شرح الحديث 18 من كتاب أربعون حديثا في التربية والمنهج

 

الحديث الثامن عشر

 

عن جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ _رضي الله تعالى عنه_:

أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_، كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ، فَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلاَةَ، فَقَرَأَ بِهِمُ البَقَرَةَ،

قَالَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ[1]، فَصَلَّى صَلاَةً خَفِيفَةً[2]،

فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا، فَقَالَ: "إِنَّهُ مُنَافِقٌ."

فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَأَتَى النَّبِيَّ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، فَقَالَ:

"يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا[3]، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا البَارِحَةَ، فَقَرَأَ البَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ، فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ."

فَقَالَ النَّبِيُّ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: " يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ - ثَلاَثًا -[4]،

اقْرَأْ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وَنَحْوَهَا "

 

وفي رواية أخرى للبخاري في "صحيحه" (1/ 142) (رقم: 705):

عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ، قَالَ:

أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ، فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي، فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ، فَقَرَأَ بِسُورَةِ البَقَرَةِ - أَوِ النِّسَاءِ - فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ» - أَوْ «أَفَاتِنٌ» - ثَلاَثَ مِرَارٍ: «فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الحَاجَةِ»

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه البخاري البخاري في "صحيحه" (8/ 26) (رقم: 6106)، ومسلم في "صحيحه" (1/ 339) (رقم: 465)، وأبو داود في "سننه" (1/ 210) (رقم: 790)، والنسائي في "سننه" (2/ 102) (رقم: 835)، وابن ماجه في "سننه" (1/ 315) (رقم: 986).

 

من فوائد الحديث:

 

قال المؤلف عبد العزيز بن محمد السدحان _رحمه الله_ في كتابه "أربعون حديثا في التربية والمنهج" (ص 43):

"قوله: «كان يصلي مع النبي ﷺ»:

فيه: أن للإمام أن يستكثر من الخير ما لم يشق على المصلين.

 

وقوله: «فقرأ بهم البقرة»:

فيه: إطالة الصلاة ما لم يشق على المصلين.

 

وقوله: «فتجوز رجل»:

فيه: جواز انفصال المأموم عن صلاة إمامه لحاجة.

 

وقوله: «فأتى النبيَّ ﷺ» :

فيه : طلب دفع المظلمة عند أولي الأمر.

 

وقوله: «إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا، وإن معاذا صلى بنا البارحة فقرأ فتجوزت فزعم أني منافق»

فيه : أن الإنصاف والعدل في الخصومة أن تذكر ما لك وما عليك .

 

وقوله: «يا معاذ أفتان أنت؟»:

فيه: تغليظ المعلم على تلميذه إذا دعت الحاجة، وبخاصة فيما يتعلق بتنفير الناس.

وفيه: أن على دعاة الخير مراعاة أحوال الناس، ويتأكد فيمن يتولى إمامة المساجد.

_____________

(۱) أخرجه الشيخان.

 

ومن فوائد الحديث:

 

شرح رياض الصالحين (3/ 591):

فالتنفير لا ينبغي؛ فلا تنفر الناس بل لِنْ لهم، حتى في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ لا تدعُهم إلى الله دعوة منفر، لا تقل إذا رأيت إنساناً على خطأ: يا فلان أنت خالفت، أنت عصيت، أنت فيك. إلى آخر، هذا ينفرهم، ويزيدهم في التمادي في المعصية، ولكن ادعهم بهونٍ ولين حتى يألفك ويألف ما تدعو إليه، وبذلك تمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((بشروا ولا تنفروا)) .

فخذ هذا الحديث أيها الأخ، خذه رأس مالٍ لك ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)) سر إلى الله عزّ وجلّ على هذا الأصل، وعلى هذا الطريق، وسر مع عباد الله على ذلك تجد الخير كله، والله الموفق.

 

فتح الباري لابن رجب (6/ 211)

وفيه: دليل عَلَى أن الصَّحَابَة لَمْ يكن من عادتهم قراءة بعض سورة فِي الفرض؛ فإن معاذاً لما افتتح سورة البقرة علم الرَّجُلُ أَنَّهُ يكملها فِي صلاته، فلذلك انصرف.

 

فتح الباري لابن رجب (6/ 211)

ففي هذه الرواية: أَنَّهُ انصرف بمجرد افتتاح معاذ للبقرة.

وفيها: أَنَّهُ سلم ثُمَّ صلى وحده وانصرف، ولم ينكر عَلِيهِ النببي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ.

 

فتح الباري لابن حجر (2/ 194):

"وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَطَعَ الْقُدْوَةَ فَقَطْ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الصَّلَاةِ بَلِ اسْتَمَرَّ فِيهَا مُنْفَرِدًا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ فِي الْكَلَامِ...

وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَطَعَ الْقُدْوَةَ فَقَطْ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الصَّلَاةِ بَلِ اسْتَمَرَّ فِيهَا مُنْفَرِدًا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ فِي الْكَلَامِ." اهـ

 

وفي "فتح الباري" لابن رجب (6/ 212):

"فيستدل بهذا: عَلَى أن الإمام إذا طول عَلَى المأموم وشق عَلِيهِ إتمام الصلاة مَعَهُ؛ لتعبه أو غلبه النعاس عَلِيهِ أن لَهُ أن يقطع صلاته مَعَهُ،

ويكون ذَلِكَ عذراً فِي قطع الصلاة المفروضة، وفي سقوط الجماعة فِي هذه الحال، وأنه يجوز أن يصلي لنفسه منفرداً فِي المسجد ثُمَّ يذهب، وإن كان الإمام يصلي فِيهِ بالناس.

قَالَ سُفْيَان: إذا خشي عَلَى غنمه الذئب، أو عَلَى دابته أن تؤخذ، أو عَلَى صبيه أن يأكله الذئب، فلا بأس أن يقطع صلاته ويذهب إليه.

وَقَالَ الْحَسَن وقتادة، فِي رَجُل كَانَ يصلي فأشفق أن تذهب دابته، أو أغار عَلَيْهَا السبع؟ قَالا: ينصرف. قيلَ لقتادة: يرى سارقاً يريد أن يأخذ نعليه؟ قَالَ: ينصرف.

ولو طول الإمام تطويلاً فاحشاً، أو حدث للمأموم عذر، مثل حدوث مرض، أو سماع حريق وقع فِي داره، أو خاف فساد طعام لَهُ عَلَى النار، أو ذهاب دابة لَهُ عَلَى بَاب المسجد ونحو ذَلِكَ، فنوى مفارقة إمامه، وأتم صلاته منفرداً، وانصرف جاز ذَلِكَ عِنْدَ أصحابنا - أَيْضاً - وحكوه عَن___الشَّافِعِيّ وأبي يوسف ومحمد.

وعن مَالِك وأبي حنيفة: تبطل صلاته بذلك.

واستدل أصحابنا بما رَوَى الإمام أحمد فِي ((مسنده)) : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل - هُوَ: ابن علية -: ثنا عَبْد العزيز بن صهيب، عَن أَنَس، قَالَ:

كَانَ معاذ بن جبل يؤم قومه، فدخل حرام وَهُوَ يريد أن يسقي نخله، فدخل المسجد مَعَ القوم، فلما رأى معاذاً طول تجوز فِي صلاته ولحق بنخلة يسقيه، فلما قضى معاذ الصلاة قيلَ لَهُ: إن حراماً دَخَلَ المسجد، فلما رآك طويت تجوز فِي صلاته ولحق نخلة يسقيه.

قَالَ: إنه لمنافق، أيعجل عَن الصلاة من أجل سقي نخلة؟! قَالَ: فجاء حرام إلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعاذ عنده، فَقَالَ: يَا بني الله؛ إني أردت أن أسقي نخلاً لِي، فدخلت المسجد لأصلي مَعَ القوم، فلما طول تجوزت فِي صلاتي ولحقت بنخلي أسقيه، فزعم أنى منافق،

فأقبل النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى معاذ، فَقَالَ: ((أفتان أنت؟ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! لا تطول بهم؛ أقرأ ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] ونحوهما)) ...

واستدلوا عَلَى أَنَّهُ لا يجوز، وأن الصلاة تبطل بِهِ بقول النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما الإمام ليؤتم بِهِ، فلا تختلفوا عَلِيهِ)) ، ومفارقته من غير عذر من الاختلاف عَلِيهِ.

وأيضاً؛ فَقَدْ سبق الاستدلال عَلَى وجوب الجماعة، والواجب إذا مَا شرع فِيهِ لَمْ يجز إبطاله وقطعه لغير عذر، كأصل الصلاة. والله سبحانه وتعالى أعلم." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (2/ 197)

فِي الصَّلَاةِ وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا:

* اسْتِحْبَابُ تَخْفِيفِ الصَّلَاةِ مُرَاعَاةً لِحَالِ الْمَأْمُومِينَ،

وَأَمَّا مَنْ قَالَ لَا يُكْرَهُ التَّطْوِيلُ إِذَا عَلِمَ رِضَاءَ الْمَأْمُومِينَ، فَيُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ لَا يَعْلَمُ حَالَ مَنْ يَأْتِي فَيَأْتَمُّ بِهِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ،

فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ التَّطْوِيلُ مُطْلَقًا إِلَّا إِذَا فُرِضَ فِي مُصَلٍ بِقَوْمٍ مَحْصُورِينَ رَاضِينَ بِالتَّطْوِيلِ فِي مَكَانٍ لَا يَدْخُلُهُ غَيْرُهُمْ،

وَفِيهِ: أَنَّ الْحَاجَةَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا عذر فِي تَخْفيف الصَّلَاة،

* وَجَوَاز إِعَادَة الصَّلَاة الْوَاحِدَةِ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ،

* وَجَوَازُ خُرُوجِ الْمَأْمُومِ مِنَ الصَّلَاةِ لِعُذْرٍ، وَأَمَّا بِغَيْرِ عُذْرٍ فاستدل بِهِ بَعضهم وَتعقب،

وَقَالَ ابن الْمُنِيرِ:

"لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَمْرِ الْأَئِمَّةِ بِالتَّخْفِيفِ فَائِدَةٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْأَمْرِ بِالتَّخْفِيفِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ جَوَازُ الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا وَهَذَا كَمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْقِصَّةِ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَفِيهِ نَحْوُ هَذَا النَّظَرِ،

* وَفِيهِ جَوَازُ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ بِالْجَمَاعَةُ إِذَا كَانَ بِعُذْرٍ،

* وَفِيهِ الْإِنْكَارُ بِلُطْفٍ لِوُقُوعِهِ بِصُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ،

* وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَعْزِيزُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسْبِهِ وَالِاكْتِفَاءُ فِي التَّعْزِيزِ بِالْقَوْلِ وَالْإِنْكَارُ فِي الْمَكْرُوهَاتِ،

وَأَمَّا تَكْرَارُهُ ثَلَاثًا، فَلِلتَّأْكِيدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كَانَ يُعِيدُ الْكَلِمَةَ ثَلَاثًا لِتُفْهَمَ عَنْهُ،

* وَفِيهِ اعْتِذَارُ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ خَطَأٌ فِي الظَّاهِرِ،

* وَجَوَازُ الْوُقُوعِ فِي حَقِّ مَنْ وَقَعَ فِي مَحْذُورٍ ظَاهِرٍ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ بَاطِنٌ لِلتَّنْفِيرِ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا لَوْمَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا،

* وَأَنَّ التَّخَلُّفَ عَن الْجَمَاعَة من صفة الْمُنَافِق." اهـ

 

عمدة القاري شرح صحيح البخاري (5/ 239):

"ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ:

* اسْتدلَّ الشَّافِعِي بِهَذَا الحَدِيث على صِحَة اقْتِدَاء المفترض بالمتنفل على أَن معَاذًا كَانَ يَنْوِي بِالْأولَى الْفَرْض، وبالثانية النَّفْل. وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة، وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر، وَهُوَ قَول عَطاء وَطَاوُس وَسليمَان بن حَرْب وَدَاوُد...___

* وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتِحْبَاب تَخْفيف الصَّلَاة مُرَاعَاة لحَال الْمَأْمُومين لما روى البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث الْأَعْرَج: عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا صلى أحدكُم للنَّاس فليخفف، فَإِنَّمَا فيهم الضَّعِيف والسقيم وَالْكَبِير، وَإِذا صلى لنَفسِهِ فليطول مَا شَاءَ) [خ م].

فَهَذَا يدل على أَن الإِمَام يَنْبَغِي لَهُ أَن يُرَاعِي حَال قومه، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ لأحد،

* وَمن ذَلِك: أَن الْحَاجة من أُمُور الدُّنْيَا عذر فِي تَخْفيف الصَّلَاة[5]،

* وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه: جَوَاز إِعَادَة الصَّلَاة الْوَاحِدَة فِي الْيَوْم مرَّتَيْنِ. فَإِن قلت: لَيْسَ هَذَا بِمُطلق، لِأَن إِعَادَته على سَبِيل أَنَّهُمَا فرض مَمْنُوعَة بِالنَّصِّ، كَمَا ذكرنَا عَن قريب، وَقَالَ بَعضهم أَيْضا:

* وَفِيه: جَوَاز خُرُوج الْمَأْمُوم من الصَّلَاة لعذر، وَأما بِغَيْر عذر فاستدل بِهِ بَعضهم أَي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور.

قلت: فِي (شرح الْمُهَذّب) : اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن دخل مَعَ إِمَام فِي صَلَاة فصلى بَعْضهَا، هَل يجوز لَهُ أَن يخرج مِنْهَا؟

فاستدل أَصْحَابنَا بِهَذَا الحَدِيث على أَن للْمَأْمُوم أَن يقطع الْقدْوَة وَيتم صلَاته مُنْفَردا، وَإِن لم يخرج مِنْهَا. وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أوجه: أَصَحهَا: أَنه يجوز لعذر ولغير عذر، وَالثَّانِي: لَا يجوز مُطلقًا. وَالثَّالِث: يجوز لعذر وَلَا يجوز لغيره، وَتَطْوِيل الْقِرَاءَة عذر على الْأَصَح.

قلت: أَصْحَابنَا لَا يجوزون شَيْئا من ذَلِك، وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك، وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ لِأَن فِيهِ إبِطَال الْعَمَل، وَالْقُرْآن قد منع عَن ذَلِك.

* وَمن ذَلِك: جَوَاز صَلَاة الْمُنْفَرد فِي الْمَسْجِد الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ بِالْجَمَاعَة. وَقَالَ بَعضهم: إِذا كَانَ بِعُذْر قلت: يجوز مُطلقًا.

* وَمن ذَلِك: جَوَاز القَوْل بالبقرة لِأَن مَعْنَاهُ: السُّورَة الَّتِي تذكر فِيهَا الْبَقَرَة، وَورد أَيْضا: بِسُورَة الْبَقَرَة، كَمَا ذكرنَا. وَمن ذَلِك: الْإِنْكَار فِي المكروهات والاكتفاء فِي التَّعْزِير بالْكلَام." اهـ

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (11/ 18)

في فوائده:

1 - (منها): بيان مشروعيّة القراءة في صلاة العشاء، وهو مجمع عليه.

2 - (ومنها): جواز صلاة المفترض خلف المتنفِّل؛ لأن معاذًا -رضي اللَّه عنه- كان يصلي الفريضة مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيُسْقِط فرضه، ثم يصلِّي مرةً ثانيةً بقومه، هي له تطوع، ولهم فريضة، وقد جاء هكذا مُصَرَّحًا به في غير مسلم، وهذا جائز عند الشافعي -رَحِمَهُ اللَّهُ- وآخرين، ولم يُجِزه ربيعة، ومالك، وأبو حنيفة، والكوفيون رحمهم اللَّه تعالى، وتأولوا حديث معاذ -رضي اللَّه عنه- على أنه كان يصلّي مع النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تنفلًا، ومنهم من تأوله على أنه لم يعلم به النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومنهم من قال: حديث معاذ كان في أول الأمر، ثم نُسِخ، قال النوويّ: وكلُّ هذه التأويلات دعاوي لا أصل لها، فلا يُتْرَك ظاهر الحديث بها. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- هو الحقّ، وسيأتي تحقيق الكلام في ذلك في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.[6]

3 - (ومنها): جواز خروج المأموم عن صلاة الإمام، وصلاته منفردًا___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (11/ 19)

لعذر، وأما بغير عذر فاستَدَلّ به بعضهم، وتُعُقِّب، وقال ابن المنير: لو كان كذلك لَمْ يكن لأمر الأئمة بالتخفيف فائدةٌ، وفيه نظر؛ لأن فائدة اللأمر بالتخفيف المحافظة على صلاة الجماعة، ولا ينافي ذلك جواز الصلاة منفردًا، وهذا كما استَدَلّ بعضهم بالقصة على وجوب صلاة الجماعة، وفيه نحو هذا النظر، قاله في "الفتح" (1).

وقال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: استَدَلّ أصحابنا وغيرهم بهذا الحديث على أنه يجوز للمأموم أن يقطع القدوة، ويُتِمّ صلاته منفردًا، وإن لَمْ يخرج منها، وفي هذه المسألة ثلاثة أوجه لأصحابنا: أصحها أنه يجوز لعذر ولغير عذر، والثاني: لا يجوز مطلقًا، والثالث يجوز لعذر، ولا يجوز لغيره، وعلى هذا: العُذر هو ما يَسْقُط به عنه الجماعة ابتداءً، ويُعْذَر في التخلف عنها بسببه، وتطويل القراءة عذر على الأصح؛ لقصة معاذ -رضي اللَّه عنه-.

قال: وهذا الاستدلال ضعيف؛ لأنه ليس في الحديث أنه فارقه، وبنى على صلاته، بل في الرواية الأولى أنه سَلَّم، وقطع الصلاة من أصلها، ثم استأنفها، وهذا لا دليل فيه للمسألة المذكورة، وإنما يدُلّ على جواز قطع الصلاة وإبطالها لعذر، واللَّه أعلم. انتهى (2).

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأرجح أنه يجوز قطع الاقتداء، والصلاة وحده لعذر؛ لحديث قصّة معاذ -رضي اللَّه عنه-، حيث أقرّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الرجل الذي قطع الاقتداء به، وصلّى وحده، وأما إذا لَمْ يكن لعذر فلا؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أصلاتان معًا؟ "، وهو حديث صحيح، أخرجه مالك، وأبو داود، فقد أنكر -صلى اللَّه عليه وسلم- على من يُصلِّي صلاةً وحده بعد أن تقام الصلاة.

والحاصل أن قطع الاقتداء لعذر، جائز، وأما لغير عذر، فلا، واللَّه تعالى أعلم.

4 - (ومنها): استحباب تخفيف الصلاة مراعاةً لحال المأمومين، وأما من قال: لا يكره التطويل إذا عَلِم رضاء المأمومين، فَيُشكِل عليه أن الإمام قد لا يَعْلَم حال من يأتي فيأتم به بعد دخوله في الصلاة، كما في حديث الباب،___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (11/ 20)

فعلى هذا يكره التطويل مطلقًا إلَّا إذا فُرِض في مصلّ بقوم محصورين راضين بالتطويل، في مكان لا يدخله غيرهم.

5 - (ومنها): أن الحاجة من أمور الدنيا عُذْرٌ في تخفيف الصلاة.

6 - (ومنها): جواز إعادة الصلاة الواحدة في اليوم الواحد مرتين.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قالوا، ولكن هذا ليس على إطلاقه، بل إذا كان هناك سبب، كمن صلّى وحده، أو في جماعة، ثم أدرك جماعة أخرى، فيصلّي معهم، أو كان إمامًا فصلّى مع جماعة، ثم ذهب إلى مسجده، فيصلّي بقومه أيضًا، كما فعل معاذ -رضي اللَّه عنه-، ونحو ذلك، وأما تكرار الصلاة الواحدة بدون سبب فيحتاج إلى دليل، واللَّه تعالى أعلم.

7 - (ومنها): جواز صلاة المنفرد في المسجد الذي يُصَلَّى فيه بالجماعة إذا كان بعذر.

8 - (ومنها): الإنكار بلطف؛ لوقوعه بصورة الاستفهام.

9 - (ومنها): أنه يؤخذ منه تعزير كلِّ أحد بحسبه.

10 - (ومنها): الاكتفاء في التعزير بالقول.

11 - (ومنها): الإنكار في المكروهات، كذا قيل، وفيه: فلم لا يكون من الحرام؟ .

12 - (ومنها): مشروعيّة التكرار ثلاثًا في الإنكار؛ للتأكيد، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن أنس -رضي اللَّه عنه- عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تُفْهَم عنه، وإذا أتى على قوم فَسَلَّم عليهم سلَّم عليهم ثلاثًا.

13 - (ومنها): أن فيه اعتذار مَن وقع منه خطأ في الظاهر، وجواز الوقوع في حقّ من وقع في محذور ظاهر، وإن كان له عذر باطنٌ؛ للتنفير عن فعل ذلك، وأنه لا لوم على من فعل ذلك؛ متأوِّلًا.

14 - (ومنها): أن التخلُّف عن الجماعة من صفة المنافقين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

 

معالم السنن (1/ 200)

وفي الحديث من الفقه جواز صلاة للمفترض خلف المتنفل.

وفيه أن المأموم إذا حزبه أمر يزعجه عن إتمام الصلاة مع الإمام كان له أن يخرج من إمامته ويتم لنفسه. وقد تأوله بعض الناس على خلاف ظاهره وزعم أن صلاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نافلة وليس هذا عندنا كما توهمه وذلك أن العشاء اسم للفريضه دون النافله. ثم لا يجوز على معاذ مع فقهه أن يترك فضيلة الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فعل نفسه، هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة وكيف يجوز عليه أن يترك المكتوبة وقد أقيمت إلى النافلة التي لم تكتب عليه ولم يخاطب بها." اهـ

 

الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 300)

* في هذا الحديث دليل على أن المفترض إذا ائتم من تنفل صحت صلاته ولم ينقص ذلك من فضلها، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه.

* وفيه من الفقه ما يدل على أن تطويل الإمام للصلاة تعريض للمأمومين بالفتنة، ووجه الفتنة أنه يعرض العبادة للضجر منها، فينبغي للإنسان أن يجتنب ذلك.

 

وفي "العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام" لابن العطار (1/ 521):

"وفي هذا الحديث مسائل:

منها: الحثُّ على قراءة هذه السور، ونحوها في الصَّلاة؛ إذا كان إمامًا، وفي حكمه المنفردُ، والمأمومُ الذي لا يسمع قراءة الإمام.

ومنها: تعليلُ الأحكام للناس؛ لكونه أدعى إلى القبول، والعمل بالعلم، وأثبت في القلوب.

ومنها: الرفق بالضعفاء، والشفقة عليهم؛ في الأمور الأخروية، فما ظنك بغيرها من أمور الدُّنيا؟

ومنها: تحسين العبارة في التعلم بالتحضيض الدال على الأمر من غير تعاطي لفظه؛ مراعاة لنفرة النفوس عنه، والله أعلم." اهـ

 

العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام لابن العطار (1/ 583)

كان استدلال جمهور العلماء بحديث معاذ على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، وعكسه؛ لأن المحذور إنما هو وقوع الاختلاف على الأئمة ظاهرًا، ولا اختلاف ظاهرًا هنا، واختلاف النيّات أمر باطن لا يظهر فيه كبير محذور، والاستدلالُ للمسائل العمليات إنما هو بما ظهر من الأفعال أو الأقوال أو التقريرات، لا بالمعتقدات المجوزات، والله أعلم.

 

شرح أبي داود للعيني (3/ 447):

"قوله: (أفتان أنت؟!) أي: منفر عن الدين، وصاد عنه،

ففيه: الإنكار على من ارتكب ما يُنهى عنه، وإن كان مكروها غير محرم،

وفيه: جواز الاكتفاء في التعزير بالكلام،

وفيه الأمر بتخفيف الصلاة، والتعزير على إطالتها، إذا لم يرض الجماعة." اهـ

 

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 690)

وَفِيهِ أَنَّ النِّيَّةَ أَمْرٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِخْبَارِ النَّاوِي، فَجَازَ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ سُنَّةَ الصَّلَاةِ وَيَتَبَارَكَ بِهَا، وَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ تُهْمَةَ النِّفَاقِ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الْفَرْضَ لِحِيَازَةِ الْفَضِيلَتَيْنِ، مَعَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ أَفَضَلُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْحَمْلُ عَلَى هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ الْمُتَّفَقُ عَلَى جَوَازِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ." اهـ

 

البدر التمام شرح بلوغ المرام (3/ 319):

"الحديث فيه دلالة على كراهة تطويل الإمام في الصلاة، واستحباب التوسط والقراءة بنحو ما ذكر.

وقوله: (أفتان) مبالغةٌ في الزجر له لما يلزم منه من ترك الناس السنن وتنفيرهم عن الانضمام في الجماعات، ولذلك صرح في قصة من شكا___منه تطويل صلاة الصبح بقوله:

(إنَّ منكم منفرينَ)." اهـ

 

التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 600):

"وفيه: إرشادٌ إلى أن من ولي أمرًا من أمور المسلمين فإنه يلاحظ من تحت يده لا حال نفسه." اهـ

 

سبل السلام (1/ 368)

وَالْحَدِيثُ أَفَادَ أَنَّهُ يُخَفِّفُ الْإِمَامُ فِي قِرَاءَتِهِ وَصَلَاتِهِ وَقَدْ عَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِقْدَارَ الْقِرَاءَةِ وَيَأْتِي حَدِيثُ «إذَا أَمَّ أَحَدُكُمْ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ» .

 

كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (2/ 308)

والحاصل: أنه يراعي أضعف الجماعة المقتدين به، والله تعالى الموفق.

 

نيل الأوطار (2/ 272)

وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي الْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ كَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْعُلَمَاءِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّخْفِيفِ لِلْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ مُعَاذٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ «فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ» وَفِي لَفْظٍ لَهُ «فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ» . قَالَ أَبُو عُمَرَ: التَّخْفِيفُ لِكُلِّ إمَامٍ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ أَقَلُّ الْكَمَالِ وَأَمَّا الْحَذْفُ وَالنُّقْصَانُ فَلَا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنْ نَقْرِ الْغُرَابِ وَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ فَقَالَ لَهُ «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» وَقَالَ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَى مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ» . وَقَالَ أَنَسٌ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَفَّ النَّاسِ صَلَاةً فِي تَمَامٍ» ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ: إنَّ التَّخْفِيفَ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ خَفِيفًا بِالنِّسْبَةِ إلَى عَادَةِ قَوْمٍ طَوِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى عَادَةِ آخَرِينَ اهـ.

وَلَعَلَّهُ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَقَامِ مَزِيدُ تَحْقِيقٍ فِي بَابِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْإِمَامُ مِنْ التَّخْفِيفِ مِنْ أَبْوَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ فِي بَابِ انْفِرَادِ الْمَأْمُومِ لِعُذْرٍ." اهـ

 

قلت:

المفصل: هو لفظ يطلق على السور بَدْءًا من سورة ق إلى آخر المصحف[7]. وقيل: إن أوله سورة الحجرات،

 

وقال الزركشي _رحمه الله_ في "البرهان في علوم القرآن" (1/ 245):

"وَالْمُفَصَّلُ: مَا يَلِي الْمَثَانِيَ مِنْ قِصَارِ السُّوَرِ سُمِّيَ مُفَصِّلًا لِكَثْرَةِ الفصول التي بين السور ببسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَقِيلَ: لِقِلَّةِ الْمَنْسُوخِ فِيهِ وَآخِرُهُ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}." اهـ

 

والمفصل ثلاثة أقسام: طوال، وأوساط، وقصار.

* طواله: من أول الحجرات إلى سورة البروج.

* أواسطه: من سورة الطارق إلى سورة البينة.

* قصاره: من سورة الزلزلة إلى آخر القرآن

 

وقال محمود محمد خطاب السبكي في "المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود" (5/ 214):

"(فقه الحديث) دلّ الحديث على جواز الاكتفاء في التعزير بالكلام، وعلى مشروعية الإنكار على من يفعل ما فيه تفرق الجماعة، وعلى أنه ينبغى للإمام أن يراعي حال المأمومين في الصلاة، وعلى جواز الصلاة جماعة مرتين. وتقدم بيانه، وعلى صحة اقتداء المفترض بالمتنفل وتقدم أيضا بيان ما فيه من المذاهب في "باب إمامة من صلى بقوم وقد صلى تلك الصلاة".

 

الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق (3/ 64)

ولم يأمر النبى صلى الله عليه وسلم الرجل بالإعادة ولا أنكر عليه فعله.

ومن الضرورة التى تبيح نية المفارقة طروء مرض أو خشية غلبة النعاس أو شئ يفسد صلاته أو خوف فوات مال أو تلفه أو فوت رفقة.

وإن فعل ذلك لغير عذر فسدت صلاته عند الجمهور، لأنه ترك متابعة إمامه لغير عذر

 

مجموع الفتاوى (22/ 575)

وَفِعْلُهُ الَّذِي سَنَّهُ لِأُمَّتِهِ هُوَ مِنْ التَّخْفِيفِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الْأَئِمَّةُ؛ إذْ التَّخْفِيفُ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ. فَالْمَرْجِعُ فِي مِقْدَارِهِ إلَى السُّنَّةِ.

 

مجموع الفتاوى (22/ 596)

وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِقْدَارَ الصَّلَاةِ - وَاجِبِهَا وَمُسْتَحَبِّهَا - لَا يُرْجَعُ فِيهِ إلَى غَيْرِ السُّنَّةِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يَكِلْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَى آرَاءِ الْعِبَادِ. إذْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَمَّا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوضَعَ فِيهِ حُكْمٌ بِالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ فِيمَا لَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

ولَا يَجُوزُ أَنْ يُعْمَدَ إلَى شَيْءٍ مَضَتْ بِهِ سُنَّةٌ فَيُرَدَّ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّ التَّخْفِيفَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إضَافِيٌّ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعُرْفِ؛

إذْ قَدْ يَسْتَطِيلُ هَؤُلَاءِ مَا يَسْتَخِفُّهُ هَؤُلَاءِ وَيَسْتَخِفُّ___هَؤُلَاءِ مَا يَسْتَطِيلُهُ هَؤُلَاءِ فَهُوَ أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ النَّاسِ وَمَقَادِيرِ الْعِبَادَاتِ وَلَا فِي كُلٍّ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ شَرْعِيَّةً. فَعُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْلِمِ: أَنْ يَرْجِعَ فِي مِقْدَارِ التَّخْفِيفِ وَالتَّطْوِيلِ إلَى السُّنَّةِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَمْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّخْفِيفِ لَا يُنَافِي أَمْرَهُ بِالتَّطْوِيلِ أَيْضًا. فِي حَدِيثِ عَمَّارٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ لَمَّا قَالَ {إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقَصِرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ}." اهـ



[1]  اسمه: سليم على صيغة التصغير، فقد أخرج أحمد في "مسنده" - عالم الكتب (5/ 74): (رقم: 20699): عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يُقَالُ لَهُ : سُلَيْمٌ ، أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَأْتِينَا بَعْدَمَا نَنَامُ ، وَنَكُونُ فِي أَعْمَالِنَا بِالنَّهَارِ ، فَيُنَادِي بِالصَّلاَةِ ، فَنَخْرُجُ إِلَيْهِ فَيُطَوِّلُ عَلَيْنَا ،

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ ، لاَ تَكُنْ فَتَّانًا ، إِمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي ، وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ عَلَى قَوْمِكَ)،

ثُمَّ قَالَ : (يَا سُلَيْمُ ، مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟) قَالَ: "إِنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَاللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ ، وَلاَ دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَهَلْ تَصِيرُ دَنْدَنَتِي ، وَدَنْدَنَةُ مُعَاذٍ إِلاَّ أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ ، وَنَعُوذَ بِهِ مِنَ النَّارِ ، ثُمَّ قَالَ سُلَيْمٌ : سَتَرَوْنَ غَدًا إِذَا الْتَقَى الْقَوْمُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، قَالَ : وَالنَّاسُ يَتَجَهَّزُونَ إِلَى أُحُدٍ ، فَخَرَجَ وَكَانَ فِي الشُّهَدَاءِ."

وصححه الأرنؤوط _رحمه الله_ في مسند أحمد ط الرسالة (34/ 307) (رقم: 20699)، والالباني في صحيح أبي داود - الأم (3/ 377) (رقم: 757).

[2]  وفي صحيح مسلم (1/ 339) (رقم: 465) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ مُعَاذٌ، يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ..."

[3]  وفي "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (3/ 37) لابن الجوزي: "والنواضح: مَا يسْتَعْمل من الْإِبِل فِي سقِي الزَّرْع وَالنَّخْل." اهـ

[4]  وفي "فتح الباري" لابن رجب (6/ 230): "والفتنة عَلَى وجوه، ومعناها هاهنا: صرف النَّاس عَن الدين، وحملهم عَلَى الضلال. قَالَ تعالى {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162] أي: مضلين." اهـ

وفي فتح الباري لابن حجر (2/ 195): "وَمَعْنَى الْفِتْنَةِ هَا هُنَا أَنَّ التَّطْوِيلَ يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ وَلِلتَّكَرُّهِ لِلصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ لَا تُبَغِّضُوا إِلَى اللَّهِ عِبَادَهُ يَكُونُ أَحَدُكُمْ إِمَامًا فَيُطَوِّلُ عَلَى الْقَوْمِ الصَّلَاةَ حَتَّى يُبَغِّضَ إِلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ فَتَّانٌ أَيْ مُعَذِّبٌ لِأَنَّهُ عَذَّبَهُمْ بالتطويل وَمِنْه قَوْله تَعَالَى إِن الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ قِيلَ مَعْنَاهُ عَذَّبُوهُمْ." اهـ

وفي لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (2/ 602) لعبد الحق الدهلوي:

"ومن معاني الفتنة اختلاف الآراء، ويستلزم ذلك الإفسادَ وصرفَ الناس عن الدين، قال البيضاوي (1) في قوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ}: مفسدين الناس بالإغواء." اهـ

[5]  وفي "أعلام الحديث" (شرح صحيح البخاري) (1/ 481) للخطابي: "وفيه من العلم: أنه جعل الحاجة عذرا في تخفيف الصلاة كالكبر والضعف المانعين من تطويلها." اهـ

[6]  وفي "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (11/ 25) للإثيوبي _رحمه الله_:

"قد تبيّن مما سبق من عرض الأقوال وأدلّتها أن الأرجح قول من قال بجواز اقتداء المفترض بالمتنفّل، وبالعكس؛ لحديث الباب وغيره مما سبق بيانه، والذين منعوا من ذلك لَمْ يأتوا بحجة مقنعة تقاوم حجج المجيزين،

ولذا قال السنديّ الحنفيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في "شرح النسائيّ": "فدلالة حديث قصّة معاذ -رضي اللَّه عنه- على جواز اقتداء المفترض بالمتنفّل واضحة، والجواب عنه مشكلٌ جدًّا، وأجابوا بما لا يتمّ، وقد بسطت الكلام فيه في "حاشية ابن الهُمَام". انتهى.

وهذا من إنصافه -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وهكذا ينبغي لكلّ متمذهب أن يكون مع الأدلّة، وإن خالف مذهبه، بل ومذاهب الجلّ؛ لأن الحقّ أحقّ أن يُتبع، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} الآية [النساء: 59].

والحاصل أنه يجوز اقتداء المفترض بالمتنفّل والعكس؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل." اهـ

[7]  وقال الزركشي _رحمه الله_ في "البرهان في علوم القرآن" (1/ 245) أثناء ذكر الخلاف في تحديد أول المفصل: "رابعها: ق قِيلَ: وَهِيَ أَوَّلُهُ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_، وَفِيهِ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي غَرِيبِهِ." اهـ

وقال الحافظ ابن حجر _رحمه الله_ في "فتح الباري" (2/ 195): "وَفِي الْمُرَادِ بِالْمُفَصَّلِ أَقْوَالٌ سَتَأْتِي فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، أَصَحُّهَا: أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ ق إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ." اهـ

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين