شرح الحديث 10 من بلوغ المرام

 

10 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ:

"جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمْ رَسُوْلُ اللهِ _صلى الله عليه وسلم_،

فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ; فَأُهْرِيْقَ عَلَيْهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

 

شرح الحديث


صحيح البخاري (8/ 12) (رقم: 6025) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تُزْرِمُوهُ» ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ

 

صحيح مسلم (1/ 236/ 99) (رقم: 284):

عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَذْكُرُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَبَالَ فِيهَا، فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُ» فَلَمَّا فَرَغَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبٍ فَصُبَّ عَلَى بَوْلِهِ

 

صحيح مسلم (1/ 236)

100 - (285) حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - وَهُوَ عَمُّ إِسْحَاقَ -، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ مَهْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ» فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ، وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ."

 

تخريج الحديث:

 

صحيح البخاري (1/ 54) (رقم: 221 و 219 و 6025)، صحيح مسلم (1/ 236/ 98 و 99) (رقم: 284)، سنن النسائي (1/ 47_48 و 1/ 175) (رقم: 53_55 و 329)، سنن ابن ماجه (1/ 176) (رقم: 528)

 

من فوائد الحديث:

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 142_143)

* ما يؤخذ من الحديث:

1 - أنَّ البول نجس، ويجب تطهير المحل الذي أصابه من بدنٍ أو ثوبٍ أو إناءٍ أو أرضٍ أو غير ذلك.

2 - تطهّر الأرض من البول بغمرها بالماء، ولا يشترط نقل التراب من المكان قبل الغسل ولا بعده، ومثل البول بقية النجاسات بشرط عدم وجود شيء من أجزاء النجاسة ذات الجرم.

3 - احترام المساجد وتطهيرها، وإبعاد الأقذار والأنجاس عنها؛ فقد جاء في رواية الجماعة إلاَّ البخاري: قال له: "إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا البول والقذر، وإنَّما هى لذكر الله وقراءة القرآن".

4 - سماحة خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد أرشد الأعرابيَّ برفقٍ ولينٍ بعد ما بال، ممَّا جعله يخصه بالدعاء فيقول: "اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا"؛ كما جاء في صحيح البخاري (6010).

5 - بُعْدُ نظره -صلى الله عليه وسلم-، ومعرفتُهُ طبائعَ النَّاس، وحُسْنُ سيرته معهم، حتى أخذ حبه -صلى الله عليه وسلم- بمجامع قلوبهم؛ قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}.

6 - عند تزاحم المفاسد يرتكب أخفها؛ فقد تركه -صلى الله عليه وسلم- حتَّى أكمل بوله؛ لأجل ما يترتب من الأضرار على قطع بوله من تلويثه بدنه وثيابه وانتشار بوله في مواضع أُخَرَ من المسجد، وما يحدث من ضرر في بدنه، خاصَّة المسالك البولية.____

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 143)

7 - أنَّ البعد عن النَّاس والمدن يسبِّب الجفاء والجهل.

8 - الرفق بتعليم الجاهل وعدم التعنيف عليه.

9 - أنَّ ما يترتب على الأحكام الشرعية من إثمٍ أو عقوبةٍ في الحياة، إنَّما يكون في حق العالِمِ بالحكم، أمَّا الجاهل: فلا ملامة عليه، ولكن يُعَلَّم ليلتزم.

10 - في الحديث حثٌّ على المبادرة إلى إنكار المنكر عند القدرة على ذلك؛ فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينه الصحابة عنه، وإنَّما نهاهم عن العنف على الأعرابي.

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 99_100):

"ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجب تطهير أرض المسجد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يراق عليه.

ومن فوائده: تحريم البول في المسجد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر إنكار الصحابة على الأعرابي وإنما قال: "لا تزرموه".

ومن فوائد هذا الحديث: وجوب المبادرة بإنكار المنكر، لماذا؟ لأن الصحابة بادروا بإنكار المنكر، لكن نقول في هذه المسألة ما لم يكن تأخيره أصلح فإن كان تأخيره أصلح كان أولى، فهذا الأعرابي بقي يبول في المسجد؛ لأنه أصلح.

وبناء على ذلك لو أننا رأينا شخصا عند قبر النبي - عليه الصلاة والسلام- يدعو النبي: يا محمد، يا محمد، يا محمد ارزقني، افعل ... افعل ... هل نصيح به؟ ما نصيح ب ندعه، وإذا انتهى أمسكناه وقلنا: يا أخي، أقول: يا أخي، لأن هذا لم يكفر هذا جاهل، وإلا ما قلت: يا أخي وهو مشرك، هذا لا يصلح ما يستقيم، دعاء غير الله غلط، ما أقول شرك حتى يطمئن أكثر، أرأيت هل الرسول أقدر على أن يجيبك أو الله أقدر؟

هو سيقول: الله، إذا كان يقول: الله، نقول: أجل، ادع الله وحده لا تدع الرسول - عليه الصلاة والسلام- ادع الله فهو خير لك من دعاء الرسول - عليه الصلاة والسلام- لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لنا ضرا ولا رشدا، ولا يعلم الغيب، ولا يقول: إني ملك، فادع الله وحده، حينئذ إذا اطمأن وارتاح نبين له أن هذا شرك، وأنه لو مات على ذلك لكان من أهل النار.

ومن فوائد هذا الحديث: حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم للأمة، وذلك أنه نهى الصحابة أن يزجروه لما يترتب على قيامه من بوله من المضار، فمن المضار أنهم يقطعون عليه بوله، وقطع البول مع استعداده للخروج ضرر يضر المثانة ويضر مجاري البول، وأيضا لو قام فهو بين أمرين: إما أن يبقى مكشوف العورة وحينئذ تنكشف العورة أمام الناس، وإما أن يسترها وحينئذ يتلوث ثوبه أو إزاره أما ما أشبه ذلك، وإن بقي أيضا رافع الثوب والبول ينزل تنجس بذلك مساحة أكثر.

ومن فوائد الحديث: أن الأرض لا تطهر إلا بالماء؛ يعني: فلا تطهر بالشمس والريح، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يراق على بوله ذنوب ما ماء.

وقال بعض أهل العلم: إن الأرض تطهر بالشمس والريح، وأجابوا عن الحديث بأن النبي___

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 100)

صلى الله عليه وسلم أراد المبادرة بالتطهير؛ لأنه لو تركها حتى تطهر بالشمس والريح، قد تبقى يومين أو ثلاثة أو أكثر، وإزالة النجاسة من المسجد واجبة على الفور، وهذا لا يحصل إلا بالماء.

ومن فوائد هذا الحديث: أن تطهير المساجد من النجاسة فرض كفاية، وجهه: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- أمرهم ولم يشارك، ولو كان فرض عين لكان هو أول الفاعلين له لكنه فرض كفاية، وعلى هذا فمن رأى نجاسة في المسجد وجب عليه أن يزيلها، فإن لم يتمكن وجب عليه أن يخبر المسئول عن تطهير المسجد وتنظيفه.

ومن فوائد هذا الحديث: الأخذ بالقاعدة المشهورة المعروفة: أنه إذا لم يمكن إزالة المنكر إلا بما هو أنكر فإننا لا ننكر لماذا؟ لأن ارتكاب أخف المنكرين أولى من ارتكاب أعظم المنكرين، وهذا واضح؛ يعني: إذا كان ينتقل إلى منكر أعظم معناه أنه جاء بالمنكر الأول وزيادة وهذا لا شك أنه زيادة في المعصية والنكارة.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي لمن أنكر المنكر أن يبين السبب، لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام- لما بين للأعرابي أن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى والقذر، بين لماذا بنيت والأعرابي لا يدري، جاء برحة واسعة يحسبها كسائر المحلات والأمكنة.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي، بل يجب على الإنسان أن ينزل كل إنسان منزلته، لو أن الذي حصل منه البول في المسجد كان رجلا من أهل المدينة ممن يعرفون الأحكام الشرعية ما نعامله هذه المعاملة، لكن عاملنا هذا الأعرابي لأن الغالب عليه الجهل، وعلى هذا فيكون من قواعد الشريعة: أن الإنسان ينزل الناس منازلهم.

هل يؤخذ من هذا الحديث نجاسة البول؟ نعم، لأن الرسول - عليه الصلاة السلام- أمر بتطهير الأرض منه، وعلى هذا فالذي يخرج من الإنسان من بول أو غائط يكون نجسا، أما العرق والريق والقيء والدم وما أشبه ذلك فهو محل خلاف بين العلماء، لكن الذي يتبين أنه ليس بنجس؛ لأنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على نجاسته والأصل الطهارة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن لا ينجس". وإذا كان الإنسان إذا قطع منه عضو كبده أو رجله؛ فإن هذا العضو المقطوع ظاهر مع أنه مشتمل على الدم، فالدم الذي يخلفه غيره من باب أولى، لكن جمهور العلماء على نجاسة دم الإنسان إلا أنه يعفى عن يسيره، فمن احتاط لدينه وقال: إن غسله أحوط فلا حرج عليه." اهـ

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 226_230):

في فوائده:

1 - (منها): بيان نجاسة البول، قال النوويّ رحمه الله: وهو مجمع عليه بإجماع من يُعتدّ به، ولا فرق بين الكبير والصغير، إلا أن بول الصغير يكفي فيه النضح، ولم يُخالف في بول الصبيّ إلا داود الظاهريّ (1)، وسيأتي تحقيق المسألة في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -. ___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 227)

2 - (ومنها): بيان وجوب غسل البول.

3 - (ومنها): بيان أن الاحتراز من النجاسة كان مُقَرَّرًا في نفوس الصحابة - رضي الله عنهم -، ولهذا بادروا إلى الإنكار بحضرته - صلى الله عليه وسلم - قبل استئذانه، ولمَا تَقَرَّر عندهم أيضًا من طلب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

4 - (ومنها): أنه استُدِلَّ به على جواز التمسك بالعموم إلى أن يظهر الخصوص، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: والذي يظهر أن التمسك يتحتم عند احتمال التخصيص عند المجتهد، ولا يجب التوقف عن العمل بالعموم لذلك؛ لأن علماء الأمصار ما بَرِحُوا يُفتُون بما بلغهم من غير توقف على البحث عن التخصيص، ولهذه القصة أيضًا؛ إذ لم يُنكر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة - رضي الله عنهم -، ولم يقل لهم: لم نَهيتم الأعرابيّ، بل أمرهم بالكفّ عنه؛ للمصلحة الراجحة، وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، قاله في "الفتح" (1).

وقال النوويّ رحمه الله: وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفّهما؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعُوه"، قال العلماء: كان قوله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعُوه" لمصلحتين: إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله تضرّر، وأصل التنجيس قد حَصلَ، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به، والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد، فلو أقامه في أثناء بوله لتنجّست ثيابه، وبدنه، ومواضع كثيرة من المسجد. انتهى (2).

5 - (ومنها): المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع؛ لأمرهم عند فراغه بصبّ الماء.

6 - (ومنها): تَعَيُّن الماء لإزالة النجاسة؛ لأن الجفاف بالريح أو الشمس لو كان يكفي لَمَا حَصَل التكليف بطلب الدلو.

7 - (ومنها): أن غسالة النجاسة الواقعة على الأرض طاهرةٌ، وَيلْتَحق به غير الواقعة؛ لأن البِلَّةَ الباقية على الأرض غُسَالة نجاسة، فإذا لم يثبت أن____

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 228)

التراب نُقِلَ، وعَلِمنا أن المقصود التطهير تَعَيَّن الحكم بطهارة البِلَّة، وإذا كانت طاهرة، فالمنفصلة أيضًا مثلها؛ لعدم الفارق، قاله في "الفتح" (1).

وقال النوويّ رحمه الله: وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، ولأصحابنا فيها ثلاثة أوجه: أحدها أنها طاهرة، والثاني أنها نجسةٌ، والثالث إن انفصلت، وقد طهر المحلّ فهي طاهرة، وإن انفصلت، ولم يطهر المحلّ، فهي نجسةٌ، وهذا الثالث هو الصحيح، وهذا الخلاف إذا انفصلت غير متغيّرة، أما إذا انفصلت متغيّرةً، فهي نجسةٌ بإجماع المسلمين، سواء تغيّر طعمها، أو لونها، أو ريحها، وسواء كان التغيّر قليلًا أو كثيرًا. انتهى كلام النوويّ (2)، وهو تفصيل حسنٌ، والله تعالى أعلم.

8 - (ومنها): أنه يُستَدَلُّ به أيضًا على عدم اشتراط نُضُوب الماء؛ لأنه لو اشتُرِط لتوقفت طهارة الأرض على الجفاف، وكذا لا يُشترط عصر الثوب؛ إذ لا فارق، قال الموفق رحمه الله في "المغني" - بعد أن حَكَى الخلاف -: الأولى الحكم بالطهارة مطلقًا؛ لأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَشترط في الصبّ على بول الأعرابي شيئًا. انتهى.

9 - (ومنها): الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يَلزمه من غير تعنيف، ولا إيذاء، إذا لم يكن ذلك منه عنادًا، ولا سيما إن كان ممن يُحتاج إلى استئلافه.

10 - (ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من الرأفة، وحسن الخلق، ففي رواية إسحاق بن أبي طلحة الآتية: "ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول. . ." الحديث، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند ابن ماجه، وابن حبّان: "فقال الأعرابيّ بعد أن فَقِهَ في الإسلام: فقام إليَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، بأبي وأمي، فلم يُؤَنِّب، ولم يَسُبّ. . ." الحديث.

11 - (ومنها): أن فيه تعظيمَ المسجد، وصيانته، وتنزيهه عن الأقذار، والقَذَى، والبصاق، ورفع الأصوات والخصومات، والبيع والشراء، وسائر العقود، وما في معنى ذلك، قاله النوويّ___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 229)

سَمِّي إلا ثقةً، وذلك مفقود في المرسَلَين المذكورين، على ما هو ظاهر من سنديهما. انتهى (2).

13 - (ومنها): أن الماء إذا كان واردًا على النجاسة طهّرها، وقال القرطبيّ: فرّقت الشافعيّة بين وُرود الماء على النجاسة، وورود النجاسة على الماء؛ تمسّكًا بهذا الحديث، وقالوا: إذا كان الماء دون القلّتين، فحلّ به نجاسة تنجّس، وإن لم تُغيّره، وإن ورد ذلك القدر، فأقلّ على النجاسة، فأذهب عينها بقي الماء على طهارته، وأزال النجاسة، قال: وهذه مناقضة؛ إذ المخالطة حصلت في الصورتين، وتفريقهم بالورود فرقٌ صوريّ، ليس فيه من الفقه شيء، وليس الباب من باب التعبّدات، بل من باب عقليّة المعاني، فإنه___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 230)

من أبواب إزالة النجاسة وأحكامها، قال: ثم هذا كلّه منهم يردّه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء طهورٌ لا يُنجّسه شيء إلا ما غيّر طعمه، أو لونه، أو ريحه".

قال ابن الملقّن: هذا الاستثناء ضعيف، ويقوّي الفرق الذي ذكروه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قام أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يَغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده"، رواه مسلم، كما قرّرناه هناك. انتهى (1).

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الشافعيّة من الفرق بين ورود الماء على النجاسة، وورودها عليه فرقٌ صحيحٌ، واستنباطه من هذا الحديث واضحٌ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بصبّ دلو من ماء على البول؛ ليُطهّره، وقد صحّ عنه منع المستيقظ من غمس يده في الماء قبل غسلها، حتى لا تفسده، فتبيّن بهذا أن ورود النجاسة على الماء غير وروده عليها، فاختلف حكمهما، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

14 - (ومنها): أن ابن الملقّن: استنبط من رواية أن هذا الأعرابيّ صلّى ركعتين، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا. . .، صحّة صلاة مدافع الأخبثين، قال: لأن الظاهر من حال من يبول عقب الصلاة أنه كان يدافعه، ويحتمل أنه سبقه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: في هذا الاستنباط نظر لا يخفى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب." اهـ

 

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (2/ 40)

في بيان الفوائد:

قال الحافظ في الفتح: وفي هذا الحديث من الفوائد:

* أن الاحتراز من النجاسة كان مقررا في نفوس الصحابة ولهذا بادروا إلى الإنكار بحضرته - صلى الله عليه وسلم - قبل استئذانه، ولما تقرر عندهم أيضا من طلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

* واستدل به على جواز التمسك بالعموم إلى أن يظهر الخصوص، قال ابن دقيق العيد: والذي يظهر أن التمسك يتحتم عند احتمال التخصيص عند المجتهد، ولا يجب التوقف عن العمل بالعموم لذلك، لأن علماء الأمصار ما برحوا يفتون بما بلغهم من غير توقف على البحث عن التخصيص، ولهذه القصة أيضا إذ لم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة، ولم يقل لهم: لم نهيتم الأعرابي؟ بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة، وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.

* وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع، لأمرهم عند فراغه بصب الماء.

* وفيه تعيين الماء لإزالة النجاسة، لأن الجفاف بالريح، أو الشمس، لو كان يكفي لما حصل التكليف بطلب الدلو.

* وفيه أن غسالة النجاسة الواقعة على الأرض طاهرة، ويلتحق به غير الواقعة لأن البلَّة الباقية على الأرض غسالة نجاسة، فإذا لم يثبت أن___

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (2/ 41)

التراب نقل، وعلمنا أن المقصود من التطهير تعين الحكم بطهارةا البلة وإذا كانت طاهرة فالمنفصلة أيضا مثلها لعدم الفارق.

* ويستدل به أيضا على عدم اشتراط نضوب الماء لأنه لو اشترط نضوب الماء لتوقف طهارة الأرض على الجفاف، وكذا لا يشترط عصر الثوب إذ لا فارق.

قال الموفق في المغني بعد أن حكى الخلاف: الأولى الحكم بالطهارة مطلقا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط في الصب على بول الأعرابي شيئا.

* وفيه الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف، إذا لم يكن ذلك منه عنادا، ولا سيما إذا كان ممن يحتاج إلى استئلافه.

* وفيه رأفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحسن خلقه، قال ابن ماجه وابن حبان في حديث أبي هريرة فقال الأعرابي بعد أن فقه في الإسلام: فقام إليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي وأمي فلم يُؤَنِّبْ ولم يَسُبَّ.

* وفيه تعظيم المسجد وتنزيهه عن الأقذار، وظاهر الحصر من سياق مسلم في حديث أنس حيث قال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكلر الله تعالى والصلاة وقراءة القرآن" أنه لا يجوز في المسجد شيء غير ما ذكر من الصلاة، والقرآن والذكر، لكن الإجماع على أن مفهوم الحصر منه غير معمول به، ولا ريب أن فعل غير المذكورات، وما في معناها، خلاف الأولى، والله أعلم.

* وفيه أن الأرض تطهر بصب الماء عليها، ولا يشترط حفرها، خلافا للحنفية، حيث قالوا: لا تطهير إلا بحفرها، كذا أطلق النووي وغيره، والمذكور في كتب الحنفية التفصيل بين ما إذا كانت رخوة بحيث يتخللها الماء حتى يغمرها، فهذه لا تحتاج إلى حفر، وبين ما إذا كانت صلبة، فلابد من حفرها وإلقاء التراب؛ لأن الماء لم يَغْمُر أعلاها___

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (2/ 42)

وأسفلها، واحتجوا فيه بحديث جاء من ثلاث طرق أحدها موصول عن ابن مسعود أخرجه الطحاوي، لكن إسناده ضعيف، قاله أحمد وغيره، والآخران مرسلان أخرج أحدهما أبو داود من طريق عبد الله بن معقل ابن مُقَرِّن، والآخر من طريق سعيد بن منصور عن طريق طاوس ورواتها ثقات، وهو يلزم من يحتج بالمرسل مطلقا، وكذا من يحتج به إذا اعتضد مطلقا، والشافعي إنما يعتضد عنده إذا كان من رواية كبار التابعين، وكان من أرسل إذا سَمَّى لا يسمي إلا ثقة وذلك مفقود في المرسلين المذكورين على ما هو ظاهر من سنديهما والله أعلم. اهـ كلام الحافظ رحمه الله جـ 1/ ص 388 - 389.

وقال في تلخيص الحبير عند قوله: ولم يؤمر بنقل التراب ما نصه: يعني في الحديث المذكور، وهو كذلك، لكن قد ورد أنه أمر بنقله من حديث أنس بإسناد رجاله ثقات.

قال الدارقطني: ثنا ابن صاعد، ثنا عبد الجبار بن العلاء، ثنا ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن أنس أن أعرابيا بال في المسجد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "احفروا مكانه ثم صبوا عليه ذنوبا من ماء" وأعله الدارقطني بأن عبد الجبار تفرد به دون أصحاب ابن عيينة الحفاظ، وأنه دخل عليه حديث في حديث، وأن عند ابن عيينة، عن عمرو بن دينار عن طاوس مرسلا وفيه "احفروا مكانه" وعن يحيى بن سعيد عن أنس موصولا، وليست فيه الزيادة، وهذا تحقيق بالغ إلا أن هذه الطريق المرسلة مع صحة إسنادها إذا ضمت إلى أحاديث الباب أخذت قوة، وقد أخرجها الطحاوي مفردة من طريق ابن عيينة عن عمرو، وعن طاوس، وكذا رواه سعيد بن منصور، عن ابن عيينة، فمن شواهد هذا المرسل، مرسل آخر رواه أبو داود، والدارقطني من حديث عبد الله بن معقل بن مقرن المزني، وهو تابعي، قال: قام أعرابي إلى زاوية من زوايا المسجد فبال___

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (2/ 43)

فيها، فقالى النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء" قال أبو داود: روي مرفوعا يعني موصولا، ولا يصح، قلت: وله إسنادان موصولان:

أحدهما: عن ابن مسعود، رواه الدارمي، والدارقطني، ولفظه: "فأمر بمكانه، فاحتفر وصب عليه دلو من ماء" وفيه سمعان بن مالك، وليس بالقوي، قاله أبو زرعة، وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبي زرعة هو حديث منكر، وكذا قال أحمد، وقال أبو حاتم: لا أصل له

ثانيهما: عن واثلة بن الأسقع، رواه أحمد والطبراني، وفيه عبيد الله بن أبي حميد الهُذَلي وهو منكر الحديث، قاله البخاري، وأبو حاتم. اهـ كلام الحافظ في التلخيص جـ 1/ ص 37.

وقال في المنهل: بعد نقل نحو ما تقدم عن الحافظ ما نصه: وبهذا تعلم أن مذهب الجمهور القائلين بتطهير الأرض بصب الماء عليها مطلقا، هو الأقوى لقوة دليله. اهـ. جـ 1/ ص 258.

* واستدل بالحديث أيضا على نجاسة بول الآدمي، قال النووي رحمه الله: وهو مجمع عليه، بإجماع من يعتد به، ولا فرق بين الكبير والصغير، إلا أن بول الصغير يكفي فيه النضح، ولم يخالف في بول الصبي إلا داود الظاهري. ذكره في المنهل جـ 1/ ص 258." اهـ

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين