شرح الحديث 8 من بلوغ المرام

 

 

8 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:

"طُهُوْرُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ: أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُوْلَاهُنَّ بِالتُّرَابِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي لَفْظٍ لَهُ: "فَلْيُرِقْهُ"،

وَلِلتِّرْمِذِيِّ: "أُخْرَاهُنَّ, أَوْ أُولَاهُنَّ".

 

نص الحديث:

 

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _رضي الله عنه_ قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_:

"طُهُوْرُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ: أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُوْلَاهُنَّ بِالتُّرَابِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي لَفْظٍ لَهُ: "فَلْيُرِقْهُ"،

وَلِلتِّرْمِذِيِّ: "أُخْرَاهُنَّ, أَوْ أُولَاهُنَّ".

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 187)

وذكره ابن دقيق العيد، والسبكيّ بحثًا، وهو منصوص كما ذكرنا، وإن كانت "أو" شَكًّا من الراوي، فرواية من عَيَّن ولم يَشُكَّ أولى من رواية من أبهم أو شك، فيبقى النظر في الترجيح بين رواية "أُولاهنّ" ورواية "السابعة"، وروايةُ "أولاهن" أرجح من حيث الأكثرية، والأحفظية، ومن حيث المعنى أيضًا؛ لأن تتريب الأخيرة يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه، وقد نَصَّ الشافعي في حرملة على أن الأُولى أَوْلى، والله تعالى أعلم. انتهى ["الفتح" 1/ 331.].

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله في "الفتح" تحقيقٌ نفيسٌ، خلاصته ترجيح رواية "أُولاهن" روايةً ودرايةً على غيرها، فيكون التتريب في الغسلة الأولى، حتى يتحقّق التنظيف المطلوب على الوجه الأحسن والأليق، والله تعالى أعلم بالصواب.

 

تخريج الحديث:

 

صحيح مسلم (1/ 234/91) (رقم: 279)، سنن أبي داود (1/ 19) (رقم: 71 و 73)، سنن الترمذي ت شاكر (1/ 151) (رقم: 91)، سنن النسائي (1/ 177) (رقم: 339)، السنن الكبرى للنسائي (1/ 97) (رقم: 68)، سنن ابن ماجه (1/ 130) (رقم: 363 و 364).

 

وفي صحيح البخاري (1/ 45) (رقم: 172): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:

إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا شَرِبَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا»

وأخرجه: صحيح مسلم (1/ 234/90) (رقم: 279)، سنن النسائي (1/ 52) (رقم: 63)،

 

من فوائد الحديث:

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 135_137)

* ما يؤخذ من الحديث:

1 - نجاسة الكلب، وكذا جميع أجزاء بدنه نجسة، وجميع فضلاته نجسة.

2 - أنَّ نجاسته نجاسة مغلَّظة؛ فهي أغلظ النجاسات.

3 - أنَّه لا يكفي لإزالة نجاسته والطهارة منها إلاَّ سبع غسلات.

4 - إذا ولغ في الإناء، فلا يكفي معالجة سؤره بالتطهير، بل لابدَّ من إراقته، ثمَّ غسل الإناء بعده سبعًا إحداهن بالتراب.

5 - قوله: "إذا ولغ" خرج به ما إذا كان ما تناوله بلسانه جامدًا؛ لأنَّ الواجب إلقاء ما أصابه الكلب بفمه، ولا يجب غسل الإناء إلاَّ مع الرطوبة.

6 - وجوب استعمال التراب مرَّةً واحدةً من الغسلات، والأفضل أنْ تكون مع الأوْلى؛ ليأتي الماء بعدها.

7 - تعيُّن التراب، فلا يجوز غيره من المزيلات والمطهرات؛ لأمور:

(أ) يحصُلُ بالتراب من الإنقاء مالا يحصُلُ بغيره من المزيلات والمطهِّرات.

(ب) ظهر في البحوث العلمية أنَّه يحصُلُ من التراب خاصَّةً إنقاءٌ لهذه النجاسة، لا يحصُلُ من غيره، وهذه إحدى المعجزات العلمية لهذه الشريعة المحمدية، التي لم ينطق صاحبها عن الهوى، إنْ هو إلاَّ وحيٌ يوحى.

(ج) أنَّ التراب هو مورد النَّصِّ في الحديث؛ فالواجب التقيد بالنص، ولو قام غيره مقامه، لجاء نص يشمله، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم].

8 - استعمال التراب يجوز بأنْ يطرح الماء على التراب أو التراب على الماء، أو أنْ يؤخذ التراب المختلط بالماء، فيغسل به المحل، أمَّا مسح موضع النجاسة بالتراب فلا يجزىء.

9 - ثبت طبيًّا، واكتُشِفَ بالآلاتِ المكبِّرة والمجاهر الحديثة: أنَّ في لعاب الكلب

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 136)

ميكروباتٍ وأمراضًا فتَّاكةً، لا يزيلها الماء وحده، ما لم يستعملْ معه التراب خاصَّة؛ فسبحان العليم الخبير!!.

10 - ظاهر الحديث: أنَّه عامٌّ في جميع الكلاب؛ وهو قول الجمهور.

ولكن قال بعض العلماء: إنَّ الكلب المأذون فيه للصيد والحرث والماشية مستثنًى من هذا العموم؛ وذلك بناءً على قاعدة سماحة الشريعة ويسرها؛ فالمشقَّة تجلب التيسير.

11 - ألحق أصحابنا بالكلبِ الخنزيرَ في غلظ نجاسته، وحكم غسلها بغسل نجاسته؛ كما تغسل نجاسة الكلب، ولكن خالفهم أكثر العلماء؛ فلم يجعلوا حكم نجاسته كنجاسة الكلب، في الغسل سبعًا، والتتريب، اقتصارًا على مورد النص؛ لأنَّ العلَّة في غلظ نجاسة الكلب غير ظاهرة.

قَال في شرح المهذَّب: لا يجب التسبيع من نجاسة الخنزير، وهو الرَّاجح من حيثُ الدليلُ، وهو المختار لأنَّ الأصل عدم الوجوب حتَّى يرد الشرع.

12 - اختلف العلماء في وجوب استعمال التراب: فذهب الحنفية والمالكية إلى أنْ الواجب الغسلات السبع، وأمَّا استعمال التراب معهن فليس بواجب، وذلك لاضطراب الرواية في الغسلة التي فيها التراب، ففي بعض الروايات أنَّها الأولى، وفي بعضها أنَّها الأخيرة، وفي بعضها لم يعين مكانها ففي إحداهنَّ؛ ومن أجل هذا الاضطراب سقط الاستدلال على وجوب التراب، والأصل عدمه، وذهب الشافعي وأحمد وأتباعهما وأكثر الظاهرية وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن جرير وغيرهم إلى اشتراط التراب، فإنْ غسلت نجاسة الكلب بدونه فلا يطهر، وذلك للنصوص الصحيحة في ذلك.

وأمَّا دعوى الاضطراب في الرِّواية فمردودة؛ فإنَّه إنَّما يُحكم بسقوط الرِّواية من أجل الاضطراب إذا تساوت الوجوه، أمَّا إذا ترجَّح بعض الوجوه على بعض -كما في هذا الحديث- فإنَّ الحكم يكون للرواية الرَّاجحة؛ كما هو مقرَّر___في علم الأصول، وهنا الرَّاجح رواية مسلم أنَّها "أولاهنَّ". اهـ

 

كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 494)

وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على نَجَاسَة الْكَلْب، لِأَنَّهُ أَمر بِغسْل الْإِنَاء، وَقد كشف هَذَا قَوْله فِي حَدِيث آخر: " طهُور إِنَاء أحدكُم " وَالطَّهَارَة تضَاد النَّجَاسَة، وَزَاد هَذَا كشفا أمره بالتعفير، فَلَا يخفى أَن ضم التُّرَاب إِلَى المَاء لزِيَادَة الِاحْتِيَاط فِي التَّطْهِير وَرفع النَّجَاسَة. وَمِمَّنْ ذهب إِلَى أَن الْكَلْب نجس أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَقَالَ مَالك وَدَاوُد: إِنَّه طَاهِر، وَإِنَّمَا يغسل ولوغه تعبدا." اهـ

 

كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 494):

"وَقد نبه هَذَا الحَدِيث على وجوب الْعدَد فِي غسل النَّجَاسَات، لِأَنَّهُ لما نَص فِي الولوغ على سبع نبه على سَائِر النَّجَاسَات، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُور من مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل، وَعنهُ رِوَايَة أُخْرَى: يجب غسل___الأنجاس ثَلَاث مَرَّات، وَهُوَ قَول لأبي حنيفَة، وَعنهُ رِوَايَة ثَالِثَة: لَا يجب الْعدَد، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَالْمَشْهُور عَن أبي حنيفَة." اهـ

 

سبل السلام (1/ 30_32)

دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَحْكَامٍ:

(أَوَّلُهَا) : نَجَاسَةُ فَمِ الْكَلْبِ مِنْ حَيْثُ الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ لِمَا وُلِغَ فِيهِ، وَالْإِرَاقَةِ لِلْمَاءِ، وَقَوْلُهُ: [طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ] فَإِنَّهُ لَا غَسْلَ إلَّا مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَسٍ، وَلَيْسَ هُنَا حَدَثٌ؛ فَتَعَيَّنَ النَّجَسُ.

وَالْإِرَاقَةُ: إضَاعَةُ مَالٍ، فَلَوْ كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا لَمَا أَمَرَ بِإِضَاعَتِهِ، إذْ قَدْ نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي نَجَاسَةِ فَمِهِ،

وَأُلْحِقَ بِهِ سَائِرُ بَدَنِهِ قِيَاسًا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ نَجَاسَةُ لُعَابِهِ، وَلُعَابُهُ جُزْءٌ مِنْ فَمِهِ، إذْ هُوَ عِرْقُ فَمِهِ، فَفَمُهُ نَجِسٌ، إذْ الْعِرْقُ جُزْءٌ مُتَحَلِّبٌ مِنْ الْبَدَنِ،

فَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ بَدَنِهِ، إلَّا أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ لَيْسَ لِنَجَاسَةِ الْكَلْبِ.

قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي فَمِهِ وَلُعَابِهِ، إذْ هُوَ مَحَلُّ اسْتِعْمَالِهِ لِلنَّجَاسَةِ بِحَسَبِ الْأَغْلَبِ، وَعُلِّقَ الْحُكْمُ بِالنَّظَرِ إلَى غَالِبِ أَحْوَالِهِ مِنْ أَكْلِهِ النَّجَاسَاتِ بِفَمِهِ، وَمُبَاشَرَتِهِ لَهَا، فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِهِ قَوْلُ الْجَمَاهِيرِ.

وَالْخِلَافُ لِمَالِكٍ، وَدَاوُد، وَالزُّهْرِيِّ، وَأَدِلَّةُ الْأَوَّلِينَ مَا سَمِعْت، وَأَدِلَّةُ غَيْرِهِمْ وَهُمْ الْقَائِلُونَ: إنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ لِلتَّعَبُّدِ لَا لِلنَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلنَّجَاسَةِ لَاكْتَفَى بِمَا دُونَ السَّبْعِ، إذْ نَجَاسَتُهُ لَا تَزِيدُ عَلَى الْعَذِرَةِ؛ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ أَصْلَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ مَعْقُولُ الْمَعْنَى، مُمْكِنُ التَّعْلِيلِ، أَيْ بِأَنَّهُ لِلنَّجَاسَةِ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَحْكَامِ التَّعْلِيلُ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَغْلَبِ، وَالتَّعَبُّدُ إنَّمَا هُوَ فِي الْعَدَدِ فَقَطْ، كَذَا فِي الشَّرْحِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ شَرْحِ الْعُمْدَةِ، وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي حَوَاشِيهِ خِلَافَ مَا قَرَّرَهُ مِنْ أَغْلَبِيَّةِ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ، وَطَوَّلْنَا هُنَالِكَ الْكَلَامَ.

الْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِ سَبْعِ غَسَلَاتٍ لِلْإِنَاءِ، وَهُوَ وَاضِحٌ، وَمَنْ قَالَ:___لَا تَجِبُ السَّبْعُ، بَلْ وُلُوغُ الْكَلْبِ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَالتَّسْبِيعُ نَدْبٌ، اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ " قَالَ: يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ.

وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا، بِأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بِمَا رَآهُ وَأَفْتَى بِهِ، وَبِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ، وَأَيْضًا: أَنَّهُ أَفْتَى بِالْغَسْلِ، وَهِيَ أَرْجَحُ سَنَدًا، وَتَرَجَّحَ أَيْضًا بِأَنَّهَا تُوَافِقُ الرِّوَايَةَ الْمَرْفُوعَةَ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَلْبِ يَلَغُ فِي الْإِنَاءِ [يُغْسَلُ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا] قَالُوا: فَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى عَدَمِ تَعْيِينِ السَّبْعِ، وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ، وَلَا تَخْيِيرَ فِي مُعَيَّنٍ؛ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ.

الْحُكْمُ الثَّالِثُ: وُجُوبُ التَّتْرِيبِ لِلْإِنَاءِ لِثُبُوتِهِ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِ التُّرَابِ، وَأَنَّهُ فِي الْغَسْلَةِ الْأُولَى؛

وَمَنْ أَوْجَبَهُ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْلِطَ الْمَاءَ بِالتُّرَابِ حَتَّى يَتَكَدَّرَ، أَوْ يَطْرَحَ الْمَاءَ عَلَى التُّرَابِ، أَوْ يَطْرَحَ التُّرَابَ عَلَى الْمَاءِ، وَبَعْضُ مَنْ قَالَ بِإِيجَابِ التَّسْبِيعِ، قَالَ: لَا تَجِبُ غَسْلَةُ التُّرَابِ لِعَدَمِ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُ. وَرَدَّ: بِأَنَّهَا قَدْ ثَبَتَتْ فِي الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ بِلَا رَيْبٍ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَأَوْرَدَ عَلَى رِوَايَةِ التُّرَابِ بِأَنَّهَا قَدْ اضْطَرَبَتْ فِيهَا الرِّوَايَةُ، فَرَوَى أُولَاهُنَّ، أَوْ أُخْرَاهُنَّ، أَوْ إحْدَاهُنَّ، أَوْ السَّابِعَةُ، أَوْ الثَّامِنَةُ، وَالِاضْطِرَابُ قَادِحٌ، فَيَجِبُ الْإِطْرَاحُ لَهَا.

وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ الِاضْطِرَابُ قَادِحًا إلَّا مَعَ اسْتِوَاءِ الرِّوَايَاتِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ هُنَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ رِوَايَةَ أُولَاهُنَّ أَرْجَحُ لِكَثْرَةِ رُوَاتِهَا، وَبِإِخْرَاجِ الشَّيْخَيْنِ لَهَا وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ التَّرْجِيحُ عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَأَلْفَاظُ الرِّوَايَاتِ الَّتِي عُورِضَتْ بِهَا أُولَاهُنَّ لَا تُقَاوِمُهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ رِوَايَةَ [أُخْرَاهُنَّ] مُتَفَرِّدَةٌ لَا تُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ مُسْنَدَةٌ، وَرِوَايَةُ [السَّابِعَةُ بِالتُّرَابِ] ، اُخْتُلِفَ فِيهَا، فَلَا تُقَاوِمُ رِوَايَةَ [أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ] وَرِوَايَةُ [إحْدَاهُنَّ] بِالْحَاءِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ لَيْسَتْ فِي الْأُمَّهَاتِ، بَلْ رَوَاهَا الْبَزَّارُ، فَعَلَى صِحَّتِهَا فَهِيَ مُطْلَقَةٌ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى الْمُقَيَّدَةِ، وَرِوَايَةُ [أُولَاهُنَّ] أَوْ [أُخْرَاهُنَّ] بِالتَّخْيِيرِ، إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الرَّاوِي فَهُوَ شَكٌّ مِنْهُ، فَيُرْجَعُ إلَى التَّرْجِيحِ، وَرِوَايَةُ [أُولَاهُنَّ] أَرْجَحُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُوَ تَخْيِيرٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيُرْجَعُ إلَى تَرْجِيحِ [أُولَاهُنَّ] ، لِثُبُوتِهَا فَقَطْ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ كَمَا عَرَفْت.

وَقَوْلُهُ [إنَاءِ أَحَدِكُمْ] الْإِضَافَةُ مُلْغَاةٌ هُنَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مِلْكِهِ الْإِنَاءَ، وَكَذَا قَوْلُهُ [فَلْيَغْسِلْهُ] لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَالِكُ الْإِنَاءِ هُوَ الْغَاسِلُ،

وَقَوْلُهُ: وَفِي لَفْظٍ [فَلْيُرِقْهُ] هِيَ مِنْ أَلْفَاظِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَهِيَ أَمْرٌ بِإِرَاقَةِ الْمَاءِ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَوْ الطَّعَامِ، وَهِيَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى النَّجَاسَةِ، إذْ الْمُرَاقُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَاءً أَوْ طَعَامًا، فَلَوْ كَانَ طَاهِرًا لَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَتِهِ كَمَا عَرَفْت، إلَّا أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَدَمُ صِحَّةِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَنْ الْحُفَّاظِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَنْقُلْهَا أَحَدٌ مِنْ الْحُفَّاظِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: لَا تُعْرَفُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَجْهٍ مِنْ___الْوُجُوهِ، نَعَمْ أَهْمَلَ الْمُصَنِّفُ ذِكْرَ الْغَسْلَةِ الثَّامِنَةِ وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: [وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ] .

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إنَّهُ قَالَ بِهَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَلَمْ يَقُلْ بِهَا غَيْرُهُ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْحَدِيثُ قَوِيٌّ فِيهَا، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ احْتَاجَ إلَى تَأْوِيلِهِ بِوَجْهٍ فِيهِ اسْتِكْرَاهٌ. قُلْت: وَالْوَجْهُ أَيْ الْمُسْتَكْرَهُ فِي تَأْوِيلِهِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: الْمُرَادُ اغْسِلُوهُ سَبْعًا، وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِالتُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ، فَكَأَنَّ التُّرَابَ قَامَ مَقَامَ غَسْلَةٍ فَسُمِّيَتْ ثَامِنَةً، وَمِثْلُهُ قَالَ الدَّمِيرِيُّ فِي (شَرْحِ الْمِنْهَاجِ) ، وَزَادَ: أَنَّهُ أَطْلَقَ الْغَسِيلَ عَلَى التَّعْفِيرِ مَجَازًا. قُلْت: لَا يَخْفَى أَنَّ إهْمَالَ الْمُصَنِّفِ لِذِكْرِهَا، وَتَأْوِيلَ مَنْ قَالَ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ كُلُّ ذَلِكَ مُحَامَاةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالْحَقُّ مَعَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

هَذَا، وَإِنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ النَّهْيُ عَنْهُ، وَذَكَرَ مَا يُبَاحُ اتِّخَاذُهُ مِنْهَا، يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الصَّيْدِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى." اهـ

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 87)

أما ما يستفاد من الحديث ففيه فوائد منها: أن الكلب نجس، وجه ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه لابد من تطهير ما أصابه فقال: "طهوره أن يغسله". وهذا القول يكاد يكون كالإجماع، ويتفرع منه الرد على من قال بطهارة الكلب؛ لأن الحديث صريح في الرد عليه.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجب إذا صار الكلب صيدا أن يغسل ما أصاب فمه سبع مرات إحداهما بالتراب؛ لأن هذا من جنس الولوغ، بل ربما يكون أشد مما إذا شده على هذا اللحم، ويختلط باللحم اختلاطا بالغا، فيكون مثل الولوغ أو أشد، فهل هذا التقرير مناسب للحال التي كان الناس عليها في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام- وكانوا يصيدون بالكلاب، ولم ينقل حرف واحد أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- أمر بأن يغسل ما أصاب فم الكلب؟ لا، ومن ثم اختلف العلماء في هذه المسألة؛ فمن العلماء من قال: إنه يجب أن يغسل الصيد فيما أصاب فم الكلب؛ لأن هذا مثل الولوغ أو أشد، ويغسل سبع مرات إحداهما بالتراب، ومعلوم أن التراب يلوث اللحم وربما يفسده، فيكون في ذلك إفساد للمال لكن يقولون: الفاسد شيء يسير يكشط بالمدية وينتهي، لكن كيف نتخلص من هذا - أي: التراب-؟ بأن نغسله بالصابون؛___

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 88)

لأن العلماء يقولون: إذا تعذر استعمال التراب فإنه يحل محله الصابون ونحوه مما يكون تنظيفه قويا، لكن القول الراجح - أقصد القول الثاني في المسألة-: أنه لا يجب؛ وذلك لأن الناس كانوا يصيدون بكلابهم في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام- ويسألون الرسول عن حكم ما صاده الكلب ويخبرهم بالحكم، ولا يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى وجوب غسل ما أصاب فمه، وهذا يدل على أنه معفو عنه.

ولا تعجب أن الله تعالى يرفع الضرر والحرج عن الأمة بحيث يزول أثر النجاسة بالكلية، أرأيت إن اضطر الإنسان إلى ميتة وأكل منها هل تضره؟ لا، لكن لو كان غير مضطر تضره، فالله - سبحانه وتعالى- يجعل الضرر والمنفعة ويدفع الضرر بأمره، فإذا تبين أن الصحابة - رضي الله عنهم- كانوا يصطادون بكلابهم، ويسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأحكام ولم يبين لهم لا في حديث صحيح ولا ضعيف أنه يجب عليهم الغسل، دل ذلك على عدم الوجوب فيكون ذلك معفوا عنه، وهذا القول هو الراجح وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الكلب إذا بال على شيء فإنه يغسل سبع مرات إحداها بالتراب؛ يعني: لو بال في الإناء وجب أن يراق بوله ويغسل الإناء سبع مرات إحداهما بالتراب وجه ذلك: أنه إذا كان الريق وهو أطهر من البول يجب غسل الإناء بعده سبع مرات إحداها بالتراب فالبول من باب أولى، العذرة من باب أولى....

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 89)

ومن فوائد الحديث: أنه لابد من استعمال التراب في تطهير نجاسة الكلب...

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 91)

والحديث من فوائده: أنه يعم الكلب الصغير والكبير والأسود والأحمر والأبيض؛ لعموم قوله: "الكلب"، ولا يقال: إن كلمة "الكلب" التي تدل على العموم مقيدة بالكلب الأسود كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قطع الصلاة: "أنه يقطعها الكلب الأسود"، وذلك لاختلاف الحكمين؛ لأن هذا في محل وهذا في محل، فلا يمكن أن يحمل هذا المطلق على المقيد هناك.

ومن فوائد هذا الحديث: أن من النجاسات ما هو مغلظ وما هو تعبدي، نجاسة الكلب الآن مغلظة كونها بسبع دون خمس أو ثلاث أو تسع، هذا تعبد....

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 91)

يجب أن تلحق نجاسته بنجاسة الكلب، فهل هذا القياس صحيح؟ لا، خصوصا إذا قلنا: إن النجاسة - نجاسة الكلب- يجب غسلها سبع مرات تعبدا؛ بهذا تعرف أن النجاسات منها مغلظ ومنها مخفف وهو كذلك.

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 92)

يستفاد من هذا الحديث: أن الكلب محرم الأكل، من أين عرفنا ذلك؟ لدينا قاعدة ذكرناها من قبل: كل نجس حرام، وليس كل حرام نجسا.

إذن نقول: هو حرام خلافا لمن قال من العلماء: إنه مكروه؛ لأن الأصل الحل، وغفل عن أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع. فإن الكلب بلا شك له ناب يفرس به، أليس يصيد الصيد؟ نعم، إذن داخل في الحديث.

ثم هذا الحديث الذي معنا أيضا يدل على أنه حرام؛ لأنه إذا كان يجب علينا أن نتوقى من ولوغه كيف ندخل لحمه في بطوننا؟ فإذا اضطر الإنسان إلى ذلك يأكله. [ولو] أكله هل يجب عليه أن يغسل فمه سبع مرات إحداها بالتراب؟ لا، نبحث المسألة هذه، هل نقول: لما أباحه الله ارتفعت النجاسة عنه؟ نعم، كالحمير حين كانت مباحة ليست نجسة، ولما حرمت صارت نجسة، أو نقول: إنه يجوز أن يتبعض الحكم، فيقال: من أجل الضرورة أبحناه لك، لكن النجاسة باقية، فلابد أن تغسل فمك سبع مرات إحداها بالتراب، ويشكل على هذا أيضا شيء آخر هل يغسل بطنه سبعا إحداها بالتراب؟ الظاهر لي - والله أعلم نظرات للعلل الشرعية- أنه إذا حل أكله ارتفعت نجاسته هذا الظاهر كما قلنا، ومن باب أولى كما قلنا في الصيد أن الله لما أباح صيده ارتفعت النجاسة وعفي عن النجاسة في الصيد هذا هو الأصح.

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين