعضه له حكم وبعضه له حكم وهو الإبل، فإن بعض العلماء يقول: الإبل شحمها لا ينقض الوضوء ولحمها ينقض الوضوء، لكن هذا غير صحيح كما مر علينا وسيمر علينا أيضا إن شاء الله، هذا غير صحيح ليس في الشريعة الإسلامية حيوان يكون بعضه حلالا وبعضه حراما، أو بعضه له حكم طهارة وبعضه له حكم نجاسة، أو حكم نقض وبعضه ليس له ذلك.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الماء لو تغير بطعم الذباب المغموس فيه لم ينجس، من أين يؤخذ؟ من قوله: "فليغمسه". وجه الدلالة: لو كان ينجس ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغمسه؛ لأنه لو كان كذلك لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بما يفسد الماء، وهذا متعذر بالنسبية للشريعة الإسلامية.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الذباب حرام لقوله: "ثم لينزعه" لئلا يدخل في الشراب وهو كذلك فهل يقاس على الذباب ما كان مثله مما تستخبثه النفوس؟ يرى بعض العلماء كذلك أنه يقاس عليه ما كان مثله مما تستخبثه النفوس، والمراد بالنفوس: النفوس المستقيمة ليس كل نفس؛ لأن من الناس من لا يعافه شيء، من الناس إذا أكل جرادة خرجت روحه معها تقريبا.

أهدينا لواحد من الإخوان جرادا من أحسن ما يكون، وألذ ما يكون، فلما أكله يقول: رأيت الموت أما عيني ورد علي ما أهديته إليه لأنه يقول: ما أكلته من قبل وعجزت أن أهضمه ومع أنه طيب من أفضل الطيبات.



[1]  وفي فتح الباري لابن حجر (10/ 250)

الذُّبَابُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ وَتَخْفِيفٍ قَالَ أَبُو هِلَالٍ الْعَسْكَرِيُّ الذُّبَابُ وَاحِدٌ وَالْجَمْعُ ذِبَّانٌ كِغِرْبَانٌ وَالْعَامَّةُ تَقُولُ ذُبَابٌ لِلْجَمْعِ وَلِلْوَاحِدِ ذُبَابَةٌ بِوَزْنِ قُرَادَةٍ وَهُوَ خَطَأٌ وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ إِنَّهُ خَطَأٌ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الذُّبَابُ وَاحِدَةُ ذُبَابَةٍ وَلَا تَقُلْ ذِبَّانَةٌ وَنُقِلَ فِي الْمُحْكَمِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ خَلَفٍ الْأَحْمَرِ تَجْوِيزُ مَا زَعَمَ الْعَسْكَرِيُّ أَنَّهُ خَطَأٌ وَحَكَى سِيبَوَيْهِ فِي الْجَمْعِ ذُبٌّ وَقَرَأْتُهُ بِخَطِّ الْبُحْتُرِيِّ مَضْبُوطًا بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالتَّشْدِيدِ." اهـ 

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين