شرح الحديث 75 من كتاب صحيح الترغيب لأبي فائزة البوجيسي _حفظه الله_

 

صحيح الترغيب والترهيب (1/ 141)

75 - (9) [صحيح] وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

"لا حسَدَ إلا في اثنَتين؛ رجلٌ آتاهُ الله مالاً فسلّطه على هلكتِه في الحق، ورجلٌ آتاه الله الحِكمةَ، فهو يَقضي بها وُيعلِّمُها". رواه البخاري ومسلم.

 

(الحسد) يطلق ويراد به تمنِّي زوال النعمة عن المحسود، وهذا حرام، ويطلق ويراد به الغِبْطة، وهو تمنِّي مثل ما له، وهذا لا بأس به، وهو المراد هنا.

 

تخريج الحديث :

 

أخرجه البخاري في "صحيحه" (1/ 25) (رقم : 73)، ومسلم في "صحيحه" (1/ 559) (رقم : 268)، والنسائي في "السنن الكبرى" (5/ 358) (رقم : 5809)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 1407) (رقم : 4208)، وكيع في "الزهد" (ص: 753) (رقم : 440)، وهناد بن السري في "الزهد" (2/ 640)، وأحمد في "مسنده" (6/ 162) (رقم : 3651) و (7/ 183) (رقم : 4109)، وأبو داود الطيالسي في "مسنده" (1/ 287) (رقم : 367) والحميدي في "مسنده" (1/ 208) (رقم : 99)، وابن أبي شيبة في "مسنده" (1/ 143) (رقم : 194)، والبزار في "مسنده" = "البحر الزخار" (5/ 275) (رقم : 1890)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده" (9/ 11) (رقم : 5078) وابن حبان في "صحيحه" (1/ 292) (رقم : 90)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (2/ 200) (رقم : 1712)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 150) (رقم : 20164)، وفي "شعب الإيمان" (10/ 32) (رقم : 7122)، وغيرهم.

 

والحديث صحيح: صححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 1246) (رقم: 7488)، و"التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان" (1/ 204) (رقم: 90)، و"تخريج مشكاة المصابيح" (1/ 70) (رقم: 202)

 

من فوائد الحديث :

ترجمة عبد الله بن مسعود الهذلي _رضي الله عنه_:

 

عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن مخزوم ، و يقال : ابن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، أبو عبد الرحمن الهذلى ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم . و كان أبوه مسعود بن غافل ، قد حالف عبد

ابن الحارث بن زهرة فى الجاهلية ، و أمه أم عبد بنت ود بن سواء من هذيل أيضا ، لها صحبة .

 

أسلم بمكة قديما، وهاجر الهجرتين، و شهد بدرا و المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . و هو صاحب نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . كان يلبسه إياها إذا قام ، فإذا جلس أدخلها فى ذراعه . و كان كثير الولوج على النبى

 

و قال أبو نعيم و غير واحد : مات بالمدينة سنة اثنتين و ثلاثين و هو ابن بضع و ستين .

زاد بعضهم : و أوصى إلى الزبير بن العوام أن يصلى عليه ،

 

قال الحافظ في تهذيب التهذيب 6 / 28 :

و آخى النبى صلى الله عليه وآله وسلم بينه و بين سعد بن معاذ .

و قال ابن حبان : صلى عليه الزبير .

و قال أبو نعيم : كان سادس الإسلام .

و صح أن ابن مسعود قال : أخذت من فِيْ رسولِ الله _صلى الله عليه وآله وسلم_ سبعين سورة . اهـ ." اهـ

 

شرح الكلمات:

 

وفي صحيح البخاري ـ حسب ترقيم فتح الباري - (6 / 236) (رقم: 5025):  

أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:

"لاَ حَسَدَ إِلاَ عَلَى اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهْوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَار." اهـ

 

وقال النووي في شرح صحيح مسلم - (6 / 98):

"والحكمة كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح." اهـ

 

وقال علي بن سلطان القاري الهروي _رحمه الله_ في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (1 / 285):

"(آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ): وَهِيَ إِصَابَةُ الْحَقِّ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ أَوْ عِلْمِ أَحْكَامِ الدِّينِ.

 

وقال العيني _رحمه الله_ في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (2 / 56_57):

"الْحَسَد: تمني الرجل أَن يحول الله إِلَيْهِ نعْمَة الآخر أَو فضيلته، ويسلبهما عَنهُ._____

وَفِي (مجمع الغرائب) :

"الْحَسَد أَن يرى الْإِنْسَان لِأَخِيهِ نعْمَة، فيتمنى أَن تكون لَهُ وتزول عَن أَخِيه، وَهُوَ مَذْمُوم.

والغبط: أَن يرى النِّعْمَة فيتمناها لنَفسِهِ من غير أَن تَزُول عَن صَاحبهَا، وَهُوَ مَحْمُود. وَقَالَ ثَعْلَب: المنافسة أَن يتَمَنَّى مثل مَا لَهُ من غير أَن يفْتَقر وَهُوَ مُبَاح. وَيُقَال: الْحَسَد تمني زَوَال النِّعْمَة عَن الْمُنعم عَلَيْهِ." اهـ

 

وقال العيني _رحمه الله_ في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (2 / 58)

والحسد على ثَلَاثَة أضْرب: محرم ومباح ومحمود،

* فالمحرم: تمني زَوَال النِّعْمَة الْمَحْسُود عَلَيْهَا عَن صَاحبهَا وانتقالها إِلَى الْحَاسِد.

* وَأما القسمان الْآخرَانِ: فغبطة،

وَهُوَ أَن يتَمَنَّى مَا يرَاهُ من خير بأحدٍ أَن يكون لَهُ مثله، فَإِن كَانَت فِي أُمُور الدُّنْيَا فمباح، وَإِن كَانَت من الطَّاعَات فمحمود.

قَالَ النَّوَوِيّ: الأول حرَام بِالْإِجْمَاع. وَقَالَ بعض الْفُضَلَاء: إِذا أنعم الله تَعَالَى على أَخِيك نعْمَة، فكرهتها واحببت زَوَالهَا، فَهُوَ حرَام بِكُل حَال، إلاّ نعْمَة أَصَابَهَا كَافِر أَو فَاجر، أَو من يَسْتَعِين بهَا على فتْنَة أَو فَسَاد." اهـ

 

q           إكمال المعلم بفوائد مسلم - (3 / 184)

والحسد على ثلاثة أضرب: مُحَرَّمٌ مذمومٌ، ومباح،____ومحمود مرغبٌ فيه،

فالأول تمنى زوال النعمة المحسودة من صاحبها وانتقالها إلى الحاسد، وهذا هو حقيقة الحسد، وهو مذموم شرعاً وعرفاً،

وأما الوجهان الآخران: فهو الغبْطُ، وهو أن يتمنى ما يراه من خير بأحدٍ أن يكون له مثله، فإن كان من أمور الدنيا المباحة كان تمنى ذلك مباحاً، وإن كانت من أمور الطاعات كان محموداً مرغباً فيه.

 

q           كشف المشكل من حديث الصحيحين - (1 / 193)

الحسد هو تمني زوال النعمة عن المحسود، وإن لم تصر للحاسد. وسببه: أنه قد وُضع في الطباع كراهةُ المماثلة وحبُّ الرفعة على الجنس،

فإذا رأى الإنسان من قد نال ما لم يَنَلْ، أَحَبَّ بالطبْعِ أن يزول ذلك، ليقع التساوي أو ليحصل له الارتفاع على ذلك الشخص،

وهذا أمر مركوز في الطباع ولا يسلم منه أحد وإنما المذموم العمل بمقتضى ذلك من سب المنعم عليه أو السعي في إزالة نعمته،

ثم ينبغي للإنسان إذا وجد الحسد من نفسه أن يكره كون ذلك فيه كما يكره ما وضع في طبعه من حب المنهيات وقد ذم الحسد على الإطلاق لما ينتجه ويوجبه." اهـ

 

شرح صحيح البخارى ـ لابن بطال - (3 / 408_409):

"قال بعض أهل العلم : إنفاق المال فى حقه ينقسم ثلاثة أقسام :

فالأول : أن ينفق على نفسه ، وأهله ، ومن تلزمه نفقته غير مقتر عما يجب لهم ، ولا مسرف فى ذلك ، كما قال تعالى :

{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [الفرقان: 67]، وهذه النفقة أفضل من الصدقة، ومن جميع النفقات، لقوله _صلى الله عليه وسلم_: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها فِى فىّ امرأتك) [خ م].

وقسم ثان: وهو أداء الزكاة ، وإخراج حق الله تعالى لمن وجب له . وقد قيل : من أدى الزكاة فقد سقط عنه اسم البخل .

وقسم ثالث: وهو صلة الأهل البعداء ومواساة الصديق ، وإطعام الجائع ، وصدقة التطوع كلها فهذه نفقة مندوب إليها مأجور عليها ، لقوله _صلى الله عليه وسلم_: "الساعى على الأرملة واليتيم كالمجاهد فى سبيل الله." [خ م][1]

فمن أنفق فى هذه الوجوه الثلاثة فقد وضع المال فى موضعه، وأنفقه فى حقه، وجب حسده،

وكذلك من آتاه الله حكمته، فعلمها، فهو وارثٌ منزلة النبوة، لأنه يموت ويبقى له أجرُ مَنْ علّمه، وعمل بعلمه إلى يوم القيامة، فينبغى لكل مؤمن أن يحسد من هذه حاله، والله يؤتى فضله من يشاء." اهـ

 

فوائد الحديث :

 

عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (2 / 58):

"وَقَالَ ابْن بطال:

"وَفِيه من الْفِقْه أَن الْغَنِيّ إِذا قَامَ بِشُرُوط المَال، وَفعل مَا يُرْضِي ربه _تبَارك وَتَعَالَى_، فَهُوَ أفضل من الْفَقِير الَّذِي لَا يقدر على مثل هَذَا، وَالله أعلم." اهـ

 

شرح صحيح البخارى ـ لابن بطال - (1 / 158):

"وفيه من الفقه أن الْغَنِيّ إذا قام بشروط المال ، وفعل فيه ما يرضى الله ، فهو أفضل من الفقير الذى لا يقدر على مثل حاله." اهـ

 

q           شرح صحيح البخارى ـ لابن بطال - (10 / 264)

"ذكر أبو عبيد بإسناده عن عبد الله بن عمر بن العاص قال:

"من جمع القرآن فقد حمل أمرًا عظيمًا، وقد استدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه، فلا ينبغى لصاحب القرآن أن يرفث فيمن يرفث، ولا يجهل فيمن يجهل، وفى جوفه كلام الله."

وقال سفيان بن عيينة: "من أعطى القرآن، فمد عينيه إلى شيءٍ ما صغر القرآن، فقد خالف القرآن." اهـ

 

بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار - (1 / 293_294):

"وأعظم من يغبط: من كان عنده مال قد حصل له من حله، ثم سلط ووفق على إنفاقه في الحق، في الحقوق الواجبة والمستحبة ، فإن هذا من أعظم البرهان على الإيمان، ومن أعظم أنواع الإحسان.___

ومن كان عنده علم وحكمة علمه الله إياها ، فوفق لبذلها في التعليم والحكم بين الناس ، فهذان النوعان من الإحسان لا يعادلهما شيء .

الأول : ينفع الخلق بماله ، ويدفع حاجاتهم ، وينفق في المشاريع الخيرية ، فتقوم ويتسلسل نفعها ، ويعظم وقعها .

والثاني : ينفع الناس بعلمه ، وينشر بينهم الدين والعلم الذي يهتدي به العباد في جميع أمورهم ، من عبادات ومعاملات وغيرها .

 

قال أبو فائزة _غفر الله له_: قال _تعالى_: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ]

 

بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار - (1 / 295):

"وقد يكون من تمنى شيئا من هذه الخيرات، له مثل أجر الفاعل إذا صدقت نيته، وصمم من عزيمته أن لو قدر على ذلك العمل، لعمل مثله، كما ثبت بذلك الحديث. وخصوصا إذا شرع وسعى بعض السعي."

 

قال الله _عز وجل_:

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ  [الزمر : 9]

q           التحرير والتنوير - (23 / 349)

وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ أَخُو الْعِلْمِ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا نُورٌ وَمَعْرِفَةٌ حَقٌّ، وَأَنَّ الْكُفْرَ أَخُو الضَّلَالِ لِأَنَّهُ وَالضَّلَالَ ظُلْمَةٌ وَأَوْهَامٌ بَاطِلَة.

 

التحرير والتنوير - (23 / 349)

وَإِذْ قَدْ كَانَ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ كِنَايَةً عَنِ الْفَضْلِ آلَ إِلَى إِثْبَاتِ الْفَضْلِ لِلَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، فَإِنَّكَ مَا تَأَمَّلْتَ مَقَامًا اقْتَحَمَ فِيهِ عَالِمٌ وَجَاهِلٌ إِلَّا وَجَدْتَ لِلْعَالَمِ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ مَا لَا تَجِدُهُ لِلْجَاهِلِ وَلِنَضْرِبَ لِذَلِكَ مَثَلًا بِمَقَامَاتٍ سِتَّةٍ هِيَ جُلُّ وَظَائِفِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ:

الْمَقَامُ الْأَوَّلُ : الِاهْتِدَاءُ إِلَى الشَّيْءِ الْمَقْصُودِ نَوَالُهُ بِالْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ مَقَامُ الْعَمَلِ،

فَالْعَالِمُ بِالشَّيْءِ يَهْتَدِي إِلَى طُرُقِهِ فَيَبْلُغُ الْمَقْصُودَ بِيُسْرٍ وَفِي قُرْبٍ وَيَعْلَمُ مَا هُوَ مِنَ الْعَمَلِ أولى بالإقبال عَنهُ، وَغَيْرُ الْعَالِمِ بِهِ يَضِلُّ مَسَالِكَهُ وَيُضِيعُ زَمَانَهُ فِي طَلَبِهِ فَإِمَّا أَنْ يَخِيبَ فِي سَعْيِهِ وَإِمَّا أَنْ يَنَالَهُ بَعْدَ أَنْ تَتَقَاذَفَهُ الْأَرْزَاءُ وَتَنْتَابَهُ النَّوَائِبُ وَتَخْتَلِطَ عَلَيْهِ الْحَقَائِقُ فَرُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ بَلَغَ الْمَقْصُودَ حَتَّى إِذَا انْتَبَهَ وَجَدَ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مُرَادِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّور: 39] .

التحرير والتنوير - (23 / 350)

وَمِنْ أَجْلِ هَذَا شَاعَ تَشْبِيهُ الْعِلْمِ بِالنُّورِ وَالْجَهْلِ بِالظُّلْمَةِ.

الْمقَام الثَّانِي: ناشىء عَنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مقَام السَّلَام مِنْ نَوَائِبِ الْخَطَأِ وَمُزِلَّاتِ الْمَذَلَاتِ، فَالْعَالِمُ يَعْصِمُهُ عِلْمُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَاهِلُ يُرِيدُ السَّلَامَةَ فَيَقَعُ فِي الْهَلَكَةِ، فَإِنَّ الْخَطَأَ قَدْ يُوقِعُ فِي الْهَلَاكِ مِنْ حَيْثُ طَلَبِ الْفَوْزِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: 16] إِذْ مَثَّلَهُمْ بِالتَّاجِرِ خَرَجَ يَطْلُبُ فَوَائِدَ الرِّبْحِ مِنْ تِجَارَتِهِ فَآبَ بِالْخُسْرَانِ وَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ سَعْيُ الْجَاهِلِ بِخَبْطِ الْعَشْوَاءِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَزَلْ أَهْلُ النُّصْحِ يُسَهِّلُونَ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ الْوَسَائِلَ الَّتِي تَقِيهُمُ الْوُقُوعَ فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.

الْمَقَامُ الثَّالِثُ: مَقَامُ أُنْسِ الِانْكِشَافِ فَالْعَالِمُ تَتَمَيَّزُ عِنْدَهُ الْمَنَافِعُ وَالْمَضَارُّ وَتَنْكَشِفُ لَهُ الْحَقَائِقُ فَيَكُونُ مَأْنُوسًا بِهَا وَاثِقًا بِصِحَّةِ إِدْرَاكِهِ وَكُلَّمَا انْكَشَفَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ كَانَ كَمَنْ لَقِيَ أَنِيسًا بِخِلَافِ غَيْرِ الْعَالِمِ بِالْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ الْمُتَشَابِهَاتُ فَلَا يَدْرِي مَاذَا يَأْخُذُ وَمَاذَا يَدَعُ، فَإِنِ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ خَشِيَ الزَّلَلَ وَإِنْ قَلَّدَ خَشِيَ زَلَلَ مُقَلَّدِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [الْبَقَرَة:

20] .

الْمَقَامُ الرَّابِعُ: مَقَامُ الْغِنَى عَنِ النَّاسِ بِمِقْدَارِ الْعِلْمِ وَالْمَعْلُومَاتِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمُ الْعَالِمِ قَوِيَ غِنَاهُ عَنِ النَّاسِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.

الْمَقَامُ الْخَامِسُ: الِالْتِذَاذُ بِالْمَعْرِفَةِ، وَقَدْ حَصَرَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ اللَّذَّةُ فِي الْمَعَارِفِ وَهِيَ لَذَّةٌ لَا تَقْطَعُهَا الْكَثْرَةُ. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بِالظِّلِّ إِذْ قَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فاطر: 19- 21] فَإِنَّ الْجُلُوسَ فِي الظِّلِّ يَلْتَذُّ بِهِ أَهْلُ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ.

الْمَقَامُ السَّادِسُ: صُدُورُ الْآثَارِ النَّافِعَةِ فِي مَدَى الْعُمْرِ مِمَّا يُكْسِبُ ثَنَاءَ النَّاسِ فِي الْعَاجِلِ وَثَوَابَ اللَّهِ فِي الْآجِلِ، فَإِنَّ الْعَالِمَ مَصْدَرُ الْإِرْشَادِ وَالْعِلْمِ دَلِيل عَلَى الْخَيْرِ وَقَائِدٌ إِلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] . وَالْعِلْمُ عَلَى مُزَاوَلَتِهِ

ثَوَابٌ جَزِيلٌ،

قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةَ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»

التحرير والتنوير - (23 / 351)

وَعَلَى بَثِّهِ مِثْلُ ذَلِكَ،

قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ بثه فِي صُدُور الرِّجَال، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ»

. فَهَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ فِي صُوَرِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَشْمُولٌ لِنَفْيِ الِاسْتِوَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَتَتَشَعَّبُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ فُرُوعٌ جَمَّةٌ وَهِيَ عَلَى كَثْرَتِهَا تَنْضَوِي تَحْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ.

 

تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي (ص: 180)

فَهَذَا الْحَسَدُ مَحْمُودٌ.

فَأَمَّا إِذَا حَسَدَهُ فِي ذَلِكَ يُرِيدُ زَوَالَهُ عَنْهُ، فَهُوَ مَذْمُومٌ.

وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ إِذَا رَأَى الْإِنْسَانُ مَالًا أَوْ شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَيَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَهُ فَهُوَ مَذْمُومٌ.

وَإِنْ تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُهُ، فَهُوَ غَيْرُ مَذْمُومٍ.

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32]،

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَتَمَنَّى فَضْلَ غَيْرِه لِنَفْسِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعْطِيَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.

فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْحَسَدِ، لِأَنَّ الْحَاسِدَ يُضَادُّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنَّاصِحَ هُوَ رَاضٍ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى." اهـ

 

الروح (ص: 252) لابن القيم:

"وَأكْثر النُّفُوس الفاضلة الْخيرَة تنْتَفع بالمنافسة، فَمن جعل نصب عَيْنَيْهِ شخصا من أهل الْفضل والسبق فنَافَسَهُ، انْتفع بِهِ كثيرا، فَإِنَّهُ يتشبه بِهِ وَيطْلب اللحاق بِهِ والتقدم عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا نذمه وَقد يُطلق اسْم الْحَسَد على المنافسة المحمودة." اهـ[2]

 

وقال الزيداني في "المفاتيح في شرح المصابيح" (1/ 302):

"لا قدر ولا عزة لشيء مما في الدنيا أن يتمناها المسلم إلا في شأن هذين الاثنين؛___لأنهما مشغولان بالخير، والخير شيء يُستحب بل يجبُ طلبُهُ لكل أحد." اهـ

 

وقال الزيداني في "المفاتيح في شرح المصابيح" (3/ 66):

"لا ينبغي للمسلم أن يكون مثلَ صاحبِ نعمةٍ في النعمة إلا أن تكونَ تلك النعمةُ تقرِّبه إلى الله، كتلاوة القرآن، والتصدق بالمال، وغيرهما من الخيرات." اهـ

 

وقال أبو إسحاق الشاطبي _رحمه الله_ في "الموافقات" (4/ 78):

"وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْبَيَانِ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَالْبَيَانُ يَشْمَلُ الْبَيَانَ الِابْتِدَائِيَّ وَالْبَيَانَ لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ وَالتَّكَالِيفَ الْمُتَوَجِّهَةَ؛ فَثَبَتَ أَنَّ الْعَالِمَ يَلْزَمُهُ الْبَيَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالم." اهـ

 

شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (2/ 662)

ومعنى الحديث: الترغيب في التصدق بالمال، وتعليم العلم، وقيل: إن فيه تخصيصاً لإباحة نوع من الحسد، وإن كانت جملته محظورة. وإنما رخص فيهما لما يتضمن مصلحة في الدين.

 

جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (1/ 308):

"وَفِي الْجُمْلَةِ، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُحِبَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ رَأَى فِي أَخِيهِ الْمُسْلِمِ نَقْصًا فِي دِينِهِ، اجْتَهَدَ فِي إِصْلَاحِهِ.

قَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ مِنَ السَّلَفِ: أَهْلُ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ نَظَرُوا بِنُورِ اللَّهِ، وَعَطَفُوا عَلَى أَهْلِ مَعَاصِي اللَّهِ، مَقَتُوا أَعْمَالَهُمْ، وَعَطَفُوا عَلَيْهِمْ لِيُزِيلُوهُمْ بِالْمَوَاعِظِ عَنْ فِعَالِهِمْ، وَأَشْفَقُوا عَلَى أَبْدَانِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَلَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَقًّا حَتَّى يَرْضَى لِلنَّاسِ مَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ رَأَى فِي غَيْرِهِ فَضِيلَةً فَاقَ بِهَا عَلَيْهِ فَتَمَنَّى لِنَفَسِهِ مِثْلَهَا، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْفَضِيلَةُ دِينِيَّةً، كَانَ حَسَنًا، وَقَدْ تَمَنَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ مَنْزِلَةَ الشَّهَادَةِ." اهـ

 

مصابيح الجامع (3/ 344)

ووجه المؤاخاة بين الخصلتين: أن المال يزيد بالإنفاق، ولا ينقص؛ لقوله تعالى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]،

ولقوله -عليه السلام-: "ما نقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ" [م].

والعلم أيضاً يزيدُ بالإنفاق منه، وهو التعليم، فتواخيا." اهـ

 

وقال ابن الملك في "شرح المصابيح" (1/ 192):

"وفي الحديث: ترغيب على التصدق بالمال وتعليم العلم." اهـ

 

حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 552):

"لَا تَنْبَغِي الْغِبْطَةُ فِي الْأُمُورِ الْخَسِيسَةِ، وَإِنَّمَا تَنْبَغِي فِي الْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ الدَّقِيقَةِ كَالْجُودِ وَالْعِلْمِ مَعَ الْعَمَلِ، وَإِلَّا فَالْحَسَدُ غَيْرُ جَائِزٍ وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ الزَّوَالَ عَنْ أَخِيهِ." اهـ

 

التحبير لإيضاح معاني التيسير (3/ 633_634):

"المنافسة: المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده من غيرك فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه فهو من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر وطلب المعالي.___

والحسد خلق نفس ذميمة وضيعة ساقطة ليس فيها حرص على الخير ولا همة عليه، فلعجزها ودنائتها تحسد من يكسب الخير والمحامد، ويفوز بها دونها، فتمني أنه لو فاته كسبها حتى يساويها في عدم الهمة في كسب الخير، ومراد الحديث: لا غبطة إلا في هاتين الخصلتين، فعبّر بالحسد عن الغبطة اتساعاً في ذلك لتقاربهما." اهـ

 

التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 274_275):

"فإنه ينبغي من طالب العلم زيادة التودد إلى مشايخة والضراعة لهم، وينبغي له أن يحسد في طلب العلم ليجد في نيله.___

الحليمي: الْمَلْقُ لغير المعلم من فعال أهل الذلة والضعة، وما يزري بصاحبه، ويدل على سقاطته وقلة مقدار نفسه عنده، وليس لأحد أن يهين نفسه كما ليس لأحد أن يهينه، صلى زيد بن ثابت على جنازة فقربت له بغلته ليركب فأخذ ابن عباس ركابه، فقال: خل عنه يا ابن عم رسول الله، فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا فقبل زيد يده، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا _صلى الله عليه وسلم_." اهـ

صحيح ابن حبان - مخرجا (1/ 292)

ذِكْرُ إِبَاحَةِ الْحَسَدِ لِمَنْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَهَا النَّاسَ



[1] أخرجه البخاري ومسلم :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالسَّاعِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَأَحْسَبُهُ قَالَ: «كَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يفْطر» . مُتَّفق عَلَيْهِ

[2]  وفي توضيح الأحكام من بلوغ المرام (7/ 392) للبسام: "فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه كِبَرُ نفسه، وحب خصال الخير، والتشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، وأنْ يكون من سابقيهم، وعليه فتحدث له من هذه الهمَّة المنافسة والمسابقة والمسارعة، مع محبته لمن يغبطه، وتمنِّي دوام نعمة الله عليه، فهذا لا يدخل في الآية بوجهٍ ما." اهـ

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين