شرح الحديث 54 من رياض الصالحين

 

[54] فالأول: عن ابن مسعود  _رضي الله عنه_ :

عن النَّبيّ _صلى الله عليه وسلم_، قَالَ :

«إنَّ الصِّدقَ يَهْدِي إِلَى البرِّ، وإنَّ البر يَهدِي إِلَى الجَنَّةِ،

وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً.

وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ،

وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ الله كَذَّاباً» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

 

ترجمة عبد الله بن مسعود أبي عبد الرحمن الهذلي _رضي الله عنه_ :

 

وفي تهذيب الكمال في أسماء الرجال (16/ 121) للمزي :

"عَبد اللَّهِ بن مسعود بن غافل بن حبيب بْن____شمخ بن مخزوم (ويُقال: ابْن شمخ بْن فار بْن مخزوم) بْن صاهلة بْن كاهل بْن الحارث بْن تميم بْن سعد بْن هذيل بْن مدركة بْن إلياس بْن مضر بْن نزار بن معد بن عدنان، أبو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الهذلي، صاحب رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وكان أبوه مسعود بْن غافل، قد حالف عبد بْن الحارث بْن زهرة فِي الجاهلية، وأمه أم عبد بنت ود بْن سواء من هذيل أَيْضًا، لها صحبة.

أسلم بمكة قديما، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وهُوَ صاحب نعل رَسُول اللَّهِ صلى___الله عليه وسلم. كَانَ يلبسه إياها إِذَا قام، فإذا جلس أدخلها فِي ذراعه. وكَانَ كثير الولوج عَلَى النَّبِيّ _صلى الله عليه وسلم_." اهـ

 

وقال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" – ط. الرسالة (1/ 461):

"كَانَ مِنَ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ، وَمِنَ النُّجَبَاءِ العَالِمِيْنَ، شَهِدَ بَدْراً، وَهَاجَرَ الهِجْرَتَيْنِ، وَكَانَ يَوْمَ اليَرْمُوْكِ عَلَى النَّفْلِ، وَمَنَاقِبُهُ غَزِيْرَةٌ، رَوَى عِلْماً كَثِيْراً." اهـ

 

وقال في "سير أعلام النبلاء" – ط. الرسالة (1/ 464):

"قَالَ عَبْدُ اللهِ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَادِسَ سِتَّةٍ، وَمَا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ مُسْلِمٌ غَيْرُنَا.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَسْلَمَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ بَعْدَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِيْنَ نَفْساً.

وَعَنْ يَزِيْدَ بنِ رُوْمَانَ، قَالَ: أَسْلَمَ عَبْدُ اللهِ قَبْلَ دُخُوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَارَ الأَرْقَمِ

 

سير أعلام النبلاء ط الرسالة (1/ 465)

عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ، قَالَ:

"كُنْتُ أَرْعَى غَنَماً لِعُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَمَرَّ بِي رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: (يَا غُلاَمُ! هَلْ مِنْ لَبَنٍ؟)

قُلْتُ: نَعَمْ، وَلَكِنِّي مُؤْتَمَنٌ.

قَالَ: فَهَلْ مِنْ شَاةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الفَحْلُ؟

فَأَتَيْتُهُ بِشَاةٍ، فَمَسَحَ ضِرْعَهَا، فَنَزَلَ لَبَنٌ، فَحَلَبَ فِي إِنَاءٍ، فَشَرِبَ، وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ.

ثُمَّ قَالَ لِلضِّرْعِ: "اقْلُصْ." فَقَلَصَ.

(زَادَ أَحْمَدُ، قَالَ: "ثُمَّ أَتَيْتُهُ بَعْدَ هَذَا." ثُمَّ اتَّفَقَا)، فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا القَوْلِ.

فَمَسَحَ رَأْسِي، وَقَالَ: (يَرْحَمُكَ اللهُ، إِنَّكَ غُلَيِّمٌ مُعَلَّمٌ) .

هَذَا حَدِيْثٌ صَحِيْحُ الإِسْنَادِ.

وَرَوَاهُ: أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمِ بنِ بَهْدَلَةَ، وَفِيْهِ زِيَادَةٌ، مِنْهَا:

"فَلَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِيْهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ سَبْعِيْنَ سُوْرَةً، مَا نَازَعَنِي فِيْهَا بَشَرٌ." اهـ

 

وفي تهذيب الكمال في أسماء الرجال (16/ 127): "وَقَال أَبُو بَكْر بْن أَبي خيثمة، عَن يحيى بْن مَعِين: مات سنة ثلاث أَوِ اثنتين وثلاثين." اهـ

 

نص الحديث وشرحه:

 

* عن ابن مسعود  _رضي الله عنه_ :

عن النَّبيّ _صلى الله عليه وسلم_، قَالَ :

«إنَّ الصِّدقَ يَهْدِي إِلَى البرِّ،

 

وقال العيني _رحمه الله_ في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (22/ 153) مبينا لمعنى البر: "وَهُوَ الْعَمَل الصَّالح الْخَالِص من كل مَذْمُوم، وَهُوَ إسم جَامع لِلْخَيْرَاتِ كلهَا." اهـ

 

وقال محمد بن عبد الحق اليَفُرَنِيِّ[1] (625 هـ) _رحمه الله_ في "الاقتضاب في غريب الموطأ وإعرابه على الأبواب" (1/ 349): "وحج مبرور، أي: خالص لا يخالطه مأثم." اهـ

 

* وإنَّ البر يَهدِي إِلَى الجَنَّةِ،

وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً.

 

وفي عمدة القاري شرح صحيح البخاري (22/ 153) :

"قَوْله : (حَتَّى يكْتب) ، أَي: يحكم لَهُ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني : (حَتَّى يكونَ)،

وَالْمرَاد : الْإِظْهَار للمخلوقين إِمَّا للملأ الْأَعْلَى وَإِمَّا أَن يلقى ذَلِك فِي قُلُوب النَّاس وألسنتهم، وإلاَّ فَحكم الله أزلي، وَالْغَرَض: أَنه يسْتَحق وصف الصديقين وثوابهم وَصفَة الْكَذَّابين وعقابهم، وَكَيف لَا وَإنَّهُ من عَلَامَات النِّفَاق." اهـ

 

* وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ،

وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ الله كَذَّاباً» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

 

قال أبوْ الْفَرَجِ عبد الرحمن بن علي الدمشقي، المعروف بـ"ابن الجوزيِّ" (المتوفى: 597 هـ) _رحمه الله_ في "كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 309): "الْبر: الطَّاعَة، والفجور: الْمعْصِيَة." اهـ

 

وقال محمود بن أحمد الغيتابى الحنفى، المعروف  بـ"بدر الدين العيني" (المتوفى: 855 هـ) _رحمه الله_ في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (22/ 153): "قَوْله: (إِلَى الْفُجُور) وَهُوَ الْميل إِلَى الْفساد، وَقيل: الانبعاث فِي الْمعاصِي، وَهُوَ جَامع للشرور." اهـ

 

تخريج الحديث :

 

أخرجه البخاري في "صحيحه" (8/ 25) (رقم : 6094)، ومسلم في "صحيحه" (4/ 2012) (رقم : 2607)، أبو داود في "سننه" (4/ 297) (رقم : 4989)، الترمذي في "سننه" (4/ 348) (رقم : 1971)، وابن ماجه في "سننه" (1/ 18) (رقم : 46)

 

منزلة الحديث :

 

وقال محمد بن إسماعيل الحسني، الكحلاني، المعروف بـ"الأمير الصنعاني" (المتوفى: 1182هـ) _رحمه الله_ في "التنوير شرح الجامع الصغير" (4/ 203):

"واعلم أن هذا الحديث الجليل قد اشتمل على عدة من الأحكام والحكم والمواعظ وأن كل كلمة تستحق أن تفرد بالشرح وإطالة القول." اهـ

 

من فوائد الحديث :

 

قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ) _رحمه الله_ في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (16/ 160):

"قَالَ الْعُلَمَاءُ : "هَذَا فِيهِ: حَثٌّ عَلَى تَحَرِّي الصِّدْقِ، وَهُوَ قَصْدُهُ، وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَعَلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّسَاهُلِ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَسَاهَلَ فِيهِ، كَثُرَ مِنْهُ، فَعُرِفَ بِهِ وَكَتَبَهُ اللَّهُ لِمُبَالَغَتِهِ صِدِّيقًا إِنِ اعْتَادَهُ أَوْ كَذَّابًا إِنِ اعْتَادَهُ،[2]

وَمَعْنَى (يُكْتَبُ) هُنَا يُحْكَمُ لَهُ بِذَلِكَ وَيَسْتَحِقُّ الْوَصْفَ بِمَنْزِلَةِ الصِّدِّيقِينَ وَثَوَابِهِمْ أَوْ صِفَةِ الْكَذَّابِينَ وَعِقَابِهِمْ.

وَالْمُرَادُ: إِظْهَارُ ذَلِكَ لِلْمَخْلُوقِينَ إِمَّا بِأَنْ يَكْتُبَهُ فِي ذَلِكَ لِيَشْتَهِرَ بِحَظِّهِ مِنَ الصِّفَتَيْنِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَإِمَّا بِأَنْ يُلْقِيَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَأَلْسِنَتِهِمْ كما يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ وَالْبَغْضَاءُ وَإِلَّا فَقَدَرُ اللَّهِ _تعالى_ ___وكتابه السابق قد سبق بِكُلِّ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ." اهـ

 

وقال أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البُسْتِيُّ، المعروف بـ"الخَطَّابِيِّ" (المتوفى: 388 هـ) _رحمه الله_ في "معالم السنن" (4/ 133):

"هذا تأويل قوله _سبحانه_ :

{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) } [الانفطار: 13 - 14].

وأصل الفجور الميل عن الصدق والانحراف إلى الكذب." اهـ[3]

 

وقال فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376 هـ) _رحمه الله_ في "تطريز رياض الصالحين" (ص: 54):

"البر: اسم جامع للخير كله. والفجور: الأعمال السيئة.

قال القرطبي: "حق على كل من فهم عن الله أن يلازم الصدْقَ في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاءَ في الأحوال.

فمن كان كذلك، لحق بالأبرار، ووصل إلى رضاء الغفار. وقد أرشد _تعالى_ إلى ذلك كلِّه بقوله عند ذكر أحوال الثلاثة التائبين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة (119) ] ." اهـ

 

وقال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك البكري، المعروف بـ"ابن بطال القرطبي" (المتوفى: 449 هـ) _رحمه الله_ في "شرح صحيح البخاري" (9/ 281):

"وهذه الصفة[4] ليست صفةَ المؤمنين، بل هى من صفات المنافقين وعلاماتهم." اهـ[5]

 

وقال يحيى بن هُبَيْرَة بن محمد بن هبيرة الذهلي الشيبانيّ، أبو المظفر الحنبلي (المتوفى: 560هـ) _رحمه الله_ في "الإفصاح عن معاني الصحاح" (2/ 77):

* في هذا الحديث من الفقه: أن الرجل يصدق ثم يصدق إلى أن ينتهي به إكثار الصدق إلى أن يكتب صديقًا،

والصديق هو الصادق في مقاله وفي حاله فمقاله يصدق حاله، وحاله يصدق مقاله.

* وصِدِّيْقٌ: فِعِّيْلٌ من الصدق، يسمى به كلُّ مكثرٍ من الصدق، كما يقال: "سِكِّيْتٌ، وشِرِّيْبٌ"، أي: كثيرُ السكوتِ والشُّرْبِ،

وكذلك إذا كذب ثم كذب، فإنه يكتب عند الله كذابًا، ولم يأت في اللغة كِذِّيْبٌ، لأن الكذب عورة، فقليلها مذموم، فلم يُبْنَ لها بِنَاءً نهائيًا مبالغةً، ليحذر القليل منها." اهـ

 

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 3030) للقاري :

"وَفِي الْحَدِيثِ: إِشْعَارٌ بِحُسْنِ خَاتِمَتِهِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصِّدِّيقَ يَكُونُ مَأْمُونَ الْعَاقِبَـــــــة." اهـ

 

وقال محمد علي بن محمد بن علان بن إبراهيم البكري الصديقي الشافعي (المتوفى: 1057هـ) _رحمه الله_ في "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" (1/ 209):

"قال القرطبي:

"حق على كل من فهم عن الله أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار، ووصل إلى رضا الغفار،

وقد أرشد تعالى إلى ذلك كله بقوله عند ذكر أحواله الثلاثة التائبين {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} (الأحزاب: 35) والقول في الكذب المحذر عنه على الضد من ذلك اهـ.

 

وقال الحسين بن محمد بن سعيد اللاعيّ، المعروف بـ"المَغرِبي" (المتوفى: 1119 هـ) _رحمه الله_ في "البدر التمام شرح بلوغ المرام" (10/ 348):

"وفي الحديث إشارة إلى أن من توقى الكذب بالقصد الصحيح إلى الصدق صار الصدق له سجية حتى يستحق الوصف به، وكذلك عكسه،

وأما ذم الكاذب ومدح الصادق فهو حاصل على كل حال، والحديث فيه دلالة على تحريم الكذب على العموم." اهـ

 

وقال محمد بن إسماعيل الحسني، الكحلاني، المعروف بـ"الأمير الصنعاني" (المتوفى: 1182هـ) _رحمه الله_ في "سبل السلام" (2/ 686):

"وَفِي الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَنْ تَحَرَّى الصِّدْقَ فِي أَقْوَالِهِ صَارَ لَهُ سَجِيَّةً وَمَنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ وَتَحَرَّاهُ صَارَ لَهُ سَجِيَّةً، وَأَنَّهُ بِالتَّدَرُّبِ وَالِاكْتِسَابِ تَسْتَمِرُّ صِفَاتُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى عَظَمَةِ شَأْنِ الصِّدْقِ وَأَنَّهُ يَنْتَهِي بِصَاحِبِهِ إلَى الْجَنَّةِ،

وَدَلِيلٌ عَلَى عَظَمَةِ قُبْحِ الْكَذِبِ، وَأَنَّهُ يَنْتَهِي بِصَاحِبِهِ إلَى النَّارِ، وَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَا لِصَاحِبِهِمَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الصَّدُوقَ مَقْبُولُ الْحَدِيثِ عِنْدَ النَّاسِ، مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْحُكَّامِ مَحْبُوبٌ مَرْغُوبٌ فِي أَحَادِيثِهِ، وَالْكَذُوبُ بِخِلَافِ هَذَا كُلِّهِ." اهـ

 

وقال عبد الحميد محمد بن باديس الصنهاجي (المتوفى: 1359هـ) _رحمه الله_ في "مجالس التذكير من حديث البشير النذير" (ص: 116):

"إن مَنْ داومَ على الكذِبِ حتى كتب من الكذابين يخشى عليه أن يحرم من التوفيق إلى التوبة، وتلك هي أكبر مصيبة،

فإن الله من فضله على هذه الأمة أَنْ فَتَحَ أمامها أبواب التوبة، وإذا داوم العبد على الإعراض عن باب سيِّدِهِ متهاونا بمخالفة أمره حتى كتب عنده في سِجِلِّ الشِّرِّيْرِيْنَ، كان ذلك خطرا عظيما عليه في أن يسُدَّ في وجهه البابَ ويضرب بسوط الحرمان،

ففي هذا الحديث الشريف: ترهيبٌ شديدٌ من سوء عاقبة هذه الحال." اهـ

 

وقال عبد الحميد محمد بن باديس الصنهاجي (المتوفى: 1359هـ) _رحمه الله_ في "مجالس التذكير من حديث البشير النذير" (ص: 117_118):

"على العاقل أن يضبط لسانه في الجد والهزل، وأن يحترس من الكذب في الجليل والحقير، وأن يتثبت فيما ينقل ويروي من حديث الناس، وأن يتثبت أكثر وأبلغ فيما يروي في الدين___والعلم، وأن يتحرى الصدق وتصوير الحقائق وأن يجعل ذلك من همه وأعظم قصده، وأن يبادر بالتوبة فيما يَزِلُّ به لسانه إلى ربه، ويعملَ دائما على أن يطابق بين عقدهِ بقلبه ونطقه بلسانه وعمله بجوارحه حتى يكونَ متحريا للصدق بجميع أقسامه، ويكتبَ به بفضل الله ورحمته في الصديقين. وفقنا لهذا ويسرنا له نحن والمسلمين أجمعين يا رب العالمين يا أرحم الراحمين." اهـ

 

وقال عبد الله بن عبد الرحمن البسام التميمي (المتوفى: 1423هـ) _رحمه الله_ في "توضيح الأحكام من بلوغ المرام" (7/ 480):

"ما يؤخذ من الحديث:

1 - الصدق: هو مطابقة الخبر للواقع، والكذب: عدم مطابقة الخبر للواقع؛ هذه حقيقتهما عند جمهور العلماء.

2 - الحديث فيه الأمر بالصدق؛ لأنَّه يدل ويوصل إلى البر الذي هو جمَاع الخير، والبر هو الطريق المستقيم إلى الجنة؛ {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)} [الانفطار].

3 - إنَّ الصدق خلق كريم يحصُلُ بالاكتساب والتحصيل والمجاهدة؛ فإنَّ الرجل ما يزال يصدق في أقواله وأفعاله ويتحرى الصدق فيهما حتى يكون الصدق خلقًا له متأصلاً في نفسه، وسجية من طبعه؛ فيكون عند الله تعالى من الصِّدِّيقين والأبرار.

4 - قال _تعالى_: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]؛ فالصدق خلق كريم يتضمن الصدق في القول، والنية، والإرادة، فمن اتَّصف الصدق في جميع ذلك فهو صِدِّيق؛ لأنَّه صيغة مبالغة من الصدق، وبقدر ما يتمكن من هذه المقامات، فهو صادق بالنسبة إليه، والله أعلم.

5 - أما الكذب: فهو خلق ذميم يكتسبه صاحبه من طول ممارسته، وتخلقه به، وتحريه قولًا وفعلاً، حتى يصبح خلقًا وسجيَّة قبيحةً فيه، ثم يُكتب عند الله كثير الكذب، عديم الصدق.

6 - ويدل الحديث على التحذير من الكذب؛ لأنَّ الكذب يوصل إلى الفسق والفجور، فتصير أعماله وأقواله كلها على خلاف الحقيقة، خارجة عن طاعة الله تعالى، والخروج عن طاعته هو الهاوية التي تقود صاحبها، وَتَزُجُّ به في نار جهنم." اهـ

 

وقال محمد بن علي بن آدم بن موسى الإثيوبي الوَلَّوِي (المتوفى 1442 هـ) _رحمه الله_ في "مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه" (2/ 68) عند ذكر فوائد الحديث:

"12 - (ومنها): أن الكذب باب الفجور، وأن الفجور باب النار، أعاذنا الله سبحانه وتعالى منها بمنه وكرمه آمين.

13 - (ومنها): أن الصدق باب البرّ، وأن البرّ باب الجنّة، جعلنا الله سبحانه وتعالى من أهلها آمين.

14 - (ومنها): أن الصادق يستحقّ أن يوصف بالصدق والبرّ، والكاذب يوصف بالكذب والفجور.

15 - (ومنها): أن العبد إذا تحرّى الكذب، ولازمه كتبه الله سبحانه وتعالى من الكذابين، وبغّضه إلى خلقه أجمعين، وكذلك الصادق إذا تحرّى الصدق، ولازمه كتبه الله تعالى من الصادقين، وحببه إلى خلقه أجمعين." اهـ

 

وقال الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ) _رحمه الله_ في "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" – ط. المكتبة الإسلامية (6/ 419):

"في هذا الحديث : حرص النبي _صلى الله عليه وسلم_ على مكارم الأخلاق وعلى التحلي بمكارم الأخلاق والتخلي عن مساوي الأخلاق،

فيستفاد الحكم الأول من قوله: "عليكم بالصدق"، ويستفاد الحكم الثاني من قوله: "إياكم والكذب"

ومن فوائد الحديث: فضيلة الصدق وأنة يهدي إلى البر، وهو ظاهر من الحديث، والإنسان الصدوق معتبر عند الناس حتى إنه ليبقى ذكره بين الناس، وإن كان قد مات منذ أمد بعيد.

ومن فوائد الحديث: أن الأعمال الصالحة يقود بعضها إل بعض لقوله: "يهدي إلي البر" وهو كذلك، ووجهه: أن الإنسان إذا صبر على الطاعة تَمَرَّنَ عليها وصارت كالغريزة له وسهُل عليه أن يسابق في الخيرات.

ومن فوائد الحديث: إثبات الجنة لقوله: "يهدي إلي الجنة".

ومن فوائد الحديث: أن للجنة أعمالاً توصل إليها، ويُعرف ذلك بالكتاب والسنة.

ومن فوائد الحديث: أن الإنسان كلما كان صدوقاً متحرياً للصدق كتبه الله تعالى صديقاً، وكما نعلم جميعاً أن الصديقية أعلى مراتب الخلق ما عدا النبوة؛ يعني: يكون في الطبقة الثانية من طبقات الذين أنعم الله عليهم.

ومن فوائد الحديث: التحذير من الكذب لقوله: "وإياكم والكذب".

ومن فوائده: أن عاقبه الكذب وخيمة وهو يؤدي إلي الفجور.

ومن فوائده أيضا: أن الفجور طريق إلى النار كما قال صلى الله عليه وسلم: "وإن الفجور يهدي إلي النار".

ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا تعوّد الكذب وتحرى الكذب كتب عند الله من الكذابين

ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا تحرى الصدق، فإنه لا يأثم، وإن تبين أنه مخالف للصواب لقوله: "يتحرى"؛

وهذا عام في كل شيء حتى في الأيمان والطلاق وغير ذلك، إذا تبين أن كلامه على خلاف الواقع، وهو يظن أنه خلاف الواقع، فإنه لا يترتب عليه إثم ولا حكم شرعي،

مثال ذلك: رجل طلّق زوجته بناء على أنها كلَّمَتْ أجنبياً، وتبين أنها لم تكلم أجنبياً فلا شيء عليه؛ يعني: لا طلاق عليه،

رجل آخر قال: والله ليقدمنّ فلان غداً، يخبر عما في قلبه وعما في ظنه، ثم لم يقدم فلا حِنْثَ عليه، ولا شيء عليه؛ لأنه بنى على غالب ظنه، وظن أن هذا هو الصدق،

ومن ذلك أيضا إذا قال لامرأته: إن كلمت فلاناً فأنت طالق، فكلمت رجلاً يظنه إياه، فقال لها: كلمت من علقت طلاقك عليه أنت طالق، ثم تبين أنها كلمت غيره فإنه لا طلاق عليه.

المهم: أن كل من أخبر بشيء يظنه صدقاً، فهو قد تحرى الصدق، فلا إثم عليه، ولا كفارة___فيما إذا بان خلاف ظنه،

في الكذب نفس الشيء نقول: الإنسان إذا حدث بكذب يعلم أنه كذب أو يغلب على ظنه أنه كذب فإنه واقع في الإثم." اهـ

 

وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) _رحمه الله_ في "مجموع الفتاوى" (10/ 11):

"فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الصِّدْقَ أَصْلٌ يَسْتَلْزِمُ الْبِرَّ. وَأَنَّ الْكَذِبَ يَسْتَلْزِمُ الْفُجُورَ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14]،

وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إذَا أَمَرَ بَعْضَ مُتَّبِعِيهِ بِالتَّوْبَةِ، وَأَحَبَّ أَنْ لَا يُنَفِّرَهُ، وَلَا يُشَعِّبَ قَلْبَهُ، أَمَرَهُ بِالصِّدْقِ."

 

وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) _رحمه الله_ في "الاستقامة" (1/ 467):

"فالصدق مِفْتَاح كل خير كَمَا أن الْكَذِب مِفْتَاح كل شَرّ[6]، وَلِهَذَا يَقُولُونَ عَن بعض الْمَشَايِخ إِنَّه قَالَ لبَعض من استتابه من أَصْحَابه : "أَنا لَا أوصيك إِلَّا بِالصّدقِ."

فتأملوا، فوجدوا الصدْق يَدعُوهُ إِلَى كل خير،

وَلِهَذَا فرق الله سُبْحَانَهُ بَين أهل السَّعَادَة وَأهل الشقاوة بذلك فَقَالَ :

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} [الزمر: 32 - 35] ". اهـ

 

وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) _رحمه الله_ في "التحفة العراقية" (ص: 39):

"قَالَ من قَالَ من السّلف كسعيد بن جُبَير: إِنَّ مِنْ ثَوَاب الْحَسَنَة الْحَسَنَةَ بعْدهَا، وَإِن من عُقُوبَة السَّيئَة السَّيئَةَ بعْدهَا." اهـ

 

وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) _رحمه الله_ في "الحسنة والسيئة" (ص: 25):

والمعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى، فتكون من سيئات الجزاء مع أنها من سيئات العمل....

وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى." اهـ[7]

 

وقال محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد المشهور بـ"ابن قيم الجوزية" (المتوفى: 751هـ) _رحمه الله_ في "الطرق الحكمية" (ص: 200):

"يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَلِيِّ أَمْرٍ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي وِلَايَتِهِ بِأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، وَالْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ." اهـ

 

روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 51) لأبي حاتم ابن حبان البستي :

"إن اللَّه _جل وعلا_ فضل اللسان على سائر الجوارح ورفع درجته وأبان فضيلته بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده،

فلا يجب للعاقل أن يُعَوِّدَ آلةً خلقها اللَّه للنطق بتوحيده بالكذب، بل يجب عَلَيْهِ المداومة برعايته بلزوم الصدق وما يَعُوْدُ عَلَيْهِ نفعه في دارَيْهِ، لأن اللسان يقتضي مَا عُوِّدَ، إنْ صِدْقًا، فصِدْقًا، وإن كذِبًا، فكَذِبًا." اهـ

 

وقال الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ) _رحمه الله_ في "الضياء اللامع من الخطب الجوامع" (7/ 512):

"لقد بيَّن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في هذا الحديث أن للصدق غايةً وللصادق مرتبةً،

أما غاية الصدق، فهي البر والخير، ثم الجنةُ، وأما مرتبة الصادق، فهي الصديقية. وهي المرتبة التي تلي مرتبة النبوة: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ، فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]،

وإن الصادق لمعتبر بين الناس في حياته ومماته، فهو موضع ثقة فيهم في أخباره ومعاملته وموضع ثناء حسن وترحم عليه بعد وفاته." اهـ

 

وقال فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376 هـ) _رحمه الله_ في "تطريز رياض الصالحين" (ص: 852):

"مصداق هذا الحديث قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار (13، 14) ] .

وفيه: الحثُّ على تحرِّي الصدق، وهو قصده، والاعتناء به، والتحذير من الكذب والتساهل فيه، فإِنه إِذا تساهل فيه، أكثر منه، فعرف به، فكتب." اهـ

 

صحيح ابن حبان - مخرجا (1/ 507)

ذِكْرُ كِتْبَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا الْمَرْءَ عِنْدَهُ مِنَ الصِّدِّيقِينَ بِمُدَاوَمَتِهِ عَلَى الصِّدْقِ فِي الدُّنْيَا

 

وقال محمد بن حبان التميمي، الدارمي، المعروف بـ" أبو حاتم البُسْتِيُّ" (المتوفى: 354هـ) _رحمه الله_ في "صحيح ابن حبان" (1/ 508):

"ذِكْرُ رَجَاءِ دُخُولِ الْجِنَانِ لِلدَّوَامِ عَلَى الصِّدْقِ فِي الدُّنْيَا." اهـ

 

وقال محمد بن حبان التميمي، الدارمي، المعروف بـ" أبو حاتم البُسْتِيُّ" (المتوفى: 354هـ) _رحمه الله_ في "صحيح ابن حبان" (1/ 508):

"ذِكْرُ الْإِخْبَارِ عَمَّا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ مِنْ تَعَوُّدِ الصِّدْقِ، وَمُجَانَبَةِ الْكَذِبِ فِي أَسْبَـــــابِهِ." اهـ

 

وقال محمد بن علي بن آدم بن موسى الإثيوبي الوَلَّوِي (المتوفى 1442 هـ) _رحمه الله_ في "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (41/ 28_30)

في فوائده:

1 - (منها): التحذير عن الكذب، وأنه لا يجوز لا بجدّ، ولا بهزل. قال

القرطبيّ: وفيه حجة للطبريّ في تحريمه الكذب مطلقًا وعمومًا، فلا يجوز

لرجل أن يَعِد صبيّه بشيء، ثم لا يفي به؛ لأنه من الكذب المحرّم، قال

القرطبيّ: وفيه ما يدلّ على وجوب الوفاء بالوعد، ولو كان بالشيء الحقير مع

الصبيّ الصغير.

2 - (ومنها): أن الكذب باب الفجور، وأن الفجور باب النار،

أعاذنا الله سبحانه وتعالى منها بمنّه وكَرَمه آمين.

3 - (ومنها): أن الصدق باب البرّ، وأن البرّ باب الجنّة، جعلنا الله سبحانه وتعالى

من أهلها آمين.

4 - (ومنها): أن الصادق يستحقّ أن يوصف بالصدق والبرّ، والكاذب

يوسف بالكذب والفجور.___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (41/ 29)

5 - (ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله، قال العلماء: في هذا الحديث حَثّ

على تحري الصدق، وهو قصدُهُ، والاعتناءُ به، وعلى التحذير من الكذب،

والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه كَثُرَ منه، فَيُعرَف به.

قال الحافظ: والتقييد بالتحري وقع في رواية أبي الأحوص، عن منصور

عند مسلم، ولفظه: "وإن العبد لَيَتَحَرَّى الصدق"، وكذا قال في الكذب، وعنده

أيضا في رواية الأعمش، عن شقيق، وهو أبو وائل، وأوله عنده: "عليكم

بالصدق"، وفيه: "وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق"، وقال فيه: "وما

يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب. . ."، فذكره.

قال: وفي هذه الزيادة إشارة إلى أن من تَوَقَّى الكذب بالقصد الصحيح

إلى الصدق، صار له الصدق سَجِيّةً حتى يَستحقَّ الوصف به، وكذلك عكسه،

وليس المراد أن الحمد والذمّ فيهما يَختص بمن يَقصد إليهما فقط، وإن كان

الصادق في الأصل ممدوحًا، والكاذب مذمومًا.

ثم قال النووي: واعلَم أن الموجود في نُسخ البخاريّ ومسلم في بلادنا

وغيرها، أنه ليس في متن الحديث إلا ما ذكرناه، قاله القاضي عياض، وكذا

نَقَله الحميديّ، ونَقَل أبو مسعود عن كتاب مسلم في حديث ابن المثنى وابن

بشار زيادة، وهي: "إن شر الرَّوَايا رَوَايا الكذب؛ لأن الكذب لا يصلح منه جِدٌّ

ولا هزل، ولا يَعِدُ الرجل صبيّه، ثم يُخلِفه".

فذكر أبو مسعود أن مسلمًا رَوَى هذه الزيادة في كتابه، وذكرها أيضًا أبو

بكر الْبَرْقاني في هذا الحديث، قال الحميديّ: وليست عندنا في كتاب مسلم.

والرَّوَايا جَمْع رَوِيّة بالتشديد، وهو ما يَتَرَوَّى فيه الإنسان قبل قوله أو

فِعله، وقيل: هو جَمْع رَاوية؛ أي: للكذب، والهاء للمبالغة.[8]

قال الحافظ: لم أر شيئًا من هذا في "الأطراف" لأبي مسعود، ولا في__"الجمع بين الصحيحين" للحميدي، فلعلهما ذكراه في غير هذين الكتابين.

انتهى ["الفتح" (10/ 524 – 525)].

6 - (ومنها): أن العبد إذا تحرّى الكذب ولازَمه، كَتَبه الله سبحانه وتعالى من

الكذابين، وبغّضه إلى خَلْقه أجميعين، وكذلك الصادق إذا تحرّى الصدق

ولازَمه، كَتَبه الله تعالى من الصادقين، وحبَّبه إلى خلقه أجمعين، وهذا هو

معنى الحديث الآخر الذي أخرجه الشيخان وغيرهما، من حديث أبي

هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأَحِبّه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض"،

هذا لفظ البخاريّ، ولفظ مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي

هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل،

فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء،

فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء. قال: ثم يوضع له

القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا، دعا جبريل فيقول: إني أُبغض فلانًا

فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا

فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض"، والله تعالى

أعلم." اهـ



[1] وفي "اللباب في تهذيب الأنساب" (3/ 416) لابن الأثير :

"اليَفُرَنِيُّ _بِفَتْح الْيَاء وَضم الْفَاء وَفتح الرَّاء وَبعدهَا نون_: هَذِه النِّسْبَة إِلَى يفرن وَهِي قَبيلَة من البربر بِبِلَاد الْمغرب ينْسب إِلَيْهَا أَبُو عبد الرَّحْمَن ابْن عطاف اليفرني الْبَرْبَرِي." اهـ

[2] وفي إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 81) للقاضي عياض :

"فيه : تحريض على تحرى الصدق وتجنب الكذب وترك التساهل فيه؛ فإن ذلك يؤدى إلى أمثاله، ويقع فيه ويكثر منه إذا لم يتحفظ من الكذب حتى يعرف به، ويكتب عند الله بالمبالغة فى الصدق إذا اعتاده، أو بالكذب إذا اعتاده." اهـ

وفي شرح الزرقاني على الموطأ (4/ 649) :

"وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى تَحَرِّي الصِّدْقِ، وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ نَفْعًا، وَلِذَا عَلَتْ رُتْبَتُهُ عَلَى رُتْبَةِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّهُ إِيمَانٌ وَزِيَادَةٌ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] (سورة التَّوْبَةِ: الْآيَةُ 119) ،

وَفِيهِ تَحْذِيرٌ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّسَاهُلِ فِيهِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ ضَرَرًا، فَإِنَّهُ إِذَا تَسَاهَلَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَعُرِفَ بِهِ، فَلَا يُعْتَمَدُ نُطْقُهُ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَيَنْسَلِخُ مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ لِخُصُوصِيَّةِ الْإِنْسَانِ بِالنُّطْقِ إِلَى الْبَهِيمِيَّةِ، فَيَصِيرُ هُوَ وَالْبَهِيمَةُ سَوَاءٌ، بَلْ هُوَ شَرٌّ مِنْهَا، لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ نُطْقُهَا، لَا يَضُرُّ، وَالْكَاذِبُ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ." اهـ

[3] وفي شرح صحيح البخارى لابن بطال (9/ 280) :

"مصداق حديث عبد الله فى كتاب الله : {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) } [الانفطار: 13 - 14]

والصدق أرفع خلال المؤمنين إلا ترى قوله :

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]،

فجعل الصدق مقارنًا للتقوى، وقيل للقمان الحكيم : "ما بلغ بك ما نرى؟" قال : "صِدْقُ الحديثِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَتَرْكِيْ مَا لاَ يَعْنِيْنِيْ". ." اهـ

وأثر لقمان، حكاه عنه مالك _رحمه الله_ في الموطأ كما في الاستذكار (8/ 575) (رقم : 17).

[4] يعني: الكذب

[5] وفي التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (16/ 255) :

"هَذَا يَشْهَدُ لِقَوْلِي فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ (لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا)

أَيْ : الْمُؤْمِنُ لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ قَوْلُ الزُّورِ فَيَسْتَحْلِي الْكَذِبَ وَيَتَحَرَّاهُ وَيَقْصِدُهُ حَتَّى تَكُونَ تِلْكَ عَادَتَهُ فَلَا يَكَادُ يَكُونُ كَلَامُهُ إِلَّا كَذِبًا كُلُهُ، لَيْسَتْ هَذِهِ صِفَةَ الْمُؤْمِنِ،

وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ _عَزَّ وَجَلَّ_: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105]،

فَذَلِكَ عِنْدِي _وَاللَّهُ أَعْلَمُ_ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ أَوْ عَلَى رَسُولِهِ." اهـ

[6] وفي الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (1/ 128_129) :

"فَالْكَذِبُ أَصْلٌ لِلشَّرِّ، وَأَعْظَمُهُ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصِّدْقُ أَصْلٌ لِلْخَيْرِ، وَأَعْظَمُهُ الصِّدْقُ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى...

وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَسْفَلِ الدَّرَكَاتِ، كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْفُرُوقِ، وَالدَّلَائِلِ، وَالْبَرَاهِينِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ أَحَدِهَا وَكَذِبِ الْآخَرِ مَا يَظْهَرُ لِكُلِّ مَنْ عَرَفَ حَالَهُمَا. وَلِهَذَا كَانَتْ دَلَائِلُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَعْلَامُهُمُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِمْ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، كَمَا أَنَّ دَلَائِلَ كَذِبِ الْمُتَنَبِّئِينَ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ." اهـ

[7] وفي الصفدية (1/ 88) لابن تيمية : "وقال بعض السلف أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها." اهـ

وفي شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص: 160) :

"والمعاصي قد تكون بعضها عقوبة بعض فيكون لله على المعصية عقوبتان عقوبة بمعصية تتولد منها وتكون الأولى سببا فيها وعقوبة بمؤلم يكون جزاؤها." اهـ

[8] وقال القرطبيّ: الروايا: جمع راوية- يعني به حامل الكذب، وراويَهُ، والهاء فيه للمبالغة- كعلّامة، ونسّابة- أو يكون استعارةً، شبّه حامل الكتاب لحمله إياه بالراوية الحاملة للماء. انتهى. "المفهم" 6/ 593.

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين