شرح الحديث 74 من صحيح الترغيب

 

صحيح الترغيب والترهيب (1/ 141)

74 - (8) [حسن] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:

"الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها؛ إلا ذكرَ الله وما والاه، وعالماً ومتعلماً" (1).

رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي، وقال الترمذي: "حديث حسن".

__________

(1) المراد بالدنيا: كل ما يشغل عن الله تعالى ويبعد عنه، ولعنه: بعده عن نظره. والاستثناء في قوله: "إلا ذكر الله" منقطع، ويحتمل أن يراد بها العالَمُ السفلي كله، وكل ما له نصيب في القبول عنده تعالى قد استثني بقوله: "إلا ذكر الله" إلخ، فالاستثناء متصل.

و (الموالاة): المحبة. أي: إلا ذكر الله، وما أحبه الله تعالى مما يجري في الدنيا. أو بمعنى المتابعة،

فالمعنى: ما يجري على موافقة أمره تعالى أو نهيه.

ويحتمل أن يراد: وما يوافق ذكر الله، أي: يجانسه ويقاربه، فطاعته تعالى، واتباع أمره، واجتناب نهيه؛ كلها داخلة فيما يوافق ذكر الله. والله أعلم.

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه الترمذي في "سننه" – ت. شاكر (4/ 561) (رقم: 2322)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 1377) (رقم: 4112)، وابن أبي عاصم في "الزهد" (ص: 62) (رقم: 126)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/ 326)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3/ 228) (رقم: 1580)، وأبو شجاع الديلمي في "الفردوس بمأثور الخطاب" (2/ 231) (رقم: 3111)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 135) (رقم: 135)، والبغوي في "شرح السنة" (14/ 229) (رقم: 4028)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية" (2/ 311) (رقم: 1330)

 

والحديث حسن: حسنه الألباني  _رحمه الله_ في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (6/ 703) (رقم: 2797).

 

شرح غرائب الكلمات :

 

قال محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفورى (المتوفى: 1353 هـ) _رحمه الله_ في "تحفة الأحوذي" (6/ 504): "قَوْلُهُ:

* (إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ)، أَيْ: مَبْغُوضَةٌ مِنَ اللَّهِ، لِكَوْنِهَا مُبْعَدَةً عَنِ اللَّهِ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا أَيْ مِمَّا يُشْغِلُ عَنِ اللَّهِ إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ بِالرَّفْعِ

* (وَمَا وَالَاهُ)، أَيْ: أَحَبَّهُ اللَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَأَفْعَالِ الْقُرْبِ، أَوْ مَعْنَاهُ: (مَا وَالَى ذِكْرَ اللَّهِ)، أَيْ: قَارَبَهُ مِنْ ذِكْرِ خَيْرٍ أَوْ تَابَعَهُ مِنِ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ لِأَنَّ ذِكْرَهُ يُوجِبُ ذَلِكَ

قَالَ الْمُظْهِرُ: "أَيْ: مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا. وَالْمُوَالَاةُ: الْمَحَبَّةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، يَعْنِي: مَلْعُونٌ مَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ مِمَّا يَجْرِي فِي الدُّنْيَا، وَمَا سِوَاهُ مَلْعُونٌ

وَقَالَ الْأَشْرَفُ : هُوَ مِنَ الْمُوَالَاةِ، وَهِيَ : الْمُتَابَعَةُ،

وَيَجُوزُ : أَنْ يُرَادَ بِمَا يُوَالِي ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى طَاعَتَهُ وَاتِّبَاعُ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ،

* (وَعَالَمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ)

قَالَ القارىء فِي "الْمِرْقَاةِ": "(أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، فَيَكُونُ الْوَاوَانِ بِمَعْنَى (أَوْ)." اهـ

 

وقال محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج الراميني الصالحي الحنبلي ، أبو عبد الله، الشهير بـ"ابن مفلح المقدسي" (المتوفى: 763هـ) _رحمه الله_ في "الآداب الشرعية والمنح المرعية" (2/ 37)

"وَرَأَى ابْنُ الشِّخِّيرِ ابْنَ أَخٍ لَهُ يَتَعَبَّدُ، فَقَالَ:

"أَيْ بُنَيَّ، الْعِلْمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ،

وَقَالَ مُهَنًّا[1]:

"قُلْتُ لِأَحْمَدَ: "حَدِّثْنَا مَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ؟" قَالَ: (طَلَبُ الْعِلْمِ)، قُلْتُ: "لِمَنْ؟"، قَالَ: "لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ."

قُلْتُ: "وَأَيُّ شَيْءٍ يُصَحِّحُ النِّيَّةَ؟" قَالَ: (يَنْوِي يَتَوَاضَعُ فِيهِ، وَيَنْفِي عَنْهُ الْجَهْلَ)،

وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ ثَوَّابٍ: قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: (مَا أَعْلَمُ النَّاسَ فِي زَمَانٍ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ)

قُلْتُ: "وَلِمَ؟" قَالَ: (ظَهَرَتْ بِدَعٌ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ حَدِيثٌ، وَقَعَ فِيهَا." اهـ

وَقَالَ بِشْرٌ الْحَافِي:

"لَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عَمَلًا أَفْضَلَ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ لِمَنْ اتَّقَى اللَّهَ، وَحَسُنَتْ نِيَّتُهُ."

وَقَالَ سُفْيَانُ: "مَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُرَادُ اللَّهُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ." اهـ

 

من فوائد الحديث :

 

قال فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376 هـ) _رحمه الله_ في "تطريز رياض الصالحين" (ص: 322_323):

فيه: ذم ما أشغل من الدنيا عن ذكر الله وطاعته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون (9) ]،

وأما ما أعان على طاعة الله من الدنيا فليس بمذموم، قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء___الزَّكَاةِ} [النور (37) ] ،

وفي حديث مرفوع: «لا تسبوا الدنيا، فنعم مطيةُ المؤمنِ، عليها يَبْلُغُ الخيرَ، وَبِهَا يَنْجُوْ مِنَ الشَّرِّ»[2].

 

وقال فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376 هـ) _رحمه الله_ في "تطريز رياض الصالحين" (ص: 757):

"الملعون من الدنيا، ما ألهى عن طاعة الله.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون (9) ] .

 

تحفة الأحوذي (6/ 505)

وَقَالَ [المناوي] :

"الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ لِأَنَّهَا غَرَّتِ النُّفُوسَ بِزَهْرَتِهَا وَلَذَّتِهَا فَأَمَالَتْهَا عَنِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَى الْهَوَى."

وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِهِ (وَعَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا)، أَيْ: هِيَ وَمَا فِيهَا مُبْعَدٌ عَنِ اللَّهِ إِلَّا الْعِلْمُ النَّافِعُ الدَّالُّ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا،

فَاللَّعْنُ وَقَعَ عَلَى مَا غَرَّ مِنَ الدُّنْيَا لَا عَلَى نَعِيمِهَا وَلَذَّتِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ تَنَاوَلَهُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ." انْتَهَى." اهـ

 

وقال محمد بن محمد الطوسي، الشهير بـ"أبي حامد الغزالي" (المتوفى: 505هـ)[3] _رحمه الله_ في "إحياء علوم الدين" (3/ 208_211):

"وقال بعضهم الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئاً فليصبر على معاشرة الكلاب...

وقال أبو أمامة الباهلي _رضي الله عنه_:

"لما بُعِثَ محمدٌ _صلى الله عليه وسلم_ أتت إبليس جنودَهُ، فقالوا: "قد بعث نبي وأخرجت أمةٌ."

قال: "يحبون الدنيا." قالوا: "نعم."

قال: "لئن كانوا يحبون الدنيا، ما أبالي أن لا يعبدوا الأوثان، وإنما أغدو عليهم وأروح بثلاث: أخذُ المالِ من غَيْرِ حقِّهِ، وإنفاقُه في غير حقِّه، وإمساكه عن حقه. والشر كان من هذا نبع."

وقال رجل لعليٍّ _كرم الله وجهه_:

"يا أمير المؤمنين، صف لنا الدنيا."

قال: "وما أصف لك مِنْ دارٍ صَحَّ فيها سَقِمٌ، ومَنْ أَمِنَ فِيْهَا ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها افتتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها العقابُ، ومتشابهها العتاب.

وقيل له ذلك مرة أخرى، فقال: "أطوِّل أم أقصِّر."،

فقيل: "قصر!"

فقال: "حلالها حساب، وحرامُها عذابٌ."

وقال مالك بن دينار: "اتقوا السحَّارةَ، فإنها تَسْحَرُ قلوبَ العلماء، يعني: الدنيا."

وقال أبو سليمان الداراني:

"إذا كانت الآخرة في القلب، جاءت الدنيا تزاحمها. فإذا كانت الدنيا في القلب، لم تزاحمها الآخرة، لأن الآخرة كريمة، والدنيا لئيمة."

وهذا تشديد عظيم ونرجو أن يكون ما ذكره سيار بن الحكم أَصَحَّ، إذ قال:

"الدنيا والآخرة يجتمعان في القلب، فأيهما غلب، كان الآخَرُ تَبَعاً لَهُ."

وقال مالك بن دينار: "بقدر ما تحزن للدنيا، يخرج هم الآخرة من قلبك. وبقدر ما تحزن للآخرة، يَخْرُجُ هم الدنيا من قلبك.

وهذا اقتباس مما قاله علي كرم الله وجهه حيث قال:

"الدنيا___والآخرة ضرتان، فبقدر ما ترضى إحداهما، تسخط الأخرى."

وقال الحسن: "واللهِ، لقد أدركتُ أقواماً كانت الدنيا أهونَ عَلَيْهِمْ مِنَ التُّرَابِ الذي تمشون عليه، ما يبالون، أَشْرَقَتِ الدُّنْيَا أَمْ غَرَبَتْ، ذهبت إلى ذا، أو ذهبت إلى ذا."

وقال رجل للحسن: "ما تقول في رجلٍ آتاه الله مالاً، فهو يتصدق منه، ويصل منه، أَيُحْسِنُ له أن يتعيش فيه _يعني: يتنعم_؟"

فقال: "لا، لو كانت له الدنيا كلها، ما كان له منها إلا الكفافُ، وَيُقَدِّمُ ذلك ليوم فَقْرِهِ."[4]

وقال الفضيل: "لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت على حلالاً لا أحاسب عليها في الآخرة، لكنت أتقذرها، كما يتقذر أحدُكم الجيفةَ، إذا مر بها أن تصيب ثوبه."

وقيل: "لما قدم عمر _رضي الله عنه_ الشامَ، فاستقبله أبو عبيدة بن الجراح على الناقة مخطومةً بحبلٍ، فسَّلم وسأله، ثم أتى منزله، فلَمْ يَرَ فِيْهِ إلاَّ سيْفَهُ، وتُرْسَهُ وَرَحْلَهُ،

فقال له عمر _رضي الله عنه_: "لو اتخذت متاعاً."

فقال: "يا أمير المؤمنين، إن هذا يبلغنا الْمَقِيْلَ

وقال سفيان: "خذْ مِنَ الدُّنْيَا لِبَدَنِكَ، وَخُذْ مِنَ الآخِرَةِ لِقَلْبِكَ."____

وقال الحسن بعد أن تلا قوله _تعالى_: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان: 33]،

"من قال ذا؟! قاله مَنْ خَلَقَها، ومَنْ هو أعلمُ بِهَا، إياكم وما شَغَلَ من الدنيا، فإن الدنيا كثيرة الأشغال، لا يَفْتَحُ رجلٌ على نفسه بابَ شُغْلٍ، إلا أوشك ذلك البابُ أن يفتح عليه عَشْرَةَ أَبْوَابٍ."

وقال أيضاً: "مسكينٌ ابْنُ آدَمَ، رضي بدارٍ، حلالُهَا حسابٌ، وحرامُها عذابٌ، إِنْ أخَذَهُ مِنْ حِلِّهِ حُوْسِبَ به. وإن أخذه مِنْ حرامٍ، عُذِّبَ بِهِ ابْنُ آدم، يستقل ماله، ولا يستقل عمله، يفرح بمصيبته في دينه، ويجزع من مصيبته في دنياه."

وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز:

"سلام عليك، أما بعد:

فكأنك بآخِرِ مَنْ كُتِبَ عليه الموتُ قد مات."

فأجابه عمر: "سلام عليك كأنك بالدنيا، ولم تكن، وكأنك بالآخرة لم تزل."

وقال الفضيل بن عياض: "الدخول في الدنيا هيِّنٌ، ولكن الخروجَ منها شديدٌ."

وقال بعضهم:

"عجباً لمن يعرف أن الموت حق كيف يفرح،

وعجباً لمن يعرف أن النار حق، كيف يضحك،

وعجبا لمن رأى تقلب الدنيا بأهلها كيف يطمئن إليها،

وعجباً لمن يعلم أن القدر حق، كيف ينصب؟"

وقدِمَ علَى معاويةَ _رضي الله عنه_ رجلٌ من نجران، عمْرُهٌ مائتا سنةٍ، فسأله عن الدنيا، كيف وجدها؟

فقال: "سنيات بلاء، وسنيات رخاءُ يومٍ، فيوم وليلة، فليلةٌ يُوْلَدُ ولدٌ، ويهلك هالك. فلولا المولود لباد الخلق، ولولا الهالك، ضاقت الدنيا بمن فيها."

فقال له: "سَلْ ما شئتَ."

قال: "عُمْرٌ مضى، فَتَرُدُّهُ، أو أجلٌ حَضَرَ، فتدفعه."

قال: "لا أملك ذلك." قال: "لا حاجة لي إليك."

وقال داود الطائي _رحمه الله_:

"يا ابن آدم، فرِحْتَ بِبُلوغِ أملك، وإنما بلغتَه بانقضاءِ أَجَلِكَ، ثُمَّ سَوَّفْتَ بِعَمَلِكَ، كان منفعته لغيرك."

وقال بشر:

"من سأل الله الدنيا، فإنما يسأله طول الوقوف بين يديه."

وقال أبو حازم: "ما في الدنيا شيءٌ يسرك، إلا وقد ألصق الله إليه شيئاً يسوءك."

وقال الحسن:

"لا تخْرُجُ نفسُ ابْنِ آدمَ من الدنيا إلا بحسرات ثلاث: أنه لَمْ يَشْبَعْ مِمَّا جَمَعَ، وَلْمْ يُدْرِكْ مَا أَمَلَ، ولم يحسن الزاد لما يقْدَمُ عليه."

وقيل لبعض العباد: "قد نِلْتَ الْغِنَى." فقال: "إنما نال الغنى من عُتِقَ مِنْ رِقِّ الدُّنْيَا."

وقال أبو سليمان:

"لا يصبر___عن شهوات الدنيا إلا من كان في قلبه ما يشغله بالآخرة."

وقال مالك بن دينار: "اصطلحنا على حب الدنيا، فلا يأمر بعضنا بعضاً، ولا ينهى بعضنا بعضاً. ولا يدعنا الله على هذا، فليت شعري أيُّ عذابِ الله ينزل علينا."

وقال أبو حازم: "يسير الدنيا يَشْغَلُ عن كثير الآخرة."

وقال الحسن: "أهينوا الدنيا، فوالله، ما هي لأحدٍ بأهنأ منها لمن أهانها."

وقال أيضاً:

"إذا أراد الله بعبد خيراً أعطاه من الدنيا عطية ثم يمسك فإذا نفذ أعاد عليه وإذا هان عليه عبد بسط له الدنيا بسطاً وكان بعضهم يقول في دعائه يا ممسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنك أمسك الدنيا عني."

وقال محمد بن المنكدر:

"أرأيت لو أن رجلاً صام الدهر لا يُفْطِرُ، وقام الليل لا ينام وتصدق بماله وجاهد في سبيل الله واجتنب محارم الله غير أنه يؤتى به يوم القيامة، فيقال: "إن هذا عظم في عينه ما صغّره الله، وصغَّر في عينه ما عظمه الله، كيف ترى يكون حاله، فمن منا ليس هكذا الدنيا عظيمة عنده مع ما اقترفنا من الذنوب والخطايا."

وقال أبو حازم: اشتدت مؤنة الدنيا والآخرة فأما مؤنة الآخرة فإنك لا تجد عليها أعواناً وأما مؤنة الدنيا فإنك لا تضرب بيدك إلى شيء منها إلا وجدت فاجراً قد سبقك إليه."

وقال أبو هريرة الدنيا موقوفة بين السماء والأرض كالشن البالي تنادي ربها منذ خلقها إلى يوم يفنيها يا رب يا رب لم تبغضني فيقول لها اسكتي يا لا شيء وقال عبد الله بن المبارك حب الدنيا والذنوب في القلب قد احتوشته فمتى يصل الخير إليه وقال وهب بن منبه من فرح قلبه بشيء من الدنيا فقد أخطأ الحكمة ومن جعل شهوته تحت قدميه فرق الشيطان من ظله ومن غلب علمه هواه فهو الغالب وقيل لبشر مات فلان فقال جمع الدنيا وذهب إلى الآخرة ضيع نفسه قيل له إنه كان يفعل ويفعل وذكروا أبواباً من البر فقال وما ينفع هذا وهو يجمع الدنيا وقال بعضهم الدنيا تبغض إلينا نفسها ونحن نحبها فكيف لو تحببت إلينا وقيل لحكيم الدنيا لمن هي قال لمن تركها فقيل الآخرة لمن هي قال لمن طلبها وقال حكيم الدنيا دار خراب وأخرب منها قلب من يعمرها والجنة دار عمران وأعمر منها قلب من يطلبها وقال الجنيد كان الشافعي رحمه الله من المريدين الناطقين بلسان الحق في الدنيا وعظ أخاً له في الله وخوفه بالله فقال يا أخي إن الدنيا دحض مزلة ودار مذلة عمرانها إلى الخراب صائر وساكنها إلى القبور زائر شملها على الفرقة موقوف وغناها إلى الفقر مصروف الإكثار فيها إعسار والإعسار فيها يسار فافزع إلى الله وارض برزق الله لا تتسلف من دار بقائك إلى دار فنائك فإن عيشتك فيء زائل وجدار مائل أكثر من عملك وأقصر من أملك وقال إبراهيم بن أدهم لرجل أدرهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة فقال دينار في اليقظة فقال كذبت لأن الذي تحبه في الدنيا كأنك تحبه في المنام والذي لا تحبه في الآخرة كأنك لا تحبه في اليقظة وعن إسماعيل بن عياش قال كان أصحابنا يسمون الدنيا خنزيرة فيقولون إليك عنا يا خنزيرة فلو وجدوا لها أسماء أقبح من هذا لسموها به وقال كعب لتحببن إليكم الدنيا حتى تعبدوها وأهلها وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله العقلاء ثلاثة من ترك الدنيا قبل أن تتركه وبنى قبره قبل أن يدخله وأرضى خالقه قبل أن يلقاه وقال أيضاً الدنيا بلغ شؤمها أن تمنيك لما يلهيك عن طاعة الله فكيف الوقوع فيها وقال بكر بن عبد الله من أراد أن يستغني عن الدنيا بالدنيا كان كمطفيء النار بالتبن وقال بندار إذا رأيت أبناء الدنيا يتكلمون في الزهد فاعلم أنهم في سخرة الشيطان وقال أيضاً من أقبل على الدنيا أحرقته نيرانها يعني الحرص حتى يصير رماداً ومن أقبل على الآخرة صفته بنيرانها فصار سبيكة ذهب ينتفع به ومن أقبل على الله عز وجل أحرقته نيران التوحيد فصار جوهراً لا حد لقيمته وقال علي كرم الله وجهه إنما الدنيا ستة أشياء مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب___ومنكوح ومشموم فأشرف المطعومات العسل وهو مذقة ذباب وأشرف المشروبات الماء ويستوي فيه البر والفاجر وأشرف الملبوسات الحرير وهو نسج دودة وأشرف المركوبات الفرس وعليه يقتل الرجال وأشرف المنكوحات المرأة وهي مبال في مبال وإن المرأة لتزين أحسن شيء منها ويراد أقبح شيء منها وأشرف المشمومات المسك وهو دم." اهـ

 

وقال الحسين بن عبد الله، المشهور بـَرَفِ الدينِ الطِّيْبِيِّ" (743 هـ) _رحمه الله_ في "شرح المشكاة" المسمى بـ"الكاشف عن حقائق السنن" (10/ 3285):

"وإذا عرفت حقيقة الدنيا، فدنياك ومالك، فيه لذة في العاجل، وهي مذمومة. فليست وسائلُ العباداتِ من الدنيا كأكل الخبز مثلا للتقوى عليها.

وإليها الإشارة بكون الدنيا مزرعة الآخرة، وبقوله _صلى الله عليه وسلم_: ((الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ما كان لله منها)).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما:

"إن الله _تعالى_ جعل الدنيا ثلاثة أجزاء: جزءٌ للمؤمن، وجزء للمنافق، وجزء للكافر. فالمؤمن يتزود، والمنافق يتزينُ، والكفار يتمتع." اهـ

 

وقال زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795 هـ) _رحمه الله_ في "جامع العلوم والحكم" – ط. الرسالة (2/ 199_200)

"فَالدُّنْيَا وَكُلُّ مَا فِيهَا مَلْعُونَةٌ، أَيْ مَبْعَدَةٌ عَنِ اللَّهِ، لِأَنَّهَا تَشْغَلُ عَنْهُ، إِلَّا الْعِلْمَ النَّافِعَ الدَّالَّ عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَطَلَبِ قُرْبِهِ وَرِضَاهُ، وَذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ مِمَّا يُقَرِّبُ مِنَ اللَّهِ،

فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَنْ يَتَّقُوهُ وَيُطِيعُوهُ، وَلَازِمُ ذَلِكَ دَوَامُ ذِكْرِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:

(تَقْوَى اللَّهِ حَقَّ تَقْوَاهُ: أَنْ يُذْكَرَ، فَلَا يُنْسَى. وَإِنَّمَا شَرَعَ اللَّهُ إِقَامَ الصَّلَاةِ لِذِكْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ وَالطَّوَافُ. وَأَفْضَلُ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلَّهِ فِيهَا، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا الْمَذْمُومَةِ،___

وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِيجَادِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]." اهـ

 

وقال علي بن سلطان، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري (المتوفى : 1014 هـ) _رحمه الله_ في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (8/ 3241):

"فَالْحَدِيثُ إِذًا مِنْ بَدَائِعِ الْحِكَمِ، وَجَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي خُصَّ بِهَا هَذَا النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ _صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، لِأَنَّهُ دَلَّ بِالْمَنْطُوقِ عَلَى جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَبِالْمَفْهُومِ عَلَى رَذَائِلِهَا." اهـ

 

التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 14)

"قَالَ الْغَزالِيّ: "من عرف نَفسه وَعرف ربه وَعرف الدُّنْيَا وَعرف الْآخِرَة شَاهد بِنور البصيرة وَجْهَ عَدَاوَة الدُّنْيَا للآخرة، وانكشف لَهُ أَن لَا سَعَادَة فِي الْآخِرَة، إِلَّا لمن قدِمَ على اللهِ عَارِفًا بِهِ محباً، وَأَن الْمحبَّة لَا تنَال إِلَّا بدوام الذّكر، والمعرفة لَا تنَال إِلَّا بدوام الْفِكر." اهـ

 

وقال عبد الرؤوف بن تاج العارفين الحدادي القاهري، الشهير بـ"الْمُنَاوِيّ" (المتوفى: 1031هـ) _رحمه الله في "التيسير بشرح الجامع الصغير" (2/ 14):

"وَمن أحب مَا لَعنه الله فقد تعرض للعنه وغضبه، قَالَ الْغَزالِيّ: لَعَلَّ ثلث الْقُرْآن فِي ذمّ الدُّنْيَا." اهـ

 

وقال عبد الرؤوف بن تاج العارفين الحدادي القاهري، الشهير بـ"الْمُنَاوِيّ" (المتوفى: 1031هـ) _رحمه الله في "فيض القدير" (2/ 327):

"قال الحكيم: نبه بذكر الدنيا وما معها على أن كل شيء أريد به وجه الله فهو مستثنى من اللعنة وما عداه ملعون، فالأرض صارت سببا لمعاصي العباد بما عليها، فبعدت عن ربها بذلك، إذ هي ملهية لعباده وكلما بعد عن ربه كان منزوع البركة." اهـ

 

فيض القدير (3/ 549)

وفيه أن ذكر الله أفضل الأعمال ورأس كل عبادة،

والحديث من كنوز الحكم وجوامع الكلم لدلالته بالمنطوق على جميع الخلال الحميدة وبالمفهوم على رذائلها القبيحة

 

فيض القدير (3/ 550)

الدنيا مذمومة مبغوضة إليه تعالى إلا ما تعلق منها بدرء مفسدة أو جلب مصلحة فالمرأة الصالحة يندفع بها مفسدة الوقوع في الزنا والأمر بالمعروف جماع جلب المصالح والذكر جماع العبادة ومنشور الولاية ومفتاح السعادة والكل يبتغى به وجه الله تعالى

 

فيض القدير (4/ 370)

قال الإمام الرازي: قد دل على فضل العلماء والعلم وشرفه المعقول والمنقول فمن الشواهد العقلية أن كون العلم صفة كمال والجهل صفة نقص معلوم للعقلاء ضرورة ولذلك لو قيل للعالم يا جاهل تأذى به ولو قيل للجاهل يا عالم فرح وإن علم كذب القائل وقد وقر في طباع الحيوانات الانقياد للإنسان لكونه أعلم منهم وفي طباع الناس كل طائفة منقادة للأعلم منها وتعظمه والعالم يطير في أقطار الملكوت ويسبح في بحار المعقولات والجاهل في ظلمات الجهل وضيقه فإن قيل قد ذكر فضل العالم والعلم وشرفه فهل هذا الفضل للعلماء والعلم من حيث [ص:371] هو أو للبعض من العلوم دون بعض أو لكلها كيف كانت؟ قلنا أما العلم من حيث هو ففيه شرف وتزكية للنفس وهو خير من الجهل إلا ما كان علما شيطانيا يهدي إلى الشر ويوقع فيه كالسحر وما ليس كذلك فمنه مباح ومنه مندوب ومنه واجب

 

دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/ 410)

قال القرطبي: لا يفهم من هذا الحديث سب الدنيا مطلقاً ولعنها، فقد جاء من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعاً «لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشرّ، وإذا قال العبد: لعن الله الدنيا قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربه»[5]

أخرجه الشريف أبو القاسم زيد بن عبد الله الهاشمي، والجمع بين ذلك بحمل الأحاديث الواردة في إباحة لعن الدنيا على ما يبعد منها عن الله تعالى ويشغل عنه، وحمل___الوارد بالمنع على ما قرّب إلى الله تعالى أو أعان على عبادته سبحانه، كما يومىء إليه الاستثناء في حديث الباب بقوله: إلا ذكر الله وما والاه الخ.......

 

شرح رياض الصالحين (3/ 368) للعثيمين :

ولو كانت الدنيا محبوبة إلى الله _عز وجل_ ما حرم منها نبيه _صلى الله عليه وسلم_: "فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما ولاه وعالماً ومتعلماً"

وما يكون في طاعة الله عز وجل." اهـ

 

السراج المنير شرح الجامع الصغير في حديث البشير النذير (2/ 22) للعزيزي :

"ووجه الجمع بينهما:

أن المباح لعنه من الدنيا ما كان مبعداً عن الله وشاغلاً عنها،

كما قال بعض السلف: "كل ما شغلك عن الله من مال وولد، فهو عليك مشئوم."

وهو الذي نبه الله على ذمّه بقوله _تعالى_: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد: 20]،

وأما ما كان من الدنيا يقرب من الله، ويعين على عبادة الله، فهو المحمودُ بكل لسانٍ والمحبوبُ لكل إنسانٍ،

فمثل هذا لا يسب، بل يرغب فيه، ويحب،

وإليه الإشارة بالاستثناء حيث قال (إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلماً)." اهـ

 

وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) _رحمه الله_ في "مجموع الفتاوى" (1/ 29):

"وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَضَرَّتَهُ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ؛ فَصَارَتْ الْمَخْلُوقَاتُ وَبَالًا عَلَيْهِ، إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ وَفِي اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ كَمَالٌ وَجَمَالٌ لِلْعَبْدِ؛

وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا؛ إلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ} . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ؛ وَغَيْرُه." اهـ

 

وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) _رحمه الله_ في "مجموع الفتاوى" (8/ 76)

فَكُلُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْعَبْدُ وَلَا يَكُونُ طَاعَةً لِلَّهِ وَعِبَادَةً وَعَمَلًا صَالِحًا فَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ.

وَإِنْ نَالَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ رِئَاسَةً وَمَالًا، فَغَايَةُ الْمُتَرَئِّسِ أَنْ يَكُونَ كَفِرْعَوْنَ، وَغَايَةُ الْمُتَمَوِّلِ أَنْ يَكُونَ كقارون.

وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ مِنْ قِصَّةِ فِرْعَوْنَ وَقَارُونَ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ.

وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُعِينُ اللَّهُ الْعَبْدَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَا يَنْفَعُ، فَمَا لَا يَكُونُ بِهِ لَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ لَهُ، لَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ.

فَلِذَلِكَ أَمَرَ الْعَبْدَ أَنْ يَقُولَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]." اهـ

 

وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) _رحمه الله_ في "مجموع الفتاوى" (10/ 213):

وَكُلَّمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ، كَانَتْ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَكُلَّمَا كَانَ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَ فِيهِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ،

وَكُلُّ مَحَبَّةٍ لَا تَكُونُ لِلَّهِ، فَهِيَ بَاطِلَةٌ. وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ. فَالدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ وَلَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ.

فَكُلُّ عَمَلٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ بَلْ لَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ: أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ." اهـ

 

وقال محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد المشهور بـ"ابن قيم الجوزية" (المتوفى: 751هـ) _رحمه الله_ في "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" (1/ 40):

"فذِكْره: جميع أنواع طاعته، فكل من كان فى طاعته فهو ذاكره، وإن لم يتحرك لسانه بالذكر، وكل من والاه الله فقد أحبه وقربه؛ فاللعنة لا تنال ذلك إلا بوجهه، وهى نائلة كل ما عداه.

 

وقال محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد المشهور بـ"ابن قيم الجوزية" (المتوفى: 751هـ) _رحمه الله_ في "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" = "الداء والدواء" (ص: 85):

"وَكُلُّ مَا بَاعَدَهُ مِنْ نَفْسِهِ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فَلَا بَرَكَةَ فِيهِ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْهُ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ مِنَ الْبَرَكَةِ عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِ مِنْهُ.

وَضِدُّ الْبَرَكَةِ اللَّعْنَةُ؛ فَأَرْضٌ لَعَنَهَا اللَّهُ أَوْ شَخْصٌ لَعَنَهُ اللَّهُ أَوْ عَمَلٌ لَعَنَهُ اللَّهُ أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَكُلَّمَا اتَّصَلَ بِذَلِكَ وَارْتَبَطَ بِهِ وَكَانَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ فَلَا بَرَكَةَ فِيهِ الْبَتَّةَ.

وَقَدْ لَعَنَ عَدُوَّهُ إِبْلِيسَ وَجَعَلَهُ أَبْعَدَ خَلْقِهِ مِنْهُ، فَكُلُّ مَا كَانَ جِهَتَهُ فَلَهُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ بِقَدْرِ قُرْبِهِ وَاتِّصَالِهِ بِهِ، فَمِنْ هَاهُنَا كَانَ لِلْمَعَاصِي أَعْظَمُ تَأْثِيرٍ فِي مَحْقِ بَرَكَةِ الْعُمُرِ وَالرِّزْقِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَكُلُّ وَقْتٍ عَصَيْتَ اللَّهَ فِيهِ، أَوْ مَالٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ، أَوْ بَدَنٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ فَهُوَ عَلَى صَاحِبِهِ لَيْسَ لَهُ، فَلَيْسَ لَهُ مِنْ عُمُرِهِ وَمَالِهِ وَقُوَّتِهِ وَجَاهِهِ وَعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ إِلَّا مَا أَطَاعَ اللَّهَ بِهِ.

وَلِهَذَا مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعِيشُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ نَحْوَهَا، وَيَكُونُ عُمُرُهُ لَا يَبْلُغُ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا، كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَمْلِكُ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَيَكُونُ مَالُهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَبْلُغُ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ نَحْوَهَا، وَهَكَذَا الْجَاهُ وَالْعِلْمُ.

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ، أَوْ عَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ» .." اهـ

 

وقال محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد المشهور بـ"ابن قيم الجوزية" (المتوفى: 751هـ) _رحمه الله_ في "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (1/ 69_70):

"وَلما كَانَت الدُّنْيَا حقيرة عِنْد الله لاتساوي لَدَيْهِ جنَاح بعوضة، كَانَت وَمَا فِيهَا فِي غَايَة الْبعد مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَة اللَّعْنَة،

وَهُوَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خلقهَا مزرعة للآخرة ومعبرا اليها يتزود مِنْهَا عبَادَة إليه، فَلم يكن يقرب مِنْهَا إِلَّا مَا كَانَ متضمنا___لاقامة ذكره ومفضيا الى محابه، وهو العلم الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ اللهُ ويُعْبَدُ وَيُذكر ويُثنى عَلَيْهِ، ويُمَجَّد، وَلِهَذَا خلقهَا وَخلق أهلها كَمَا قَالَ _تَعَالَى_: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]." اهـ

 

وقال أبوْ الْفَرَجِ عبد الرحمن بن علي الدمشقي، المعروف بـ"ابن الجوزيِّ" (المتوفى: 597 هـ) _رحمه الله_ في "التذكرة في الوعظ" (ص: 86):

"ذمّ الدُّنْيَا

لَيْسَ الذاكر من قَالَ: (سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله)، وَقَلبه مصر على الذُّنُوب، وَإِنَّمَا الذاكر من إِذا هَمَّ بِمَعْصِيَة، ذكر مقَامه بَين يَدي علَّامِ الغيوبِ،

كَمَا قَالَ بعض السّلف: "لَيْسَ الذاكر من هَمْهَمَ بِلِسَانِهِ، وَإِنَّمَا الذاكر من إِذا جلس فِي سوقه، وَأخذ يزن بميزانه، علم أن الله مطلعٌ عَلَيْهِ، فَلم يَأْخُذ، إِلَّا حَقًا، وَلم يُعْط إِلَّا حَقًا."

فَمَا يَنْبَغِي للعباد أَن ينشغلوا عَن الْمُنعم بِشَيْءٍ من نعمه، وَلَا يلتهوا عَنهُ بِشَيْء." اهـ

 

وقال أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي (المتوفى: 1188 هـ) _رحمه الله_ في "لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية" (1/ 133):      

"والدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة، وأسس بنيانه عليها، ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسالة موجودة فيهم،

فإذا درست آثار الرسل من الأرض وانمحت بالكلية أخرب اللَّه العالم العلوي والسفلي، وأقام القيامة،

فالرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم وسائط بين اللَّه وبين خلقه في أمره ونهيه وهم السفراء بينه وبين عباده، وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربهم محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة."[6] اهـ

 

الدرر السنية في الأجوبة النجدية (14/ 107)

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب :

"فإذا كثر العلم وقل الجهل، حصل بسببه من الخير والحسنات ما لا يحصيه إلا الله، إن قبله الله." اهـ

 

بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخبار للكلاباذي (ص: 156)

مَعْنَى الدُّنْيَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَلَاذَّ النُّفُوسِ، وَشَهَوَاتِهَا، وَجَمِيعَ حُطَامِهَا، وَزَهْرَاتِهَا، وَمَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14]، وَحُبَّ الْبَقَاءِ فِيهَا، فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ الْمَلْعُونَةَ إِذَا كَانَتْ لِلنُّفُوسِ وَشَهَوَاتِهَا وَلَذَّةِ الطَّبْعِ___، وَالتَّلَهِّي بِهَا، وَالشُّغْلِ فِيهَا، وَالْحُبِّ لَهَا، وَلَمْ تَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأُولَى الَّتِي يَلِيهَا الْمَوْتُ وَالْفَنَاءُ. وَالْآخِرَةُ هِيَ الْحَيَاةُ الْبَاقِيَةُ، الَّتِي لَيْسَ لَهَا زَوَالٌ وَلَا فَنَاءٌ." اهـ



[1] قال الذهبي _رحمه الله_ في "تاريخ الإسلام" – ت. بشار (6/ 217) (رقم: 551): "مُهَنّأ بْن يحيى، أبو عبد الله الشّاميّ الفقيه، صاحب الْإمَام أَحْمَد دمشقي نزل بغداد." اهـ

[2] أخرجه الشاشي في "المسند" (1/ 387) (رقم: 383): حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، نا السَّرِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ:

«لَا تَسُبُّوا الدُّنْيَا، فَنِعْمَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ، عَلَيْهَا يَبْلُغُ الْخَيْرَ، وَبِهَا يَنجُو مِنَ الشَّرِّ»

قال ابن القيسراني (المتوفى: 507هـ) في ذخيرة الحفاظ (5/ 2617): "وَإِسْمَاعِيل هَذَا مَتْرُوك الحَدِيث." اهـ

وفي رواية الطبراني في "الدعاء (ص: 568) (رقم: 2052): حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيُّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْمَكِّيُّ، ثنا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ السَّرِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا الدُّنْيَا فَنِعْمَ مَطِيَّةُ الْمُؤْمِنِ عَلَيْهَا، يَبْلُغُ الْجَنَّةَ بِهَا وَيَنْجُو مِنَ النَّارِ»

والحديث موضوع: صرح بذلك الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (11/ 699) (رقم: 5420)، وقال:

"وقال ابن عدي: "وإسماعيل بن أبان الغنوي؛ عامة رواياته مما لا يتابع عليه؛ إما إسناداً وإما متناً. قال ابن معين: كذاب. وقال البخاري: متروك الحديث. تركه أحمد.

وقال أحمد: كتبنا عنه هشام بن عروة وغيره، ثم حدث - أحاديث في الخضرة - أحاديث موضوعة، أراه عن فطر أو غيره، فتركناه".

قلت: وهذا الحديث ذكره الذهبي في ترجمته من مناكيره. وقال ابن حبان في "المجروحين" (1/ 128) :

"كان يضع الحديث على الثقات. قال ابن معين: وضع على سفيان أحاديث لم تكن".

قلت: وشيخه السري بن إسماعيل ليس خيراً منه؛ أورده ابن حبان أيضاً في "المجروحين" (1/ 355) ، وقال:

"كان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل؛ قال يحيى القطان: استبان لي كذبه في مجلس واحد. وكان يحيى بن معين شديد الحمل عليه".

[3] كان الغزالي _رحمه الله_ يمر بأربع مراحل: حرحلة الاعتزال، ومرحلة الكلام، ومرحلة التصوف، وفي المرحلة الأخيرة مال إلى إلى مذهب السلف أهل السنه الحقيقية، والله أعلم.

[4] أخرجه ابن أبي الدنيا في "الزهد" (ص: 55) (رقم: 83) بسند حسن.

[5]  ضعفه الألباني _رحمه الله_، وقد سبق بيان ضعفه، بل وضعه!

[6]  أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 35)؛ والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 158) عن أبي هريرة وقال الحاكم صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي في التلخيص، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 159) رقم 490.

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين