شرح الحديث 5 من بلوغ المرام لأبي فائزة البوجيسي

 

5 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:

"لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَلِلْبُخَارِيِّ: "لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي, ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ"، وَلِمُسْلِمٍ: "مِنْهُ"

وَلِأَبِي دَاوُدَ: "وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ".

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه (مسلم) هنا في "الطهارة" [29/ 664] (283)، و (النسائيّ) في "الطهارة" (1/ 197)، و (ابن ماجه) في "الطهارة" (605)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه" (93)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (1252)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار" (1/ 14)، و (ابن الجارود) في "المنتقى" (56)، و (الدارقطنيّ) في "سننه" (1/ 51 - 52)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (779)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه" (651)، والله تعالى أعلم.

 

شرح الحديث:

 

صحيح مسلم (1/ 236) (رقم: 283): عن أَبَي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ:

قَالَ رَسُولُ اللهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_:

«لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَهُوَ جُنُبٌ» فَقَالَ: كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: «يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا»

 

صحيح البخاري (1/ 57) (رقم: 239): قَالَ: «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لاَ يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ»

 

صحيح مسلم (1/ 235) (رقم: 282): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ»

 

سنن أبي داود (1/ 18) (رقم: 70): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ»

 

مفردات الحديث:

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 212)

"(والجنابة) في عرف حَمَلَةِ الشرع: تُطلَق على إنزال الماء، أو التقاء الختانين، أو ما يترتّب على ذلك." اهـ

 

- لاَ يَغْتَسِلْ: لاَ "ناهية"، يجزم بها الفعل، ويطلب بها ترك الفعل، و"يغتسل" مجزوم بالسكون.

- الدَّائم: دام الشيءُ يدوم -من باب نصر- دومًا، ودام الماءُ في المكان: استقر؛ فالدَّائم الساكن الرَّاكد.

- ثمَّ يغتسل: يجوز فيه ثلاثة أوجه: الجزم عطفًا على "لا يبولنَّ"، والنَّصب على إضمار "أنْ"، والرفع على تقدير: "ثُمَّ هو يغتسل فيه".

- الَّذي لا يجري: تفسير للدَّائم، والمراد: المستقر في مكانه كالغدران في البرية.

- لا يبولنَّ: "لا" ناهية، والفعل مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم.

والبول: عرَّفه الأطباء بأنَّه سائل تفصله الكليتان عن الدم لتخرجه من الجسم، ويحوي ما يزيد على حاجة الجسم من الماء والأملاح، ويمر من الكليتين في الحالبين إلى المثانة؛ حيث يتجمع إلى أنْ يخرج من الجسم عن___طريق مجرى البول في عملية التبول، ووظيفة إخراج البول أساسية للحياة.

- جنب: بضمتين، أي: أصابته الجنابة، وهو الحدث الحاصل من الجماع أو الإنزال.

- ثمَّ يغتسل فيه: "ثمَّ" للاستبعاد، أي: بعيد من العاقل أنْ يفعل هذا.

- الجنابة: من أجنب فهو جُنُبٌ، للذكر والأُنثى، والمفرد والتثنية والجمع.

والجنابة: صفة من نزل مَنِيُّهُ، أو حصل منه جماعٌ حتَّى يتطهر.[1]

 

وقال عبد الله بن عبد الرحمن البسام _رحمه الله_ في "توضيح الأحكام من بلوغ المرام" (1/ 128_129):

"ما يؤخذ من الحديث:

1 - النهي عن الاغتسال في الماء الدائم من الجنابة، بخلاف الماء الجاري؛ فإنَّه غير داخل في النهي.

2 - أنَّ النهي يقتضي التحريم؛ فيحرم الاغتسال من الجنابة في الماء الدائم.

3 - النهي عن البول في الماء الدائم ثمَّ الاغتسال فيه من الجنابة،

وقال في "طرح التثريب":

"يحتمل أنَّ النهي عن كلٍّ من "البول والاغتسال"، ويدل عليه رواية أبي داود: "لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة"، كما جاء في مسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب."

4 - النهي يقتضي التحريم؛ فيحرم الاغتسال من الجنابة في الماء الذي بِيلَ فيه.

5 - ظاهر الحديث أنَّه لا فرق بين الماء القليل والكثير.

6 - الفساد المترتِّب على النهيين هو إفسادُ الماء بتقذيره على المنتفعين به، وسيأتي -إنْ شاء الله تعالى- الخلاف في الماء المستعمل، هل استعماله في الطهارة يسلبه الطهورية أو لا؟

7 - النهي عن البول أو الاغتسال في الماء الرَّاكد ليس على إطلاقه اتفاقًا؛ فإنَّ الماء المستبحر الكثير لا يتناوله النهي اتفاقًا؛ فهو مخصَّص بالإجماع.

8 - قال في سبل السلام: الذي تقتضيه قواعد اللغة العربية: أنَّ المنهي عنه في الحديث إنَّما هو عن الجمع بين البول والاغتسال؛ لأنَّ "ثُمَّ" لا تفيد ما تفيده___الواو العاطفة في أنَّها للجمع، وإنَّما اختصت "ثمَّ" بالترتيب.

9 - قال ابن دقيق العيد: "يؤخذ النهي عن الجمع من هذا الحديث، ويؤخذ النَّهي عن الإفراد من حديثٍ آخر".

10 - لكن الروايات الواردة في الباب يستفاد منها ما يأتي:

- "رواية مسلم" تفيد النَّهي عن الاغتسال بالانغماس فيه، والتناول منه.

- "رواية البخاري" تفيد النهي عن الجمع بين البول والاغتسال.

- "رواية أبي داود" تفيد النهي عن كل منهما على الانفراد.

فحصل من جميع الرِّوايات: أنَّ الكلَّ ممنوعٌ، ذلك أنَّ البول أو الاغتسال في الماء الرّاكد يسبِّب تقذيرَهُ وتوسيخَهُ على النَّاس ولو لم يصل إلى تنجيسه.

11 - يلحق بذلك تحريم التغوُّط والاستنجاء في الماء الرَّاكِد الذي لا يجري.

12 - تحريم أذيَّة النَّاس وإلحاق الضرر بهم بأيِّ عمل من الأعمال التي لم يؤذن فيها، ولم تترجَّح مصلحتها على مفسدتها.

13 - اختلف العلماء هل النَّهي للتحريم أو للكراهة؟

* فمذهب المالكية: إلى أنَّه مكروه؛ بناءً منهم على أنَّ الماء باقٍ على طهوريَّتِهِ.

* وذهب الحنابلة والظاهرية: إلى أنَّه للتحريم.

* وذهب بعض العلماء إلى أنَّه محرم في القليل، مكروه في الكثير.

وظاهر النهي: التحريم في القليل والكثير، ولو لم يكن لِعِلَّةِ تنجيسه، وإنَّما من أجل تقذيره وتوسيخه على النَّاس.

* تنبيه:

يخص من ذلك المياه المستبحرة باتفاق العلماء كما تقدم."

 

كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 584)

"دوام اغتسال الْجنب مِنْهُ يُوجب استقذاره." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (1/ 347)

قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: (كَيْفَ يَفْعَلُ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟)، قَالَ: (يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا)،

فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِانْغِمَاسِ فِيهِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا، فَيَمْتَنِعُ عَلَى الْغَيْرِ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَالصَّحَابِيُّ أَعْلَمُ بِمَوَارِدِ الْخِطَابِ مِنْ غَيْرِهِ." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (1/ 348)

"وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُمكن حمله على التحريم مُطْلَقًا عَلَى قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (1/ 348)

قَوْلُهُ (ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ) كَذَا هُنَا،

وَفِي رِوَايَة بن عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: (ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ)، وَكَذَا لمُسلم من طَرِيق بن سِيرِينَ،

وَكُلٌّ مِنَ اللَّفْظَيْنِ يُفِيدُ حُكْمًا بِالنَّصِّ وَحكما بالاستنباط، قَالَه ابن دَقِيقِ الْعِيدِ،

وَوَجْهُهُ:

* أَنَّ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ (فِيهِ)، تَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الِانْغِمَاسِ بِالنَّصِّ وَعَلَى مَنْعِ التَّنَاوُلِ بِالِاسْتِنْبَاطِ،

* وَالرِّوَايَةَ بِلَفْظِ (مِنْهُ) بِعَكْسِ ذَلِكَ،

وَكُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَة، وَالله أعلم." اهـ

 

عمدة القاري شرح صحيح البخاري (3/ 169_170):

"الْخَامِس: فِيهِ دليل على تَحْرِيمِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ بِالْمَاءِ النَّجس.

السَّادِس: فِيهِ التَّأْدِيب بالتنزه، ومختصٌّ بِبَوْلٍ نَسَفَهُ، لغير البائل أَن يتَوَضَّأ بِمَا بَال فِيهِ غَيره، أَيْضا للبائل إِذا بَال فِي إِنَاء ثمَّ صبه فِي المَاء أَو بَال بِقرب المَاء ثمَّ جرى إِلَيْهِ، وَهَذَا من أقبح مَا نقل عَنهُ.

السَّابِع: أَن الْمَذْكُورَ فِيهِ الْغسْل من الْجَنَابَة، فَيلْحق بِهِ الِاغْتِسَال من الْحَائِض وَالنُّفَسَاء، وَكَذَلِكَ يحلق بِهِ اغتسال الْجُمُعَة، والاغتسال من غسل الْمَيِّت عِنْد من يُوجِبهَا.

قلت: هَل يلْحق بِهِ الْغسْل الْمسنون أم لَا؟ قلت: من اقْتصر على اللَّفْظ فَلَا إِلْحَاق عِنْده كَأَهل الظَّاهِر، وَأما من يعْمل بِالْقِيَاسِ فَمن زعم أَن الْعلَّة___الِاسْتِعْمَال فالإلحاق صَحِيح، وَمن زعم أَن الْعلَّة رفع الْحَدث فَلَا إِلْحَاق عِنْده، فَاعْتبر بِالْخِلَافِ الَّذِي بَين أبي يُوسُف وَمُحَمّد فِي كَون المَاء مُسْتَعْملا.

الثَّامِن: فِيهِ دَلِيل على نَجَاسَة الْبَوْل." اهـ

 

إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 106)

وقوله: " لا يغتسل أحدُكم فى الماء الدائم وهو جُنبٌ " من هذا، يعنى ولم يغسل ما به من أذى. وقول أبى هريرة: " يتناوله تناولاً " يريد لا ينغمس فيه، ولكن يتناوله ويتطهر خارجًا عنه، وهذا فى غير المستبحر، وكذلك يكرهُ له هذا فى القليل وإن غسل ما به من أذىً، لأنه لا يسْلم الجسمُ من درنٍ ووسخ، فقد يغيِّره. ولأنه فى استعماله فى تنقية جسده من باب الماء المستعمل المختلف فيه.

وقوله: " ثم يغتسل منه ": تنبيه على إفساده الماء وعلى الحاجة إليه، لا أنه إنما نهى إذا أراد أن يغتسل فيه فقط.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 213)

في فوائده:

1 - (منها): النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم.

2 - (ومنها): أن النهي للتحريم؛ لأنه الأصل فيه عند محقّقي الأصوليين حتى يصرفه صارف إلى غيره، ولا حاجة إلى تكلّف بعضهم كالقاضي عياض لصرفه إلى التنزيه بكون النهي على طريق التنزّه والإرشاد إلى مكارم الأخلاق؛ لأن هذا لا ينافي التحريم، بل كلّ مناهي الشرع تعود إلى هذا، كما هو ظاهر لمن تأمّله بالإنصاف.

3 - (ومنها): أن تقييد الحكم بصفة كون الماء دائمًا، يُفهم منه مخالفة هذا الحكم عند كونه جاريًا، فيباح الاغتسال فيه، قال القاضي عياض رَحِمَهُ اللهُ: وقوله: "الماء الذي لا يجري" دليلٌ على أن الجاري بخلافه. انتهى (1).

4 - (ومنها): هذا النهي عامّ بالنسبة إلى المغتسلين، فيدخل فيه المغتسل، وعلى بدنه أذى، والمغتسل، وليس على بدنه شيء، ويشمل أيضًا نوعي الجنابة: إنزال الماء، والتقاء الختانين، وعامّ أيضًا بالنسبة إلى الأَغسال المختلفة باختلاف نيّاتها، من غسلٍ ينوي فيه رفع الحدث، أو أداء فرض___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 214)

الغسل، أو استباحة الصلاة، أو استباحة ما لا يُستباح إلا بالغسل، فكلّه غسل عن الجنابة، قاله ابن دقيق العيد رحمه الله.

5 - (ومنها): أن تقييده بكونه عن الجنابة يُخرج عنه ما ليس بغسل جنابة، كالغسل تبرّدًا وتنظّفًا، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وهذا قد يخدش في التعليل بالاستقذار والعِيَافة، فإن ذلك قد يحصل بمجرّد الاغتسال، وإن لم يكن عن جنابة، إلا أنها في الجنابة أقوى إن لم يتحقّق سلامة البدن من الأذى.

قال: ما ليس بغسل جنابة ينقسم قسمين:

أحدهما: ما لا يدخل في باب القرب، كما مثّلناه من التبرّد والتنظّف.

والثاني: ما هو داخل في باب القرب، كالأغسال المسنونة، مثلُ غسل العيدين، والكسوف، وغيرهما، فظاهر التقييد بغسل الجنابة يقتضي إباحة ذلك، ولكن فيه نظرٌ يختصّ به، وينفرد عن القسم الأول، وهو أداء العبادة. انتهى (1).

6 - (ومنها): هل يتعدّى هذا الحكم إلى الوضوء حتى يكره أن يغمس المحدث أعضاءه في الماء الراكد للطهارة الصغرى؟ .

أما من لا يقول بالقياس فلا شكّ أنه لا يُعَدّيه إليه، وأما من يقول به، فيُمكن أن يُعَدّيه بجامع الطهارة عن الحدث، إلا أن هذا ليس قياسًا في معنى الأصل، فيكون ملحقًا بفوائد الحديث، وليس أيضًا بقويّ؛ لأنه إن أخذ قياس شَبَه على ضعف قياس الشبه، فالاختلاف بين الحدث الأكبر والأصغر في الأحكام كثير يضعف ذلك القياس، وإن أخذ قياس علّة، فالعلّة المذكورة في هذا الحديث من الاستقذار والعِيَافة قد لا يساوي فيها الحدث الأصغر الحدثَ الأكبرَ، فيمتنع القياس؛ لفقدان شرطه، قاله ابن دقيق العيد رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما أشار إليه ابن دقيق العيد في كلامه هذا أن قياس الوضوء على الاغتسال غير صحيح، فالأولى الاقتصار على الاغتسال، وهو تحقيق جيّد، والله تعالى أعلم.___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 215)

7 - (ومنها): أنه استَدَلَّ أبو يوسف بهذا الحديث على تنجيس الماء المستعمل؛ لأن البول يُنَجِّس الماء، فكذلك الاغتسال، وقد نُهِي عنهما معًا، وهو للتحريم، فيدُلّ على النجاسة فيهما.

ورُدّ بأنها دلالة اقتران، وهي ضعيفة، وعلى تقدير تسليمها فلا يلزم التسوية، فيكون النهي عن البول لئلا ينجسه، وعن الاغتسال فيه لئلا يَسلُبه الطهورية، ويزيد ذلك وضوحًا قوله في الرواية الآتية من طريق أبي السائب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "كيف يفعلُ يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولًا"، فدَلّ على أن المنع من الانغماس فيه؛ لئلا يَصِير مستعملًا، فيمتنع على الغير الانتفاع به، والصحابيّ أعلم بموارد الخطاب من غيره، وهذا من أقوى الأدلة على أن المستعمل غير طَهُور، قاله في "الفتح".

وقال العلّامة الشوكانيّ رحمه الله: وقد استُدِلّ بالنهي عن الاغتسال في الماء الدائم على أن الماء المستعمل يخرج عن كونه أهلًا للتطهير؛ لأن النهي ها هنا عن مجرد الغسل، فدَلّ على وقوع المفسدة بمجرده، وحكم الوضوء حكم الغسل في هذا الحكم؛ لأن المقصود التنزه عن التقرب إلى الله تعالى بالمستقذرات، والوضوء يقذِّر الماء كما يقذره الغسل. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح كون الماء المستعمل طَهُورًا؛ لقوّة أدلّته، كما سيأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب." اهـ

 

ويؤيده: ما أخرجه أبو داود في "سننه" (1/ 32) (رقم: 130): عَنِ الرُّبَيِّعِ:

«أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِرَأْسِهِ مِنْ فَضْلِ مَاءٍ كَانَ فِي يَدِهِ»

 

وقال ابن المنذر _رحمه الله_ في الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (1/ 288):

"فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ، فَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الْمُحْدِثَ (الَّذِي لَا نَجَاسَةَ عَلَى أَعْضَائِهِ، لَوْ صَبَّ مَاءً عَلَى وَجْهِهِ أَوْ ذِرَاعَيْهِ، فَسَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى ثِيَابِهِ) أَنَّهُ طَاهِرٌ،

وَذَلِكَ أَنَّ مَاءً طَاهِرًا لَاقَى بَدَنًا طَاهِرًا، وَكَذَلِكَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ مَاءٌ طَاهِرٌ لَاقَى بَدَنًا طَاهِرًا،

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَاءَ الْمُتَوَضَّأَ بِهِ طَاهِرٌ، وَجَبَ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِهِ مَنْ لَا يَجِدُ السَّبِيلَ إِلَى مَاءٍ غَيْرِهِ، وَلَا يَتَيَمَّمَ، وَمَاءٌ طَاهِرٌ مَوْجُودٌ،

لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ بَشْرَتَكَ» [د ت س].

فَأَوْجَبَ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ وَالِاغْتِسَالَ بِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ وَاجِدًا لَهُ لَيْسَ بِمَرِيضٍ، وَفِي إِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ النَّدَى الْبَاقِي عَلَى أَعْضَاءِ الْمُتَوَضِّئِ وَالْمُغْتَسِلِ وَمَا قَطَرَ مِنْهُ عَلَى ثِيَابِهِمَا طَاهِرٌ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَإِذَا كَانَ طَاهِرًا فَلَا مَعْنَى لِمَنْعِ الْوُضُوءِ بِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ يَرْجِعُ إِلَيْهَا مَنْ خَالَفَ الْقَوْلَ." اهـ

 

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (4/ 320)

في فوائده: يستفاد من هذا الحديث النهي عن اغتسال الجنب في الماء الذي لا يجري، وهل هذا النهي للتنزيه، أم للتحريم؟ الظاهر أنه للتحريم لأنه لا صارف للنهي عنه. وأنه إذا كان جاريا فلا نهي، وإن كان الأولى تركه، وأن سبيل من أراد الاغتسال منه يغترف منه اغترافا.

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 69_72):

"في هذا الحديث فوائد كثيرة؛

* منها: رعاية الشريعة للصحة؛ لأن كون الإنسان يغتسل، وهو جنب في ماءٍ راكد لا يدخل عليه شيء ولا يخرج منه شيء، لا شك أنه سيلوثه، وسيكون علةً له ولغيره.

* ومنها: شمول الشريعة التي جاء بها محمدٌ _صلى الله عليه وسلم_، فهي شاملة لمصالح الناس في المعاد والمعاش، خلافا لمن قال: (إن الشريعة، هي تنظيم العبادة فيما بين الإنسان وبين ربه، والباقي موكول إلى الناس)،

وهذا يخشى أن يكون من باب الكفر ببعض الشريعة والإيمان ببعضها.___

الشريعة شاملة، لكن الناس يختلفون في العلم والفهم، قد يقصر علم الإنسان عن الإحاطة بالشريعة، وهذا كثير،

وقد يقصر فهمه عما أحاط به من الشريعة فيظن أن الشريعة مقصرة أو قاصرة في هذا الباب.

* ومن فوائد هذا الحديث: تحريم أو كراهة اغتسال الإنسان، وهو جنب، في الماء الدائم،

من أين يؤخذ؟ من النهي!

وقد اختلف الأصوليون في النهي هل هو للكرامة أو التحريم، أو يفرق بين ما كان مبناه العبادة، وما كان مبناه الأدب والنظافة، فالأول محرم، والثاني للكراهة.

قالوا: إنما كان النهي للتحريم؛ لأنه في جانب العبادة، والإنسان إنما خلق للعبادة، فلا بد أن يحققها فِعْلاً للمأمور وَتَرْكًا لِلْمَحْظُوْرِ،

أما العادات وما يعود للصحة والنظافة وما أشبه ذلك، فيحمل على الكراهة، والمتأمل للأحاديث التي ورد فيها النهي يرى أن هذا القول أقرب ما يكون؛ لأنه يمر بك أحاديث فيها نهي ولم تكن للتحريم،

ولا يمكن أن تقول إنها للتحريم، ويمر بك أحاديث تقول إنها للتحريم، فإذا وجد نهي مطلق غير مقرون بما يدل على أنه للتحريم، فأقرب الأقوال في ذلك الوسط:

أن ما كان شأنه شأن العبادة فهو للتحريم،

وما كان للنظافة والعبادات وما أشبه ذلك فهو للكراهة.

* ومن فوائد هذا الحديث: فوائد الاغتسال في الماء غير الدائم،

والماء غير الدائم ينقسم إلى قسمين:

قسم: الآن يجري، كالأنهار والسواقي. السواقي التي تجري هذه تطهر منها الإنسان ولا إشكال في ذلك سواء كان جنبا أو غَيْرَ جُنُبٍ، فينوي الاغتسال، ويغتسل ينغمسُ فِيْهَا، ولكن لا شك أن الذي يجري سوف يتجدد الماء على البدن،

فهل نقول كل جرية تجزئ عن غسله؟

الجواب: نعم، كل جرية تجزئ عن غسله،

ولهذا قال الموفق رحمه الله في "المغني": إن الرجل إذا حرك يده في الماء ثلاث مرات فقد غسلها ثلاثا؛ لأن الماء يتجدد بالحركة،

إذا كان الماء يجري فكل جَرْيَةٍ تَغْمُرُ الْبَدَنَ، تعتبر غَسْلَةً.

والقسم الثاني من الماء غير الدائم: الذي هو الآن راكد، لكن نعلم أنه سوف يُفْتَحُ له بعد ساعة أو ساعتين، ويمشي ويجري،

كما يوجد هذا في الْبِرَكِ _بِرَكِ الْبَسَاتِيْنِ_ تجد البركة الآن مملوكة لا تجري هي الآن لكنه سوف يفتحها من يلوث الماء ويوزعها على الحائط ويأتي ماء جديد، هل نجعل هذا من الدائم أو من الجاري؟ هذا من الجاري، هذا لا شك أنه من الجاري: لأن هذا الماء سوف يذهب.

إذنْ ما هو الماء الدائم؟ الماء الدائم: ما يكون في الغدران. أتعرفون الغدران؟ مستنقعات الأمطار، نعم هي دائمة؛ لأن المطر قد ينزل وقد لا ينزل، وقد يبقى الغدير دائما على هذا الوضع فهذا هو الذي ينطبق عليه الحديث.___

* من فوائد هذا الحديث - وهو من مفهومه-: أنه يجوز الاغتسال في الماء الدائم عن غير جنابة كما لو اغتسل للتنظيف أو اغتسل غسلا مستحبا كما لو أفاق من إغماء واغتسل غسلا فهذا مستحب.

فهل نقول بهذا المفهوم أو نقول: المفهوم فيه تفصيل؟

نقول: المفهوم فيه التفصيل؛ لأن الإنسان إذا اغتسل في الماء الدائم من غير جناية قد يكون جسده ملوثا بأذى يؤذي الناس برائحته، وإن لم ينغمس في الماء؛

فهذا نقول: إنه ينهى عن أن يغتسل في الماء الدائم، لكن نأخذ هذا من الحديث أو من القواعد العامة؟

القواعد العامة: في أن الإنسان لا يجوز أن يؤذي المسلمين، وهذا يؤذي المسلمين؛ لأن المقصود: أنه في غدير، كل يأتي ويغتسل منها ويشرب منها،

فإذا كان في الإنسان وسخ كثير يتغير به الماء حتى يَطْفُوَ على سطح الماء ما يكون كالدهن من الأذى الذي يكون بالجلد؛

فهذا لا شك أنه ينهي عنه من أجل أنه يقذره ويكون هذا داخلا في القواعد العامة. أما لو كان البدن نظيفا واغتسل فيه من غير جنابة فالحديث يدل على الجواز.

* ومن فوائد هذا الحديث: ذِكْرُ الْجُنُبِ،

فما هو الجنب؟ الجنب: من لزمه الغسل عن جماع أو إنزال.

هذا الجنب، وقد كان كثير من الناس ولا سيما الشباب الذي تزوج أخيرا يظن أنه لا غسل بالجماع المجرد، وهذا خطأ!

وينبغي لطالب العلم أن ينشر بين الناس أن الجماع يوجب الغسل وإن لم يحصل إنزالٌ، بعض الناس يسألنا له شهر أو شهران أو أكثر لا يغتسل من الجنابة، إلا إذا كان هناك إنزالٌ، وهذا خطأ!

لماذا أتى المؤلف بهذا الحديث في هذا الباب؟

إشارة إلى قول بعض العلماء - رحمهم الله- أنه إذا اغتسل في الماء الدائم وهو جنب، فإنه يكون نجسا،

وبعضهم يقول: إنه يكون طاهرا وغير مطهر، ونحن نقول: الحديث لا يدل لا على هذا لا على هذا،

أما الأول: فما أبعدَ دلالتَهُ عليه، كيف يكون نجسا، والجنب طاهر، إن أبا هريرة كان مع النبي _صلى الله عليه وسلم_ في بعض الطريق، فانخنس - يعني: انسل في خفية- واغتسل ثم حضر، فقال له الرسول _صلى الله عليه وسلم_:

"أين كنت يا أبا هريرة؟ " قال: "كنت جنبا، فكرهت أن أجالسك على غير طهارةٍ، فقال: "سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس".

فقال: "إن المؤمن" إشارة إلى أن أبا هريرة لما فهم أن الجنب لا يجالس الشرفاء والعظماء، بَيَّنَ له أنه لا ينجس، وهو جنب،

فالقول بأن الماء ينجس قول ضعيف جدا، وأما القول بأنه يكون طاهرا غير مطهر فهو غير مسلم به لأمرين:___

أولا: أننا لا نسلم بوجود قسم من الماء يسمى طاهرا ليس فيه دليل.

وثانيا: لو سلمنا بهذا أو كان فيه دليل عليه؛ فإن هذا الحديث لا يدل عليه؛ لأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ لم يتعرض لحكم الماء إطلاقا، وإنما وجه الخطاب لمن اغتسل، أما الماء فلم يتعرض له الرسول _صلى الله عليه وسلم_." اهـ

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 74_77):

"ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز للإنسان أن يغتسل في الماء الدائم وهو جنب بناء على أن الأصل في النهي التحريم،

وإذا اغتسل في الماء الدائم وهو جنب فهل ترتفع جنابته؟ إذا أخذنا بالقاعدة المعروفة: أن ما نهي عنه لذاته فإنه لا يصح، وهنا وقع النهي عن الغسل لذاته، لا يغتسل في الماء وهو جنب.

وعليه: فإذا اغتسل في الماء، وهو جنُبٌ، فإنه لا يصح اغتساله، وهو ظاهر جدا على قول من يرى أن الماء المستعمل يكون طاهرا غير مطهر،

ومن العلماء من يقول: إن النهي هنا للكراهة، وعلى هذا القول لو اغتسل لارتفع حدثه؛ لأنه لم يفعل محرما وإنما فعل مكروها، والمكروه كراهة التنزيه ليس فيه إثم.

* ومن فوائد هذا الحديث: جواز الاغتسال للتبرد والتنظيف في الماء الدائم،

دليله قوله: "وهو جنب" ولكن قد يعارضنا معارض ويقول: إنه قيد الجنابة، وأن الإنسان في حاجة للاغتسال فإذا نهى عن الاغتسال في الماء الدائم مع الحاجة فالنهي عنه من دون حاجة من باب أولى، وعلى هذا فنقول: إن هذا القيد وإن دل بمفهومه على جواز الاغتسال بغير جنابة لكنه قال: إن الاغتسال لغير الجنابة من باب أولى، ويؤيد هذا القول العموم في رواية البخاري: "ثم يغتسل فيه"، وهذا هو الأقرب أنه ينهى عن الاغتسال في الماء الدائم من الجنب وغير الجنب.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه لو اغتسل في ماء جار لجنابة أو غير جنابة فإنه جائز ولا نهي فيه، لأن هذا القيد الدائم وصف مناسب للنهي، وإذا كان وصفا مناسبا للنهي صار وصفا لابد من العمل به، فيقال: إذا اغتسل من الجنابة أو غير الجنابة من ماء جار فلا بأس، أما رواية___البخاري ففيها دليل على تحريم البول في الماء الدائم الذي لا يجري، ويفهم منها جواز البول في الماء الذي يجري؛ لأن قده ب "الدائم" يدل على أن غير الدائم لا بأس به لكن بشرط ألا يفسده على غيره أو يقذره عليه، فإن كان هذا الماء يجري؛ يجري على أناس - مستخفين على الساقي- يتوضئون أو ما أشبه ذلك فهنا لا يحل له أن يفعل لا لأنه يشمل النهي، ولكن من أجل إيذاء المسلمين، وأذية المسلمين لا تجوز.

ومن فوائد الحديث: [وهل] يجوز الغائط في الماء الدائم الذي لا يجري؟ لا، لا يجوز، وهذا قول داود الظاهري رحمه الله، حيث إنه يقول: (يجوز الغائط في الماء الدائم).

قالوا: وهذا من أقبح ما ينتقد عليه في ظاهريته؛ يعني: البول الذي ربما يختلط بالماء ويضمحل لا يجوز وهذا يجوز أي: الغائط، لكن له أن يدفع، يقول: الغائط مشاهد ويمكن أن تتحرز منه، لكن البول يختلط بالماء ولا يمكن أن تتحرز منه، لكن لا تنفع هذه المدافعة؛ لأنه حتى ولو كان يشاهد سوف يستقر في الماء؛ فالصواب تحريم هذا، وهذا عليه جمهور الأمة، لكن ذكرناه من أجل الاطلاع فقط، وأن الجامدين على الظاهر أحيانا يأتون بالعجب العجاب، كقولهم: (يجوز أن يضحي بالجذع من الضأن، ولا يجوز أن يضحي بالثنية)،

تعرفون الجذع الصغير والثنية أكبر منه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن".

أيهما أولى؟ الثنية؛ لأن الرسول قال هذا على سبيل النزول،

ومثل ذلك أيضا قولهم: (لو أن رجلا استأذن ابنته البكر، وقال: إنه خطبك فلان وهو رجل طيب مستقيم ذو مال وجاه، فقالت: هذا الذي أريده زوجني إياه؛ فإنه لا يحل له أن يزوجها، ولو قال لها: خطبك رجل ذو خلق ودين وعلم وجاه، فسكتت فإنه يزوجها.

الأولى لا يزوجها لماذا؟ ما سكتت، والرسول - عليه الصلاة والسلام- قال في البكر: "إذنها أن تسكت").

مثل الجمود على هذه الظاهرية لا شك أنه خطأ فادح لكن ذكرناه لأنه ربما يأتي بعض الناس ليس في مثل هذا القبح، لكن أقل فيأخذ بالظاهر، ولا يلتفت إلى القواعد العامة في الشريعة.

إلا أني بعد هذا أقول لكم:

إن ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" قال: إن مذهب الظاهرية خير من مذهب أهل التأويل المولعين بالمعاني؛ وذلك لأن أهل التأويل يردون النصوص لعقيدة فاسدة،

فمثلا يقولون: يجوز أن تزوج المرأة نفسها بغير ولي كما يجوز أن___تبيع مالها بغير ولي، وهذا مصادم للنص، مصادم للصريح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي". وتعبيرات القرآن الكريم تدل على ذلك: {ولا تعضلوهن} [النساء: 19]. {وأنكحوا الأيمى منكم} [النور: 32].

وأما أشبه ذلك، لكن لسنا هنا نريد أن نفاضل بين الناس، لكننا نريد أن نبين أمثلة من أجل أن يعرف الإنسان كيف يصير في استعمال الأدلة من الكتاب والسنة.

ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن الاغتسال في الماء الدائم مطلقا سواء من الجنابة أو لغيرها لقوله: "ثم يغتسل فيه".

ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن البول ثم الاغتسال؛ لأنه من باب أولى إذا نهى عن البول وحده والاغتسال وحده فالنهي عن الجمع بينهما من باب أولى، ثم إن ظاهر تعبير الحديث إذا تأملته وجدته إنما يتعلق بهذه الصورة فقط وهي البول ثم الاغتسال، هذا هو مقتضى سياق اللفظ.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز أن يبول في الماء ثم يغتسل منه هذا بناء على رواية مسلم وتقدم ذكر الفرق بين "منه" و "فيه" كما سبق في الشرح.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه هل يجوز للإنسان أن يبول في إناء ثم يصبه في الماء الذي لا يجري؟ لا، هذا مذهب الظاهرية يقول: لو بال في إناء ثم صبه في الماء فإنه لا يتناوله النهي، وليس معنى ذلك أنه جائز عندهم، لا لكن يقولون: لا يتناوله النهي؛ يعني: بصيغته، فلذلك نقول: الصواب أنه لا فرق بين أن يبول فيه مباشرة أو بإناء ثم يصبه فيه.

ومن فوائد الحديث أيضا: في رواية أبي داود أنه لا يغتسل في الماء الدائم من الجنابة، وظاهره أنه إذا بال في الماء يعني الجمع بينهما، لكن رواية مسلم السابقة التي جعلها المؤلف أصلا في الحديث تدل على أنه لا يجوز الاغتسال فيه من الجنابة وهو دائم.

وخلاصة هذا الحديث وألفاظه:

أولا: أن الإنسان لا يبول في الماء الدائم الذي لا يجري مطلقا إلا أننا استثنينا الأنهار والأودية الكبار وما أشبه ذلك فإن هذا جائز بالاتفاق، واستثنينا أيضا من الماء الدائم البحار أو البحيرات.

الشيء الكبير الذي لا يؤثر فيه البول شيئا. قال العلماء: هذا لا بأس به؛ لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما ينصرف إلى الشيء المعهود وليس في المدينة بحار ولا أنهار هذه واحدة.

ثانيا: أنه لا يبول فيه ولا يغتسل منه؛ لأن ذلك مستقذر مستقبح عرفا وفطرة لقوله: "لا يبولن ثم يغتسل".___

ثالثا: أنه لا فرق بين الاغتسال فيه والاغتسال منه؛ لأن الألفاظ تدل على ذلك، وحتى لو فرض أنه ليس فيه. لفظ: "منه" نقول: إذا نهي عن الاغتسال فيه فالاغتسال منه بمعناه، ولو نهي عن الاغتسال منه فالاغتسال فيه بمعناه." اهـ 



[1]  توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 127_128).

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين