شرح الحديث 76 من صحيح الترغيب لأبي فائزة البوجيسي

  

صحيح الترغيب والترهيب (1/ 141)

76 - (10) [صحيح] وعن أبي موسى _رضي الله عنه قال_:

قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

"[إنَّ] مَثَل (2) ما بعثني الله به من الهُدى (3) والعلمِ، كَمَثَلِ غيثٍ أصابَ___أرْضاً،

* فكانت منها طائفةٌ طيِّبَةٌ قَبِلتِ الماء، وأنبتت الكلأ (4) والعُشْبَ الكثيرَ،

* وكان منها أجادِبُ (5) أمسكت الماءَ فنفعَ الله بها الناس، فشربوا منها وسَقَوْا وزَرَعوا (6)،

* وأصاب طائفةً أخرى منها، إنما هي قِيعانٌ (7)، لا تُمسِك ماء، ولا تُنبتُ كلأً.

فذلك مَثَلُ من فَقُهَ (8) في دين الله تعالى، ونَفَعَه ما بعثني الله به فَعَلِمَ وعلّم؛ ومَثَلُ مَن لم يَرْفَعْ بذلك رأساً، ولم يَقْبلْ هُدى الله الذي أُرسلتُ به".

رواه البخاري ومسلم.

__________

(2) هو بفتح المثلثة، والمراد به الصفة العجيبة، لا القول السائر، والزيادة من "مسلم"، والسياق له.

(3) هو الدلالة الموصلة إلى المطلوب. والمراد بالعلم: معرفة الأدلة الشرعية، لا الفروع المذهبية.

و (الغيث): المطر.

(4) بالهمز بلا مد: النَّبَتُ يابساً كان أو رطباً. و (العشب): النبت الرطب، فعطفه عليه من عطف الخاص على العام.

(5) جمع (جَدَب) بفتح الدال المهملة على غير قياس: وهي الأرض الصلبة التي تمسك الماء فلا تشربه سريعاً. وقيل: هي الأرض التي لا نبات بها، مأخوذة من الجدب، وهو القحط.

(6) هذا اللفظ للبخاري، ولفظ مسلم: "ورَعَوا"، وجمع بينهما أحمد بلفظ: "فشربها، فرَعَوْا، وسقوا، وزعوا وأسقوا".

(7) بكسر القاف: جمع (قاع): وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت.

(8) بضم القاف؛ أي: صار فقيهاً.

قال الإمام القرطبي وغيره من شراح الحديث :

"ضرب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه،

فكما أن الغيث يحيي البلد الميت، فكذا علوم الدين تُحيي القلب الميت. ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث،

* فمنهم العامل المعلّم، فهو بمنزلة الأرض الطيبة، شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها،

* ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه، غير أنه لم يعمل بنوافله، أو لم ينفعه فيما جمع له، لكنّه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء، التي لا تقبل الماء، أو تفسده على غيرها. وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما،

* وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها. والله أعلم".

 

ترجمة أبي موسى الأشعري _رضي الله عنه_ :

 

وفي "تاريخ الإسلام" – ت. بشار (2/ 451) للذهبي :

أَبُو موسى الأشعري هُوَ عَبْد اللَّهِ بن قيس بن سليم بن حضّار اليماني، [الوفاة: 41 - 50 ه] :

صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قدِم عَلَيْهِ مسلما سَنَة سبع، مع أصحاب السفينتين من الحبشة، وَكَانَ قِدم مكة، فحالف بِهَا أبو أُحَيْحَةَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ،

ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا في خَمْسِينَ من قَوْمِهِ قَدْ أَسْلَمُوْا، فألقتهم سفينتهم والرياح إِلَى أَرْضِ الحبشة، فأقاموا عند جعفر بن أَبِي طالب، ثُمَّ قدموا معه.

اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ أبا موسى عَلَى زبيد وعدن، ثُمَّ ولي الْكُوفَة والْبَصْرَة لعمر.

وحفظ عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ الكثير، وَعَن أَبِي بكر، وعمر، ومُعاذ، وأبي بن كعب، وَكَانَ من أجِلاء الصحابة وفضلائهم.

وفُتحت أصبهان عَلَى يده وتُسْتر وغير ذلك، وَلَمْ يكن في الصحابة أطيب صوتًا مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"لَقَدْ أُوتِيَ أَبُو مُوسَى مِنْ مَزَامِيرَ آلِ دَاوُدَ."

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: (قضاة هَذِهِ الأمة أربعة: عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وأَبُو موسى)." اهـ

 

وفي "تاريخ الإسلام" – ت. بشار (2/ 454)

قَالَ أَبُو نُعَيم، وابن نُمَيْر، وأَبُو بكر بن أَبِي شيبة، وقَعْنَب: تُوُفِّيَ سَنَة أربع وَأَرْبَعِينَ. وَقَالَ الهيثم: تُوُفِّيَ سَنَة اثنتين وَأَرْبَعِينَ، وحكاه ابن مَنْده.

وَقَالَ الْوَاقدي: تُوُفِّيَ سَنَة اثنتين وخمسين.

وَقَالَ المدائني: تُوُفِّيَ سَنَة ثلاث وخمسين." اهـ

 

وفي "مشاهير علماء الأمصار" (ص: 65) لابن حبان:

"أبو موسى الاشعري عبد الله بن قيس بن وهب يلي الكوفة مدة والبصرة زمانا إلا أنه ممن استوطن البصرة، مات سنة أربع وأربعين، وهو بن بضع وستين سنة." اهـ

 

وفي "الأعلام" للزركلي (4/ 114):

"أَبُو مُوسى الأشْعَري (21 ق هـ - 44 هـ = 602 - 665 م) :

عبد الله بن قيس بن سليم بن حضَّار ابن حرب، أبو موسى، من بني الأشعر، من قحطان: صحابي، من الشجعان الولاة الفاتحين، وأحد الحكمين اللذين رضي بهما علي ومعاوية بعد حرب صفين.

ولد في زبيد (باليمن) وقدم مكة عند ظهور الإسلام، فأسلم، وهاجر إلى إلى أرض الحبشة. ثم استعمله رسول الله _صلّى الله عليه وسلم_ على زبيد وعدن. وولاه عمر بن الخطاب البصرة سنة 17 هـ فافتتح أصبهان والأهواز.

فارتد أبو موسى إلى الكوفة، فتوفي فيها. وكان أحسن الصحابة صوتا في التلاوة، خفيف الجسم، قصيرا. وفي الحديث: "سيد الفوارس أبو موسى."[1]

له 355 حديثا" اهـ باختصار

 

تخريج الحديث :

 

أخرجه البخاري في "صحيحه" (1/ 27) (رقم : 79)، ومسلم في "صحيحه"  (4/ 1787) (رقم : 2282).

 

وأخرجه أحمد في "مسنده" (32/ 343) (رقم: 19573)، وابن أبي عاصم في "السنة" (2/ 437) (رقم: 903)، والبزار في "مسنده" = "البحر الزخار" (8/ 149) (رقم: 3169)، والنسائي في "السنن الكبرى" (5/ 359) (رقم: 5812)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده" (13/ 295) (رقم: 7311)، وأبو الشيخ الأصبهاني في "أمثال الحديث" (ص: 378) (رقم: 326)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (1/ 87) (رقم: 87)، والرامهرمزي في "أمثال الحديث" (ص: 28) (رقم: 12)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (1/ 368)، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (1/ 179).

 

والحديث صحيح: صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1019) (رقم: 5855)، وفي "التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان" (1/ 144) (رقم: 3)

 

من فوائد الحديث :

 

من فوائد الحديث :

 

محمد عبد العزيز بن علي الشاذلي[2] الخَوْلي (المتوفى: 1349هـ) _رحمه الله_ في "الأدب النبوي" (ص: 23)

بعث الله محمدا بالقرآن الذي يرشد الناس إلى طريق الخير، ويهداهم إلى وجوه المصلحة، والذي يعرفهم الحقائق، ويبين لهم الأحكام، ويرفع عن قلوبهم غشاء الجهالة، فهو هدى ورشاد، وهو علم ونور،

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة: 185].

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174]،

غير أن الناس لم يكونوا في الانتفاع به بدرجة واحدة بل اختلفوا وتباينوا لاختلاف نفوسهم وتفاوت استعدادهم." اهـ

 

شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (2/ 616)

"وإنما اختير الغيث على سائر أسماء المطر ليؤذن باضطرار الخلق إليه حينئذ، قال الله _تعالى_: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28]،

وقد كان الناس في الزمان الأول قبل المبعث وهم على فترة من الرسل، وقد امتحنوا بموت القلب ونضوب العلم، حتى أصابهم الله برحمة من عنده،

فأفاض عليهم سجال الوحي السماوي، فأشبهت حالهم حال من توالت عليهم السنون، وأخلفتهم المحامل، حتى تداركهم الله بلطفه، وأرخت عليهم السماء، غير أنه كان حظ كل فريق من تلك الرحمة على ما ذكره من الأمثلة والنظائر،

وإنما ضرب المثل بالغيث للمشابهة التي بينه وبين العلم، فإن الغيث يحيي البلد الميت، والعلم يحيي القلب الميت." اهـ

 

وقال فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376 هـ) _رحمه الله_ في "تطريز رياض الصالحين" (ص: 130_131):

"قال القرطبي: هذا مثل ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء به من الدين، وشبّه السامعين له بالأرض المختلفة.____

فمنهم: العالم العامل المعلم، فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها.

ومنهم: الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه، غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقَّه فيما جمع، لكنه أدَّاه لغيره فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: «نضَّر الله امرءًا سمع مقالتي، فأدَّاها كما سمعها» .

ومنهم: من يسمع العلم فلا يحفظه، ولا يعمل به، ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة، أو الملساء التي لا تقبل الماء، أو تفسده. انتهى مُلخَّصًا.

والحاصل: أنَّ الناس في الدِّين ثلاثة أقسام:

* قوم عَلِموا وعَمِلوا، وهم عامة المؤمنين.

* وقوم علموا وعملوا وعلَّموا، وهم العلماء.

* وقوم لم يعملوا، وهم الكفار والفاسقون." اهـ كلام الحريملي _رحمه الله_

 

وقال حمزة بن محمد بن قاسِمٍ الْمَغْرِبِيُّ (المتوفى 1431 هـ) _رحمه الله_ في "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" (1/ 180):

ويستفاد ما يأتي: أولاً: أن الناس ازاء هذا العلم الشرعي والاستفادة منه على أربعة أقسام:

* عالم عامل معلّم لغيره، وهو أشرف الأقسام، ومن ورثة الأنبياء،

* وعالم يعلّم غيره ولا يعمل بعلمه، فهذا ينفع الناس ولا ينفع نفسه، ويكون علمه حجة عليه،

* ومسلم جاهل، أو عالم لا يعلم غيره، ولا يعمل بعلمه، هذا شرٌ ممن سبق،

* وكافرٌ لم يدخل في هذا الدين أصلاً فهذا هو أخبث الأقسام وشرها وأشقاها. ثانياً: فضل من علم وعمل وعلّم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهه بخير أجزاء الأرض وأشرفها وأزكاها وهي (الأرض النقية)." اهـ

 

وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي، المعروف بـ"ابْنِ حجر العسقلاني" (المتوفى:  852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" – ت. ابن باز (1 / 177):

"قال القرطبي وغيره: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدين مثلا بالغيث العام الذي يأتي في حال حاجتهم إليه، وكذا كان الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت.

ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث:

فمنهم: العالم العامل المعلم. فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها.

ومنهم: الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع لكنه أداه لغيره،

فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: "نضر الله امرءا سمع مقالتي فأداها كما سمعها" .

ومنهم: من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره،

فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها.

وإنما جمع المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما،

وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها. والله أعلم.

ثم ظهر لي أن في كل مثل طائفتين،

فالأول قد أوضحناه، والثاني الأولى منه من دخل في الدين ولم يسمع العلم أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه، ومثالها من الأرض السباخ وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يرفع بذلك رأسا "

أي: أعرض عنه فلم ينتفع له ولا نفع.

والثانية منه: من لم يدخل في الدين أصلا، بل بلغه فكفر به، ومثالها من الأرض السماء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به، وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: "ولم يقبل هدى الله الذي جئت به".

وقال الطيبي: بقي من أقسام الناس قسمان:

أحدهما الذي انتفع بالعلم في نفسه ولم يعلمه غيره، والثاني من لم ينتفع به في نفسه وعلمه غيره." اهـ

 

وقال شمس الدين محمد بن عمر السفِيْرِي الشافعي (المتوفى: 956 هـ) _رحمه الله_ في "المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية" (34 / 2):

"قال ابن الملقن: هذا الحديث من بديع كلامه ووجيزه وبليغه - صلى الله عليه وسلم - في السبر والتقسيم، ورد الكلام بعضه على بعض، فإنه ذكر ثلاثة أمثلة ضربها في الأرض، اثنان منها محمودان

قال النووي: معنى الحديث أن الأرض على ثلاثة أنواع شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - كل نوع بنوع من أنواع الأرض:

فالنوع الأول من الأرض : ينتفع بالمطر فيحيا بعد أن كان ميتا، ينبت الكلأ فينتفع به الناس، والدوآب بالشرب والرعي والزرع وغيرها،

ومثل هذا النوع الأول من الناس وهو الذي يبلغه الهدي والعلم، فيحفظ ويحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره، فينتفع وينفع الناس.

والنوع الثاني من الأرض: ما لا تقبل الانتفاع في نفسها، لكن فيها فائدة هي إمساك الماء لغيرها، فينتفع به الناس والدوآب، وهي لا تنتفع،

ومثل هذا النوع الثاني من الناس، لهم قلوب حافظة، لكن ليست لهم أذهان ثاقبة ولا رسوخ لهم في العلم،

يستنبطون به المعاني والأحكام، فهم يحفظون حتى يجيء أهل النفع والانتفاع فيأخذه منهم، فهؤلاء نفعوا الناس بعلمهم وما انتفعوا.

النوع الثالث من الأرض: هو السِّبَاخُ التي لا تنبت، فهي لا تنتفع بالماء، ولا تمسكه لينتفع به غيرها،

ومثل هذا النوع النوع الثالث من الناس، وهم الذين ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون ولا يحفظون لينفعوا غيرهم.

* فالحاصل: أن النوع الأول للمنتفع النافع، والنوع الثاني للنافع غير المنتفع، والثالث لغير النافع والمنتفع،

وأعلى هذه الأنواع النوع الأول وهو المنتفع النافع.

قال الله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً) [فصلت: 33].

وقال: (اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ) [النحل: 125].

وقال النبي _صلى الله عليه وسلم_:

«أفضل الناس المؤمن العالم الذي إذا احتيج إليه نفع، وإن استغني عنه أغنى نفسه».[3]

وقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ لما بعث معاذ إلى اليمن:

«لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا ومن فيها»[خ م]." اهـ كلام السفيري.

 

وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) _رحمه الله_ في "الفتاوى الكبرى" (5 / 48):

"ثم القلب للعمل كالإناء للماء، والوعاء للغسل، والوادي للسيل كما قال _تعالى_:

{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا...} [الرعد: 17] الآيةَ

وقال النبي _صلى الله عليه و سلم_:

"إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثلِ غَيْثٍ، أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت فيها أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا وأصاب منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما أرسلت به ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به."

وفي حديث كميل بن زياد عن علي _رضي الله عنه_ قال:

"القلوب أوعية، فخيرها أوعاها."[4]

وبلغنا عن بعض السلف قال: القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إلى الله تعالى أرقها وأصفاها وهذا مثل حسن،

فإن القلب إذا كان رقيقا لينا كان قبوله للعلم سهلا يسيرا ورسخ فيه وأثر وإن يكن قاسيا غليظا يكن قبوله للعلم صعبا عسيرا

ولا بد من ذلك أن يكون زكيا صافيا سليما حتى يزكو فيه العلم ويثمر ثمرا طيبا، وإلا فلو قبل العلم وكان فيه كدر وخبث أفسد ذلك العلم وكان كالدغل في المزدرع إن لم يمنع الحب من أن نبت منعه من أن يزكو ويطيب، وهذا بين لأولي الأبصار." اهـ

 

وقال محمد بن علي بن آدم بن موسى الإثيوبي الوَلَّوِي (المتوفى 1442 هـ) _رحمه الله_ في "البحر المحيط الثجاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (37/ 265_266):

"في فوائده:

1 - (منها): بيان ضرب الأمثال لتوضيح العلم، وتسهيل وصوله إلى أفهام الناس.

2 - (ومنها): فضل العلم والتعليم، وشدّة الحثّ عليهما.

3 - (ومنها): ذم الإعراض عن العلم، وعدم الاشتغال بتحصيله.

4 - (ومنها): بيان انقسام الناس فيما أتى به النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الهدى والعلم :

فمنهم : المؤمن به، والمنتفع لنفسه، والنافع لغيره، ومنهم : المنتفع لنفسه، ولم

يصل إلى درجة أن ينتفع به الناس، ومنهم المُعْرِض المُدْبِر، الذي أنزل الله تعالى فيه،

وفي أمثاله قوله : {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)} [لقمان: 7]،

وقوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)} [الإسراء: 46]،

{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)} [فصلت: 44].____

5 - (ومنها): ما قاله الطيبيّ _رَحِمَهُ اللهُ_:

"في الحديث إشعار بأن الاستعدادات ليست مكتسبةً، بل هي مواهب ربّانيّة، يختصّ بها من يشاء، وكمالها أن يُفيض الله - عَزَّوَجَلَّ - عليها من المشكاة النبويّة، فإذا وُجِد من يشتغل بغير الكتاب والسُّنَّة، وما والاهما عُلم أن الله تعالى لَمْ يُرد به خيرًا، فلا يُعبأ باستعداده الظاهر، وأن الفقيه هو الذي عَلِمَ، وعَمِلَ، ثم عَلَّم، وأن فاقد أحدهما فاقد لهذا الاسم، وأن العالم العامل ينبغي أن يفيد الناس بعمله، كما يفيدهم بعلمه، ولو أفاد بالعمل فحسب لَمْ يَحظ منه بطائل، كأرض معشبة لا ماء فيها، فلا يمرأ مرعاها، ولو اقتصر على القول لأشبه السقي مجرّدًا عن الرعي، فيشبه أخذه المستسقي، ولو منعهما معأ كان كأرض ذات ماء وعشب حماها بعض الظلمة عن مستحقّيها، كما قال [من الطويل]:

وَمَنْ مَنَحَ الْجُهَّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ ... وَمَنْ مَنَعَ الْمُسْتَوْجِبِينَ فَقَدْ ظَلَمْ." اهـ

 

وقال الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ) _رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (2/ 295):

"وفي هذا الحديث دليل على أن من فقه في دين الله، وعلم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعلم فإنه خير الأقسام، لأنه علم وفقه لينتفع وينفع الناس، ويليه من علم ولكن لم يفقه، يعني روى الحديث وحمله لكن لم يفقه منه شيئاً، وإنما هو رواية فقط، يأتي في المرتبة الثانية في الفضل بالنسبة لأهل العلم والإيمان.

والقسم الثالث: لا خير له، رجل أصابه من العلم والهدى الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه لم يرفع به رأساً ولم ينتفع به، ولم يعلمه الناس، فكان ـ والعياذ بالله ـ كمثل الأرض السبخة التي ابتلعت الماء ولم تنبت شيئاً للناس، ولم يبق الماء على سطحها حتى ينتفع الناس به.

وفي هذا الحديث دليل على حسن تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام، ذلك بضرب الأمثال لأن ضرب الأمثال الحسية يقرب المعاني العقلية أي: ما يدرك بالعقل يقربه ما يرك بالحس، وهذا مشاهد؛ فإن كثيراً من الناس لا يفهم، فإذا ضربت له مثلاً محسوساً فهم وانتفع،

ولهذا قال الله _تعالى_: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت: 43)

وقال _تعالى_: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) (الروم: 58)،

فضرب الأمثال من أحسن طرق التعليم ووسائل العلم. والله الموفق." اهـ

 

وقال علي بن سلطان، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري (المتوفى : 1014 هـ) _رحمه الله_ في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (1/ 234):

"وَالْهُدَى وَسِيلَةٌ إِلَى الْعِلْمِ فَلِذَا قَدَّمَهُ، وَفِي الْعَوَارِفِ: الْعِلْمُ جُمْلَةً مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلْقُلُوبِ وَالْمَعْرِفَةُ تَمْيِيزُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، وَالْهُدَى وِجْدَانُ الْقُلُوبِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْعِلْمُ صِفَةٌ تُوجِبُ تَمْيِيزًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، وَعَطْفُهُ عَلَى الْهُدَى إِمَّا لِرُجُوعِهِ لِلنَّفْسِ وَرُجُوعِهَا لِلْغَيْرِ أَوْ لِأَنَّهَا لِلدَّلَالَةِ وَالْعِلْمِ الْمَدْلُولِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهَا الطَّرِيقَةُ وَالْعَمَلُ، وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ: مَنِ ازْدَادَ عِلْمًا وَلَمْ يَزْدَدْ هُدًى - أَيْ قُرْبًا مِنَ اللَّهِ - لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا." اهـ

 

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 235)

لَا يَخْفَى مَا فِي التَّشْبِيهِ مِنَ اللَّطَافَةِ حَيْثُ جَعَلَ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الْوَحْيِ مُشَبَّهًا بِالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَاسِمٌ وَوَاسِطَةٌ فِي إِيصَالِ الْفَيْضِ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ مُشَبَّهٌ بِالسَّحَابِ الْعَامِّ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ وَقُلُوبِ الْعِبَادِ مُشَبَّهَةٌ بِالْأَرَاضِي الْمُخْتَلِفَةِ، فَالْأَوَّلُ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ وَغَيْرُهُ مِنْ قَبِيلِ___الْمَحْسُوسِ بِمِثْلِهِ،

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتَهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58]

ثُمَّ الْخَبِيثُ كَأَنَّهُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ _تَعَالَى_: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} [الأنعام: 99] الْآيَهَ

وَقَدْ قِيلَ عَلَى مَا فِي الْبَغَوِيِّ قَوْلُهُ: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنعام: 99]،

هَذَا مَثَلٌ لِلْقُرْآنِ، وَالْأَوْدِيَةُ مَثَلٌ لِلْقُلُوبِ يُرِيدُ: يَنْزِلُ الْقُرْآنُ فَتَحْتَمِلُ مِنْهُ الْقُلُوبُ عَلَى قَدْرِ الْيَقِينِ وَالْعَقْلِ وَالشَّكِّ وَالْجَهْلِ،

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} [الرعد: 17] رُؤْيَتُكَ لِأَعْمَالِكَ. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد: 17] عِنْدَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} [الرعد: 17] فَهُوَ الْيَقِينُ." اهـ

 

الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/ 179)

ذِكْرُ ضَرْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَثَلَ فِي مَرَاتِبِ مَنْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ



[1] حديث ضعيف: أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" – ط. دار صادر (4/ 107)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/ 58). ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير وزيادته" (ص: 487) (رقم: 3322)، وَبَيَّنَ ضعفه في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة" (5/ 288) (رقم: 2262)، وقال: "وهذا إسناد ضعيف معضل، نعيم هذا من أتباع التابعين." اهـ

[2] وفي مختصر فتح رب الأرباب بما أهمل في لب اللباب من واجب الأنساب (ص: 30): "الشاذلي: لشاذلة قرية بإفريقية، قريبة من تونس، ويقال لها أيضاً: شادلة."

[3] وفي تخريج أحاديث الإحياء = المغني عن حمل الأسفار (ص: 12) (رقم : 6) للعراقي : "حَدِيث : «أفضل النَّاس الْمُؤمن الْعَالم الَّذِي إِن احْتِيجَ إِلَيْهِ نفع وَإِن استغني عَنهُ أَغْنَى نَفسه» أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان مَوْقُوفا عَلَى أبي الدَّرْدَاء بِإِسْنَاد ضَعِيف وَلم أره مَرْفُوعا." اهـ

قلت : أخرجه : البيهقي في شعب الإيمان (3/ 235) (رقم : 1591).

[4] أخرجه أبو بكر الأبهري في "الفوائد" (ص: 32) (رقم: 16)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (1/ 79)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه للخطيب" (1/ 182)، وفي "تاريخ بغداد" – ت. بشار (7/ 408)، والشجري كما في "ترتيب الأمالي الخميسية" (1/ 88)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 984) (رقم: 1878)، والسلفي في "الطيوريات" (2/ 607) (رقم: 535)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (50/ 252_254).

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين