شرح الحديث 83 من كتاب صحيح الترغيب

 

صحيح الترغيب والترهيب (1/ 144)

83 - (17) [حسن موقوف] وعن أبي هريرة رضي الله عنه:

أنه مرّ بسوق المدينة فوقف عليها، فقال: "يا أهل السوق! ما أعجَزَكم!"

قالوا : "وما ذاك يا أَبا هريرة؟"

قال: ذاك ميراثُ رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يُقسَم، وأنتم هاهنا؛ ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟"

قالوا : "وأين هو؟"

قال : "في المسجد"،

فخرجوا سراعاً، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم : "ما لكم؟"

فقالوا: "يا أبا هريرة! قد أتينا المسجد، فدخلنا فيه، فلم نرَ فيه شيئاً يُقسم!"

فقال لهم أبو هريرة : "وما رأيتم في المسجد أحداً؟"

قالوا : "بلى؛ رأينا قوماً يصلون، وقوماً يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلالَ والحرامَ"،

فقال لهم أبو هريرة : "ويحكم! فذاكَ ميراثُ محمد _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_".[1]

رواه الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن. (1)

__________

(1) قلت: وكذا قال الهيثمي (1/ 124)، وهو الذي بدا لي بعد أن وقفت على إسناده في "الأوسط" (2/ 114 - 115 ط الحرمين) من طريق علي بن مسعدة قال: نا عبد الله الرومي، عن أبي هريرة. و (الرومي) هذا وثقه ابن حبان، وروى عنه ثلاثة من الثقات، غير علي بن مسعدة. وسائر رجاله ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر.

 

شرح الحديث:

 

هناك قصةٌ على منوال قول أبي هريرة _رضي الله عنه_:

أخرجها ابن عبد البر في "جامعِ بيانِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ" (2/ 972) (رقم : 1853): "قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عِمْرَانَ، سَمِعْتُ أَسَدَ بْنَ الْفُرَاتِ[2]، يَقُولُ :

"بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَتَنَاظَرُونَ بِالْعِرَاقِ فِي الْعِلْمِ، فَقَالَ قَائِلٌ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقِيلَ لَهُ: (قَوْمٌ يَقْتَسِمُونَ مِيرَاثَ مُحَمَّدٍ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_)."

 

فميراث رسول الله _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ أعلى الميراث وأغلاه، وهو العلم النافع، وأما أمواله بعد وفاته، فكلها راجعة إلى بيت المال.

 

وفي "مسند أحمد" – ط. الرسالة (41/ 502) (رقم: 25053):

عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:

"مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً، وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا." وصححه الأرنؤوط _رحمه الله_.

 

وفي "مختصر الشمائل" (ص: 202) (رقم: 336) - (صحيح):

"عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ (أَخِي جُوَيْرِيَةَ) لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ:

(مَا تَرَكَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلَّا سِلَاحَهُ وَبَغْلَتَهُ وَأَرْضًا جعلها صدقة)." اهـ

 

مختصر الشمائل (ص: 203) (رقم: 337) - (حسن):

"عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ:

(جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: "مَنْ يَرِثُكَ؟ فَقَالَ: أَهْلِي وَوَلَدِي."

فَقَالَتْ: "مَا لِي لَا أَرِثُ أَبِي؟"

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: "سَمِعْتُ رَسُولَ الله _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يَقُولُ: (لَا نُورَثُ)، وَلَكِنِّي أَعُولُ مَنْ كَانَ رَسُولُ الله _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم_ َ يَعُولُهُ، وَأُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يُنْفِقُ عليه.")

 

مختصر الشمائل (ص: 204) (رقم: 340) - (صحيح):

"عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: (لَا يَقْسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا. مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي، فَهُوَ صَدَقَةٌ)."

 

والحديث جاء معناه في كلام الله العزيز الجبار،

* فقَالَ _تَعَالَى_:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 15، 16]،

 

قال أبو جعفر الطبري _رحمه الله_ في "جامع البيان" – ت. شاكر (19/ 437):

"(وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ) أباه (دَاودَ) الْعِلْمَ الذي كان آتاه الله في حياته، والمُلك الذي كان خصه به على سائر قومه، فجعله له بعد أبيه داودَ دُوْنَ سَائِرِ وَلَدِ أَبِيْهِ." اهـ

 

وقال ابن الجوزي _رحمه الله_ في "زاد المسير في علم التفسير" (3/ 355)

قوله تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي: ورث نبوَّته وعِلْمه ومُلْكه، وكان لداود تسعة عشر ذكراً، فخصّ سليمان بذلك، ولو كانت وراثة مال، لكان جميع أولاده فيها سواء." اهـ

 

وقال محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد المشهور بـ"ابن قيم الجوزية" (المتوفى: 751هـ) _رحمه الله_ في "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (1/ 67):

"وَإِنَّمَا سيق هَذَا لبَيَان فضلِ سُلَيْمَان وَمَا خصّه الله بِهِ من كرامته. ومِيْرَاثُهُ: مَا كَانَ لابيه من أعلى الْمَوَاهِب، وَهُوَ الْعلم والنُّبُوَّةُ {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16]." اهـ

 

* وقال _تعالى_:

{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)} [مريم: 5، 6]،

 

وقال محمد بن أحمد الأنصاري الخزرجي، الشهير بـ"أبي عبد الله القرطبي" (المتوفى: 671 هـ) _رحمه الله_ في "الجامع لأحكام القرآن" (11/ 78)

هَذَا الْحَدِيثُ يَدْخُلُ فِي التَّفْسِيرِ الْمُسْنَدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]،

وَعِبَارَةٌ عَنْ قَوْلِ زَكَرِيَّا:

{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } [مريم: 5، 6]، وَتَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَرِثْ مِنْ دَاوُدَ مَالًا، خَلَّفَهُ دَاوُدُ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا وَرِثَ مِنْهُ الْحِكْمَةَ وَالْعِلْمَ، وَكَذَلِكَ وَرِثَ يَحْيَى مِنْ آلِ يَعْقُوبَ،

هَكَذَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ مَا عَدَا الرَّوَافِضِ،

وَإِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: "(يَرِثُنِي) مَالًا، (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) النُّبُوَّةَ وَالْحِكْمَةَ. وَكُلُّ قَوْلٍ يُخَالِفُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو مدفوع مهجور.

قاله أَبُو عُمَرَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَكْثَرُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ زَكَرِيَّا إِنَّمَا أَرَادَ وِرَاثَةَ الْمَالِ، وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ) أَلَّا يُرِيدَ بِهِ الْعُمُومَ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ غَالِبُ أَمْرِهِمْ، فَتَأَمَّلْهُ.

وَالْأَظْهَرُ الْأَلْيَقُ بِزَكَرِيَّا _عَلَيْهِ السَّلَامُ_: أَنْ يُرِيدَ وِرَاثَةَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَتَكُونُ الْوِرَاثَةُ مُسْتَعَارَةً.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ وَلِيًّا وَلَمْ يَخْصُصْ وَلَدًا، بَلَّغَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمَلَهُ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ وَغَيْرُهُ: "قَوْلُهُ (مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) يُرِيدُ الْعِلْمَ وَالنُّبُوَّةَ." اهـ

 

وقال محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد المشهور بـ"ابن قيم الجوزية" (المتوفى: 751هـ) _رحمه الله_ في "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (1/ 67):

"وَكَذَلِكَ قَول زَكَرِيَّا _عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ_:

{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)} [مريم: 5، 6]،

فَهَذَا مِيرَاثُ الْعِلْمِ والنبوةِ والدعوةِ إلى اللهِ،

وَإِلَّا، فَلَا يُظَنُّ بَنِيْ كَرِيْمٍ أنَّهُ يَخَافُ عَصَبَتَهُ أَنْ يَرِثُوْهُ مَالَهُ، فَيسْأَلُ اللهَ الْعَظِيمَ ولدا يمنعهُم مِيرَاثَهُ، وَيكون أحقَّ بِهِ مِنْهُم،

وَقد نزه الله أنبياءَهُ وَرُسُلَهُ عَن هَذَا وَأَمْثَاله، فَبُعْدًا لِمَنْ حرَّف كتابَ اللهِ، ورَدّ على رَسُوله كَلَامَه، وَنَسَبَ الأنْبِيَاءَ إلى مَا هُمْ بُرَآءُ مُنَزَّهُوْنَ عَنهُ، وَالْحَمْد لله على توفيقه وهدايتِهِ." اهـ

 

وقال _تعالى_: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية [فاطر: 32]

 

وقال ابن كثير الدمشقي _رحمه الله_ في "فضائل القرآن" (ص: 172):

"والمقصود الأعظم كتاب الله تعالى، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية [فاطر: 32]

فالأنبياء _عليهم السلام_ لم يُخْلَقُوا للدنيا يجمعونها وَيُوْرِثُوْنَهَا، وإنما خُلِقُوا للآخرة، يدعون إليها ويُرَغِّبُوْنَ فِيْهَا.

ولهذا قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"لا نورث، ما تركنا فهو صدقة". [خ م]

وكان أول من أظهر هذه المحاسن من هذا الوجه، أبو بكر الصديق -رضى الله عنه- لما سُئِلَ ميراث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فأَخْبَرَ عنه بذلِكَ، ووافقه على نَقْله عنه _عليه السلام_ غَيْرُ واحدٍ من الصحابة؛ منهم: عمر وعثمان وعلي والعباس وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبو هريرة وعائشة وغيرهم، وهذا ابن عباس يقوله أيضا عنه -عليه السلام، رضي الله عنهم أجمعين." اهـ

 

تخريج الحديث :

 

أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (2/ 114) (رقم : 1429)، وحسنه الألباني.

 

وقال أبو الحسن علي بن أبي بكر، الشهير بـ"نور الدين الهيثمي" (المتوفى: سنة 807 هـ) _رحمه الله_ في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (1/ 124): "وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ." اهـ

 

من فوائد الحديث:

 

1/ ميراث رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ هو العلم النافع المأخوذة من الكتاب والسنة

 

وقال شيخنا عبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمد العباد البدر _حفظه الله_ في "شرح الأربعين النووية" – تفريغ الشاملة (32/ 4):

"ميراث رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، وهو الحق والهدى الذي جاء به، وهو كتاب الله وسنة رسوله _صلى الله عليه وسلم_." اهـ

 

2/ وميراث رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ مضبوط في الكتب والصدور، وليس ميراثه من متاع الدنيا وزينتها.

 

وقال صالح بن عبد الله العبود _حفظه الله_ في عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي (1/ 131):

"وميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم مضبوط في الكتب والصدور يحمله من كل خَلَفٍ عدوله، ويتوارثه جيل بعد جيل___ورب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه." اهـ

 

3/ أعظم الحظوظ للعبد وأنفعه ما نال من العلم الشرعي

 

وقال محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد المشهور بـ"ابن قيم الجوزية" (المتوفى: 751هـ) _رحمه الله_ في "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (1/ 67_68):

"أعظمُ الحظوظِ وأجداها ما نَفَعَ العَبْدَ، ودام نَفْعُهُ لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا إلاَّ حَظَّهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالدّيْنِ،

فَهُوَ الْحَظ الدَّائِم النافع الَّذِي إِذا انْقَطَعت الحظوظ لأربابها، فَهُوَ مَوْصُول لَهُ أبد الآبِدِيْنَ، وَذَلِكَ لانه مَوْصُولٌ بالحي الَّذِي لَا يَمُوتُ، فَلذَلِك لا ينقطع، وَلَا يفوت.

وَسَائِرُ الحظوظِ تُعْدَمُ وتتلاشى بتلاشي متعلقاتها، كَمَا قَالَ _تَعَالَى_:

{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]،

فَإِن الْغَايَةَ لما كَانَت مُنْقَطِعَةً زائلةً، تَبِعَتْهَا أعمالُهُمْ، فَانْقَطَعَتْ___عَنْهُم أحْوَج مَا يكون الْعَامِلُ إلى عمله،

وَهَذِه هِيَ الْمُصِيبَة الَّتِي لَا تُجْبَرُ - عياذا بِاللَّه واستعانة بِهِ وافتقارا وتوكلا عَلَيْهِ وَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه –

وَقَوله (موت الْعَالم مُصِيبَة لاتجبر، وثلمةٌ لَا تُسَدُّ، وَنَجْمٌ طُمِسَ، وَمَوْتُ قَبيلَةٍ أَيْسَرُ من مَوْت عَالِمٍ)،

لِمَا كَانَ صَلَاح الْوُجُود بالعلماء، ولولا هُمْ كَانَ النَّاسُ كَالْبَهَائِمِ، بل أَسْوَأَ حَالاً.

كَانَ موتُ الْعَالم مُصِيبَةً لَا يجبُرُهَا، إلا خَلَّفَ غَيرُه لَهُ، – وأيضا - فَإِن الْعلمَاءَ هُمْ الَّذين يسوسون الْعبادَ والبلادَ والممالِكَ،

فمَوْتُهُمْ فَسَادٌ لِنِظَامِ الْعَالَمِ، وَلِهَذَا لَا يزَال الله يغْرِس فِي هَذَا الدّين مِنْهُم خالفا عَن سالف، يَحْفَظُ بِهِمْ دينَه وَكتابَه وعبادَه،

وَتَأمل إِذا كَانَ فِي الْوُجُود رجُلٌ قد فاق الْعَالَمَ فِي الْغنى وَالْكَرمِ، وحاجتُهُمْ إلى مَا عِنْده شَدِيدَةٌ، وَهُوَ محسن إلَيْهِمْ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، ثمَّ مَاتَ، وانقطعتْ عَنْهُم تِلْكَ الْمَادَّةُ،

فموتُ الْعَالِمِ أعْظَمُ مُصِيبَةً مِنْ مَوْتِ مِثْلِ هَذَا بِكَثِيرٍ. وَمثل هَذَا، يَمُوت بِمَوْتِهِ أُمَمٌ وخَلَائِقُ." اهـ

 

ومن فوائد الحديث:

 

1/ وفيه مشروعية التنبيه لشيء غفل عنه الناس،

2/ وفيه جواز كسب الأموال والأرزاق من حله،

3/ ميراث رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أعظم شيْءٍ وأغلاها، فإن فيه خير الدنيا والآخرة،

4/ مشروعية بث العلم في المساجد، فإنها أفضل بقعة في الأرض وأسهل مكان للإقبال والاستماع للمعلم،

5/ المساجد بُنِيَتْ للعبادة وذكر الله _تعالى_.

6/ فيه فضل أبي هريرة _رضي الله عنه_، ورسوخ علمه.

7/ وفيه حث الناس إلى طلب العلم بالحكمة والموعظة الحسنة.



[1]  هناك قصة على منوال قول أبي هريرة _رضي الله عنه_ أخرجها ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 972) (رقم : 1853) : "قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عِمْرَانَ، سَمِعْتُ أَسَدَ بْنَ الْفُرَاتِ، يَقُولُ : " بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَتَنَاظَرُونَ بِالْعِرَاقِ فِي الْعِلْمِ فَقَالَ قَائِلٌ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقِيلَ لَهُ: قَوْمٌ يَقْتَسِمُونَ مِيرَاثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "

[2] وقال الذهبي _رحمه الله_ في سير أعلام النبلاء ط الرسالة (10/ 225) (رقم: 59):

"أَسَدُ بنُ الفُرَاتِ أَبُو عَبْدِ اللهِ الحَرَّانِيُّ ثُمَّ المَغْرِبِيُّ * الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، القَاضِي، الأَمِيْرُ، مُقَدَّمُ المُجَاهِدِيْنَ، أَبُو عَبْدِ اللهِ الحَرَّانِيُّ، ثُمَّ المَغْرِبِيُّ. مَوْلِدُهُ: بِحَرَّانَ، سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَمائَةٍ. قَالَهُ: ابْنُ مَاكُوْلاَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ خَمْسٍ. وَدَخَلَ القَيْرَوَانَ مَعَ أَبِيْهِ فِي الجِهَادِ، وَكَانَ أَبُوْهُ الفُرَاتُ بنُ سِنَانٍ مِنْ أَعْيَانِ الجُنْدِ." اهـ

توفي _رحمه الله_ وهو محاصر سرقوسة من غزوة صقلية سنة ثلاث عشرة ومائتين (213 هـ).

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين