شرح الحديث 57 من رياض الصالحين

 

[57] الرابع : عن أبي ثابت (وقيل: أبي سعيد، وقيل: أبي الوليد) سهل بن حُنَيْفٍ، وَهُوَ بدريٌّ _رضي الله عنه_:

أنَّ النَّبيّ _صلى الله عليه وسلم_ قَالَ:

«مَنْ سَأَلَ الله _تَعَالَى_ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ الله مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ[1]». رواه مسلم.

 

ترجمة سهل بن حنيف أبي ثابت الأوسي البدري _رضي الله عنه_ :

 

وفي تهذيب الكمال في أسماء الرجال (12/ 184) للمزي :

"سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم بن ثعلبة بن مجدعة بن الحارث بن عَمْرو بن خنساء _ويُقال : خناس_ بن عوف بن عَمْرو بن عوف بْن مَالِك بْن الأوس الأَنْصارِيّ الأوسي، أَبُو ثابت، ويُقال: أَبُو سَعِيد: ويُقال أَبُو سعد، ويُقال: أَبُو عَبْد اللَّهِ، ويُقال: أَبُو الْوَلِيد، المدني، أخو عُثْمَان بْن حنيف، ووالد أبي أمامة بْن سهل بْن حنيف. شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى اله عَلَيْهِ وسَلَّمَ." اهـ

 

وفي "تهذيب التهذيب" (4/ 251): "وقال ابن سعد : "أخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين علي." اهـ

 

وفي "سير أعلام النبلاء" – ط. الرسالة (2/ 328):

"كَبَّرَ عَلِيٌّ _رَضِيَ اللهُ عَنْهُ_ فِي سُلْطَانِهِ كُلِّهِ أَرْبَعاً أَرْبَعاً عَلَى الجَنَازَةِ، إِلاَّ عَلَى سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ، فَإِنَّهُ كَبَّرَ عَلَيْهِ خَمْساً، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِنَّهُ بَدْرِيٌّ." اهـ

 

نص الحديث وشرحه:

 

أنَّ النَّبيّ _صلى الله عليه وسلم_ قَالَ:

«مَنْ سَأَلَ الله _تَعَالَى_ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ[2]، بَلَّغَهُ الله مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ[3]». رواه مسلم.[4]

 

وفي "صحيح البخاري" (3/ 23_24) (رقم: 1890):

"عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:

«اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»." اهـ

 

تخريج الحديث :

 

أخرجه مسلم في "صحيحه" (3/ 1517) (رقم : 1909)، وأبو داود في "سننه" (2/ 629) (رقم : 1520)، والترمذي في "سننه" (4/ 183) (رقم : 1653)، والنسائي في "سننه" (6/ 36) (رقم : 3162)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 935) (رقم : 2797).

 

والحديث صحيح: صححه الألباني في "تخريج مشكاة المصابيح" (2/ 1121) (رقم: 3808)، و"صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 1076) (رقم: 6276)، صحيح الترغيب والترهيب (2/ 93) (رقم: 1276).

 

من فوائد الحديث :

 

وقال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ) _رحمه الله_ في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (13/ 55):

"وَفِيهِ: استحبابُ سؤالِ الشهادةِ[5] واستحبابُ نيةِ الخَيْرِ." اهـ

 

محمد بن عبد الهادي التَّتَوِيُّ، أبو الحسن، الشهير بـ"نورِ الدينِ السنديِّ" (المتوفى: 1138 هـ) في "حاشية السندي على سنن النسائي" (6/ 37) :

"وسؤال الشَّهَادَة مرجعه سُؤال الْمَوْت الَّذِي لَا محَالة وَاقع على أحسن حَال وَهُوَ فنَاء النَّفس فِي سَبِيل الله وَتَحْصِيل رِضَاهُ وَهُوَ مَحْبُوب من هَذِه الْجِهَة فَيجوز أَن يسْأَل وَلَا يضر مَا يلْزمه من مَعْصِيّة الْكَافِر وفرحة الْأَعْدَاء وحزن الْأَوْلِيَاء فَلْيتَأَمَّل." اهـ

 

وقال محمد بن إسماعيل الحسني، الكحلاني، المعروف بـ"الأمير الصنعاني" (المتوفى: 1182هـ) _رحمه الله_ في "التحبير لإيضاح معاني التيسير" (3/ 27) للأمير الصنعاني :

* "فيه : دليل أن من سأل الله شيئاً بصدق أعطاه ثواب ما سأله،

* وفيه : استحباب سؤال الشهادة، بل استحباب ما فيه الخير مطلقاً." اهـ

 

وقال محمد بن إسماعيل الحسني، الكحلاني، المعروف بـ"الأمير الصنعاني" (المتوفى: 1182هـ) _رحمه الله_ في "التنوير شرح الجامع الصغير" (10/ 248):

"الأعمال بالنيات فضلًا منه _تعالى_، وإن تفاوتت الرتبتان، فإن المشبه دون المشبه به." اهـ

 

محمد بن علي اليمني، المعروف بـ"الشوكاني" (المتوفى: 1250هـ) _رحمه الله_ في "تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين" (ص: 336):

"والْحَدِيث يدل على مَشْرُوعِيَّة سُؤال العَبْد ربه أَن يكْتب لَهُ الشَّهَادَة فَإِن كتبهَا لَهُ فِيهَا ونعمت، وَإِن لم يَكْتُبهَا لَهُ نَالَ منَازِل الشُّهَدَاء، وبلغه الله إِلَيْهَا، وَأَعْطَاهُ مثل مَا أَعْطَاهُم." اهـ

 

وقال محمد بن علي بن آدم بن موسى الإثيوبي الوَلَّوِي (المتوفى 1442 هـ) _رحمه الله_ في "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" (26/ 257):

"في فوائده:

(منها) : ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو الحثّ على طلب الشهادة في سبيل اللَّه تعالى.

(ومنها) : استحباب نيّة الخير.

(ومنها) : بيان فضل صدق النيّة، حيث استوجب من سأل اللَّه تعالى الشهادة بسبب صدق نيّته درجةَ الشهادة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل." اهـ

 

وقال أبو العبَّاس أحمَدُ بنُ عُمَرَ بنِ إبراهيمَ، الأنصاريُّ القرطبيُّ (المتوفى: 656 هـ) _رحمه الله_ في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (12/ 56):

"هذا يدلُّ على صحة ما أصَّلناه في الباب الذي قبل هذا،

وهو: أنَّه مَن نوى شيئًا من أعمال البرِّ، ولم يتفق له عملُه لعذرٍ كان بمنزلة مَن باشر ذلك العملَ، وعَمِلَه." اهـ

 

وقال عبد الرؤوف بن تاج العارفين الحدادي القاهري، الشهير بـ"الْمُنَاوِيّ" (المتوفى: 1031هـ) _رحمه الله في "فيض القدير" (6/ 144):

"قيَّد السؤال بالصدق، لأنه معيار الأعمال، ومفتاحُ بركاتِهَا، وبه تُرْجَى ثَمَرَاتُهَا." اهـ

 

في وقال عبد الرؤوف بن تاج العارفين الحدادي القاهري، الشهير بـ"الْمُنَاوِيّ" (المتوفى: 1031هـ) _رحمه الله في "فيض القدير" (6/ 144):

"ولا ريب: أن الحاصل للمقتول من ثواب الشهادة تزيد كيفيته وصفاته على الحاصل للناوي الميت على فراشه، وإن بلغ منزلة الشهيد، فهما وإن استويا في الأجر لكن الأعمال التي قام بها العامل تقتضي أثرا زائدا وقربا خاصا وهو فضل الله يؤتيه من يشاء." اهـ

 

محمد بن عبد الهادي التَّتَوِيُّ، أبو الحسن، الشهير بـ"نورِ الدينِ السنديِّ" (المتوفى: 1138 هـ) في "الحاشية على سنن ابن ماجه" (2/ 184):

"يُرِيدُ أَنَّ الدُّعَاءَ بِالشَّهَادَةِ إِذَا كَانَ يُصَدِّقُ بِقَلْبِهِ، فَهُوَ مُسْتَجَابٌ لِفَائِدَةِ الشَّهَادَةِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -." اهـ

 

وقال أبو الحسن علي بن عبد الكافي، المعروف بـ"تقي الدين السبكي" (المتوفى: 756هـ) _رحمه الله_ في "فتاوى السبكي" (2/ 352):

"وَاَلَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ يُعْطِيهِ مَرْتَبَةَ الشُّهَدَاءِ لِقَصْدِهِ وَسُؤَالِهِ وَعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْوُصُولِ إلَيْهَا،

وَلِلْمَرْءِ فِيمَا يَنْوِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٌ:

* أَحَدُهَا: أَنْ يُمْكِنَهُ الْفِعْلُ، فَيُؤْجَرُ عَلَى نِيَّتِهِ أَجْرًا دُونَ أَجْرِ الْفِعْلِ.

* الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ لَهُ عَادَةٌ بِهِ، فَكُتِبَ لَهُ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا»

وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ هُوَ الَّذِي مَنَعَهُ.

* الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا تَصِلَ قُدْرَتُهُ إلَيْهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ،

فَإِنَّ طَالِبَ الشَّهَادَةِ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهَا، فَقَدْ فَعَلَ مَا فِي وُسْعِهِ،

فَإِذَا قُطِعَ عَنْهُ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ سِعَةِ فَضْلِهِ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَا يُسَمَّى شَهِيدًا فِي الْعُرْفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُسَمَّى حَتَّى لَوْ حَلَفَ حَالِفٌ لَيُصَلِّيَنَّ عَلَى شَهِيدٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، بَرَّ." اهـ

 

وقال فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376 هـ) _رحمه الله_ في "تطريز رياض الصالحين" (ص: 55):

"في هذا الحديث: أنَّ من نوى شيئًا من أعمال البرّ صادقًا من قلبه، أُثيب عليه، وإن لم يتفق له ذلك." اهـ

 

وقال الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (المتوفى: 656 هـ) _رحمه الله_ في "الترغيب والترهيب للمنذري" – ت. عمارة (2/ 275):

"الترغيب في سؤال الشهادة في سبيل الله _تعالى_." اهـ

 

وقال يَعقُوب بن إسحَاق الإسفرَايينيّ، الشهير بـ"أبي عَوانة" (المتوفى 316 هـ) _رحمه الله_ في "المسنَد الصَّحيح المُخَرّج عَلى صَحِيح مُسلم" – ط. الجامعة الإسلامية (15/ 419):

"بيان وجوب الشهادة لمن سألها بصدق نيّةٍ وتطلبها، وإبلاغه الله منازلَ الشهداءِ وإن لم يستشهد، ومات على فراشه." اهـ

 

وقال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ) _رحمه الله_ في "إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين" (4/ 205):

"واعلم أنه ينبغي لكل مسلم أن ينوِيَ الجهادَ في سبيل الله، ويُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِهِ حتى يَسْلَمَ مِنَ الْوَعِيْدِ الوارِدِ في تَرْكِ ذلك،

وذلك لقوله _عليه الصلاة والسلام_: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ»

وينبغي الاكثار من سؤال الشهادة." اهـ

 

وقال الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ) _رحمه الله_ في "لقاء الباب المفتوح" - الشاملة (5/ 51):

"النية قد يدرك بها ما لا يدرك بالعمل، مثل: أن يكون رجلاً عاجزاً عن فعل الطاعة، فيتمنى أن يدرك هذه الطاعة فينويها، فهذه قد تكون خير من العمل." اهـ

 

وقال الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ) _رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (1/ 309_312):

"والشهادة مرتبة عالية بعد الصديقية، كما قال الله سبحانه:

(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (النساء: 69)،

وهي أنواع كثيرة:

* منها: الشهادة بأحكام الله _عز وجل_ على عباد الله،

وهذه شهادة العلماء التي قال الله فيها: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ) (آل عمران: 18).

وقد ذهب كثير من العلماء في تفسير قوله: (وَالشُّهَدَاءِ) إلى أنهم العلماء، ولا شك أن العلماء شهداء، فيشهدون بأن الله _تعالى_ أرسل رسوله محمد _صلى الله عليه وسلم_ بالهدى ودين الحق،

ويشهدون على الأمة بأنها بلَّغَتْ شريعةَ اللهِ، ويشهدون في أحكام الله: "هذا حلال، وهذا حرام، وهذا واجب، وهذا مستحب، وهذا مكروه."

ولا يعرف هذا إلا أهل العلم؛ لذلك كانوا شهداء.

* ومن الشهداء أيضا: من يصاب بالطعن والبطن والحرق والغرق: المطعون والمبطون والحريق والغريق وما أشبههم.

* ومن الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله.

* ومن الشهداء: الذين يقتلون دون أموالهم ودون أنفسهم، كما قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حينما سأله رجل، وقال:

"أرأيْتَ _يا رسول الله_ إِنْ جَاءَنِيْ رجُلٌ يَطْلُبُ مَالِيْ ـ أَيْ: عنوة ـ؟"

قال:

((لا تعطيه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال قاتله، قال أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار ـ لأنه معتد ظالم ـ قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد قال: أرأيت إن قتلته؟___

قال: ((هو في النار))

وقال النبي عليه الصلاة والسلام:

((من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد)).

ومن الشهداء أيضا: من قتل ظلما، كأن يعتدي عليه إنسان فيقتله غيلة ـ ظلما ـ فهذا شهيد.

ولكن أعلى الشهداء هم الذين يقتلون في سبيل الله؛ كما قال تعالى:

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران 169 ـ171)،

هؤلاء الشهداء في الآية، وَهُمْ: الذين قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا، فما قاتلوا لحظوظ أنفسهم، وما قاتلوا لأموالهم، وإنما قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا، كما قال لك النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال:

((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).

هذا الميزان ميزان عدل، لا يخيس ميزان وضعه النبي صلي الله عليه وسلم يزن الإنسان به عمله.___

فمن قاتل لهذه الكلمة فهو في سبيل الله، إن قتلت فأنت شهيد، وإن غنمت فأنت سعيد، كما قال الله سبحانه:

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) إما الشهادة وإما الظفر والنصر. (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) التوبة: 52) ،

أي: إما أن الله يعذبكم، ويقينا شركم، كما فعل الله تعالى بالأحزاب الذين تجمعوا على المدينة يريدون قتل الرسول عليه الصلاة والسلام، فأرسل الله عليهم ريحا وجنودا وألقى في قلوبهم الرعب،

(أَوْ بِأَيْدِينَا) كما حصل في بدر، فإن الله عذب المشركين بأيدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هذا الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا هو الشهيد.

فإذا سال الإنسان ربه وقال: اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك ـ ولا تكون الشهادة إلا بالقتال؛ لتكون كلمة الله هي العليا ـ فإن الله تعالى إذا علم منه صدق القول والنية أنزله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه." اهـ

 

وقال أبوْ الْفَرَجِ عبد الرحمن بن علي الدمشقي، المعروف بـ"ابن الجوزيِّ" (المتوفى: 597 هـ) _رحمه الله_ في "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (2/ 117):

"اعْلَم أَن النِّيَّة قطب الْعَمَل عَلَيْهَا يَدُور، وَقد يُفِيد مُجَرّد النِّيَّة من غير عمل، وَلَا يُفِيد عمل من غير نِيَّة.

وَمن صدقت نِيَّته فِي طلب الشَّهَادَة فَكَأَنَّهُ استسلم للْقَتْل، فَلَا يضرّهُ بُعْدُ بَدَنِهِ عَنِ الْجِهَادِ لِعُذْرٌ مَعَ صدق نِيَّته، كَمَا قَالَ الله عز وَجل:

{وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فقد وَقع أجره على الله} [النِّسَاء: 100]،

وَكَذَلِكَ من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا، وَكَذَلِكَ لَو نوى قيام اللَّيْل فغلبه النعاس كتب لَهُ ثَوَاب نِيَّته.

وَمن هَذَا الْجِنْس: {يَا إِبْرَاهِيم. قد صدقت الرءيا} [الصافات: 104، 105]، لِأَن الْخَلِيل اجْتهد فِي أَن يذبح بإمرار الْمُدْيَةِ، والذبيح استسلم، وَلم يبْق للْفِعْل مَانِعٌ سوى جَرَيَان الْقدر، فَكَانَا كَأَنَّمَا فَعَلاَ." اهـ

 

إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/ 335):

"بَيَّنَ فى أَنَّ مَنْ مَنَعَهُ مَانِعٌ من أداء فرضٍ أو مسارعة إلى ركن من أركان الشرع أو سننه المشهورة، أن يكون على نيته فيه متى أمكنه فعل ذلك، وأن العزم على الشىء بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ، إذا لم يتعين وقت فعله." اهـ

 

شرح النووي على مسلم (13/ 55)

وَفِيهِ استحباب سؤال الشهادة واستحباب نية الخير

 

شرح صحيح البخارى لابن بطال (5/ 13):

"دل ذلك أنه قد يعطى الله لمن لم يجاهد قريبًا من درجة المجاهد؛ لأن الفردوس إذا كان أعلى الجنة ولا درجة فوقه، وقد أمر (صلى الله عليه وسلم) جميع أمته بطلب الفردوس من الله؛

دل أن من بوأه الفردوس وإن لم يجاهد فقد تقارب درجته من درجات المجاهد فى العلو وإن اختلفت الدرجات فى الكثرة، والله يؤتى فضله من يشاء." اهـ

 

وقال محمد بن محمد بن محمد، شمس الدين الْمَنْبِجِيُّ[6] (المتوفى: 785هـ) _رحمه الله_ في "تسلية أهل المصائب" (ص: 225):

"فأعلى درجات بني آدم الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون، وهذا ترتيب لا شك فيه، لأن الله تعالى رتبهم في الذكر، قدم الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل في المراتب والمنازل." اهـ

 

المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 344)

مَنْ طلبَ مِن الله أنْ يجعله شهيدًا عن نية خالصة آتاه الله أجرَ الشهداء بصدق نيته، وإن ماتَ على فراشه.

 

دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 213)

ففي الحديث أن صدق القلب سبب لبلوغ الأرب، وأن من نوى شيئاً من عمل البرّ أثيب عليه وإن لم يتفق له عمله، كما تقدم في حديث: «إن بالمدينة لرجالاً، ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر» .

 

التحبير لإيضاح معاني التيسير (3/ 27)

فيه دليل أن من سأل الله شيئاً بصدق أعطاه ثواب ما سأله، وفيه استحباب سؤال الشهادة، بل استحباب ما فيه الخير مطلقاً.

 

التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 248)

الأعمال بالنيات فضلًا منه تعالى وإن تفاوتت الرتبتان فإن المشبه دون المشبه به

 

التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 303)

وهذا يدل على أن من نوى شيئًا من أفعال الخير ولم يتم له لعذر يكون بمنزلة من عمله.

 

وقال يوسف بن موسى، أبو المحاسن جمال الدين المَلَطي الحنفي (المتوفى: 803هـ) _رحمه الله_ في المعتصر من المختصر من مشكل الآثار (1/ 205):

"فيه أن الشهادة تكون لمن يتمناها من قلبه وإن لم يصبه القتل فكذا ما ذكر من الشهداء بغير قتل إنما هو فيمن كان له نية الشهادة أو بذل الروح في الطاعة لا فيمن سواهم." اهـ[7]

 

 

وقال محمود خطاب السبكي في المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (8/ 183):

"من طلب من الله بإخلاص أن يموت شهيدًا لا لمجرد الرغبة في فضل الشهداء من غير أن يرضى بالجهاد إن وقع بلغه الله منازل الشهداء أي أوصله الله إلى درجات المجاهدين في سبيل الله وإن مات على فراشه ولم يقتل في سبيل الله

(وفي الحديث) دلالة على أن المرء يثاب على نيته العمل كما يثاب على الفعل. وهذا تفضل من الله ورحمة

 

شرح سنن أبي داود للعباد (181/ 16، بترقيم الشاملة آليا)

ومن المعلوم أن الأصل في الشهداء هم شهداء المعركة في سبيل الله عز وجل، لكن هناك أناس وصفوا بأنهم شهداء وذلك في ثواب الآخرة وهذا من جنسه، فيبلغه الله تلك المنازل بقصده الطيب ونيته الحسنة، وهذا يدلنا على أن الإنسان بنيته وقصده قد يحصل على الأجر العظيم، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أنه قال: (إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر) هذا فيه الجهاد بالنية.

وابن القيم رحمه الله ذكر أن الجهاد أنواع، ومنه الجهاد بالنية، وهذا دليله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم قال: (إلا كانوا معكم) معناه: أنهم يحصلون الأجر والثواب بنيتهم وقصدهم الطيب الحسن." اهـ

 

وقال أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي، الملقب بـ"سلطان العلماء" (المتوفى: 660هـ) _رحمه الله_ في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (1/ 137):

"وَيَجُوزُ أَنْ يَتَمَنَّى الْإِنْسَانُ الْقَتْلَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِنِيلِ مَنَازِلِ الشُّهَدَاءِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ قَتْلًا وَمَعْصِيَةً، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِك، وَمَوْتًا فِي بَلَدِ رَسُولِك)." اهـ



[1] وفي فيض القدير (6/ 144) :

لأن كلا منهما نوى خيرا وفعل ما يقدر عليه فاستويا في أصل الأجر ولا يلزم من استوائهما فيه من هذه الجهة استواؤهما في كيفيته وتفاصيله إذ الأجر على العمل ونيته يزيد على مجرد النية فمن نوى الحج ولا مال له يحج به يثاب دون ثواب من باشر أعماله." اهـ

[2] شرح أبي داود للعيني (5/ 431): "قوله: (بصدق)، أي: بإخلاصِ وحُسْن ظن." اهـ

[3] وفي فيض القدير (6/ 144):

لأن كلا منهما نوى خيرا وفعل ما يقدر عليه فاستويا في أصل الأجر ولا يلزم من استوائهما فيه من هذه الجهة استواؤهما في كيفيته وتفاصيله إذ الأجر على العمل ونيته يزيد على مجرد النية فمن نوى الحج ولا مال له يحج به يثاب دون ثواب من باشر أعماله." اهـ

[4] وفي شرح النووي على مسلم (13/ 55) : "وَمَعْنَاهُمَا جَمِيعًا أَنَّهُ إِذَا سَأَلَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ أُعْطِيَ مِنْ ثَوَابِ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ كَانَ عَلَى فِرَاشِه." اهـ

[5] وفي فيض القدير (6/ 144) : "وفيه ندب سؤال الشهادة بنية صادقة." اهـ

[6] وفي "اللباب في تهذيب الأنساب" (3/ 259):

"المنبجي (بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعدهَا جِيم): هَذِه النِّسْبَة إِلَى مَنْبِجٍ، وَهِي إِحْدَى مدن الشَّام، وبناها كِسْرَى لما غلب على الشَّام، وسماها مُنَبّه فعربت وَقيل منبج،

نسب إِلَيْهَا كثير من الْعلمَاء، مِنْهُم:

* عمر بن سعيد بن سِنَان المنبجي الْحَافِظ، يروي عَن أَحْمد بن أبي شُعَيْب الْحَرَّانِي، وَأبي مُصعب الزُّهْرِيّ، وَهِشَام بن عمار، روى عَنهُ: سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمدَ الطَّبَرَانِيّ، وَعبدُ اللهِ بْنُ عَدِيٍّ الْجِرْجَانِيُّ، وَغَيرُهُمَا،

* وَأَبُو عَليّ الْحسن بن سَلامَة بن ساعد المنبجي الْفَقِيه الْحَنَفِيّ، تفقه على أبي عبد الله الدَّامغَانِي، وروى الحَدِيث عَن أبي نصر الزَّيْنَبِي وَغَيره سمع مِنْهُ أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ بِبَغْدَاد." اهـ

[7] وفي شرح مشكل الآثار (13/ 110) للطحاوي:

"فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَعَهُ النِّيَّةُ فِي تَمَنِّيهِ الشَّهَادَةَ، كَانَ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ الْقَتْلُ بِهَا، وَلَا مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآثَارِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِمَّا حَمَلَنَا عَلَيْهِ الْآثَارَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ." اهـ

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين