شرح الحديث 52 من كتاب رياض الصالحين لأبي فائزة البوجيسي

 

[52] وعن أبي يحيى أُسَيْد بن حُضَير _رضي الله عنه_ :

"أنَّ رَجُلاً مِنَ الأنْصارِ قَالَ : "يَا رسولَ الله، ألا تَسْتَعْمِلُني كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلاناً"،

فَقَالَ : «إنكُمْ سَتَلْقَونَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوني عَلَى الحَوْضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

«وَأُسَيْدٌ» : بضم الهمزة. «وحُضيْرٌ» : بحاءٍ مهملة مضمومة وضاد معجمة مفتوحة، والله أعلم.

 

ترجمة أسيد بن حضير الأشهلي الأنصاري _رضي الله عنه_:

 

وفي تهذيب الكمال في أسماء الرجال (3/ 246) لأبي الحجاج المزي :

"أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن عبد الأشهل الأَنْصارِيّ، أبويحيى، _ويُقال: أَبُو حضير، ويُقال: أَبُو عتيك، ويُقال: أَبُو عِيسَى، ويُقال: أَبُو عتيق، ويُقال: أَبُو عَمْرو_ الأشهلي، صاحب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أحد النقباء ليلة العقبة، واختلف فِي شهوده بدرا." اهـ

 

وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" (1/ 93):

"أسلم قبل سعد بن معاذ على يدي مصعب بن عمير، وكان ممن شهد العقبة الثانية، وهو من النقباء ليلة العقبة، وكان بين العقبة الأولى والثانية سنة، ولم يشهد بدرا، كذلك قال ابن إسحاق. وغيره يقول: إنه شهد بدرًا وشهد أحدا وما بعدهما من المشاهد، وجرح يوم أحد سبع جراحات، وثبت مع رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ حين انكشف الناس." اهـ

 

وفي الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/ 93):

"وكان أسيد بن حضير أحد العقلاء الكملة من أهل الرأي، وآخى رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بينه وبين زيد بن حارثة، وكان أسيد بن حضير من أحسن الناس صوتًا بالقرآن، وحديثه في استماع الملائكة قراءته حين نفرت فرسه حديث صحيح جاء عن طرق صحاح من نقل أهل الحجاز والعراق.

 

وفي "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" (1/ 94):

"توفي أسيد بن حضير في شعبان سنة عشرين. وقيل: سنة إحدى وعشرين، وحمله عمر بن الخطاب بين العمودين من عَبْد الأشهل حتى وضعه بالبقيع، وصلى عليه. وأوصى إلى عمر بن الخطاب، فنظر عمر في وصيته، فوجد عليه أربعة آلاف دينار، فباع نخله أربع سنين بأربعة آلاف، وقضي دينه." اهـ

 

وقال ابن الجوزي في "مشاهير علماء الأمصار" (ص: 33) (رقم: 36):

"أُسيد بن حُضير بن سماك الاشهلي، من سادات الانصار ممن شهد العقبتين وبدرا وجوامع المشاهد. كنيته أبويحيى (وقد قيل أبو عتيق ويقال أبو حضير)، مات في خلافة عمر بن الخطاب سنة عشرين وصلى عليه عمر بن الخطاب ودفن بالبقيع

 

وفي تهذيب التهذيب (1/ 348) لابن حجر :

"وأرخ البغوي وابن السكن وغيرهما وفاته سنة 20،. وعن المدائني أنه توفي سنة 21، وقال البخاري: مات أسيد بن حضير في عهد عمر قاله عبد الله ابن عمر عن نافع عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهم." اهـ

 

نص الحديث:

 

* (أنَّ رَجُلاً مِنَ الأنْصارِ قَالَ : "يَا رسولَ الله، ألا تَسْتَعْمِلُني كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلاناً)،

 

وقال محمد الأمين بن عبد الله الأُرَمي العَلَوي الهَرَري الشافعي _رحمه الله_ في الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (20/ 82) :

"قال الأبي: ولعل هذا الحديث قبل النهي عن سؤال الإمارة أو بعده ولم يبلغه ولم ينكر عليه سؤاله الإمارة كما أنكر على غيره." اهـ

 

* (فَقَالَ : «إنكُمْ سَتَلْقَونَ بَعْدِي أَثَرَةً)،

 

وفي فتح الباري لابن حجر (8/ 52) : "قَوْلُهُ (إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ، وَبِفَتْحَتَيْنِ، وَيَجُوزُ كَسْرُ أَوَّلِهِ مَعَ الْإِسْكَانِ، أَيْ: الِانْفِرَادُ بِالشَّيْءِ الْمُشْتَرَكِ دُونَ مَنْ يُشْرِكُهُ فِيهِ.

وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ (أَثَرَةً شَدِيدَةً)

وَالْمَعْنَى : أَنَّهُ يَسْتَأْثِرُ عَلَيْهِمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ اشْتَرَاكٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: "مَعْنَاهُ يُفَضِّلُ نَفْسَهُ عَلَيْكُمْ فِي الْفَيْء." اهـ

 

* (فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوني عَلَى الحَوْضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ)

 

وفي فتح الباري لابن حجر (8/ 52) :

"أَيْ : اصْبِرُوا حَتَّى تَمُوتُوا، فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَنِي عِنْدَ الْحَوْضِ، فَيَحْصُلُ لَكُمُ الِانْتِصَافُ مِمَّنْ ظَلَمَكُمْ وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ على الصبر." اهـ

 

تخريج الحديث :

 

أخرجه البخاري في صحيحه (5/ 33) (رقم : 3792)، ومسلم في صحيحه (3/ 1474) (رقم : 1845)، والترمذي في سننه (4/ 482) (رقم : 2189)، والنسائي السنن الكبرى (رقم : 5901 و 8286)،  في المجتبى (8/ 224) (رقم : 5383)، وابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 306) (رقم : 31669)، وأحمد في مسنده (رقم : 19092 و 19094)، وابن أبي عاصم في السنة (2/ 350) (رقم : 752)، والطبراني في المعجم الكبير (1/ 204) (رقم : 551)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 274) (رقم : 16627) وفي شعب الإيمان (12/ 203) (رقم : 9281)، وغيرهم.

 

من فوائد الحديث :

 

وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى:  852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" (8/ 52):

"وَفِيهِ: عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِقَوْلِهِ: (سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً) فَكَانَ كَمَا قَالَ." اهـ[1]

 

وقال محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابى الحنفى المعروف  بـ"بدر الدين العيني" (المتوفى: 855 هـ) _رحمه الله_ في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (24/ 179_180):

"قَوْله: (إِنَّكُم سَتَرَوْنَ...) إِلَى آخِره.___

وتحرير الْكَلَام أَن جَوَابه، للرجل عَن طلب الْولَايَة بقوله : (سَتَرَوْنَ بعدِي أَثَرَة) إِرَادَة نفي ظَنّه أَنه أثر الَّذِي ولاه عَلَيْهِ،

فَبين لَهُ أَن ذَلِك لَا يَقع فِي زَمَانه، وَأَنه لم يخص الرجل بذلك لذاته بل لعُمُوم مصلحَة الْمُسلمين، وَأَن الاستئثار للحظ الدنيوي إِنَّمَا يَقع بعده وَأمرهمْ عِنْد وُقُوع ذَلِك بِالصبرِ." اهـ[2]

 

وقال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك المعروف بـ"ابن بطال القرطبي" (المتوفى: 449 هـ) _رحمه الله_ في "شرح صحيح البخاري" (6/ 510):

"قال المهلب: وقوله عليه السلام للأنصار: (إنكم سترون بعدى أثرة فاصبروا حتى تلقونى) يدل أن الخلافة لا تكون فى الأنصار، ألا ترى أنه جعلهم تحت الصبر إلى يوم يلقونه، والصبر لا يكون إلا من مغلوب محكوم عليه." اهـ

 

وقال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك المعروف بـ"ابن بطال القرطبي" (المتوفى: 449 هـ) _رحمه الله_ في "شرح صحيح البخاري" (10/ 8):

"فى هذه الأحاديث حجة فى ترك الخروج على أئمة الجور، ولزوم السمع والطاعة لهم. والفقهاء مجمعون على أن الإمام المتغلّب طاعته لازمة، ما أقام الجمعات والجهاد، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما فى ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء،

ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه: (سترون بعدى أثرةً وأمورًا تنكروها) فوصف أنهم سيكون عليهم أمراء يأخذون منهم الحقوق ويستأثرون بها، ويؤثرون بها من لا تجب له الأثرة، ولا يعدلون فيها، وأمرهم بالصبر عليهم والتزام طاعتهم على ما فيهم من الجور." اهـ

 

وقال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النَّمَرِيُّ القرطبيُّ، المعروف بـ"ابن عبد البر الأَنْدَلُسِيُّ" (المتوفى: 463هـ) _رحمه الله_ في "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (2/ 309):

"تَوَاتُرُ الْآثَارِ عَنِ النَّبِيِّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ فِي الْحَوْضِ،

حَمَلَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَقِّ (وَهُمُ الْجَمَاعَةُ) عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَتَصْدِيقِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَثَرُ فِي الشَّفَاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ والحمد لله رب العالمين." اهـ

 

علي بن إبراهيم، أبو الحسن الدمشقي الشافعي، المشهور بـ"علاء الدين ابن العطار" (المتوفى: 724 هـ) _رحمه الله_ في "العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام" (2/ 826_827) :

"أصل الصبر: الحبس،

ومعناه : حبس النفس عن حظوظها الدنيوية رجاء للحظوظ الأخروية، فأمرهم _صلى الله عليه وسلم_ بذلك؛ لرضاه لهم _صلى الله عليه وسلم_ بالأخرى على الأولى؛ لعلمه وتحققه أنها خير من الأولى وأبقى؛

كما أخبر به _سبحانه وتعالى_ في القرآن العزيز عن صحف إبراهيم وموسى _صلى الله عليه وسلم_،

ولا شك: أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، والجميل منه: الَّذي لا شكوى فيه ولا جزع، ومن لا يتعاطاه ويوصي به___ويقبل الوصية به، فهو في خسر؛ كما أخبر الله _سبحانه وتعالى_ في سورة: والعصر، والله أعلم." اهـ

 

وقال محمد بن إسماعيل الحسني، الكحلاني، المعروف بـ"الأمير الصنعاني" (المتوفى: 1182هـ) _رحمه الله_ في "التنوير شرح الجامع الصغير" (4/ 160):

"وفيه توصيةٌ لكل من استؤثر عليه بالصبر، وإعلامٌ بأن الدنيا ينال حظوظها من لا يستحقها." اهـ

 

وقال أحمد بن عبد الرحمن بن محمد البنا الساعاتي (المتوفى: 1378 هـ) _رحمه الله_ في "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني" مع "الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني" (22/ 175):

"وقد أشار _صلى الله عليه وسلم_ بذلك إلى أن الأمر يصير فى غيرهم، فيختصون دونهم بالاموال، وكان الامر كما وصف _صلى الله عليه وسلم_ وهو معدودٌ فيما أخبر به _صلى الله عليه وسلم_ من الامور المغيبة فوقع كما قال _صلى الله عليه وسلم_". اهـ

 

وقال الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ) _رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (1/ 282):

"هذا الحوض الذي يكون في يوم القيامة في مكان وزمان أحوج ما يكون الناس إليه؛ لأنه في ذلك المكان وفي ذلك الزمان، في يوم الآخرة،

يحصل على الناس من الهم والغم والكرب والعرق والحر ما يجعلهم في أشد الضرورة إلى الماء، فيردون حوض النبي _صلي الله عليه وسلم_، حوض عظيم طوله شهر وعرضه شهر، يصب عليه ميزابان من الكوثر، وهو نهر في الجنة أعطية النبي صلي الله عليه وسلم، يصبان عليه ماءٌ، أشدُّ بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من رائحة المسك،

وفيه أوان كنجوم السماء في اللمعان والحسن والكثرة، من شرب منه شربة واحدة لم يظمأ بعدها أبدا. اللهم اجعلنا ممن يشرب منه.

فأرشده النبي _عليه الصلاة والسلام_ إلى أن يصبروا ولو وجدوا الأثرة، فإن صبرهم على ظلم الولاة من أسباب الورد على الحوض والشرب منه." اهـ

 

وقال الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ) _رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (1/ 282):

"وفي هذين الحديثين: حث على الصبر على استئثار ولاة الأمور في حقوق الرعية، ولكن يجب أنْ نعلم أن الناس كما يكونون يولى عليهم، إذا أساؤوا فيما بينهم وبين الله فإن الله يسلط عليهم ولاتهم، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأنعام: 129) ،

فإذا صلحت الرعية يسر الله لهم ولاة صالحين، وإذا كانوا بالعكس كان الأمر بالعكس." أهـ

 

وقال الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ) _رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (3/ 659) :

"فليس استئثار ولاة الأمور بما يستأثرون به مانعاً من السمع والطاعة لهم، الواجب السمع والطاعة في كل ما أمروا به ما لم يأمروا بمعصية،

وقد سبق لنا أن ولاة الأمور ينقسم إلى ثلاثة أقسام: ___

الأول: ما أمر الله به فهذا يجب طاعتهم فيه لوجهين: لأمر الله به، ولأمرهم به.

والثاني: ما حرم الله فلا يجوز السمع والطاعة لهم حتى لو أمروه.

والثالث: ما ليس فيه أمر ولا نهي من الله فتجب علينا طاعتهم فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع من طاعتهم إلا إذا أمروا المعصية.

نسأل الله أن يصلحنا جميعاً رعية ورعاة وأن يهب لنا منه رحمه إنه هو الوهاب." اهـ

 

وقال عبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمد العباد البدر _حفظه الله_ في "شرح سنن أبي داود" (541/ 5) - الشاملة:

"الإنسان يصبر ولو حصل له ما حصل من المضرة، أو فاته ما فاته من المصالح، وذلك حتى ينتقل من هذه الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة ولم تحصل منه فتن وأمور يترتب عليها إضرار بالعامة، وحصول اختلال الأمن الذي لا يقر للناس معه قرار، ولا يهدأ لهم بال، ولا يطيب لهم عيش، ولا يأمنون على أنفسهم، ولا يستريحون في بيوتهم.

ولهذا جاءت الأحاديث الكثيرة في الصبر على جور الولاة وتحريم الخروج عليهم ولو كانوا جائرين، لما يترتب على الخروج من أضرار تفوق جورهم،

وذلك بما يحصل بسبب ذلك من الفتن واختلال الأمن، وأن الناس لا يأمنون على أنفسهم ولا على أموالهم ولا على أعراضهم." اهـ

 

وقال محمد بن علي بن آدم بن موسى الإثيوبي الوَلَّوِي (المتوفى 1442 هـ) _رحمه الله_ في "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" (39/ 233):

"فِي فوائده:

(منها) : ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ترك استعمال منْ يحرص عَلَى القضاء.

(ومنها) : أن فيه منقبة عظيمة للأنصار، حيث مَدَحَهُم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بأنهم أَعفَّةٌ صُبْرٌ.

(ومنها): أن فيه علمًا منْ أعلام النبوّة، حيث أخبر أنه ستكون بعده أثرة، وَقَدْ وقع ذلك، كما أخبر -صلى الله عليه وسلم-. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

 

وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) _رحمه الله_ في "مجموع الفتاوى" (35/ 9):

"فَذَلِكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَمُنَاصَحَتِهِمْ: هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ وَإِنْ اسْتَأْثَرُوا عَلَيْهِ. وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ: فَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ." اهـ

 

وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) _رحمه الله_ في "الاستقامة" (1/ 35):

"فَأمر مَعَ ذكره لظلمهم بِالصبرِ وَإِعْطَاء حُقُوقهم وَطلب الْمَظْلُوم حَقه من الله وَلم يَأْذَن للمظلوم المبغى عَلَيْهِ بِقِتَال الْبَاغِي فِي مثل هَذِه الصُّور الَّتِي يكون الْقِتَال فِيهَا فتْنَة كَمَا أذن فِي دفع الصَّائِل بِالْقِتَالِ حَيْثُ___قَالَ

"من قتل دون مَاله، فَهُوَ شَهِيد وَمن قتل دون دينه فَهُوَ شَهِيد."[3]

فَإِن قتال اللُّصُوص لَيْسَ قتال فتْنَة إِذْ النَّاس كلهم أعوان على ذَلِك، فَلَيْسَ فِيهِ ضَرَر عَام على غير الظَّالِم، بِخِلَاف قتال وُلَاة الْأُمُور، فَإِن فِيهِ فتْنَة وشرا عَاما أعظم من ظلمهم فالمشروع فِيهِ الصَّبْر." اهـ

 

وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) _رحمه الله_ في "المستدرك على مجموع الفتاوى" (5/ 126) :

"وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ أو غير سائغ، فلا يجوز أن يزال بما فيه ظلم وجور، كما هو عادة أكثر النفوس يزيل الشر بما هـو شر منه، ويزيل العدوان بما هو أعدى منه،

فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم فيصير عليه، كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ظلم المأمور المنهي في مواضع كثيرة، كقوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [17/31]،

وقولِه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [35/46] وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [48/52] ،

وهذا عام في ولاة الأمور وفي الرعية إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فعليهم أن يصبروا على ما أصيبوا به في ذات الله كما يصبر المجاهدون على ما يصاب من أنفسهم وأموالهم،

فالصبر على الأذى في العرض أولى وأولى، وذلك لأن مصلحة الأمر والنهي لا تتم إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب." اهـ

 

وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) _رحمه الله_ في "منهاج السنة النبوية" (4/ 540_542):

"فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى الِاسْتِئْثَارِ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يُطِيعُوا وُلَاةَ أُمُورِهِمْ وَإِنِ اسْتَأْثَرُوا عَلَيْهِمْ، وَأَنْ لَا يُنَازِعُوهُمُ الْأَمْرَ.

وَكَثِيرٌ مِمَّنْ خَرَجَ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ إِنَّمَا خَرَجَ لِيُنَازِعَهُمْ مَعَ اسْتِئْثَارِهِمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى الِاسْتِئْثَارِ.

ثُمَّ إِنَّهُ يَكُونُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ ذُنُوبٌ أُخْرَى، فَيَبْقَى بُغْضُهُ لِاسْتِئْثَارِهِ يُعَظِّمُ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، وَيَبْقَى___الْمُقَاتِلُ لَهُ ظَانًّا أَنَّهُ يُقَاتِلُهُ لِئَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا حَرَّكَهُ عَلَيْهِ طَلَبُ غَرَضِهِ: إِمَّا وِلَايَةٌ، وَإِمَّا مَالٌ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 58]

وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ:

"«ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، يَقُولُ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ. وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا: إِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ: وَإِنْ مَنَعَهُ سَخِطَ. وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ كَاذِبًا: لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى» ".

فَإِذَا اتَّفَقَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ شُبْهَةٌ وَشَهْوَةٌ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ شَهْوَةٌ وَشُبْهَةٌ قَامَتِ الْفِتْنَةُ. وَالشَّارِعُ أَمَرَ كُلَّ إِنْسَانٍ بِمَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ الْوُلَاةَ بِالْعَدْلِ وَالنُّصْحِ لِرَعِيَّتِهِمْ، حَتَّى قَالَ: " «مَا مِنْ رَاعٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ___رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» ".

وَأَمَرَ الرَّعِيَّةَ بِالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "

«الدِّينُ النَّصِيحَةُ " - ثَلَاثًا - قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» ".

وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى اسْتِئْثَارِهِمْ، وَنَهَى عَنْ مُقَاتَلَتِهِمْ وَمُنَازَعَتِهِمُ الْأَمْرَ مَعَ ظُلْمِهِمْ، لِأَنَّ الْفَسَادَ النَّاشِئَ مِنَ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ، أَعْظَمُ مِنْ فَسَادِ ظُلْمِ وُلَاةِ الْأَمْرِ، فَلَا يُزَالُ أَخَفُّ الْفَسَادَيْنِ بِأَعْظَمِهِمَا." اهـ

 

وقال فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376 هـ) _رحمه الله_ في "تطريز رياض الصالحين" (ص: 53) :

"قيل : إِنَّ وجه المناسبة بين الجواب والسؤال أَنَّ من شأن العامل الاستئثار إِلا مَنْ عصم الله، فَأشفق عليه _صلى الله عليه وسلم_ مِن أَن يقع فيما يقع فيه بعضُ من يأتي

بعده من الملوك، فَيَسْتأثر على ذوي الحقوق، وهذا من جملة معجزاته - صلى الله عليه وسلم - فقد وقع كما أَخبر." اهـ

 

وقال محمد بن علي بن آدم بن موسى الإثيوبي الوَلَّوِي (المتوفى 1442 هـ) _رحمه الله_ في "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (32/ 149):

"في فوائده:

1 - (منها): بيان الأمر بالصبر عند ظلم الولاة، واستئثارهم.

2 - (ومنها): بيان معجزة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبر بما سيكون بعده، فوقع طِبْق ما أخبر به.

3 - (ومنها): بيان منقبة الأنصار، حيث مَدَحهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما سبق في رواية الشافعيّ: "يا معشر الأنصار إنكم لَأَعِفّةٌ صُبْرٌ"، والله تعالى أعلم." اهـ

 



[1] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (16/ 262) للعيني : "وَقع الْأَمر كَمَا وصف، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ من جملَة مَا أخبر بِهِ من الْأُمُور الَّتِي تَأتي بعده، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم." اهـ

[2] وفي تحفة الأحوذي (6/ 355) للمباركفوري :

"قَالَ الْحَافِظُ : "وَالسِّرُّ فِي جَوَابِهِ عَلَى طَلَبِ الْوِلَايَةِ بِقَوْلِهِ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً إِرَادَةُ نَفْيِ ظَنِّهِ أَنَّهُ آثَرَ الَّذِي وَلَّاهُ عَلَيْهِ فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ فِي زَمَانِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَخُصَّهُ بِذَلِكَ لِذَاتِهِ بَلْ لِعُمُومِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ الِاسْتِئْثَارَ لِلْحَظِّ الدُّنْيَوِيِّ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدِي وَأَمَرَهُمْ عِنْدَ وُقُوعِ ذَلِكَ بِالصَّبْرِ انْتَهَى." اهـ

[3] وفي سنن أبي داود (4/ 246) (رقم : 4772) : عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»

وأخرجه الترمذي في سننه (4/ 30) (رقم : 1421)، وقد صححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (3/ 164) (رقم : 708)، وقال : "وسنده صحيح." اهـ

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين