شرح الحديث 1 من بلوغ المرام لأبي فائزة البوجيسي

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

مقدمة الحافظ ابن حجر لكتابه بلوغ المرام

 

الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة قديمًا وحديثًا، والصلاة والسلام، على نبيه ورسوله محمَّد وآله وصحبه الذين ساروا في نصرة دينه سيرًا حثيثًا، وعلى أتباعهم الذين وَرِثُوا علمهم و"العلماء ورثة الأنبياء" أكرم بهم وارثًا وموروثًا.

 

أما بعد: فهذا مختصَرٌ يشتمل على أصول الأدلَّةِ الحديثيَّة، للأحكامِ الشرعيَّة، حرَّرته تحريرًا بالغًا[1]؛ ليصيرَ من يحفظه بين أقرانه نابغًا[2]، ويستعينَ به الطالبُ المبتدي، ولا يستغنيَ عنه الراغبُ المنتهي، وقد بَيَّنْتُ عَقِبَ كُلِّ حديث مَنْ أخرجَهُ من الأئمَّة، لإرادة نُصْحِ الأمَّة.

 

فالمرادُ بالسبعة: أحمدُ، والبخاريُّ، ومسلمٌ، وأبو داود، وابن ماجَهْ، والترمذيُّ، والنَّسائيّ.

 

وبالستة: مَنْ عدا أحمد،

وبالخمسة: مَنْ عدا البخاريَّ ومسلمًا، وقد أقولُ: الأربعة وأحمد،

وبالأربعة: مَنْ عدا الثلاثةَ الأُوَلَ،

وبالثلاثةِ: من عداهم وعدا الأخيرَ،

وبالمتَّفق عليه: البخاريُّ ومسلم، وقد لا أَذْكُرُ معهما غيرهما، وما عدا ذلك فهو مبيَّن، وسمَّيته: "بُلُوغَ المرام، من أدلة الأحكام".

واللهَ أسأل أن لا يجعَلَ ما علِمْنَا علينا وبالاً، وأن يرزقنا العمَلَ بما يُرْضِيهِ _سبحانَه وتعالى_.

 

"الكتاب:

* لغة: مدار مادة -كتب- على الجمع، فسمِّي كتابًا؛ لجمعه الحروف والكلمات والجمل، وهو هنا بمعنى "المكتوب".

* واصطلاحًا: ما خُطَّ على القرطاس لإبلاغ الغير، أو ما خُطَّ لحفظه عن النسيان، واستعمل العلماء الكتاب فيما يجمع شيئًا من الأبواب والفصول.

 

الطهارة:

* لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار الحسيَّة والمعنوية.

* وشرعًا: ارتفاعُ الحَدَثِ بالماءِ أو الترابِ الطهوريْنِ المُباحَيْنِ، وزوال النجاسة.

فالطهارة -باتفاق المسلمين-: هي زوالُ الوصف القائم بالبدن.

وحكم هذا الوصف: المنعُ من الصلاة ونحوها،

ووجهُ التعبيرِ في جانب الحَدَثِ بالارتفاع؛ لأَنَّه أمر معنوي، ووجه التعبير بالإزالة في النجاسة؛ لأنَّه جرم حسي، والإزالة لا تكون إلاَّ في الأجرام.

 

الباب لغة: المدخل إلى الشيء.

واصطلاحًا: اسم لجملة متناسبة من العلم تحته فصول ومسائل غالبًا.

المياه: جمع ماء، وهو المائع المعروف، ويتركَّب كيميائيًّا من غاز الأيدروجين وغاز الأوكسيجين، ومصادره مياه الأمطار والينابيع والعيون والبحيرات والأنهار.___

 

مناسبة البدء بالطهارة: هو أنَّ الأحاديث الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيان شعائر الإِسلام بُدِئَتْ بالصَّلاة، ثم بالزكاة، ثم بالصوم، ثم بالحج، وكما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد (1009) وأبو داود (61) والترمذي (2)، وابن ماجه (275)؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مفتاح الصلاة الطهور"، والمفتاح شأنه التقديم على ما جعل مفتاحًا له، فصار المناسب هو البدء بالطهارة؛ لأنَّ الطهارة من الحدث والخبث من شروط الصلاة، وشرط الشيء يسبقه.

 

وقال الغزالي في الإحياء: قال الله تعالى: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال، الآية: 11].

وروى مسلم (223) عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الطهور شطر الإيمان".

 

والطهارة لها أربع مراتب:

الأولى: تطهير الظاهر من الأحداث والأنجاس.

الثانية: تطهير الجوارح من الجرائم والآثام.

الثالثة: تطهير القلب من الأخلاق المذمومة.

الرابعة: تطهير السرِّ عما سوى الله تعالى.

وهذا هو الغاية القصوى لمن قويت بصيرته فسَمَت إلى هذا المطلوب، ومن عميت بصيرته، لم يفهم من مراتب الطهارة إلاَّ المرتبة الأولى.

والأصل: أنَّ الطهارة تكون بالماء؛ ذلك أنَّه أحسن المذيبات، فكل المواد تذوب فيه، وقوَّة تطهيره ترجع إلى بقائه على خلقته الأصلية؛ فإنه إذا خالطه ما غيَّر مسماه، ضعُفَتْ قوة إزالته وتطهيره؛ لأنَّه يفقد خفته ورقته وسيلانه ونفوذه." اهـ[3]

 

 

 

 

 

 

كِتَابُ الطَّهَارَةِ

 

بَابُ الْمِيَاهِ

 

1 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْبَحْرِ:

«هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».

أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه: أبو داود في "سننه" (1/ 21) (رقم: 83)، سنن الترمذي ت شاكر (1/ 100) (رقم: 69) والنسائي في  (1/ 50 و 1/ 176 و 7/ 207) (رقم: 59 و 332 و 4350)، وابن ماجه في "سننه" (1/ 136 و 2/ 1081) (رقم: 386 و 3246)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 122) (رقم: 1392)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 59) (111):

عن أبي هريرة يقول:

"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: فذكره.

وقال الترمذي: «حسن صحيح». قلت: وهذا إسناد صحيح، وقد أعله بعضهم بما لا يقدح، كما أن للحديث شواهد

 

وأخرجه: مالك في "الموطأ" – ت. عبد الباقي (1/ 22) (رقم: 12)، والشافعي في "مسنده" - ترتيب السندي (1/ 23) (رقم: 42)، وأحمد في "مسنده" – ط. عالم الكتب (2/ 237 و 2/ 361 و 2/ 378) (رقم: 7233 و 8735 و 8912).

 

والحديث صحيح: صححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/ 864) (رقم: 480)

 

من فوائد الحديث:

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24/ 262)

(ومنها): مشروعيّة الزيادة في الجواب على السؤال؛ زيادة في الفائدة، وهو من مقاصد البلغاء، ومنه حديث: "هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته"، فإن السؤال كان عن حكم ماء البحر، فزادهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الجواب حكم ميتته؛ زيادة في الفائدة." اهـ

 

الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (1/ 250)

وَفِي قَوْلِهِ {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ مَاءِ الْبَحْرِ

 

معالم السنن (1/ 43_44):

"في هذا الحديث أنواع من العلم منها أن المعقول من الطهور والغسول المضمنين في قوله تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] الآية

إنما كان عند السامعين له والمخاطبين به الماء المفطور على خلقته السليم في نفسه الخلي من الأعراض المؤثرة فيه ألا تراهم كيف ارتابوا بماء البحر لما رأوا تغيره في اللون وملوحة الطعم حتى سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتوه عن جواز التطهير به.

وفيه: أن العالِمَ والمفتي إذا سئل عن شيء وهو يعلم أن بالسائل حاجة إلى معرفة ما وراءه من الأمور التي يتضمنها مسألته أو تتصل بمسألته كان مستحبا له تعليمه إياه والزيادة في الجواب عن مسألته ولم يكن ذلك عدوانا في القول ولا تكلفا لما لا، يَعني من الكلام ألا تراهم سألوه عن ماء البحر حسب، فأجابهم عن مائه وعن طعامه لعلمه بأنه قد يعوزهم الزاد في البحر كما يعوزهم الماء العذب، فلما جمعتهم الحاجة منهم انتظمهما الجواب منه لهم.

وأيضاً فإن علم طهارة الماء مستفيض عند الخاصة والعامة، وعلم ميتة البحر وكونها حلالا مشكل في الأصل، فلما رأى السائل جاهلا بأظهر الأمرين___غير مستبين للحكم فيه علم أن أخفاهما أولاهما بالبيان ونظير هذا قوله للرجل الذي أساء الصلاة بحضرته فقال له صل فإنك لم تصل فأعادها ثلاثا كل ذلك يأمره بإعادة الصلاة إلى أن سأله الرجل أن يعلمه الصلاة فابتدأ فعلمه الطهارة ثم علمه الصلاة وذلك والله أعلم لأن الصلاة شيء ظاهر تشتهره الأبصار، والطهارة أمر يستخلي به الناس في ستر وخفاء فلما رآه صلى الله عليه وسلم جاهلا بالصلاة حمل أمره على الجهل بأمر الطهارة فعلمه إياها.

وفيه وجه آخر وهو أنه لما أعلمهم بطهارة ماء البحر، وقد علم أن في البحر حيوانا قد يموت فيه، والميتة نجس احتاج إلى أن يعلمهم أن حكم هذا النوع من الميتة حلال بخلاف سائر الميتات لئلا يتوهموا أن ماءه ينجس بحلولها إياه.

وفيه دليل على أن السمك الطافي حلال وأنه لا فرق بين ما كان موته في الماء وبين ما كان موته خارج الماء من حيوانه.

وفيه مستدل لمن ذهب إلى أن حكم جميع أنواع الحيوان التي تسكن البحر إذا ماتت فيه الطهارة، وذلك بقضية العموم إذا لم يستثن نوعا منها دون نوع.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن ما كان له في البر مثل ونظير مما لا يؤكل لحمه كالإنسان المائي والكلب والخنزير فإنه محرم، وما له مثل في البر يؤكل فإنه مأ كول.

وذهب آخرون إلى أن هذا الحيوان وإن اختلف صورها فإنها كلها سموك، والجريث يقال له حية الماء وشكله شكل الحيات ثم أكله جائز فعلم أن اختلافها في الصور لا يوجب اختلافها في حكم الإباحة، وقد استثنى هؤلاء من جملتها الضفدع لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (33/ 154)

وقال في "الفتح" أيضًا ما حاصله: وفي الحديث جوازُ أكل حيوان البحر مطلقًا؛ لأنه لم يكن عند الصحابة نصّ يخص العنبر، وقد أكلوا منه، كذا قال بعضهم، ويخدُش فيه أنهم أوّلًا إنما أقدموا عليه بطريق الاضطرار، ويجاب بأنهم أقدموا عليه مطلقًا، من حيث كونه صيد البحر، ثم توقفوا من حيث كونه ميتة، فدل على إباحة الإقدام على أكل ما صِيد من البحر، وبَيّن لهم الشارع آخِرًا أن ميتته أيضًا حلال، ولم يفرّق بين طافٍ ولا غيره." اهـ ["الفتح" 12/ 450 - 451]

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (33/ 155)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أرجح الأقوال هو القول بتعميم حل أكل حيوان البحر، إلا ما ورد نصّ صحيح بمنع أكله، وإلا ما ثبت عن ثقات الأطبّاء، أو التجربة ضرره، فيحرم، وقد كنت رجحت في "شرح النسائيّ" في "الطهارة" قول من خصّ الحلّ بالسمك، فقط؛ لحديث: "أُحلّت لنا ميتتان. . ."، فقد بيّن الميتة بأنهما السمك والجراد، ولكن الآن ترجّح عندي ما ذكرته؛ لقوة حديث قصة جيش أبي عبيدة - رضي الله عنه -، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

عون المعبود وحاشية ابن القيم (1/ 107)

وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَسَائِلُ الْأُولَى أَنَّ مَاءَ الْبَحْرِ طَاهِرٌ وَمُطَهِّرٌ الثَّانِيَةُ أَنَّ جَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ أَيْ مَا لَا يَعِيشُ إِلَّا بِالْبَحْرِ حَلَالٌ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ قَالُوا مَيْتَاتُ الْبَحْرِ حَلَالٌ وَهِيَ مَا خَلَا السَّمَكَ حَرَامٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ الْمُرَادُ بِالْمَيْتَةِ السَّمَكُ كَمَا فِي حَدِيثِ أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَيَجِيءُ تَحْقِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّالِثَةُ أَنَّ الْمُفْتِي إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ وَعَلِمَ أَنَّ لِلسَّائِلِ حَاجَةً إِلَى ذِكْرِ مَا يَتَّصِلُ بِمَسْأَلَتِهِ اسْتُحِبَّ تَعْلِيمُهُ إِيَّاهُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ لِتَتْمِيمِ الْفَائِدَةِ وَهِيَ زِيَادَةٌ تَنْفَعُ لِأَهْلِ الصَّيْدِ وَكَأَنَّ السَّائِلَ مِنْهُمْ وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْفَتْوَى

قال الحافظ بن الْمُلَقِّنِ إِنَّهُ حَدِيثٌ عَظِيمٌ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الطَّهَارَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ وَقَوَاعِدَ مُهِمَّةٍ

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي قَالَ الْحُمَيْدِيُّ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ نِصْفُ عِلْمِ الطَّهَارَةِ." اهـ

 

الاستذكار (5/ 286)

وَفِيهِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدُوا حُوتًا يُسَمَّى الْعَنْبَرَ أَوْ دَابَّةٍ أَكَلُوا مِنْهَا بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهَا شَيْءٌ

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَكْلِهِ لِغَيْرِ الْمُضْطَرُّ الْجَائِعِ

وَقَدْ ذَكَرْنَا طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي ((التَّمْهِيدِ)) وَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -

قَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْحِيتَانِ يَصِيدُهَا الْمَجُوسِيُّ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْبَحْرِ ((هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ))

قَالَ مَالِكٌ وَإِذَا أُكِلَ ذَلِكَ مَيْتًا فَلَا يَضُرُّهُ مَنْ صَادَهُ

قَالَ أَبُو عُمَرَ عَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ

وفي ما ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ مَا يُبَيِّنُ لَكَ مَذَاهِبَهُمْ فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ

 

الموافقات (4/ 383)

أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْمَاءَ الطَّهُورَ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهُ أَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ؛ فَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِإِلْحَاقِ مَاءِ الْبَحْرِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمِيَاهِ بِأَنَّهُ "الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ"

 

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 452)

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَضُّؤَ بِمَاءِ الْبَحْرِ جَائِزٌ مَعَ تَغَيُّرِ طَعْمِهِ وَلَوْنِهِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ أَنَّ طَعْمَهُ وَلَوْنَهُ جِبِلِّيَّانِ لَا أَنَّهُمَا مُتَغَيِّرَانِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، مَعَ أَنَّ التَّغَيُّرَ بِاللُّبْثِ لَا يَضُرُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ نَقْلًا عَنِ الزَّجَّاجِ: إِنَّ الطَّهُورَ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 116_117) للبسام:

"ما يُؤخَذُ مِنَ الحديث:

1 - قال الشّافعي: هذا الحديث نصف علم الطهارة.

وقال ابن الملقِّن: هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، وأصلٌ من أصول الطهارة، مشتملٌ على أحكامٍ كثيرة، وقواعدَ مهمَّة.

2 - في الحديث طهورية ماء البحر؛ وبه قال جميع العلماء.

3 - أنَّ ماء البحر يرفع الحدث أكبر والأصغر، ويزيل النجاسة الطارئة على محلٍّ طاهر، من بدنٍ، أو ثوب، أو بقعة، أو غير ذلك.

4 - أنَّ الماء إذا تغيَّر طعمه أو لونه أو ريحه بشيءٍ طاهرٍ، فهو باقٍ على طهوريته، ما دام ماءً باقيًا على حقيقته، ولو اشتدت ملوحته أو حرارته أو برودته ونحوها.

5 - يدل الحديث على أنَّه لا يجب حمل الماء الكافي للطهارة مع القدرة على حمله؛ لأنَّهم أخبروا أنَّهم يحملون القليل من الماء.

6 - قوله: "الطهور ماؤه" تعريفه بالألف والَّلام المفيد للحصر لا ينفي طهورية غيره؛ لوقوعِهِ جوابَ سؤال عن "ماء البحر"؛ فهو مخصَّصٌ بنصوصٍ أُخرى.___

7 - أنَّ ميتة حيوان البحر حلالٌ، والمراد بميتته: ما مات فيه من دوابه ممَّا لا يعيش إلاَّ فيه.

8 - يجب أنْ يكون الماء الرَّافع للحدث والمزيل للخبث ماءً مطهِّرًا؛ لتعليل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بجواز الوضوء منه يكون طهورًا.

9 - جواز ركوب البحر لغير حجٍّ وعمرة وجهاد.

10 - فضيلة الزيادة في الفتوى على السؤال؛ وذلك إذا ظن المفتي أن السائل قد يجهل هذا الحكم، أو أنه قد يُبْتَلَى به؛ كما في ميتة حيوان البحر لراكبه.

قال ابن العربي: وذلك من محاسن الفتوى؛ أن يُجَاء في الجواب بأكثر مما سُئِلَ عنه؛ تتميمًا للفائدة، وإفادة لعلم غير المسؤول عنه، ويتأكد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحكم -كما هنا- ولا يعد ذلك تكلُّفًا مما لا يعنيه." اهـ

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام – ط. المكتبة الإسلامية (1/ 60_61) للثيمين:

"في هذا الحديث فوائد:

منها: حرص الصحابة: رضي الله عنهم- على تلقي العلم، وذلك بمعرفة سبب الحديث وهو سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة لا شك أنهم أحرص الناس على العلم؛ ولهذا كل ما ورد عليك من الأشياء التي لم يسأل عنها الصحابة وهي مما ينقدح في الذهن، فاعلم أن سؤالك عنها بدعة كما قال العلماء - رحمهم الله- فيمن سأل عن كيفية صفات الله، فقالوا: إن هذا السؤال بدعة؛ لأن الصحابة لم يسألوا عنه.

ومن فوائد هذا الحديث: أن ماء البحر طهور بدون استثناء إلا ما يقيده في الأحاديث الآتية؛ يعني: إلا إذا ما تغير بنجاسة، وإلا فإنه طهور، حتى لو فرض أنه لو طفا على سطحه شيء من الأذى، أو من الدهن، أو من البنزين، أو ما أشبه ذلك، فإنه طهور؛ لأن هذا لم يغيره.

ومن فوائد هذا الحديث أيضا: حسن تعليم الرسول - عليه الصلاة والسلام- وإجابته حيث يعمد إلى الأشياء الجامعة العامة، "وقد أعطي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصتارا"، وجه ذلك: أنه قال: "الطهور ماؤه".

ومن فوائد هذا الحديث: جواز زيادة الجواب على السؤال إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وجهه: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- زاد على سؤال السائلين ببيان حكم ميتة البحر، فقال: "الحل ميتته" لماذا؟ لأن هؤلاء إذا كان أشكل عليهم الوضوء في ماء البحر فالظاهر أنه سيشكل عليهم ميتة البحر، إذا وجدوا سمكا طافيا على الماء ميتا فسوف يشكل عليهم من باب أولى؛ فلهذا أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بحكم ميتة البحر مع أنهم لم يسألوا عنها.

ومن فوائد هذا الحديث: أن جميع الأسماك والحيتان حلال لعموم قوله: "ميتته"، وميتة هنا مفرد مضاف فيعم، فكل ميتة البحر من أسماك وحيتان فإنه حلال، وطاهر أو غير طاهر؟ طاهر، من أين علمنا أنه طاهر، من أنه حلال، لأن لدينا قاعدة مفيدة وهي: "أن كل حلال فهو طاهر وليس كل طاهر حلالا، وكل نجس فهو حرام وليس كل حرام نجسا".

كل حلال طاهر واضح وليس كل طاهر حلالا مثل الأشياء الضارة كالسم والدخان، والحشيشة، وما أشبه ذلك، فهذه طاهرة وهي حرام على خلاف في مسألة الحشيشة والخمر، لكن القول الراجح أنها طاهرة." اهـ



[1]  وفي المعاني: "حرر الكتاب: أصلحه وحسن خطه وجوَّده." اهـ

[2]  وفي المعانيْ: "نبغ في العلم: أجاد فيه." اهـ

[3]  من "توضيح الأحكام من بلوغ المرام" (1/ 113_114) للبسام

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين