شرح الحديث الثالث والتسعون من كتاب بهجة قلوب الأبرار لأبي فائزة البوجيسي

 

الحديث الثالث والتسعون: من آداب القضاء.

عن أبي بكرة _رضي الله عنه_ قَالَ:

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_ يَقُولُ:

"لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْه

 

شرح الحديث:

 

فتح الباري لابن حجر (رقم: 7158): عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ:

"كَتَبَ أَبُو بَكْرَةَ إِلَى ابْنِهِ، وَكَانَ بِسِجِسْتَانَ[1]، بِأَنْ لاَ تَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»

 

قال ابن الجوزي _رحمه الله_ في "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (2/ 14):

"الْغَضَب: غليانُ دَمِ الْقَلْبِ طَلَبًا للانتقام، وَذَلِكَ يخرج الطَّبْع عَن حد الِاعْتِدَال، وَمن قد عجز عَن الحكم لعقله على هَوَاهُ عجز عَن الحكم لغيره،

وَقد كَانَت الْعَرَب تَقول: (الْغَضَب غول الْعقل). يعنون أَنه يغوله وَيذْهب بِهِ. وَفِي معنى الْغَضَب: الْجُوع، وَالْمَرَض، وكلُ مَا يُخْرِجُ عَن الِاعْتِدَال." اهـ

 

وقال ابن قدامة المقدسي _رحمه الله_ (10/ 44_45):

"قَالَ: (وَلَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ، فِي أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ غَضْبَانُ. كَرِهَ ذَلِكَ شُرَيْحٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ.

«وَكَتَبَ أَبُو بَكْرَةَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ، أَنْ لَا تَحْكُمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ؛ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَكَتَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَبِي مُوسَى: «إيَّاكَ وَالْغَضَبَ، وَالْقَلَقَ، وَالضَّجَرَ، وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ، وَالتَّنَكُّرَ لَهُمْ عِنْدَ الْخُصُومَةِ، فَإِذَا رَأَيْت الْخَصْمَ يَتَعَمَّدُ الظُّلْمَ، فَأَوْجِعْ رَأْسَهُ. وَلِأَنَّهُ إذَا غَضِبَ، تَغَيَّرَ عَقْلُهُ، وَلَمْ يَسْتَوْفِ رَأْيَهُ وَفِكْرَهُ».___

وَفِي مَعْنَى الْغَضَبِ كُلُّ مَا شَغَلَ فِكْرَهُ مِنْ الْجُوعِ الْمُفْرِطِ، وَالْعَطَشِ الشَّدِيدِ، وَالْوَجَعِ الْمُزْعِجِ، وَمُدَافَعَةِ أَحَدِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَشِدَّةِ النُّعَاسِ، وَالْهَمِّ، وَالْغَمِّ، وَالْحُزْنِ، وَالْفَرَحِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا تَمْنَعُ الْحَاكِمَ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ حُضُورَ الْقَلْبِ، وَاسْتِيفَاءَ الْفِكْرِ، الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْغَالِبِ، فَهِيَ فِي مَعْنَى الْغَضَبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَتَجْرِي مَجْرَاهُ." اهـ

 

تخريج الحديث:

أخرجه (البخاريّ) في "الأحكام" (7158)، و(مسلم) [7/ 4482 و 4483] (1717)، و(أبو داود) في "الأقضية" (3589)، و (الترمذيّ) في "الأحكام" (1334)، و (النسائيّ) في "آداب القضاة" (5408 و 5423) وفي "الكبرى" (596 و 5983)، و (ابن ماجه) في "الأحكام" (3316)، و (الشافعيّ) في "مسنده" (2/ 177)، و (الطيالسيّ) في "مسنده" (860)، و (الحميديّ) في "مسنده" (792)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (7/ 233)، و (أحمد) في "مسنده" (5/ 36 و 38 و 46 و 52)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (5063 و 5064)، و (ابن الجارود) في "المنتقى" (997)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (4/ 168 و 169 و 170)، و (البزّار) في "مسنده" (9/ 88)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار" (2/ 845 و 846)، و (الدارقطنيّ) في "سننه" (4/ 205 - 206)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (10/ 104 و 105)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة" (2498)، والله تعالى أعلم.

 

 

قال المصنف الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي _رحمه الله_ في بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار – ط. الوزارة (ص: 192_193):

"هذا الحديث يدل على أمور:

أحدها: نهي الحاكم بين الناس أن يحكم في كل قضية معينة بين اثنين وهو غضبان، سواء كان ذلك في القضايا الدينية أو الدنيوية.

وذلك لما في الغضب من تغير الفكر وانحرافه. وهذا الانحراف للفكر يضر في استحضاره للحق، ويضر أيضا في قصد الحق. والفرض الأصلي للحاكم وغيره: قصد الحق علما وعملا.

الثاني: يدل على أنه ينبغي أن يجتهد في الأخذ بالأسباب التي تصرف الغضب، أو تخففه: من التخلق بالحلم والصبر، وتوطين النفس على ما يصيبه، وما يسمعه من الخصوم: فإن هذا عون كبير على دفع الغضب، أو تخفيفه.

الثالث: يؤخذ من هذا التعليل: أن كل ما منع الإنسان من معرفة الحق أو قصده، فحُكْمُهُ حكمُ الغضبِ. وذلك كالهم الشديد، والجوع والعطش، وكونه حاقنا أو حاقبا أو نحوها، مما يشغل الفكرَ مثل أو أكثرَ من الغضب.

الرابع: أن النهي عن الحكم في حال الغضب ونحوه مقصود لغيره. وهو أنه ينبغي للحاكم أن لا يحكم حتى يحيط علما بالحكم الشرعي الكلي، وبالقضية الجزئية من جميع أطرافها، ويحسن كيف يطبقها على الحكم الشرعي،

فإن الحاكم محتاج إلى هذه الأمور الثلاثة:

* الأول: العلم بالطرق الشرعية، التي وضعها الشارع لفصل الخصومات___والحكم بين الناس.

* الثاني: أن يفهم ما بين الخصمين من الخصومة، ويتصورها تصورا تاما، ويدع كل واحد منهما يدلي بحجته، ويشرح قضيته شرحا تاما. ثم إذا تحقق ذلك وأحاط به علما، احتاج إلى

* الأمر الثالث:

وهو صفة تطبيقها وإدخالها في الأحكام الشرعية، فمتى وفق لهذه الأمور الثلاثة، وقصد العدل، وفق له، وهدي إليه. ومتى فاته واحد منها، حصل الغلط، واختل الحكم. والله أعلم." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (13/ 137_138)

"قَالَ الْمُهَلَّبُ:

"سَبَبُ هَذَا النَّهْيِ أَنَّ الْحُكْمَ حَالَةَ الْغَضَبِ قَدْ يَتَجَاوَزُ بِالْحَاكِمِ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَمُنِعَ وَبِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ."

وَقَالَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ:

"فِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْحُكْمِ حَالَةَ الْغَضَبِ لِمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ مِنَ التَّغَيُّرِ الَّذِي يَخْتَلُّ بِهِ النَّظَرُ، فَلَا يَحْصُلُ اسْتِيفَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَجْهِ."

قَالَ: "وَعَدَّاهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَى كُلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ تَغَيُّرُ الْفِكْرِ، كَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ الْمُفْرِطَيْنِ، وَغَلَبَةِ النُّعَاسِ، وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَلْبُ تَعَلُّقًا يَشْغَلُهُ عَنِ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ.

وَهُوَ قِيَاسُ مَظِنَّةٍ عَلَى مَظِنَّةٍ، وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ الْغَضَبِ لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى النَّفْسِ، وَصُعُوبَةِ مُقَاوَمَتِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ:

(لَا يَقْضِ الْقَاضِي، إِلَّا وَهُوَ شَبْعَانُ رَيَّانُ)[2]."

وَقَوْلُ الشَّيْخِ: (وَهُوَ قِيَاسُ مَظِنَّةٍ عَلَى مَظِنَّةٍ) صَحِيحٌ،

وَهُوَ اسْتِنْبَاطُ مَعْنًى دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ فَإِنَّهُ لَمَّا نَهَى عَنِ الْحُكْمِ حَالَةَ الْغَضَبِ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي حَالَةِ اسْتِقَامَةِ الْفِكْرِ فَكَانَتْ عِلَّةُ النَّهْيِ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ وَهُوَ تَغَيُّرُ الْفِكْرِ وَالْوَصْفُ بِالْغَضَبِ يُسَمَّى عِلَّةً بِمَعْنَى أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ فَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالْجَائِعِ.

قَالَ الشَّافِعِي___فِي الْأُمِّ أَكْرَهُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ وَهُوَ جَائِعٌ أَوْ تَعِبٌ أَوْ مَشْغُولُ الْقَلْبِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُغَيِّرُ الْقَلْبَ فَرْعٌ لَوْ خَالَفَ فَحَكَمَ فِي حَالِ الْغَضَبِ صَحَّ إِنْ صَادَفَ الْحَقَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى لِلزُّبَيْرِ بِشِرَاجِ الْحَرَّةِ بَعْدَ أَنْ أَغْضَبَهُ خَصْمُ الزُّبَيْرِ لَكِنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِرَفْعِ الْكَرَاهَةِ عَنْ غَيْرِهِ لِعِصْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَقُولُ فِي الْغَضَبِ إِلَّا كَمَا يَقُولُ فِي الرِّضَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي حَدِيثِ اللُّقَطَةِ فِيهِ جَوَازُ الْفَتْوَى فِي حَالِ الْغَضَبِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ وَيَنْفُذُ وَلَكِنَّهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ فِي حَقِّنَا وَلَا يُكْرَهُ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ عَلَيْهِ فِي الْغَضَبِ مَا يُخَافُ عَلَى غَيْرِهِ وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الْحُكْمِ قَبْلَ وُصُولِهِ فِي الْغَضَبِ إِلَى تَغَيُّرِ الْفِكْرِ وَيُؤْخَذُ مِنَ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْغَضَبِ وَلَا أَسْبَابِهِ وَكَذَا أَطْلَقَهُ الْجُمْهُورُ وَفَصَّلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ فَقَيَّدَا الْكَرَاهَةَ بِمَا إِذَا كَانَ الْغَضَبُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَاسْتَغْرَبَ الرُّويَانِيُّ هَذَا التَّفْصِيلَ وَاسْتَبْعَدَهُ غَيْرُهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِظَوَاهِرِ الْحَدِيثِ وَلِلْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ نُهِيَ عَنِ الْحُكْمِ حَالَ الْغَضَبِ وَقَالَ بعض الْحَنَابِلَة لَا ينفذ الحكم فِي حَال الْغَضَبِ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْغَضَبُ طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنِ اسْتَبَانَ لَهُ الْحُكْمُ فَلَا يُؤَثِّرُ وَإِلَّا فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ وَهُوَ تَفْصِيلٌ مُعْتَبر وَقَالَ بن الْمُنِيرِ أَدْخَلَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ الدَّالَّ عَلَى الْمَنْعِ ثُمَّ حَدِيثَ أَبِي مَسْعُودٍ الدَّالَّ عَلَى الْجَوَازِ تَنْبِيهًا مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ بِأَنْ يَجْعَلَ الْجَوَازَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوُجُودِ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّهِ وَالْأَمْنِ مِنَ التَّعَدِّي أَوْ أَنَّ غَضَبَهُ إِنَّمَا كَانَ لِلْحَقِّ فَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ جَازَ وَإِلَّا مُنِعَ وَهُوَ كَمَا قِيلَ فِي شَهَادَةِ الْعَدُوِّ إِنْ كَانَتْ دُنْيَوِيَّةً رُدَّتْ وَإِنْ كَانَتْ دينية لم ترد قَالَه بن دَقِيقِ الْعِيدِ وَغَيْرُهُ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْكِتَابَةَ بِالْحَدِيثِ كَالسَّمَاعِ مِنَ الشَّيْخِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ وَأَمَّا فِي الرِّوَايَةِ فَمَنَعَ مِنْهَا قَوْمٌ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنِ الْإِجَازَةِ وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ نَعَمْ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَنْ لَا يُطْلَقَ الْإِخْبَارُ بَلْ يَقُولُ كَتَبَ إِلَيَّ أَوْ كَاتَبَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي فِي كِتَابِهِ وَفِيهِ ذِكْرُ الْحُكْمِ مَعَ دَلِيلِهِ فِي التَّعْلِيمِ وَيَجِيءُ مِثْلُهُ فِي الْفَتْوَى وَفِيهِ شَفَقَةُ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ وَإِعْلَامُهُ بِمَا يَنْفَعُهُ وَتَحْذِيرُهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا يُنْكَرُ وَفِيهِ نَشْرُ الْعِلْمِ لِلْعَمَلِ بِهِ وَالِاقْتِدَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسْأَلِ الْعَالِمُ عَنْهُ." اهـ

 

وفي شرح النووي على مسلم (12/ 15):

فِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْقَضَاءِ فِي حَالِ الْغَضَبِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَيَلْتَحِقُ بِالْغَضَبِ كُلُّ حَالٍ يَخْرُجُ الْحَاكِمُ فِيهَا عَنْ سَدَادِ النَّظَرِ وَاسْتِقَامَةِ الْحَالِ كَالشِّبَعِ الْمُفْرِطِ وَالْجُوعِ الْمُقْلِقِ وَالْهَمِّ وَالْفَرَحِ الْبَالِغِ وَمُدَافَعَةِ الْحَدَثِ وَتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِأَمْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يُكْرَهُ لَهُ الْقَضَاءُ فِيهَا خَوْفًا مِنَ الْغَلَطِ فَإِنْ قَضَى فِيهَا صَحَّ قَضَاؤُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ وَقَالَ فِي اللقطة مالك وَلَهَا إِلَى آخِرِهِ وَكَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ والله أعلم

 

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (16/ 85)

قوله : (( لا يحكم أحدٌ بين اثنين وهو غضبان )) ؛ إنَّما كان الغضب مانعًا من الحكم ؛ لأنَّه يشوِّش على الحاكم فكره ، ويخلُّ بفهمه ، فيجب أن يُلحق به ما في معناه ، كالجوع ، والألم ، والخوف ، وما أشبه ذلك . وذلك بطريق الأولى ، كالخوف ، والمرض ، فإنهما أولى بذلك من الغضب . وإما بطريق توسيع المناط ، وذلك أن تَحذِف خصوصية ذكر الغضب ، وتُعدِّيه إلى ما في معناه. وهذا النوع من القياس من أجلَى أنواعه ، ولذلك قال به جماعة الفقهاء ، وكثير من نفاة القياس . وقد استوفينا ذلك في الأصول ، ولا يعارض هذا الحديث بحكم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للزبير بإمساك الماء إلى أن يبلغ الجدُر . وقد غضب من قول الأنصاري : أن كان ابن عمتك ؟! لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم من الهوى ، والباطل ، والخطأ في غضبه ، ورضاه ، وصحته ، ومرضه . ولذلك قال : (( اكتبوا عني في الغضب والرضا )). ولذلك نفذت أحكامه ، وعمل بحديثه الصادر منه في حال شدَّة مرضه ونزعه ، كما نفذ ذلك في حال صحته ونشاطه .

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (30/ 142_143)

في فوائده:

1 - (منها): بيان نهي الحاكم أن يحكم في حال الغضب؛ لأنه يمنعه من النظر في الحقّ، واستيفائه، وقد قاس العلماء كلّ ما أشبهه في اختلال الفكر، وتشويش النظر، كالجوع، والعطش، والشِّبَع المُفْرِط، وغلبة النعاس، ونحو ذلك.

2 - (ومنها): أن الكتابة بالحديث كالسماع من الشيخ، في وجوب العمل بها، وأما في الرواية فمنع منها قوم إذا تجردت عن الإجازة، والمشهور الجواز. نَعَم الصحيح عند الأداء أن لا يُطلق الإخبار، بل يقول: كتب إليّ، أو كاتبني، أو أخبرني في كتابه، وإلى ذلك أشار السيوطيّ في "ألفية الحديث"، حيث قال:

خَامِسُهَا كِتَابَةُ الشَّيْخِ لِمَنْ ... يَغِيبُ أَوْ يَحْضُرُ أَوْ يَأذَنُ أَنْ

يُكْتَبَ عَنْهُ فَمَتَى أَجَازَا ... فَهْيَ كَمَنْ نَاوَلَ حَيْثُ امْتَازَا

أَوْ لَا فَقِيلَ لَا تَصِحُّ وَالأَصَحّ ... صِحَّتُهَا بَلْ وَإِجَازَةً رَجَحْ

وَيَكْتَفِي الْمَكْتُوبُ أَنْ يَعْرِفَ خَطّ ... كَاتِبِهِ وَشَاهِدًا بَعْضٌ شَرَطْ___

ثُمَّ لْيَقُلْ "حَدَّثَنِي" "أَخْبَرَنِي" ... كِتَابَةً وَالْمُطْلِقِينَ وَهِّنِ

3 - (ومنها): أن فيه ذكرَ الحكم مع دليله في التعليم، ويجيء مثله في الفتوى.

4 - (ومنها): شفقة الأب على ولده، وإعلامه بما ينفعه، وتحذيره من الوقوع فيما يُنكَر.

5 - (ومنها): نشر العلم للعمل به، والاقتداء، وإن لم يُسأل العالم عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (30/ 145)

عندي الأرجح قول من قال: لا ينفذ حكمه إن حكم في حال الغضب؛ لأن النهي للتحريم، وهو يقتضي الفساد، ولا يقاس بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - غيره في ذلك؛ لأنّ غضبه - صلى الله عليه وسلم - كرضاه، بخلاف غيره، قال القرطبيّ رحمه الله: ولا يُعارَضُ هذا الحديث بحكم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للزبير بإمساك الماء إلى أن يبلغ الجُدُر، وقد غَضِب من قول الأنصاريّ: آن كان ابن عمّتك؟ ؛ لأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الهوى، والباطل، والخطأ في غضبه ورضاه، وصحّته ومرضه، ولذلك قال: "اكتبوا عنّي في الغضب والرضا"، ولذلك نفذت أحكامه، وعُمل بحديثه الصادر في حال شدّة مرضه، ونَزْعه، كما نفذ في حال صحّته ونشاطه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا

 

 



[1] وفي فتح الباري لابن حجر (13/ 137):

"قَوْلُهُ (وَكَانَ بِسِجِسْتَانَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: (وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ)، وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ.

وَسِجِسْتَانُ (بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ بَعْدَهُمَا مُثَنَّاةٌ سَاكِنَةٌ): وَهِيَ إِلَى جِهَةِ الْهِنْدِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كَرْمَانَ مِائَةُ فَرْسَخٍ مِنْهَا أَرْبَعُونَ فَرْسَخًا مَفَازَةً، لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ وَيُنْسَبُ إِلَيْهَا سِجِسْتَانِيٌّ وَسِجِزْتِيٌّ (بِزَايٍ بَدَلَ السِّينِ الثَّانِيَةِ وَالتَّاءِ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ).

وَسِجِسْتَانُ لَا تُصْرَفُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ أَوْ زِيَادَة الْألف وَالنُّون. قَالَ ابن سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ: "كَانَ زِيَادٌ فِي وِلَايَتِهِ عَلَى الْعِرَاقِ قَرَّبَ أَوْلَادَ أَخِيهِ لِأُمِّهِ أَبِي بَكْرَةَ، وَشَرَّفَهُمْ، وَأَقْطَعَهُمْ، وَوَلَّى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرةٍ سِجِسْتَانَ، قَالَ: "وَمَاتَ أَبُو بَكْرَةَ فِي وِلَايَةِ زِيَادٍ." اهـ

[2] حديث موضوع: أخرجه الحارث بن أبي أسامة البغدادي في "مسنده" كما بغية الباحث (1/ 519) (رقم: 461)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (5/ 36) (رقم: 4603)، وابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" (7/ 151)، والدارقطني في سننه (5/ 367) (رقم: 4470)، والبيهقي في السنن الصغير (4/ 128) (رقم: 3243)، وفي السنن الكبرى (10/ 181) (رقم: 20282)، والخطيب في تاريخ بغداد – ت. بشار (7/ 261) (رقم: 2101)، والشجري كما في ترتيب الأمالي الخميسية (2/ 323) (رقم: 2612). قد صرح الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة" (13/ 449) (رقم: 6209) بأنه حديث موضوع! ففيه القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب القرشى العدوى العُمَرِيّ المدني، من الوسطى من أتباع التابعين. وقال عنه ابن حجر في التقريب: "متروك، رماه أحمد بالكذب." اهـ

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين