شرح الحديث 70 من صحيح الترغيب

 

صحيح الترغيب والترهيب (1/ 138_139)

70 - (4) [حسن لغيره] وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:

"من سلك طريقاً يلتمِسُ فيه علماً سهّلَ الله له طريقاً إلى الجنّةِ، وإن الملائكةَ لتضَعُ أجنحتها لِطالبِ العلم رِضاً بما يصنع، وإن العالِمَ ليَسْتَغْفِرُ له من في السمواتِ ومَن في الأرضِ، حتى الحيتانُ (5) في الماءِ، وفضلُ العالم على العابد كفضل القمرِ على سائر الكواكب، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يُورِّثُوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورَّثُوا العلمَ، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافرٍ (6) ".___

رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي،

 

وقال الترمذي : "لا يُعرَف إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حَيْوة، وليس إسناده عندي بمتّصل، وإنما يُروى عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن داود بن جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا أصح".

 

قال المملي رحمه الله[1] :

"ومن هذه الطريق رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي في "الشُّعب" وغيرها. وقد رُوي عن الأوزاعي عن كثير بن قيس عن يزيد بن سمُرة عنه، وعن الأوزاعي عن عبد السلام بن سليم عن يزيد بن سمُرة عن كثير بن قيسٍ عنه. قال البخاري : "وهذا أصح". ورُوي غيرُ ذلك، وقد اخْتُلفَ في هذا الحديث اختلافاً كثيراً، ذكرت بعضه في "مختصر السنن" (7)، وبسطته في غيره. والله أعلم".

__________

(5) جمع (حوت): وهو العظيم من السمك، وهو مذكر، قال تعالى: {فالتقمه الحوت}.

(6) (الحظ): النصيب، والمعنى: أخذ نصيباً تاماً لا حظ أوفر منه.

(7) رقم الحديث عنده (3494)، قلت: وقد ذكر الخلاف أيضاً الحافظ ابن عبد البَر في "جامع بيان العلم"، وأطال فيه، فراجعه (1/ 33 - 37).

ومدار الحديث على داود بن جميل عن كثير بن قيس، وهما مجهولان، لكن أخرجه أبو داود من طريق أخرى عن أبي الدرداء بسند حسن.

 

شرح الحديث:

 

وفي رواية المعجم الكبير للطبراني (8/ 54) (رقم : 7347): عن صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيُّ _رضي الله عنه_ قَالَ:

"أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى بُرْدٍ لَهُ فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي جِئْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَقَالَ: «مَرْحَبًا بطالبِ الْعِلْمِ، طَالِبُ الْعِلْمِ لَتَحُفُّهُ الْمَلَائِكَةُ وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغُوا السَّمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ حُبِّهِمْ لِمَا يَطْلُبُ، فَمَا جِئْتَ تَطْلُبُ؟» ، قَالَ: قَالَ صَفْوَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا نَزَالُ نُسَافِرُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَأَفْتِنَا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: «ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لِلْمُقِيمِ»

حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 139) (رقم : 71)

 

وفي التبصرة لابن الجوزي (2/ 192)

"وَذَكَرَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعْنَى وَضْعِهَا أَجْنِحَتَهَا ثَلاثَةَ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: بَسْطُ الأَجْنِحَةِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّوَاضُعَ لِطَالِبِ الْعِلْمِ. [2]

وَالثَّالِثُ: النُّزُولُ عِنْدَ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَتَرْكُ الطَّيَرَانِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا مِنْ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى إِلا حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلائِكَةُ." [م ت ق][3] [وللفائدة، فانظر: معالم السنن (1/ 61) للخطابي]

 

وفي الميسر في شرح مصابيح السنة للتُّوْرِبِشْتِيِّ (1/ 103):

"وفيه: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها ...)،

* يحتمل: أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد به تليين الجانب والانقياد، فألقى عليه بالرحمة والانعطاف؛ وذلك مثل قوله سبحانه: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}،

* ويحتمل أن المراد منه: فرش الأجنحة تواضعا لطالب العلم؛ حيث يبذل وسعه في استغاء مرضاة الله، سيما إذا وجدت سائر أحواله مشاكلة لطلب العلم.

* ويحتمل: أن المراد من الملائكة- ههنا- العموم.

* ويحتمل: أن المراد منها الكرام الكاتبون.

* ويحتمل: أن يكون صنيعهم هذا في الدنيا، ويحتمل: أن يكون في الآخرة.

* ويحتمل: أن يكون في الدارين جميعا.

وكل ذلك: توقير الملائكة طلاب العلم، والاستشعار في أنفسهم تعظيما لهم، والنظر إليهم بعين المهابة والجلال؛ فضرب المثل بما ضرب؛ تحقيقا لتلك المعاني!." اهـ

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 296)

وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ بِالْبَصْرَةِ فَحَدَّثَنَا هَذَا الْحَدِيثَ، وَفِي الْمَجْلِسِ شَخْصٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَجَعَلَ يَسْتَهْزِئُ بِالْحَدِيثِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَطْرُقَنَّ غَدًا نَعْلِي وَأَطَأُ بِهَا أَجْنِحَةَ الْمَلَائِكَةِ فَفَعَلَ وَمَشَى فِي النَّعْلَيْنِ فَحَفَتْ رِجْلَاهُ وَوَقَعَتْ فِيهِمَا الْأَكَلَةُ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: سَمِعْتُ ابْنَ يَحْيَى السَّاجِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نَمْشِي فِي أَزِقَّةِ الْبَصْرَةِ إِلَى بَابِ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ فَأَسْرَعْنَا الْمَشْيَ، وَكَانَ مَعَنَا رَجُلٌ مَاجِنٌ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ فَقَالَ: ارْفَعُوا أَرْجُلَكُمْ عَنْ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ لَا تَكْسِرُوهَا كَالْمُسْتَهْزِئِ بِالْحَدِيثِ، فَمَا زَالَ عَنْ مَوْضِعِهِ حَتَّى حَفَتْ رِجْلَاهُ وَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ اهـ.

وَالْحَفَاءُ: رِقَّةُ الْقَدَمِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ

 

تحفة الأحوذي (7/ 376):

"(وَفَضْلُ الْعَالِمِ)، أَيِ: الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِنَشْرِ الْعِلْمِ بَعْدَ أَدَائِهِ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ.

(عَلَى الْعَابِدِ)، أَيِ: الْغَالِبِ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ وَهُوَ الَّذِي يَصْرِفُ أَوْقَاتَهُ بِالنَّوَافِلِ مَعَ كَوْنِهِ عَالِمًا بِمَا تَصِحُّ بِهِ الْعِبَادَةُ

ترجمة أبي الدرداء _رضي الله عنه_

 

وفي "الأعلام" للزركلي (5/ 98):

"أَبُو الدَّرْدَاء (000 - 32 هـ = 000 - 652 م):

عويمر بن مالك بن قيس بن أمية الأنصاري الخزرجي، أبو الدرداء:

* صحابي، من الحكماء الفرسان القضاة.

* كان قبل البعثة تاجرا في المدينة، ثم انقطع للعبادة.

* ولما ظهر الإسلام اشتهر بالشجاعة والنسك. وفي الحديث "عويمر حكيم أمتي."[4]

و "نعم الفارس عويمر".[5]  

* وولاه معاوية قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب،

* وهو أول قاض بها.

* قال ابن الجزري: كان من العلماء الحكماء. وهو أحد الذين جمعوا القرآن حفظا، على عهد النبي _صلّى الله عليه وسلم_ بلا خلاف.

مات بالشام. وروى عنه أهل الحديث 179 حديثا." اهـ

 

وفي "تاريخ الإسلام" – ت. بشار (2/ 215):

"ولي قضاء دمشق، وداره بباب البريد وتُعْرَف اليوم بدار الْغَزِّيِّ. كذا قَالَ ابن عساكر." اهـ

 

وفي الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/ 1646) لابن عبد البر:

"شهد مَا بعد أحد من المشاهد، واختلف فِي شهوده أحدًا.

قَالَ الْوَاقِدِيُّ: توفي سنة اثنتين وثلاثين بدمشق فِي خلافة عُثْمَان." اهـ

 

معرفة الصحابة لأبي نعيم (4/ 2102)

آخَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، تُوُفِّيَ قَبْلَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ بِدِمَشْقَ، وَلَهُ عَقِبٌ، كَانَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ أُمُّ بِلَالِ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَاسْمُهَا خَيْرَةُ بِنْتُ أَبِي حَدْرَدٍ تَحْتَهُ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَلَدَ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِلَالًا، وَأُمُّهُ أُمُّ مُحَمَّدٍ بِنْتُ أَبِي حَدْرَدٍ مِنْ أَسْلَم

 

تخريج الحديث :

 

أخرجه أبو داود في "سننه" (3/ 317) (رقم : 3641)، والترمذي في "سننه" (5/ 48) (رقم : 2682)، وابن ماجه في "سننه" (1/ 81) (رقم : 223)، وابن حبان "صحيحه" (1/ 289) (رقم : 88)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3/ 220) (رقم : 1573)، وفي "الآداب" (ص: 348) (رقم : 862)، وفي "المدخل إلى السنن الكبرى" (ص: 250) (رقم : 347)، وفي "الأربعين الصغرى" (ص: 20) (رقم : 3)[6].

من فوائد الحديث:

 

تطريز رياض الصالحين (ص: 24) لفيصل بن عبد العزيز الحريملي :

* وفيه : فضل العلم وأهله." اهـ

 

شرح سنن أبي داود للعباد (412/ 3) – الشاملة:

"وهذا يدل على فضل العلم، وفضل أهله، وفضل مجالس العلم." اهـ

 

وفي "التبصرة" لابن الجوزي (2/ 193):

"وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ للَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُدَارَسَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لأَهْلِهِ قُرْبَةٌ، وَهُوَ الأُنْسُ فِي الْوَحْدَةِ وَالصَّاحِبُ فِي الْخَلْوَةِ." اهـ

 

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (19/ 43)

أَلَا تَرَى أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَإِنَّمَا صَارَ كَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لَهُ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ

 

الذخيرة للقرافي (1/ 43)

وَلَوْ لَمْ تَعْلَمِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ لَمَا فَعَلَتْهُ فَيَنْبَغِي لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْمُلُوكِ فَمَنْ دُونَهُمْ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ اتِّبَاعًا لِمَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَاصَّةِ مَلَكِهِ وَأَمَّا اسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ فَهُوَ طَلَبٌ وَدُعَاءٌ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَأَحَدُنَا يُسَافِرُ الْبِلَادَ الْبَعِيدَةَ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ لَعَلَّهُ يَدْعُو لَهُ فَمَا ظَنُّكَ بِدُعَاءِ قَوْمٍ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يؤمرون فيا حبذا هَذِه النِّعْمَة." اهـ

 

شرح رياض الصالحين (1/ 108) للعثيمين :

* وهذه فائدة عظيمة تدل على فضيلة العلم، وطلب العلم؛

والمراد به العلم الشرعي، أي: علم ما جاء به النبي _صلى الله عليه وسلم_، أما علم الدنيا فللدنيا، لكنْ طَلَبُ الْعِلْمِ الذي جاء به النبي _صلى الله عليه وسلم_ : هو الذي فيه الثناء والمدح، والحث عليه في القرآن والسنة. وهو نوع من الجهاد في سبيل الله، لأن هذا الدين قام بأمرين:

قام بالعلم والبيان، وبالسلاح: بالسيف والسنان.

حتى إن بعض العلماء قال: ((إن طلب العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله بالسلاح))، لأن حفظ الشريعة إنما يكون بالعلم. والجهاد بالسلاح في سبيل الله مبني على العلم، لا يسير المجاهدُ، ولا يقاتِل، ولا يحجُم، ولا يقسم الغنيمة، ولا يحكم بالأسرى؛ إلا عن طريق العلم، فالعلم هو كل شيء.

ولهذا قال الله عز وجل : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]

ووضع الملائكة أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب واحتراماً له، وتعظيماً له." اهـ

 

تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي (ص: 429_430):

قَالَ الْفَقِيهُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، قَالَ:

«مَا أَعْلَمُ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[7]، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ فِي طَلَبِ بَابٍ مِنَ الْعِلْمِ، حَفَّتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ الطُّيُورُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، وَالسِّبَاعُ فِي الْبَرِّ، وَالْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، وَآتَاهُ اللَّهُ أَجْرَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ صِدِّيقًا،

أَلَا فَاطْلُبُوا الْعِلْمَ، وَاطْلُبُوا لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ، وَالْحِلْمَ، وَالْوَقَارَ، وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ، وَلِمَنْ تُعَلِّمُونَهُ، وَلَا تُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا تُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا تَخْتَلِفُوا بِهِ إِلَى الْأُمَرَاءِ، وَلَا تَطَاوَلُوا بِهِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، فَتَكُونُوا مِنْ جَبَابِرَةِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ سَخَطُ اللَّهِ، فَكَبَّهُمْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، اطْلُبُوا عِلْمًا لا يَضُرُّكُمْ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَاعْبُدُوا اللَّهَ عِبَادَةً لَا تَضُرُّكُمْ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَذَا إِلَّا هَذَا، وَلَا تَكُونُوا كَأَقْوَامٍ تَرَكُوا طَلَبَ الْعِلْمِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى الْعِبَادَةِ، حَتَّى إِذَا نُحِلَتْ جُلُودُهُمْ عَلَى أَجْسَادِهِمْ، خَرَجُوا عَلَى النَّاسِ بِأَسْيَافِهِمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ طَلَبُوا الْعِلْمَ لَكَانَ الْعِلْمُ يَحْجُزُهُمْ عَمَّا صَنَعُوا، وَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالْحَائِدِ عَنِ الطَّرِيقِ، فَهُوَ لَا يَزْدَادُ اجْتِهَادًا إِلَّا ازْدَادَ بُعْدًا، وَكَانَ مَا يُفْسِدُهُ أَكْثَرَ___مِمَّا يُصْلِحُهُ» ، قِيلَ لَهُ: عَمَّنْ هَذَا يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ: «لَقِيتُ فِيهِ سَبْعِينَ بَدْرِيًّا وَاغْتَرَبْتُ فِي طَلَبِهِ أَرْبَعِينَ عَامًا»

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَا لِي أَرَى عُلَمَاءَكُمْ يَذْهَبُونَ وَجُهَّالَكُمْ لَا يَتَعَلَّمُونَ، تَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ فَإِنَّ رَفْعَ الْعِلْمِ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ." اهـ

 

تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي (ص: 439_440):

"يُقَالُ: مَنِ انْتَهَى إِلَى الْعَالِمِ، وَجَلَسَ مَعَهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَحْفَظَ الْعِلْمَ، فَلَهُ سَبْعُ كَرَامَاتٍ أَوَّلُهَا: يَنَالُ فَضْلَ الْمُتَعَلِّمِينَ.____

وَالثَّانِي: مَا دَامَ جَالِسًا عِنْدَهُ كَانَ مَحْبُوسًا عَنِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَأِ.

وَالثَّالِثُ: إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ.

وَالرَّابِعُ: إِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ، فَتَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ، فَتُصِيبُهُ بِبَرَكَتِهِمْ.

الخَامِسُ: مَا دَامَ مُسْتَمِعًا تُكْتَبُ لَهُ الْحَسَنَةُ.

وَالسَّادِسُ: تَحُفُّ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا رِضًا وَهُوَ فِيهِمْ.

وَالسَّابِعُ: كُلُّ قَدَمٍ يَرْفَعُهُ، وَيَضَعُهُ يَكُونُ كَفَّارَةً لِلذُّنُوبِ، وَرَفْعًا لِلدَّرَجَاتِ لَهُ، وَزِيَادَةً فِي الْحَسَنَاتِ،

ثُمَّ يُكْرِمُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِسِتِّ كَرَامَاتٍ أُخْرَى:

أَوَّلُهَا: يُكْرِمُهُ بِحُبِّ شُهُودِ مَجْلِسِ الْعُلَمَاءِ.

وَالثَّانِي: كُلُّ مَنْ يَقْتَدِي بِهِمْ، فَلَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ.

وَالثَّالِثُ: لَوْ غَفَرَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، يَشْفَعُ لَهُ.

وَالرَّابِعُ: يُبَرِّدُ قَلْبَهُ مِنْ مَجْلِسِ الْفُسَّاقِ.

وَالْخَامِسُ: يَدْخُلُ فِي طَرِيقِ الْمُتَعَلِّمِينَ وَالصَّالِحِينَ.

وَالسَّادِسُ: يُقِيمُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، قَالَ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79] ، يَعْنِي الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَهَاءَ هَذَا لِمَنْ لَمْ يَحْفَظْ شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِي يَحْفَظُ فَلَهُ أَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: (إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى جَنَّةً فِي الدُّنْيَا، مَنْ دَخَلَهَا طَابَ عَيْشُهُ. قِيلَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: (مَجْلِسُ الذِّكْرِ)." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (1/ 160)

وَفِيهِ بِشَارَةٌ بِتَسْهِيلِ الْعِلْمِ عَلَى طَالِبِهِ لِأَنَّ طَلَبَهُ مِنَ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْجَنَّةِ

 

جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (2/ 297_298):

"وَقَوْلُهُ: «سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ»

قَدْ يُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يُسَهِّلُ لَهُ الْعِلْمَ الَّذِي طَلَبَهُ، وَسَلَكَ طَرِيقَهُ، وَيُيَسِّرُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ طَرِيقٌ مُوَصِّلٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17] [الْقَمَرِ: 17] . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانُ عَلَيْهِ؟ .

وَقَدْ يُرَادُ أَيْضًا: أَنَّ اللَّهَ يُيَسِّرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ إِذَا قَصَدَ بِطَلَبِهِ وَجْهَ اللَّهِ الِانْتِفَاعَ بِهِ وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِهِدَايَتِهِ وَلِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ.

وَقَدْ يُيَسِّرُ اللَّهُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ عُلُومًا أُخَرَ يَنْتَفِعُ بِهَا، وَتَكُونُ مُوَصِّلَةً لَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، كَمَا قِيلَ: مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، أَوْرَثَهُ اللَّهُ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَكَمَا قِيلَ: ثَوَابُ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] [مَرْيَمَ: 76] ، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] [مُحَمَّدٍ: 17] .

وَقَدْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا تَسْهِيلُ طَرِيقِ الْجَنَّةِ الْحِسِّيِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - وَهُوَ الصِّرَاطُ - وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ، فَيُيَسِّرُ ذَلِكَ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ لِلِانْتِفَاعِ___بِهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَدُلُّ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَقْرَبِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ، فَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ، وَلَمْ يَعْرُجْ عَنْهُ، وَصَلَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْجَنَّةِ مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ وَأَسْهَلِهَا فَسَهُلَتْ عَلَيْهِ الطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْجَنَّةِ كُلُّهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَإِلَى الْوُصُولِ إِلَى رِضْوَانِهِ وَالْفَوْزِ بِقُرْبِهِ وَمُجَاوَرَتِهِ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، فَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَبِهِ يُهْتَدَى فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهَ كِتَابَهُ نُورًا؛ لِأَنَّهُ يُهْتَدَى بِهِ فِي الظُّلُمَاتِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16] [الْمَائِدَةِ: 15 - 16] ." اهـ

 

شرح رياض الصالحين (5/ 441_442):

"وهذا يدل على فضل العلم وأن العلماء يستغفر لهم أهل السماء والأرض وحتى الحيتان في البحر وحتى الدواب في البر كل شيء يستغفر له.

ولا تستغرب أن تكون هذه الحيوانات تستغفر الله عز وجل للعالم، لأن الله _سبحانه وتعالى_ قال في القرآن الكريم على لسان موسى _عليه الصلاة والسلام_: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] ،

فالبهائم والحشرات تعلم ربها _عز وجل_ وتعرفه

{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]،

كل شيء يسبح بحمد الله حتى إن الحصى سمع تسبيحه بين يدي النبي___وهو حصى لأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه حتى إن الله قال للسماوات والأرض {ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} فخاطبهما {ائتيا طوعا أو كرها} يعني لما أمر كما به قالتا أتينا طائعين فكل شيء يمتثل أمر الله عز وجل إلا الكفرة من بني آدم والجن." اهـ

 

شرح رياض الصالحين (5/ 443)

الملائكة الكرام الذين كرمهم الله عز وجل تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع أترون فضلا أعظم من هذا أن الملائكة ملائكة الله عز وجل تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع هذا فضل عظيم

 

شرح رياض الصالحين (5/ 443_444):

"وبَيَّنَ النَّبِيُّ _صلى الله عليه وسلم_ في حديث أبي الدرداء أن العلماء ورثة الأنبياء.

لو سألت: من الذي يرث الأنبياء؟ العُبَّاد الذين يركعون ويسجدون ليلا ونهارا؟! لا! أقارب الأنبياء؟! لا، لا يرث الأنبياء إلا العلماءُ،

اللهم اجعلنا منهم العلماء هم ورثة الأنبياء، ورثوا العلم من الأنبياء، وورثوا العمل كما يعمل الأنبياء، وورثوا الدعوة إلى الله _عز وجل_، وورثوا هداية الخلق ودلالتهم على شريعة الله.

فالعلماء: هم ورثة الأنبياء، الأنبياء لم يورِّثوا درهما، ولا دينارا، توفي النبي _صلى الله عليه وسلم_ عن ابنته فاطمة، وعن عمه العباس، وعن أبناء عمه، وعن زوجاته، ولَمْ تَرِثْهُ ابنتُه، ولا زوجاتُه ولا عصَبَتُه، لأن الأنبياء لا يورِّثون درهما ولا دينارا، وهذا من حكمة الله _عز وجل_ أنهم لا يورثون، لئلا يقول قائل إن النبي إنما ادعى النبوة لأجل أن يملك، فيورثوا فيرثه أقاربه من ذلك فقطع هذا. وقيل النبي لا يرثه ابنه وأما قول زكريا {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 5، 6]،

فالمراد بذلك إرث العلم والنبوة وليس المال فالأنبياء لا يورثون___ما ورثوا درهما ولا دينارا إنما ورثوا هذا العلم صلوات الله عليه هذا أعظم ميراث، فمن أخذه أخذ بحظ وافر أي بنصيب وافر كثير،

من أخذ بهذا الإرث واسأل الله أن يجعلني وإياكم من آخذيه هذا هو الإرث الحقيقي النافع العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم." اهـ

 

شرح رياض الصالحين (5/ 444)

فالمهم أن الإنسان الذي يمن الله عليه بالعلم فقد من الله عليه بما هو أعظم من الأموال والبنين والزوجات والقصور والمراكب وكل شيء

 

وفي تطريز رياض الصالحين (ص: 759)

قوله: «وإن العلماء ورثة الأنبياء»، أي: في العلم، والعمل، والكمال، ولا يتم ذلك إلا لمن صفى علمه، وعمله، فسَلِمَ من الإخلاد إلى الشهوات الخافضة.

قال الحسن: من طلب العلم يريد ما عند الله، كان خيرًا له مما طلعت عليه الشمس.

وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة." اهـ

 

معالم السنن (4/ 183)

وقيل في قوله وتستغفر له الحيتان في جوف الماء إن الله قد قيض للحيتان وغيرها من أنواع الحيوان بالعلم على ألسنة العلماء أنواعاً من المنافع والمصالح والارفاق فهم الذين بينوا الحكم فيها فيما يحل ويحرم منها وارشدوا إلى المصلحة في بابها وأوصوا بالإحسان إليها ونفي الضرر عنها فألهمها الله الاستغفار للعلماء مجازاة على حسن صنيعهم بها وشفقتهم عليها." اهـ

 

الذخيرة للقرافي (1/ 43_44):

"وَأما التَّشْبِيه بالبدر، فَفِيهِ فَوَائِد:

* إِحْدَاهَا: أَنَّ الْعَالِمَ يَكْمُلُ بِقَدْرِ اتِّبَاعِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ الشَّمْسُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} [الأحزاب: 45، 46]،

والسراج هُوَ الشَّمْس لقَوْله _تَعَالَى_: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ: 13]،

وَلَمَّا كَانَ الْقَمَرُ يَسْتَفِيدُ ضَوْءَهُ مِنَ الشَّمْسِ___وَكلما كثر توجهه إِلَيْهَا كثر ضوؤه حَتَّى يَصِيرَ بَدْرًا فَكَذَلِكَ الْعَالِمُ كُلَّمَا كَثُرَ توجهه للنَّبِي وإقباله عَلَيْهِ توفر كَمَاله

* وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَالِمَ مَتَى أَعْرَضَ عَنِ النَّبِيِّ بِكُلِّيَّتِهِ كَسَفَ بَالُهُ وَفَسَدَ حَالُهُ كَمَا أَنَّ الْقَمَرَ إِذَا حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ كَسَفَ خِلَافًا لِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْعُلُومَ تُتَلَقَّى بِالتَّوَجُّهِ وَلَا يحْتَاج فِيهَا إِلَى النُّبُوَّة.

وثالثها: أَنَّ الْكَوْكَبَ مَعَ الْبَدْرِ كَالْمَطْمُوسِ الَّذِي لَا أَثَرَ لَهُ، وَضَوْءُ الْبَدْرِ عَظِيمُ الْمَنْفَعَةِ مُنْتَشِرُ الْأَضْوَاءِ مُنْبَعِثُ الْأَشِعَّةِ فِي الْأَقْطَارِ بَرًّا وَبَحْرًا،

وَهَذَا هُوَ شَأْنُ الْعَالِمِ، وَأَمَّا الْعَابِدُ، فَالْكَوْكَبُ حِينَئِذٍ لَا يَتَعَدَّى نُورُهُ مَحَلَّهُ وَلَا يَصِلُ نَفْعُهُ إِلَى غَيْرِهِ." اهـ

 

شرح المصابيح لابن الملك (1/ 201):

"وفيه: إشارة إلى أن طرق الجنة كثيرة؛ فكلُّ عملٍ صالحٍ طريقٌ من طرقها، وطلبُ العلم أقربُ طريق إليها وأعظم." اهـ

 

شرح المصابيح لابن الملك (1/ 202):

"وإن العالِم لَيَستغفر له مَن في السماوات"؛ لأنهم عُرفوا بتعريف العلماء، وعُظِّموا بقولهم."ومَن في الأرض"؛ لأنَّ بقاءَهم وصلاحَهم مربوطٌ برأي العلماء وفتواهم، ولذلك قيل: ما من شيء من الموجودات حيها وميتِها إلا وله مصلحة متعلقة بالعلم." اهـ

 

شرح المصابيح لابن الملك (1/ 202_203):

"(كفضل القمر ليلةَ البدر): وهي الليلة الرابع عشر من الشهر، (على سائر الكواكب)،

شبَّه العالِم بالقمر والعابد بالكواكب؛ لأنَّ كمالَ___العبادة ونورَها لا يتخطى العابد، وكمالَ العلم ونورَه يتعدى إلى غيره، فيُستضاء بنوره المتلقَّى من نور النبي - عليه الصلاة والسلام - كالقمر المتلقِّي نورَه مِن الشمس المنيرة بالذات من خالقها - عز وجل -." اهـ

 

وفي "شرح المصابيح" لابن الملك (1/ 203):

"مَن أراد أخذَه فَلْيأخذْ وافراً منه، ولا يَقْنع بقليله؛ فإن وضعَ الملائكةِ أجنحتَها واستغفارَ المخلوقات لطالِبه من أعلى المراتب للإنسان." اهـ

 

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 296):

"وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ طُرُقَ الْجَنَّةِ مَحْصُورَةٌ فِي طُرُقِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْعِلْمِ وَاللَّهُ أَعْلَم." اهـ

 

دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 180)

(وإن العالم) ترقٍّ إلى ذكر ما هو أبلغ في فضله بإثبات وصف العلم له بعد إثبات فضل طلبه، فيما قبله. وبإثبات استغفار من يأتي إلا رفع من مجرد وضع الأجنحة. كذا قيل: واستوجه في فتح الإِله أن وضع الأجنحة للطالب قبل أن يسمى عالماً، والاستغفار للعالم فلا ترقى." اهـ

 

تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم (ص: 7)

واعلم أنه لا رتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وغيرهم بالاستغفار والدعاء له وتضع له أجنحتها، وأنه لَيُنَافَسُ في دعاء الرجل الصالح أو مَنْ يُظَنُّ صلاحه، فكيف بدعاء الملائكة." اهـ

 

دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 181)

(إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً) أي: مالاً،

وَخُصَّا بالذكر؛ لأنهما أغلب أنواعه، وفي نفيهما عنهم إيماء إلى رذالة الدنيا فأعرضوا عنها ولم يأخذوا منها إلا قدر الضرورة، فلم يورثوا شيئاً منها، لئلا يتوهم أنهم كانوا يطلبون شيئاً منها يورث عنهم،

(إنما ورثوا العلم) بأحوال الظاهر والباطن، على تباين أجناسه واختلاف أنواعه بتعليمهم لأممهم." اهـ

 

وقال عبد الحق بن سيف الدين بن سعد اللَّه البخاري الدِّهلوي الحنفي (المتوفى: 1052 هـ) _رحمه اللَّه تعالى_ في "لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح" (1/ 550):

"من أخذ العلم وتعلمه أخذ حظًا وافرًا من الدين والسعادة." اهـ

 

دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 181_182):

"(أخذ بحظ) أي: نصيب من الكمال (وافر) لا نهاية له،

ومن ثم قال الثوري: "لا أعلم___اليوم شيئاً أفضل من طلب العلم، قيل له: ليس لهم نية؟ قال: طلبهم له نية."

وقال الحسن: "من طلب العلم يريد ما عند الله، كان خيراً له مما طلعت عليه الشمس."

وقال مالك: "لمن أراد المبادرة إلى الصلاة، وترك ما هو فيه من العلم ليس ما تذهب إليه فوق ما أنت فيه، إذا صحت النية."

وقال الشافعي: "طلب العلم أفضل من صلاة النافلة." اهـ

 

وفي "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (1/ 63_65):

وَالطَّرِيق الَّتِي يسلكها الى الْجنَّة جَزَاء على سلوكه فِي الدُّنْيَا طَرِيق الْعلم الموصلة الى رضَا ربه."

 

مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 63)

وَوضع الْمَلَائِكَة اجنحتها لَهُ تواضعا لَهُ وتوقيرا وإكراما لما يحملهُ من مِيرَاث النُّبُوَّة ويطلبه وَهُوَ يدل على الْمحبَّة والتعظيم فَمن محبَّة الْمَلَائِكَة لَهُ وتعظيمه تضع اجنحتها لَهُ لِأَنَّهُ طَالب لما بِهِ حَيَاة الْعَالم ونجاته فَفِيهِ شبه من الْمَلَائِكَة وَبَينه وَبينهمْ تناسب فان الْمَلَائِكَة انصح خلق الله وانفعهم لبني آدم وعَلى ايديهم حصل لَهُم كل سَعَادَة وَعلم وَهدى وَمن نفعهم لبني آدم ونصحهم انهم يَسْتَغْفِرُونَ لمسيئهم ويثنون على مؤمنيهم ويعينونهم على اعدائهم من الشَّيَاطِين ويحرصون على مصَالح العَبْد اضعاف حرصه على مصلحَة نَفسه بل يُرِيدُونَ لَهُ من خير الدُّنْيَا والاخرة مَا لَا يُريدهُ العَبْد وَلَا يخْطر بِبَالِهِ كَمَا قَالَ بعض التَّابِعين:

"وجدنَا الْمَلَائِكَة انصح خلق الله لِعِبَادِهِ وَوجدنَا الشَّيَاطِين اغش الْخلق للعباد."

وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} [غافر: 7_9]،

فَأَيُّ نُصْحٍ للعباد مثلُ هَذَا، إلاَّ نُصْحَ الأنبياءِ،

فَإِذا طلب العَبْد الْعلمَ، فقدْ سعى فِي أعظم مَا ينصح بِهِ عباد الله، فَلذَلِك تحبه الْمَلَائِكَة وتعظمه حَتَّى تضع اجنحتها لَهُ رضَا ومحبة وتعظيما.

وَقَالَ ابو حَاتِم الرَّازِيّ سَمِعت ابْن أبي أويس يَقُول: سَمِعت مَالك بن أنس يَقُول:

"معنى قَول رَسُول الله (تضع اجنحتها) يَعْنِي: تبسطها بِالدُّعَاءِ لطَالب الْعلم بَدَلا من الايدي.

وَقَالَ احْمَد بن مَرْوَان الْمَالِكِي فِي "كتاب المجالسة" لَهُ:

حَدثنَا زَكَرِيَّا بن عبد الرَّحْمَن الْبَصْرِيّ قَالَ سَمِعت احْمَد بن شُعَيْب يَقُول كُنَّا عِنْد بعض الْمُحدثين بِالْبَصْرَةِ فحدثنا بِحَدِيث النَّبِي ان الْمَلَائِكَة لتَضَع اجنحتها لطَالب الْعلم وَفِي الْمجْلس مَعنا رجل من الْمُعْتَزلَة فَجعل يستهزئ بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ:

"وَالله لاطرقن غَدا نَعْلي بمسامِيْرَ، فأطأ بهَا أَجْنِحَة الْمَلَائِكَة."

فَفعل، وَمَشى فِي النَّعْلَيْنِ فجفت رِجْلَاهُ جَمِيعًا، وَوَقعت فيهمَا الأَكَلَةُ."

وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ: سَمِعت أَبَا يحيى زَكَرِيَّا بن يحيى السَّاجِي قَالَ:

"كُنَّا نمشي فِي بعض ازقة الْبَصْرَة إِلَى بَاب بعض الْمُحدثين فاسرعنا الْمَشْي وَكَانَ مَعنا رجل ماجن مِنْهُم فِي دينه، فَقَالَ: "ارْفَعُوا أرجلكم عَن أجنحة الْمَلَائِكَة، لا تكسروها." كالمستهزيء.

فَمَا زَالَ من مَوْضِعه حَتَّى جَفتْ رِجْلَاهُ وَسقط."

وَفِي السّنَن وَالْمَسَانِيد من حَدِيث صَفْوَان ابْن عَسَّال بعسال قَالَ:

"قلت: "يَا رَسُول الله إِنِّي جِئْت أطلب الْعلم."

قَالَ: (مرْحَبًا بطالب الْعلم إِن طَالب الْعلم لتحف بِهِ الْمَلَائِكَة وتظله بأجنحتها فيركب بَعضهم بَعْضًا حَتَّى تبلغ السَّمَاء الدنيامن حبهم لما يطْلب)، وَذكر حَدِيث الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.

قَالَ ابوعبد الله الْحَاكِم: "إسناده صَحِيح." وَقَالَ ابْن عبد الْبر: "هُوَ حَدِيث صَحِيح حسن ثَابت مَحْفُوظ مَرْفُوع وَمِثْلُهُ لَا يُقَال بِالرَّأْيِ.

فَفِي هَذَا الحَدِيث: حف الْمَلَائِكَة لَهُ بأجنحتها الى السَّمَاء، وَفِي الاول: وَضْعُهَا اجنحتها لَهُ. فالوضع: تواضع وتوقير وتبجيل، والحف بالاجنحة: حفظ، وحماية، وصيانة.

فتضمن الحديثان تَعْظِيمَ الْمَلَائِكَة لَهُ وحُبَّها إياه وحياطتَه وَحِفْظَه. فَلَو لم يكن لطَالب الْعلم إِلَّا هَذَا الْحَظ الجزيل، لكفى بِهِ شرفا وفضلا

وَقَوله (إن الْعَالم ليَسْتَغْفِر لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الارض حَتَّى الْحيتَان فِي المَاء) فَإِنَّهُ لما كَانَ الْعَالم سَببا فِي حُصُول الْعلم الَّذِي بِهِ نجاة النُّفُوس من أَنْوَاع المهلكات وَكَانَ سَعْيه مفصورا على هَذَا وَكَانَت نجاة الْعباد على يَدَيْهِ: جُوْزِيَ من جنس عمله وَجعل من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض ساعيا فِي نجاته من أسباب الهلكاتِ باستغفارهم لَهُ.

وَإِذا كَانَت الْمَلَائِكَة تستغفر للؤمنين فَكيف لَا تستغفر لخاصتهم وخلاصتهم وَقد قيل: إن من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الارض المستغفرين___للْعَالم عَام فِي الْحَيَوَانَات ناطقها وبهيمها طيرها وَغَيره،

ويؤكد هَذَا قَوْله حَتَّى الْحيتَان فِي المَاء وَحَتَّى النملة فِي جحرها فَقيل سَبَب هَذَا الاسْتِغْفَار ان الْعَالم يعلم الْخلق مُرَاعَاة هَذِه الْحَيَوَانَات ويعرفهم مَا يحل مِنْهَا وَمَا يحرم ويعرفهم كَيْفيَّة تنَاولهَا واستخدامها وركوبها وَالِانْتِفَاع بهَا وَكَيْفِيَّة ذَبحهَا على احسن الْوُجُوه وارفقها بِالْحَيَوَانِ والعالم اشفق النَّاس على الْحَيَوَان واقومهم بِبَيَان مَا خلق لَهُ،

وَبِالْجُمْلَةِ فالرحمة والاحسان الَّتِي خلق بهما وَلَهُمَا الْحَيَوَان وَكتب لَهما حظهما مِنْهُ إِنَّمَا يعرف بِالْعلمِ فالعالم معرف لذَلِك فَاسْتحقَّ ان تستغفر لَهُ الْبَهَائِم وَالله أعلم." اهـ

 

مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 65_66):

وَقَوله (وَفضل الْعَالم على العابد كفضل الْقَمَر على سَائِر الْكَوَاكِب) تَشْبِيه مُطَابق لحَال الْقَمَر وَالْكَوَاكِب، فإن الْقَمَر يضيء الآفاق ويمتد نوره فِي أقطار الْعَالم.

وَهَذِه حَال الْعَالم وَأما الْكَوْكَب فنوره لَا يُجَاوز نَفسه اَوْ مَا قرب مِنْهُ وَهَذِه حَال العابد الَّذِي يضيء نور عِبَادَته عَلَيْهِ دون غَيره.

وإن جَاوز نور عِبَادَته غَيره فَإِنَّمَا يُجَاوِزهُ غير بعيد كَمَا يُجَاوز ضوء الْكَوْكَب لَهُ مُجَاوزَة يسيرَة،

وَمن هَذَا الاثر الْمَرْوِيّ: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يَقُول الله للعابد ادخل الْجنَّة فَإِنَّمَا كَانَت منفعتك لنَفسك وَيُقَال للْعَالم اشفع تشفع فَإِنَّمَا كَانَت منفعتك للنَّاس وروى ابْن جريج عَن عطاءعن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُؤْتى بالعابد والفقيه فَيُقَال للعابد ادخل الْجنَّة وَيُقَال للفقيه اشفع تشفع وَفِي التَّشْبِيه الْمَذْكُور لطيفه اخرى وَهُوَ ان الْجَهْل كالليل فِي ظلمته وجنسه وَالْعُلَمَاء والعباد بِمَنْزِلَة الْقَمَر وَالْكَوَاكِب الطالعة فِي تِلْكَ الظلمَة وَفضل نور الْعَالم فِيهَا على نور العابد كفضل نور الْقَمَر على الْكَوَاكِب وايضا فالدين قوامه وزينته واضاءته بعلمائه وعباده فَإِذا ذهب علماؤه وعباده ذهب الدّين كَمَا ان السَّمَاء اضاءتها وَزينتهَا بقمرها وكواكبها فَإِذا خسف قمرها وانتشرت كواكبها اتاها ماتوعد وَفضل عُلَمَاء الدّين على الْعباد كفضل مَا بَين الْقَمَر وَالْكَوَاكِب فَإِن قيل كَيفَ وَقع تَشْبِيه الْعَالم بالقمر دون الشَّمْس وَهِي اعظم نورا قيل فِيهِ فَائِدَتَانِ احداهما ان نور الْقَمَر لما كَانَ مستفادا من غَيره كَانَ تَشْبِيه الْعَالم الَّذِي نوره مُسْتَفَاد من شمس الرسَالَة بالقمر اولى من تشبيهه بالشمس الثَّانِيَة ان الشَّمْس لَا يخْتَلف حَالهَا فِي نورها وَلَا يلْحقهَا محاق وَلَا تفَاوت فِي الاضاءة واما الْقَمَر فَإِنَّهُ يقل نوره وَيكثر ويمتليء وَينْقص كَمَا ان الْعلمَاء فِي الْعلم على مَرَاتِبهمْ من كثرته وقلته فيفضل كل مِنْهُم فِي علمه بِحَسب كثرته وقلته وظهوره وخفائه كَمَا يكون الْقَمَر كَذَلِك فعالم كالبدر لَيْلَة تمه وَآخر دونه بليلة وثانية وثالثة وَمَا بعْدهَا إِلَى آخر مراتبه وهم دَرَجَات عِنْد الله فَإِن قيل تَشْبِيه الْعلمَاء بالنجوم أَمر مَعْلُوم كَقَوْلِه اصحابي كَالنُّجُومِ وَلِهَذَا هِيَ فِي تَعْبِير الرُّؤْيَا عبارَة عَن الْعلمَاء فَكيف وَقع تشبيههم هُنَا بالقمر قيل اما تَشْبِيه الْعلمَاء بالنجوم فَإِن النُّجُوم يهتدى بهَا فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر وَكَذَلِكَ الْعلمَاء والنجوم زِينَة للسماء___التشبهين لَائِق بموضعه وَالْحَمْد لله." اهـ

 

مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 66)

وَقَوله ان الْعلمَاء وَرَثَة الانبياء هَذَا من اعظم المناقب لاهل الْعلم فَإِن الانبياء خير خلق الله فورثتهم خير الْخلق بعدهمْ وَلما كَانَ كل موروث ينْتَقل مِيرَاثه الى ورثته اذهم الَّذين يقومُونَ مقَامه من بعده وَلم يكن بعد الرُّسُل من يقوم مقامهم فِي تَبْلِيغ مَا ارسلوا بِهِ الا الْعلمَاء كَانُوا احق النَّاس بميراثهم وَفِي هَذَا تَنْبِيه على انهم اقْربْ النَّاس اليهم فَإِن الْمِيرَاث إِنَّا يكون لاقرب النَّاس الى الْمَوْرُوث وَهَذَا كَمَا انه ثَابت فِي مِيرَاث الدِّينَار وَالدِّرْهَم فَكَذَلِك هُوَ فِي مِيرَاث النُّبُوَّة وَالله يخْتَص برحمته من يَشَاء وَفِيه ايضا ارشاد وامر للْأمة بطاعهم واحترامهم وتعزيزهم وتوفيرهم وإجلالهم فَإِنَّهُم وَرَثَة من هَذِه بعض حُقُوقهم على الْأمة وخلفاؤهم فيهم وَفِيه تَنْبِيه على ان محبتهم من الدّين وبغضهم منَاف للدّين كَمَا هُوَ ثَابت لموروثهم وَكَذَلِكَ معاداتهم ومحاربتهم معاداة ومحاربة لله كَمَا هُوَ فِي موروثهم قَالَ على كرم الله وَجهه ورضى عَنهُ محبَّة الْعلمَاء دين يدان بِهِ وَقَالَ فِيمَا يرْوى عَن ربه عز وَجل من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وورثة الانبياء سَادَات اولياء لله عز وَجل وَفِيه تَنْبِيه للْعُلَمَاء على سلوك هدى الانبياء وطريقتهم فِي التَّبْلِيغ من الصَّبْر وَالِاحْتِمَال ومقابلة إساءة النَّاس اليهم بالاحسان والرفق بهم واستجلابهم الى الله باحسن الطّرق وبذل مَا يُمكن من النَّصِيحَة لَهُم فَإِنَّهُ بذلك يحصل لَهُ نصِيبهم من هَذَا الْمِيرَاث الْعَظِيم قدره الْجَلِيل خطره وَفِيه ايضا تَنْبِيه لاهل الْعلم على تربية الامة كَمَا يربى الْوَالِد وَلَده فيبربونهم بالتدريج والترقي من صغَار الْعلم إِلَى كباره وتحميلهم مِنْهُ مَا يُطِيقُونَ كَمَا يفعل الاب بولده الطِّفْل فِي ايصال الْغذَاء اليه فَإِن ارواح الْبشر بِالنِّسْبَةِ الى الانبياء وَالرسل كالاطفال بِالنِّسْبَةِ الى آبَائِهِم بل دون هَذِه النِّسْبَة بِكَثِير وَلِهَذَا كل روح لم تربها الرُّسُل لم تفلح وَلم تصلح لصالحه كَمَا قيل

وَمن لَا يربيه الرَّسُول ويسقه ... لبانا لَهُ قد در من ثدي قدسه فَذَاك لَقِيط مَاله نِسْبَة الولا ... وَلَا يتَعَدَّى طور ابناء جنسه

 

مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 66)

وَقَوله ان الانبياء لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما إِنَّمَا ورثوا الْعلم هَذَا من كَمَال الانبياء وَعظم___

مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 67)

نصحهمْ للأمم وَتَمام نعْمَة الله عَلَيْهِم وعَلى اممهم ان ازاح جَمِيع الْعِلَل وحسم جَمِيع الْموَاد الَّتِي توهم بعض النُّفُوس ان الانبياء من وجنس الْمُلُوك الَّذين يُرِيدُونَ الدُّنْيَا وملكها فحماهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من ذَلِك اتم الحماية ثمَّ لما كَانَ الْغَالِب على النَّاس ان احدهم يُرِيد الدُّنْيَا لوَلَده من بعده وَيسْعَى ويتعب وَيحرم نَفسه لوَلَده سد هَذِه الذريعة عَن انبيائه وَرُسُله وَقطع هَذَا الْوَهم الَّذِي عساه ان يخالط كثيرا من النُّفُوس الَّتِي تَقول فَلَعَلَّهُ ان لم يطْلب الدُّنْيَا لنَفسِهِ فَهُوَ يحصلها لوَلَده فَقَالَ نَحن معاشر الانبياء لَا نورث مَا تركنَا هُوَ صَدَقَة فَلم تورث الانبياء دِينَارا وَلَا درهما وَإِنَّمَا ورثوا الْعلم واما قَوْله تَعَالَى وَورث سُلَيْمَان دَاوُد فَهُوَ مِيرَاث الْعلم والنبوة لَا غير وَهَذَا بِاتِّفَاق اهل الْعلم من الْمُفَسّرين وَغَيرهم وَهَذَا لَان دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ لَهُ اولاد كَثِيرَة سوى سُلَيْمَان فَلَو كَانَ الْمَوْرُوث هُوَ المَال لم يكن سُلَيْمَان مُخْتَصًّا بِهِ وايضا فَإِن كَلَام الله يصان عَن الاخبار بِمثل هَذَا فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة ان يُقَال مَاتَ فلَان وَورثه ابْنه وَمن الْمَعْلُوم ان كل اُحْدُ يَرِثهُ ابْنه وَلَيْسَ فِي الاخبار بِمثل هَذَا فَائِدَة وايضا فَإِن مَا قبل الاية وَمَا بعْدهَا يبين ان المُرَاد بِهَذِهِ الوراثة وراثة الْعلم والنبوة لَا وراثة المَال قَالَ تَعَالَى وَلَقَد آتَيْنَا دَاوُود وَسليمَان علما وَقَالا الْحَمد لله الَّذِي فضلنَا على كثير من عباده الْمُؤمنِينَ وَورث سُلَيْمَان دَاوُود وَإِنَّمَا سيق هَذَا لبَيَان فضل سُلَيْمَان وَمَا خصّه الله بِهِ من كرامته وميراثه مَا كَانَ لابيه من اعلى الْمَوَاهِب وَهُوَ الْعلم والنبوة ان هَذَا لَهو الْفضل الْمُبين وَكَذَلِكَ قَول زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَإِنِّي خفت الموَالِي من ورائي وَكَانَت امْرَأَتي عاقرا فَهَب لي من لَدُنْك وليا يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب واجعله رب رَضِيا فَهَذَا مِيرَاث الْعلم والنبوة والدعوة الى الله وَإِلَّا فَلَا يظنّ بني كريم انه يخَاف عصبته ان يرثوه مَاله فَيسْأَل الله الْعَظِيم ولدا يمنعهُم مِيرَاثه وَيكون احق بِهِ مِنْهُم وَقد نزه الله انبياءه وَرُسُله عَن هَذَا وَأَمْثَاله فبعدا لمن حرف كتاب الله ورد على رَسُوله كَلَامه وَنسب الانبياء الى مَا هم بُرَآء منزهون عَنهُ وَالْحَمْد لله على توفيقه وهدايته وَيذكر عَن ابي هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ انه مر بِالسوقِ فَوَجَدَهُمْ فِي تجاراتهم وبيوعاتهم فَقَالَ انتم هَهُنَا فِيمَا انتم فِيهِ وميراث رَسُول الله يقسم فِي مَسْجده فَقَامُوا سرَاعًا الى الْمَسْجِد فَلم يَجدوا فِيهِ الا الْقُرْآن وَالذكر ومجالس الْعلم فَقَالُوا ايْنَ مَا قلت يَا أَبَا هُرَيْرَة فَقَالَ هَذَا مِيرَاث مُحَمَّد يقسم بَين ورثته وَلَيْسَ بمواريثكم ودنياكم اَوْ كَمَا قَالَ

 

مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 67)

وَقَوله فَمن اخذه اخذ بحظ وافر اعظم الحظوظ واجداها مانفع العَبْد ودام نَفعه لَهُ وَلَيْسَ هَذَا الا حَظه من الْعلم وَالدّين فَهُوَ الْحَظ الدَّائِم النافع الَّذِي إِذا انْقَطَعت الحظوظ لاربابها فَهُوَ مَوْصُول لَهُ ابد الابدين وَذَلِكَ لانه مَوْصُول بالحي الَّذِي لَا يَمُوت فَلذَلِك لاينقطع وَلَا يفوت وَسَائِر الحظوظ تعدم وتتلاشى بتلاشي متعلقاتها كَمَا قَالَ تَعَالَى وَقدمنَا الى مَا عمِلُوا من عمل فجعلناه هباءمنثورا فَإِن الْغَايَة لما كَانَت مُنْقَطِعَة زائلة تبعتها اعمالهم فَانْقَطَعت__عَنْهُم احوج مَا يكون الْعَامِل الى عمله وَهَذِه هِيَ الْمُصِيبَة الَّتِي لَا تجبر عياذا بِاللَّه واستعانة بِهِ وافتقارا وتوكلا عَلَيْهِ وَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه." اهـ

 

مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه (4/ 326_329):

"في فوائده:

1 - (منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه الله-، وهو بيان فضل العلماء، والحثّ على طلب العلم.

2 - (ومنها): ما قاله الطيبي -رحمه الله-: لا تظنّنّ أن العالم المفضّل عاطلٌ عن العمل، ولا العابد عن العلم، بل إنّ علمَ ذلك غالبٌ على عمله، وعمل هذا غالبٌ على علمه، ولذلك جُعل العلماء ورثة الأنبياء الذين فازوا بالحسنيين: العلم والعمل، وحازوا الفضيلتين: الكمال والتكميل، وهذا طريق العارفين بالله تعالى، وسبيل السائرين إلى الله تعالى." انتهى ["الكاشف" (2/ 673)]." اهـ

3 - (ومنها): أن العالم لمّا كان ساعيًا في حصول العلم الذي به نجاة النفوس من أنواع الهلكات، وكان سعيه مقصورًا على هذا، وكانت نجاة العباد على يديه، جوزي من جنس عمله، وجُعل من في السماوات والأرض ساعيًا في نجاته من أسباب الهلكات باستغفارهم له.

4 - (ومنها): أن هذا الاستغفار غير استغفار حملة العرش، ومن حوله لعموم المؤمنين الذي ذكره الله تعالى في قوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية [غافر: 7]،

فإن ذاك خاص بحملة العرش ومن حوله، عامّ لجميع المؤمنين، وهذا عامّ من جميع من في السماوات ومن في الأرض، خاص بطالب العلم؛ زيادةً على الاستغفار الأول؛ لزيادة فضل العلم، والله تعالى أعلم.

5 - (ومنها): أن فيه إيماء إلى أن طريق الجنة محصورة في طرق العلم؛ لأن الجنة جزاء العمل الصالح وهو لا يُتصوّر ولا يتحقق بدون العلم.___

6 - (ومنها): تعظيم الملائكة، واحترامهم، وبسط أجنحتهم لطالب العلم،

ونقل ابن القيّم عن أحمد بن شعيب، قال: كنا عند بعض المحدّثين بالبصرة، فحدّثنا بهذا الحديث، وفي المجلس شخصٌ من المعتزلة، فجعل يستهزىء بالحديث، فقال: والله لأطرقنّ غدًا نعلي، وأطأ بها أجنحة الملائكة، ففعل، ومشى في النعلين، فحفت رجلاه، ووقعت فيهما الأكلة.

وقال الطبرانيّ: سمعت ابن يحيى الساجيّ يقول: كنا نمشي في أزقّة البصرة إلى باب بعض المحدّثين، فأسرعنا المشي، وكان معنا رجل ماجنٌ متّهم في دينه، فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة، لا تكسروها، كالمستهزىء بالحديث، فما زال عن موضعه حتى جَفَتْ رجلاه، وسقط إلى الأرض. انتهى.

نقلت هاتين الحكايتين من "المرقاة شرح المشكاة" لعلي القاري ["المرقاة" (1/ 470)]، ولا أدري صحتهما[8]. والله تعالى أعلم.

7 - (ومنها): بيان فضل العالم على العابد؛ لأن العلم متعدّ، بخلاف العبادة، قال القرطبيّ -رحمه الله-: هذه المفاضلة بين العالم والعابد لا تصحّ حتى يكون كلّ واحد منهما قائمًا بما وجب عليه من العلم والعمل،

فإن العابد لو ترك شيئًا من الواجبات، أو عملها على جهل لم يستحقّ اسم العابد ولا تصحّ له عبادة، والعالم لو ترك شيئًا من الواجبات لكان مذمومًا، ولم يستحقّ اسم العالم، فإذًا محلّ التفضيل إنما هو في النوافل،

فالعابد يستعمل أزمانه في النوافل من الصلاة، والصوم، والذكر، وغير ذلك، والعالم يستعمل أزمانه في طلب العلم وحفظه، وتقييده، وتعليمه،

فهذا هو الذي شبّهه بالبدر؛ لأنه قد كمُل في نفسه، واستضاء به كلّ شيء في العالم، من حيث إن علمه تعدّى لغيره، وليس كذلك العابد، فإن غايته أن ينتفع في نفسه، ولذلك شبهه بالكوكب الذي غايته أن يُظهر___نفسه. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه الله- ["المفهم" (6/ 686)]، وهو تحقيقٌ نفيسٌ. والله تعالى أعلم.

8 - (ومنها): ما قال القرطبيّ -رحمه الله-: أيضا:

"إنما خصّ العلماء بالوراثة، وإن كان العبّاد أيضًا قد ورِثُوا العلم بما صاروا به عُبّادًا؛ لأن العلماء هم الذين نابوا عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في حملهم العلمَ عنه، وتبليغهم إياه لأمته، وإرشادهم لهم، وهدايتهم، وبالجملة هم العاملون بمصالح الأمة بعده الذّابّون عن سنّته، الحافظون لشريعته، فهؤلاء الأحقّ بالوراثة، والأولَى بالنيابة والخلافة، وأما الْعُبّاد فلم يُطلق عليهم اسم الورثة؛ لقصور نفعهم، ويسير حظّهم." انتهى ["المفهم" (6/ 686)].

9 - (ومنها): أن فيه إشارة إلى حقارة الدنيا، وأن الأنبياء لم يأخذوا منها إلا بقدر ضرورتهم، فلم يورّثوا شيئًا منها؛ لئلا يُتوهّم أنهم كانوا يطلبون الدنيا لتورث عنهم،

* وفيه: إيماء إلى كمال توكلهم على الله تعالى في أنفسهم وأولادهم، وإشعار بأن طالب الدنيا ليس من العلماء الوارثين لهم، ولذا قال الغزاليّ -رحمه الله-: أقلّ العلم، بل أقلّ الإيمان أن يعرف أن الدنيا فانيةٌ، وأن الآخرة باقية، ونتيجة هذا العلم أن يُعرض عن الفاني، ويُقبل على الباقي.

[فإن قلت]: يُعارض هذا ما ثبت أنه كان للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان له صفايا بني النضير، وفدك، وخيبر إلى أن مات وخلفها، وكان لشعيب -عليه السلام- أغنام كثيرة، وكان أيوب وإبراهيم -عليهما السلام- ذَوَي ثروة ونعمة كثيرة.

[أُجيب]: بأن المراد أنه ما ورِثَ أولادهم، وأزواجهم شيئًا من ذلك، بل بقي بعدهم مُعَدّا لنوائب المسلمين.

وأخرج الطبرانيّ في "الأوسط" بإسناد حسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه مرّ بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: يا أهل السوق ما أعجزكم؟ قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟____

مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه (4/ 329)

قال: ذاك ميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقسم، وأنتم هاهنا، ألا تذهبون، فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد فخرجوا سراعًا، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟، فقالوا: يا أبا هريرة قد أتينا المسجد، فدخلنا فيه، فلم نَرَ فيه شيئًا يُقسَم، فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى، رأينا قومًا يصلّون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم، فذاك ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم-[راجع "صحيح الترغيب والترهيب" للشيخ الألبانيّ (1/ 144) رقم (83)]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل." اهـ



[1] المملي : هو المؤلف _رحمه الله_

[2] وفي "بحر الفوائد" للكلاباذي (ص: 327): "يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى «تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا» أَيْ: تَخْضَعُ وَتَتَوَاضَعُ لِلْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ الْمُتَوَاضِعِ الْمُنْذَلِّ لِلْحَقِّ خَافِضٌ الْجَنَاحَ،

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] ،

فَوَضْعُ الْجَنَاحِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّوَاضُعِ، وَإِنَّمَا تَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ سَائِرِ عُمَّالِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمْهَا ذَلِكَ فِي آدَمَ، وَذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ أَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً اسْتَخْبَرَتْ وَسَأَلَتِ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى جِهَةِ الِاسْتِفْهَامِ،

وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْكُتُبِيَّةِ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤَالَهَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْظَامِ إِنَّ خَلْقًا يَكُونُ مِنْهُمُ الْفَسَادُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ ثُمَّ يَكُونُ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] ، وَعَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءَ ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} [البقرة: 31] فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] فَقَالَ لِآدَمَ: {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [ص:328] فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] ،

تَصَاغَرَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي نَفْسِهَا وَرَأَتْ فَضْلَ آدَمَ عَلَيْهَا، وَأَلْزَمَهَا اللَّهُ الْخُضُوعَ لَهُ وَالسُّجُودَ، فَسَجَدَتْ لَهُ خُضَّعًا مُتَواضِعِينَ، فَتَأَدَّبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ الْأَدَبِ، فَلَمَّا ظَهَرَ لَهَا عِلْمُ بَشَرٍ خَضَعَتْ لَهُ وَتَوَاضَعَتْ، وَتَذَلَّلَتْ إِعْظَامًا لِلْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَرِضَا مِنْهُمْ بِالطَّلَبِ لَهُ وَالشُّغُلِ بِهِ، فَهَذَا بِالطُّلَابِ مِنْهُمْ فَكَيْفَ بِالْأَخْيَارِ فِيهِمُ الرَّبَّانِيِّينَ مِنْهُمْ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ وَفِيهِمْ بِمَنِّهِ وَطَوْلِهِ إِنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ." اهـ

[3] وفي سنن الترمذي ت شاكر (5/ 459) (رقم : 3378) : عَنْ الأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ، أَنَّهُ شَهِدَ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا حَفَّتْ بِهِمُ المَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»

وأخرجه مسلم في "صحيحه" (4/ 2074) (رقم : 2700)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 1245) (رقم : 3791)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 1002) (رقم : 5748)

[4] أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" كما في "بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث" (2/ 925) (رقم: 1019)، وهو حديث ضعيف لإرساله. ضعفه الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" (12/ 39) (رقم: 5530)

[5] أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" – ط. دار صادر (7/ 391)، والطبراني في "مسند الشاميين" (2/ 88 و 3/ 101) (رقم: 967 و 1876)، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (3/ 380) (رقم: 5449)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (47/ 109 و 47/ 110) مرسلا من طرق، فلذلك ضعفه في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" (2/ 150) (رقم: 715)

[6] وأخرجه أيضا : ابن أبي شيبة في مسنده (1/ 55) (رقم : 47)، أحمد في مسنده (36/ 45) (رقم : 21715)، والدارمي في سننه (1/ 361) (رقم : 354)، والطبراني في مسند الشاميين (2/ 224) (رقم : 1231)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (3/ 10) (رقم : 982)، والخطيب البغدادي في الرحلة في طلب الحديث (ص: 77) (رقم : 4)، وفي الفقيه والمتفقه (1/ 105)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 166 و 168 و 169) (رقم : 173 و 174 و 175).

[7] ففي سنن الترمذي ت شاكر (5/ 29) (رقم : 2647): عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ العِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ»، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 146) (رقم : 88)

وفي سنن ابن ماجه (1/ 82) (رقم : 227): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا، لَمْ يَأْتِهِ إِلَّا لِخَيْرٍ يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ جَاءَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غَيْرِهِ»،

صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 146) (رقم : 87)

[8] قال أبو فائزة البوجيسي _غفر الله له_:

أخرجه أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (5/ 294_295) (رقم: 2154)، الخطيب البغدادي في "الرحلة في طلب الحديث" (ص: 85) (رقم: 8)، وأبو طاهر السِّلَفِيُّ في "الخامس والثلاثين من المشيخة البغدادية "(ص: 26)، ودانيال بن مَنْكَلِيْ أبو الفضائل التُّركُمانيّ الكَرَكيّ في "مشيخته"  - مخطوط (ن) (ص: 61).

وفي رواية الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (5/ 294_295):

عن أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ بِالْبَصْرَةِ، فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثِ النَّبِيِّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: «إِنَّ الْمَلائِكَةِ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ» ، وَفِي الْمَجْلِسِ مَعَنَا رَجُلٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَجَعَلَ يَسْتَهْزِئُ بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ: وَاللهِ! لأَقَطِّرَنَّ غَدًا نَعْلِي فَأَطَأُ بِهِمَا أَجْنِحَةَ الْمَلائِكَةِ. قَالَ: فَفَعَلَ وَمَشَى فِي النَّعْلَيْنِ، فَجَفَّتْ رِجْلاهُ جَمِيعًا، وَوَقَعَتْ فِي رِجْلَيْهِ جَمِيعًا الآكلة.

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين