شرح الحديث 9 من بلوغ المرام

 

9 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رضي الله عنه-:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_ قَالَ فِي الهِرَّةِ:

"إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ, إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ" أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ

 

ترجمة أبي قتادة الأنصاري السَّلِمِيِّ (ت 54 بـ المدينة)

 

أبو قتادة الأنصارى ، قيل اسمه : الحارث بن ربعي بن بلدمة السَّلِمِيُّ الْمَدَنِيُّ (أمه كبشة بنت مطهر)، روى له :  خ م د ت س ق

 

قال المزي في تهذيب الكمال  :

( خ م د ت س ق ) : أبو قتادة الأنصارى صاحب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وفارسه ، قيل : اسمه الحارث بن ربعى ، و قيل : النعمان بن ربعى ، و قيل : عمرو ابن ربعى ،

و المشهور : الحارث بن رِبْعِيٍّ بْنِ بَلْدَمَةَ بِن خُنَاسِ بْنِ سِنَانٍ بْنِ عُبَيْدٍ بْنِ عَدِيٍّ بْنِ غَنْمٍ بْنِ كَعْبٍ بْنِ سَلِمَةَ السَّلِمِيُّ الْمَدَنِيُّ .

 

وأمه:  كبشة بنت مطهر بن حرام بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة .

 

مناقبه:

وقال المزى :

ذكره محمد بن سعد فى الطبقة الثانية، وقال : "شهد أحدا، والخندق، وما بعد ذلك من المشاهد مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_" اهـ

 

صحيح مسلم (3/ 1439) (رقم: 1807):

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ»

.

و قال أبو نضرة ، عن أبى سعيد الخدرى : أخبرنى من هو خير مني أبو قتادة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعمار : " تقتلك الفئة الباغية " . م (2915)

 

قال الواقدى ، عن يحيى بن عبد الله بن أبى قتادة : توفى أبو قتادة بالمدينة سنة أربع و خمسين (54 هـ)، و هو ابن سبعين (70) سنة .

 

و قال عمرو بن على : مات بالمدينة سنة أربع و خمسين ، و هو ابن اثنتين و سبعين (72) سنة .

و قال الهيثم بن عدى ، و غير واحد : مات بالكوفة و صلى عليه على . قال بعضهم : سنة ثمان و ثلاثين .

 

قال الواقدى : و لم أر بين ولد أبى قتادة و أهل البلد عندنا اختلافا : أن أبا قتادة توفى بالمدينة ،

وروى أهل الكوفة : أنه توفى بالكوفة و على بن أبى طالب بها و هو صلى عليه ، فالله أعلم .

 

 

تخريج الحديث:

 

سنن أبي داود (1/ 19) (رقم: 75)، سنن الترمذي ت شاكر (1/ 153) (رقم: 92)، سنن النسائي (1/ 55 و 1/ 178) (رقم: 68 و 340)، السنن الكبرى للنسائي (1/ 95) (رقم: 63)، سنن ابن ماجه (1/ 131) (رقم: 367)، موطأ مالك ت عبد الباقي (1/ 22) (رقم: 13)، مصنف عبد الرزاق الصنعاني (1/ 100 و 1/ 101) (رقم: 352 و 353)، مسند الحميدي (1/ 398) (رقم: 434)، الطهور للقاسم بن سلام (ص: 271_272) (رقم: 205 و 206)، مصنف ابن أبي شيبة (1/ 36 و 1/ 37 و 7/ 308) (رقم: 325 و 337 و 36348)، مسند أحمد - عالم الكتب (5/ 296 و 5/ 303 و 5/ 309) (رقم: 22528 و 22580 و 22636 و 22637)، سنن الدارمي (1/ 571) (رقم: 763)، المنتقى لابن الجارود (ص: 26) (رقم: 60)، صحيح ابن خزيمة (1/ 55) (رقم: 104)، شرح معاني الآثار (1/ 18_19) (رقم: 45_46)، شرح مشكل الآثار (7/ 74) (رقم: 2655)، صحيح ابن حبان - مخرجا (4/ 114) (رقم: 1299)، سنن الدارقطني (1/ 117) (رقم: 219)، المستدرك على الصحيحين للحاكم (1/ 263) (رقم: 567)، السنن الكبرى للبيهقي (1/ 372 _ 1/ 373) (رقم: 1159 و 1161)، السنن الصغير للبيهقي (1/ 78) (رقم: 179).

 

والحديث صحيح: صححه الألباني _رحمه الله_ في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (1/ 191) (رقم: 173)

 

من فوائد الحديث:

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 139_140):

* ما يُؤْخذ من الحديث:

1 - أنَّ الهرَّة ليست بنجس؛ فلا ينجس ما لامسته أو ولغت فيه.

2 - العلَّة في ذلك أنَّها من الطوافين، وهم الخدم الذين يقومون بخدمة المخدوم، فهي مع النَّاس في منازلهم وعند أوانيهم وأمتعتهم، فلا يمكنهم التحرز منها.

3 - هذا الحديث وأمثاله من أدلَّة القاعدة الكلية الكبرى، وهي: "المشقَّة تجلب التيسير"؛ فعموم البلوى بها جعل ما تُلامِسُهُ الهرَّة طاهرًا وإنْ كان رطبًا.

4 - يقاس على الهرَّة كل ما شابهها من الحيوانات المحرَّمة، ولكنَّها أليفة تدعو الحاجة إلى استعمالها؛ كالبغل والحمار، أو لا يمكن التحرز منه؛ كالفأر.___

5 - أنَّ فقهاء الحنابلة وغيرهم جعلوا كل ما كان بقدر خلقة الهِرَّة، أو أصغر منها من الحيوانات المحرَّمة، والطير المحرمة: في حكمها من حيثُ الطهارةُ، وجوازُ الملامسة والمباشرة؛

فطهارة هذه الحيوانات وأمثالها أمرٌ غير حل أكله بالذكاة، وإنَّما المراد طهارة البدن وما أصاب ولامس، ولكن الرَّاجح تقييده بما تعم به البلوى من الحيوانات المحرَّمة، سواءٌ كان كبير الخلقة أو صغيرها؛ لأنَّه مناط العلَّة بقوله: "إنَّها من الطوافين عليكم".

6 - قوله: "إنَّها ليست بنجس" دليلٌ على طهارة جميع أعضاء الهِرَّة وبدنها، وهو أصح من قول من قصر طهارتها على سؤرها وما تناولته بفمها، وجعل بقية أجزائها نجسة؛ فإنَّ هذا خلاف ما يفهم من الحديث، وخلاف ما يُفْهَمُ من التعليل، وهو قوله: "من الطوافين عليكم"؛

فالطَّوَّافُ من شأنه أنْ يباشر الأشياء بجميع بدنه وأعضائه.

7 - قال ابن عبد البر: في الحديث دليل على أنَّ ما أُبِيحَ لنا اتخاذه فسؤره طاهرٌ؛ لأنَّه من الطوافين علينا، ومعنى الطوافين علينا الذين يداخلوننا ويخالطوننا.

8 - مفهوم الحديث: يفيد مشروعية اجتناب الأشياء النجسة، وإذا دعت الحاجة أو الضرورة إلى ملامستها، فيجب التنزه منها؛ وذلك كالاستنجاء باليد اليسرى، وإزالة الأنجاس والأقذار بها." اهـ

 

معالم السنن (1/ 41)

فيه من الفقه أن ذات الهرة طاهرة وأن سؤرها غير نجس وأن الشرب منه والوضوء به غير مكروه.

وفيه دليل على أن سؤر كل طاهر الذات من السباع والدواب والطير وإن لم يكن مأكول اللحم طاهر.

وفيه دليل على جواز بيع الهر إذ قد جمع الطهارة والنفع.

وقوله إنها من الطوافين أو الطوافات عليكم يتأول على وجهين أحدهما أن يكون شبهها بخدم البيت وبمن يطوف على أهله للخدمة ومعالجة المهنة كقوله تعالى {طوافون عليكم بعضكم على بعض} [النور: 58] ، يَعني المماليك والخدم،

وقال _تعالى_: {يطوف عليهم ولدان مخلدون} [الواقعة: 17]،

وقال ابن عمر: إنمّا هي ربيطة من ربائط البيت،

والوجه الآخر: أن يكون شبهها بمن يطوف للحاجة والمسألة، يريد أن الأجر في مواساتها كالأجر في مواساة من يطوف للحاجة ويتعرض للمسألة." اهـ

 

عون المعبود وحاشية ابن القيم (1/ 98)

"إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِلَّةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ بِعَدَمِ نَجَاسَةِ الْهِرَّةِ___: هِيَ الضَّرْوَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ كَثْرَةِ دَوَرَانِهَا فِي الْبُيُوتِ وَدُخُولِهَا فِيهِ بِحَيْثُ يَصْعُبُ صَوْنُ الْأَوَانِي عَنْهَا وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَطُوفُ عَلَيْكُمْ فِي مَنَازِلِكُمْ وَمَسَاكِنِكُمْ فَتَمْسَحُونَهَا بِأَبْدَانِكُمْ وَثِيَابِكُمْ وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَأَمَرْتُكُمْ بِالْمُجَانَبَةِ عَنْهَا

وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى الرِّفْقِ بِهَا وَاحْتِسَابِ الْأَجْرِ فِي مُوَاسَاتِهَا وَالطَّائِفُ الْخَادِمُ الَّذِي يَخْدُمُكَ بِرِفْقٍ وَعِنَايَةٍ وَجَمْعُهُ الطَّوَّافُونَ

قَالَ البغوي في شرح السنة:

"يحتمل: أنها شَبَّهَهَا بِالْمَمَالِيكِ مِنْ خَدَمِ الْبَيْتِ الَّذِينَ يَطُوفُونَ عَلَى بَيْتِهِ لِلْخِدْمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ،

وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمَنْ يَطُوفُ لِلْحَاجَةِ يُرِيدُ أَنَّ الْأَجْرَ فِي مُوَاسَاتِهَا كَالْأَجْرِ فِي مُوَاسَاةِ مَنْ يَطُوفُ لِلْحَاجَةِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ أَبِي دَاوُدَ." اهـ

 

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (2/ 165)

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبين بما ذكرأن الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من أن سؤر الهرة طاهر، لا كراهة فيه لقوة دليله، والله أعلم.

 

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (2/ 165)

من فوائد هذا الحديث:

* عدم نجاسة سؤر الهرة وأنها طاهرة،

* وإباحة اتخاذها، وما أبيح اتخاذه للانتفاع به جاز بيعه، وأكل ثمنه، إلا أن يخص شيئا من ذلك دليلٌ، فيخرجه عن أصله[1]،

* وفيه أن خبر الواحد من النساء والرجال سواء، وإنما المراعاة في ذلك الحفظ والإتقان، والصلاح، وهذا لا خلاف فيه بين أهل الأثر، قاله الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله.

 

ثم قال تعليقا على حكم بيع الهرة وثمنها في "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" (2/ 165):

"ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه:

"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب والسنور" فيكون هذا مما خرج عن الأصل المذكور، فلا يجوز بيع الهرة لهذا النص. فافهم." اهـ

 

بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ط الرشد (ص: 64)

هذا الحديث محتوٍ على أصلين:

أحدهما: أن المشقة تجلب التيسير. وذلك أصل كبير من أصول الشريعة، من جملته: أن هذه الأشياء التي يشق التحرز منها طاهرة، لا يجب غسل ما باشرت بفيها أو يدها أو رجلها، لأنه علل ذلك بقوله: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" كما أباح الاستجمار في محل الخارج من السبيلين، ومسح ما أصابته النجاسة من النعلين والخفين، وأسفل الثوب، وعفا عن يسير طين الشوارع النجس، وأبيح الدم الباقي في اللحم والعروق بعد الدم المسفوح، وأبيح ما أصابه فم الكلب من الصيد، وما أشبه ذلك مما يجمعه علة واحدة، وهي المشقة.

الثاني: أن الهرة وما دونها في الخلقة كالفأرة ونحوها طاهرة في الحياة لا ينجس ما باشرته من طعام وشراب وثياب وغيرها، ولذلك قال أصحابنا: الحيوانات أقسام خمسة:

إحداها: نجس حياً وميتاً في ذاته وأجزائه وفضلاته. وذلك كالكلاب والسباع كلها، والخنزير ونحوها.

الثاني: ما كان طاهراً في الحياة نجساً بعد الممات. وذلك كالهرة وما دونها في الخلقة.___

بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ط الرشد (ص: 65)

ولا تحله الذكاة ولا غيرها.

الثالث: ما كان طاهراً في الحياة وبعد الممات، ولكنه لا يحل أكله، وذلك كالحشرات التي لا دم لها سائل.

الرابع: ما كان طاهراً في الحياة وبعد الذكاة. وذلك كالحيوانات المباح أكلها، كبهيمة الأنعام ونحوها.

الخامس: ما كان طاهراً في الحياة وبعد الممات، ذُكِّي أو لم يُذَك وهو حلال، وذلك كحيوانات البحر كلها والجراد.

واستدل كثير من أهل العلم بقوله صلّى الله عليه وسلم: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" بطهارة الصبيان، وطهارت أفواههم، ولو بعد ما أصابتها النجاسة، وكذلك طهارة ريق الحمار والبغل وعرقه وشعره. وأين مشقة الهر من مشقة الحمار والبغل؟

ويدل عليه: أنه صلّى الله عليه وسلم كان يركبها هو وأصحابه، ولم يكونوا يتوقَّون منها ما ذكرنا. وهذا هو الصواب.

وأما قوله صلّى الله عليه وسلم في لحوم الحمر يوم خيبر: "إنها رجس"1 أي: لحمها رجس نجس حرام أكله. وأما ريقها وعرقها وشعرها: فلم ينه عنه، ولم يتوقّه صلّى الله عليه وسلم.

وأما الكلاب: فإنه صلّى الله عليه وسلم أمر بغسل ما ولغت فيه سبع مرات إحداهن بالتراب2.

 

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 94)

ويستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان إذا رأى الشخص مستغربا لحال من الأحوال أن يزيل عنه هذا الاستغراب، وجهه: أن أبا قتادة حدث بهذا الحديث ليزول استغراب أهله - يعني: زوجته- وهذا أمر يعتبر من محاسن الأخلاق أن الإنسان يصنع مع أخيه ما يجب أن يطلع عليه وإن لم يسأله، وهذا من هدي الرسول - عليه الصلاة والسلام-، ففي قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قعد خلف النبي صلى الله عليه وسلم لينظر إلى خاتم النبوة، خاتم النبوة عبارة عن علامة تدل على أن محمدا رسول الله خاتم الأنبياء، وقد ذكر لسلمان حسب ما طالت به الدنيا أن من علامات النبي الأمي خاتم النبوة بين كتفيه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا ورأى هذا الرجل وراءه وكأنه يتطلع إلى شيء؛ فنزل الرداء بدون أن يسأل سلمان تنزيله من أجل أن يطلع عليه، فمن محاسن الأخلاق أنك إذا رأيت أخاك يحب أن يطلع على شيء وليس في إطلاعه عليه مضرة عليك فإنه ينبغي أن تدخل عليه السرور باطلاعه على ما يحب الاطلاع عليه.

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 95)

ومن فوائد هذا الحديث: أن الهرة طاهرة مع أنها محرمة الأكل، وكل محرم الأكل فإنه نجس هذا هو الأصل أن جميع محرم الأكل من الحيوان نجس، ولكن هناك أشياء تزول نجاستها لسبب من الأسباب، والهرة الأصل فيها أنها نجسة لأنها محرمة الأكل، لكن علل الرسول - عليه الصلاة والسلام- لعلة لا توجد في غيرها، فإذن من فوائد الحديث: أن محرم الأكل نجس؛ لأن الرسول أخرج الهرة عن النجاسة لسبب لا يوجد في غيرها.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الهرة ليست نجسة فهل هذا على عمومه؟

الجواب: لا، ليست نجسة في ريقها وفيما يخرج من أنفها وفي عرقها وفي سؤرها؛ أي: بقية طعامها وشرابها، في بولها نجس، في روثها نجس، في دمها نجس؛ لأن هذه الأشياء كلها من محرم الأكل نجسة، فكل ما يخرج من جوف محرم الأكل فإنه نجس كالبول والعذرة والدم والقيء وما أشبهه.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الهرة لو شربت من ماء وهذا هو وجه سياق الحديث في هذا الباب، لو شربت من ماء فإن الماء لا ينجس قليلا كان أو كثيرا؛ لأن الإناء الذي كان يتوضأ به أبو قتادة قليل.

ومن فوائده: أنه لا فرق بين أن تكون هذه الهرة أكلت شيئا نجسا أو لم تأكل لماذا؟

لإطلاق الحديث، فلا يقال مثلا: لو رآها تأكل فأرة ثم شربت من الماء صار الماء نجسا.

نقول: الحديث عام أنها ليست بنجس سواء أكلت ما هو نجس عن قرب أو عن بعد، نعم لو رأيت أثر الدم في شفتيها في هذا الماء يكون نجسا، إذا لم تر شيئا فهي طاهرة.

ومن فوائد هذا الحديث: أن المشقة تجلب التيسير، وجهه: أن الله تعالى رفع النجاسة عنها لمشقة التحرز منها حيث إنها من الطوافين، ولو كانت نجسة وهي في البيت تشرب من الإناء، تشرب من اللبن، تأكل من الطعام لكان في ذلك مشقة.

ومن فوائد هذا الحديث: أن النجاسات التي يشق التحرز منها معفو عنها، وذكر العلماء من ذلك يسير الدم النجس غير الخارج من السبيلين يعفى عنه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "جميع النجاسات يعفى عن يسيرها مع مشقة التحرز منها، وما قاله رحمه الله على القاعدة".

فعلى هذا الذين يستخدمون الحمير؛ والحمار تعرفون أنه يبول ويروث أحيانا يقف ويبول

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 96)

على أرض صلبة ماذا يصيب صاحبه؟ سيصيبه الرشاش. يقول شيخ الإسلام: إن مثل هذا يعفى عنه لمشقة التحرز منه، وأخذ القول من هذا التعليل؛ "إنها من الطوافين عليكم".

ومن فوائد هذا الحديث: أن الفأرة طاهرة؛ لماذا؟ لأنها من الطوافين علينا، فإذا قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة: "تموت في السمن ألقوها وما حولها". بلى، نعم هو قال هذا، لكن هذه ميتة، والفأرة إذا ماتت تكون نجسة، والهرة أيضا إذا ماتت تكون نجسة؛ وذلك لأن العلة التي من أجلها خففت زالت الآن، الآن ماتت لا تكون طوافة.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه لو شرب حيوان محرم الأكل وهو دون الهرة لكنه لا يرى إلا نادرا فإنه يكون نجسا، توافقون؟ نعم، وهذا هو الصحيح، وما ذكره بعض العلماء من أن مناط الحكم هو حجم الحيوان دون مشقة التحرز منه، فهو ضعيف لأن بعض العلماء - رحمهم الله- جعل مناط الحكم الجرم وقال: الهرة وما دونها في الخلقة طاهر وهذا لا يدل عليه الحديث، الحديث يدل على أن العلة هي مشقة التحرز.

فإن قال قائل: ينتقد ذلك عليكم بالكلب، كلب الصيد، كلب الحرث، كلب الماشية، طواف علينا والتحرز منه شاق وقد ثبت أن نجاسته مغلظة.

يقال: إن الشريعة الإسلامية فيها عموم وخصوص أيهما الذي يقضي على الآخر؟ الخاص يقضي على العام فيقال: الكلب مستثنى بدلالة الحديث، ونحن ليس لنا أن نحكم بالقياس على النص، وإنما نحكم بالنص على القياس.

ومن فوائد هذا الحديث: رحمة الله عز وجل بالخلق؛ حيث خفف عنهم ما يشق عليهم اجتنابه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين". وهذه - يا إخواني- القاعدة مضطردة فهذه الشريعة الإسلامية مبنية على الرحمة وعلى التيسير حنيفية سمحة ليس فيها تعسير إطلاقا، وهذه خذوها قاعدة من كلام الله وكلام الرسول - عليه الصلاة والسلام- أما كلام الله فقد قال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185].

وقال: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. أما في السنة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر - الدين عام كل دين- ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، وكان يبعث البعوث ويقول: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا". "فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 97)

ثم إن الإنسان أحيانا تأخذه الغيرة إذا رأى المعاصي والمنكرات فيغضب، نقول: جزاك الله خيرا الغيرة لا شك أنها مطلوبة، ومن لا غيرة عنده فقلبه ميت، لكن هل أنت تريد أن تطفئ نار الغيرة بما يصدر منك من قول جاف أو فعل نكد، أو تريد أن تصلح الخلق؟ الثاني هو الذي يجب أن يكون.

وإذا كان المقصود الإصلاح فيجب أن أسلك أقرب طريق إلى الإصلاح، أنا عندما أرى رجلا عاصيا لا شك أني أكره المعصية وأكره المعصية لهذا الشخص أيضا، لكن كيف نعالج هذا؟ هل الإنسان إذا وجد شخصا فيه ورم هل يأتي بالسكين السيئة ويشقه ويدعه يهراق دما، أو أنه يأتي بألطف مما تحصل به العملية وينظفه؟ الثاني، والأدواء المعنوية كالأدواء الحسية يجب علينا - لا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه المعاصي- أن نستعمل أرفق ما يكون بقدر ما يستطيع الإنسان، صحيح أنه بشر قد يثور ويغضب ويتألم لكن يجب أن يهدئ نفسه لأنه يريد إصلاح الغير.

إذن نقول: هذا الدين - والحمد لله- يسر من جميع جوانبه، والمقصود إصلاح الخلق بأي وسيلة، وهذا التشريع في الهرة يدل على ذلك في مثل أشياء تعتاد المنازل ويكثر ترددها من طيور محرمة مثلا هذه الطيور المحرمة التي يكثر وجودها في البيوت حكمها حكم الهرة، أما إذا كانت لا تأتي إلا نادرا وليست من الطوافين؛ فكما قلت لكم كل محرم الأكل فهو نجس، إلا أنه يستثنى شيء واحد ما ليس له دم من الحشرات ليس بنجس، هذا طاهر حيا وميتا.



[1]

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين