شرح الحديث 50 من رياض الصالحين

 

[50] وعن ابْنِ عباسٍ _رضي الله عنهما_ قَالَ :

قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أخِيهِ الحُرِّ بنِ قَيسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمرُ _رضي الله عنه_،

وَكَانَ القُرَّاءُ أصْحَابَ مَجْلِس عُمَرَ _رضي الله عنه_ وَمُشاوَرَتِهِ كُهُولاً كانُوا أَوْ شُبَّاناً،

فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أخيهِ : "يَا ابْنَ أخِي، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأمِيرِ فَاسْتَأذِنْ لِي عَلَيهِ"،

فاسْتَأذَن فَأذِنَ لَهُ عُمَرُ. فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ : "هِيْ يَا ابنَ الخَطَّابِ، فَواللهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلا تَحْكُمُ فِينَا بالعَدْلِ."

فَغَضِبَ عُمَرُ - رضي الله عنه - حَتَّى هَمَّ أنْ يُوقِعَ بِهِ.

فَقَالَ لَهُ الحُرُّ : "يَا أميرَ المُؤْمِنينَ، إنَّ الله تَعَالَى قَالَ لِنَبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -:

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف (199)]

وَإنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ"،

واللهِ مَا جَاوَزَهاَ عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا، وكَانَ وَقَّافاً عِنْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى." رواه البخاري.

 

ترجمة عبد الله بن عباس _رضي الله عنهما_:

 

وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى : 748هـ) _رحمه الله_ في "سير أعلام النبلاء" – ط. الرسالة (3/ 331_359) باختصار :

"عَبْدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ البَحْرُ أَبُو العَبَّاسِ الهَاشِمِيُّ * (ع):

حَبْرُ الأُمَّةِ، وَفَقِيْهُ العَصْرِ، وَإِمَامُ التَّفْسِيْرِ،

أَبُو العَبَّاسِ عَبْدُ اللهِ، ابْنُ___عَمِّ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ شَيْبَةَ بنِ هَاشِمٍ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بنُ عَبْدِ مَنَافٍ بنِ قُصَيِّ بنِ كِلاَبِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ بنِ غَالِبِ بنِ فِهْرٍ القُرَشِيُّ، الهَاشِمِيُّ، المَكِّيُّ، الأَمِيْرُ _رَضِيَ اللهُ عَنْهُ_.

مَوْلِدُهُ: بِشِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ، قَبْلَ عَامِ الهِجْرَةِ بِثَلاَثِ سِنِيْنَ.

صَحِبَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْواً مِنْ ثَلاَثينَ شَهْراً، وَحَدَّثَ عَنْهُ بِجُمْلَةٍ صَالِحَةٍ.

انتَقَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ أَبَويهِ إِلَى دَارِ الهِجْرَةِ سَنَةَ الفَتْحِ، وَقَدْ أَسْلَمَ قَبلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:

كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ المُسْتَضْعَفِيْنَ؛ أَنَا مِنَ الوِلْدَانِ، وَأُمِّي مِنَ النِّسَاءِ.

قَالَ عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ: تُوُفِّيَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَنَةَ ثَمَانٍ (68 هـ)، أَوْ سَبْعٍ وَسِتِّيْنَ (67 هـ).

وَقَالَ الوَاقِدِيُّ، وَالهَيْثَمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ: سَنَةَ ثَمَانٍ. وَقِيْلَ: عَاشَ إِحْدَى وَسَبْعِيْنَ سَنَةً.

و (مُسْنَدُهُ) : أَلْفٌ وَسِتُّ مائَةٍ وَسِتُّوْنَ حَدِيثاً.

وَلَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي (الصَّحِيْحَيْنِ) : خَمْسَةٌ وَسَبْعُوْنَ. وَتَفَرَّدَ: البُخَارِيُّ لَهُ بِمائَةٍ وَعِشْرِيْنَ حَدِيثاً، وَتَفَرَّدَ: مُسْلِمٌ بِتِسْعَةِ أَحَادِيْثَ." اهـ

 

نص الحديث وشرحه:

 

(وعن ابْنِ عباسٍ _رضي الله عنهما_ قَالَ : قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ):

 

وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى : 748هـ) _رحمه الله_ في "تاريخ الإسلام" – ت. بشار (2/ 190):

"عُيَيْنَة بْن حِصْن بن حُذَيْفة بْن بدر بْن عَمرو بْن جوية بْن لوذان بْن ثعلبة بْن عدي بْن فَزَارة الفَزَارِيُّ [أبو مالك]." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (13/ 258):

"قَوْلُهُ (قَدِمَ عُيَيْنَةُ) _بِتَحْتَانِيَّةٍ وَنُونٍ مُصَغرًا بن حِصْنٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ ثُمَّ نون_ بن حُذَيْفَةَ بْنُ بَدْرٍ يَعْنِي الْفَزَارِيَّ،

* مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْصُوفًا بِالشَّجَاعَةِ وَالْجَهْلِ وَالْجَفَاءِ وَلَهُ ذِكْرٌ فِي الْمَغَازِي،

* ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْفَتْحِ، وَشَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ حُنَيْنًا، فَأَعْطَاهُ مَعَ الْمُؤَلَّفَةِ وَإِيَّاهُ ...

* وَلَهُ قِصَّةٌ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حِينَ سَأَلَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُعْطِيَهِ أَرْضًا يُقْطِعَهُ إِيَّاهَا، فَمَنَعَهُ عُمَرُ،

* وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الصَّغِيرِ، وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ الْأَحْمَقَ الْمُطَاعَ_،

* وَكَانَ عُيَيْنَةُ مِمَّنْ وَافَقَ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّ لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ،

* فَلَمَّا غَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ فَرَّ طُلَيْحَةُ وَأُسِرَ عُيَيْنَةُ، فَأُتِيَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَاسْتَتَابَهُ فَتَابَ،

* وَكَانَ قُدُومُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى عُمَرَ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَامَ أَمْرُهُ،

* وَشَهِدَ الْفُتُوحَ وَفِيهِ مِنْ جَفَاءِ الْأَعْرَابِ شَيْءٌ." اهـ

 

(فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أخِيهِ الحُرِّ بنِ قَيسٍ):

 

قال يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النَّمَرِيُّ القرطبيُّ، المعروف بـ"ابن عبد البر الأَنْدَلُسِيُّ" (المتوفى: 463هـ) _رحمه الله_ في "في الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/ 403_404):

"الحر بن قيس بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، ابْنُ أَخِيْ عُيَيْنَةَ___ابْنِ حِصْنٍ،

كان أحد الوفد الذين قدموا على رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ من فزارةَ مَرْجِعَهُ من تبوك." اهـ

 

وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى:  852 هـ) _رحمه الله_ في "الإصابة في تمييز الصحابة" (2/ 51):

"الحرّ : بن قيس بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، ابن أخي عيينة بن حصن. ذكره ابن السّكن في الصّحابة." اهـ

 

وممن عده من الصحابة ابن منده في "معرفة الصحابة (ص: 443).

 

وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى:  852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" (13/ 258) :

"وَالْحُرُّ ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَة أَبُو عَليّ بن السكن وبن شَاهِينَ." اهـ

 

(وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمرُ _رضي الله عنه_، وَكَانَ القُرَّاءُ أصْحَابَ مَجْلِس عُمَرَ _رضي الله عنه_ وَمُشاوَرَتِهِ كُهُولاً كانُوا أَوْ شُبَّاناً)

 

وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى:  852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" (13/ 258) :

"فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ كَانَ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ." اهـ

(فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أخيهِ : "يَا ابْنَ أخِي، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأمِيرِ فَاسْتَأذِنْ لِي عَلَيهِ")،

 

وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى:  852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" (13/ 258):

"قَوْلُهُ (هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ):

هَذَا مِنْ جُمْلَةِ جَفَاءِ عُيَيْنَةَ، إِذْ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَنْعَتَهُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَنَازِلَ الْأَكَابِرِ." اهـ

 

(فاسْتَأذَن فَأذِنَ لَهُ عُمَرُ. فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ : "هِيْ)

 

وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى:  852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" (13/ 258_259):

"فَقَالَ (هِيْ) بِكَسْرٍ ثُمَّ سُكُونٍ، وَفِي بَعْضِهَا: (هِيهِ) بِكَسْرِ الْهَاءَيْنِ بَيْنَهُمَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ ضَبَطَهَا هَكَذَا: "هِيْ كَلِمَةٌ تُقَالُ فِي الِاسْتِزَادَةِ، وَيُقَالُ بِالْهَمْزَةِ بَدَلَ الْهَاءِ الْأُولَى."

وَسَبَقَ إِلَى ذَلِكَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي "الدَّلَائِلِ" كَمَا نَقله صَاحب "الْمَشَارِق"، فَقَالَ: "فِي قَول بن الزُّبَيْرِ (إِيهًا)، قَوْلُهُ (إِيهٍ) بِهَمْزِ مَكْسُورٍ مَعَ التَّنْوِينِ كَلِمَةُ اسْتِزَادَةٍ مِنْ حَدِيثٍ لَا يُعْرَفُ، وَتَقُولُ: (إِيهًا عَنَّا) بِالنَّصْبِ، أَيْ: كُفَّ.

قَالَ: "وَقَالَ يَعْقُوب يَعْنِي بن السِّكِّيتِ: "تَقُولُ لِمَنِ اسْتَزَدْتَهُ مِنْ عَمَلٍ أَوْ حَدِيثٍ (إِيهٍ)، فَإِنْ وَصَلْتَ، نَوَّنْتَ، فَقُلْتَ (إِيهٍ) حَدِّثْنَا وَحَكَاهُ كَذَا فِي "النِّهَايَةِ"، وَزَادَ، فَإِذَا قُلْتَ (إِيهًا) بِالنَّصْبِ___فَهُوَ أَمْرٌ بِالسُّكُوتِ." اهـ

 

(يَا ابنَ الخَطَّابِ، فَواللهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلا تَحْكُمُ فِينَا بالعَدْلِ."

فَغَضِبَ عُمَرُ - رضي الله عنه - حَتَّى هَمَّ أنْ يُوقِعَ بِهِ).

 

"وَقَوله (يَا بن الْخَطَّابِ) هَذَا أَيْضًا مِنْ جَفَائِهِ حَيْثُ خَاطَبَهُ بِهَذِهِ الْمُخَاطَبَةِ." اهـ من وفي فتح الباري لابن حجر (13/ 259):

 

"وَقَوْلُهُ وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا لَامٌ أَيِ الْكَثِيرَ وَأَصْلُ الْجَزْلِ مَا عَظُمَ مِنَ الْحَطَبِ" اهـ وفي فتح الباري لابن حجر (13/ 259).

 

فَقَالَ لَهُ الحُرُّ : "يَا أميرَ المُؤْمِنينَ، إنَّ الله تَعَالَى قَالَ لِنَبيِّهِ _صلى الله عليه وسلم_:

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف (199)]

 

وفي فتح الباري لابن حجر (13/ 259) :

"وَقَالَ الرَّاغِبُ: "(خُذِ الْعَفْوَ)، مَعْنَاهُ : خُذْ مَا سَهُلَ تَنَاوُلُهُ، وَقِيلَ: تَعَاطَ الْعَفْوَ مَعَ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى خُذْ مَا عُفِيَ لَكَ مِنْ أَفْعَالِ النَّاسِ وَأَخْلَاقِهِمْ وَسَهُلَ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ وَلَا تَطْلُبْ مِنْهُمُ الْجَهْدَ وَمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْفِرُوا، وَهُوَ كَحَدِيثِ: (يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)." اهـ

 

وقال ابن عاشور _رحمه الله_ في "التحرير والتنوير" (9/ 228):

"وَ«الْجَهْلُ» هُنَا ضِدُّ الْحِلْمِ وَالرُّشْدِ، وَهُوَ أَشْهَرُ إِطْلَاقِ الْجَهْلِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَالْمُرَادُ بِالْجَاهِلِينَ السُّفَهَاءُ كُلُّهُمْ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ،

وَأَعْظَمُ__الْجَهْلِ هُوَ الْإِشْرَاكُ، إِذِ اتِّخَاذُ الْحَجَرِ إِلَهًا سَفَاهَةٌ لَا تَعْدِلُهَا سَفَاهَةٌ، ثُمَّ يَشْمَلُ كُلَّ سَفِيهِ رَأْيٍ.

وَكَذَلِكَ فَهِمَ مِنْهَا الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ فِي الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، وَأَقَرَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى ذَلِكَ الْفَهْمِ." اهـ

 

التحرير والتنوير (9/ 229)

وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، لِأَنَّ فَضَائِلَ الْأَخْلَاقِ لَا تَعْدُو:

* أَنْ تَكُونَ عَفْوًا عَنِ اعْتِدَاءٍ، فَتَدْخُلُ فِي (خُذِ الْعَفْوَ)،

* أَوْ إِغْضَاءً عَمَّا لَا يُلَائِمُ، فَتَدْخُلُ فِي (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)،

* أَوْ فِعْلَ خَيْرٍ وَاتِّسَامًا بِفَضِيلَةٍ، فَتَدْخُلُ فِي (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)، كَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ،

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: (فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ)،

وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْهَا، وَهِيَ صَالِحَةٌ لِأَنْ يُبَيِّنَ بَعْضُهَا بَعْضًا،

فَإِن الْأَمر بأَخْذِ الْعَفْوِ يَتَقَيَّدُ بِوُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْعُرْفِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ مَا لَا يَقْبَلُ الْعَفْوَ وَالْمُسَامَحَةَ مِنَ الْحُقُوقِ،

وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْعُرْفِ يَتَقَيَّدُ بِأَخْذِ الْعَفْوِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى الْخَيْرِ بلين ورفق." اهـ

 

تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 313):

"هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم." اهـ

 

(وَإنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ)

 

وفي فتح الباري لابن حجر (13/ 259) : "قَوْلُهُ (إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ _فَذَكَرَ الْآيَةَ_، ثُمَّ قَالَ : (وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ) أَيْ : فَأَعْرِضْ عَنْهُ." اهـ

 

(واللهِ مَا جَاوَزَهاَ عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا، وكَانَ وَقَّافاً عِنْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى." رواه البخاري).

 

وفي فتح الباري لابن حجر (13/ 259) : "أَيْ : يَعْمَلُ بِمَا فِيهِ وَلَا يَتَجَاوَزُهُ."  اهـ

 

تخريج الحديث :

 

الحديث صحيح : أخرجه البخاري في "صحيحه" (رقم : 4642 و 7286)، وأحمد بن حنبل في "فضائل الصحابة" (1/ 351) (رقم : 506)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 279) (رقم : 16646)، وفي "شعب الإيمان" (10/ 543) (رقم : 7961)، والطبراني في "مسند الشاميين" (4/ 211) (رقم : 3122)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (5/ 1639).

 

من فوائد الحديث :

 

وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى:  852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" (13/ 259):

"وَفِي هَذَا تَقْوِيَةٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ،

قَالَ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ أَقْوَالَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ:

"وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَالْأَوْلَى بِالصَّوَابِ أَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ أَتْبَعَ ذَلِكَ تَعْلِيمَهُ نَبِيَّهُ مُحَاجَّةَ الْمُشْرِكِينَ،

وَلَا دَلَالَةَ عَلَى النَّسْخِ فَكَأَنَّهَا نَزَلَتْ لِتَعْرِيفِ النَّبِيِّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ عِشْرَةَ مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أُرِيدَ بِهِ تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ،

وَأَمْرُهُمْ بِأَخْذِ الْعَفْوِ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ فَيَكُونُ تَعْلِيمًا مِنَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ صِفَةَ عِشْرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَأَمَّا الْوَاجِبُ فَلَا بُدَّ مِنْ عَمَلِهِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا." انْتَهَى مُلَخَّصًا." اهـ

 

وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى:  852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" (13/ 259_260):

"قَالَ الطببي _مَا مُلَخَّصُهُ_: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَأَمَرَ أُمَّتَهُ بِنَحْوِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَمُحَصَّلُهُمَا الْأَمْرُ بِحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ النَّاسِ وَبَذْلُ الْجَهْدِ___فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَالْمُدَارَاةُ مَعَهُمْ وَالْإِغْضَاءُ عَنْهُمْ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ." اهـ

 

وقال يحيى بن هُبَيْرَة بن محمد بن هبيرة الذهلي الشيبانيّ، أبو المظفر الحنبلي (المتوفى: 560هـ) _رحمه الله_ في "الإفصاح عن معاني الصحاح" (1/ 164_165):

* في هذا الحديث من الفقه : استحباب مجالسة الإمام للقراء وإن كانوا أحداثًا.

* وفيه أيضًا جواز الإيقاع بمن يسيء أدبه على الإمام لأن عمر هم بذلك.

* وفيه أيضًا جواز العفو عمن يسيء أدبه إذا خرج مخرج العفو عن قدرة؛ فإن الحر___استعطف عمر بأن دعاه إلى أدب الله والأخذ بمكارم الأخلاق التي فيها الإعراض عن الجاهلين.

* وفيه أيضًا أن عمر كان وقافًا عند كتاب الله؛ أي أنه لا يتجاوزه إلى غيره قناعة به ورضى بحكمه." اهـ

 

وقال الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ) _رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (1/ 276):

"فعمر هو الخليفة الثاني، وكان قد اشتهر بالعدل بين الرعية، وبالتواضع للحق، حتى أن المرأة ربما تذكره بالآية في كتاب الله فيقف عندها ولا يتجاوزها." اهـ

 

وقال الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ) _رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (1/ 277):

"الأمور ثلاثة أقسام:

1 ـ منكر يجب النهي عنه.

2 ـ وعرف يؤمر به.

3 ـ وما ليس بهذا ولا بهذا فإنه يسكت عنه.

ولكن على سبيل النصيحة، ينبغي للإنسان ألا يقول إلا قولا فيه خير، لقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خير أو ليصمت))." اهـ

 

وقال الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ) _رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (1/ 279):

"فينبغي لنا إذا حصلت مثل هذه الأمور، كالغضب والغيظ، أن نتذكر كتاب الله وسنة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ من أجل أن نسير على هديهما، حتى لا نضل، فإن من تمسك بهدي الله فإن الله يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، والله الموفق." اهـ

 

وقال الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ) _رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (1/ 276):

"قال ابن عباس رضي الله عنه: (كان جلساؤه القراء)،

القُرَّاءُ من أصحاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ هم جلساؤه، سواء كانوا شيوخا أو كهولا أو شبابا، يشاورهم ويدينهم،

وهكذا ينبغي لكل أمير أو خليفة أن يكون جلساؤه الصالحين؛ لأنه أن قيض له جلساء غير صالحين؛ هلك وأهلك الأمة، وإن يسر الله له جلساء صالحين نفع الله به الأمة. فالواجب على ولي الأمر أن يختار من الجلساء أهل العلم والإيمان." اهـ

 

وقال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز _رحمه الله_ كما في "الحلل الإبريزية من التعليقات البازية على صحيح البخاري" (3/ 372):

"هذا فيه فضل عمر ووقفه عند كتاب الله وقوله النصيحة، وفيه اتخاذ البوابين فقد يدخل من لا يرتضى وقد يدخل المجرمون فيؤذونه." اهـ

 

وقال فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376 هـ) _رحمه الله_ في "تطريز رياض الصالحين" (ص: 52):

"في هذا الحديث: أَنَّه ينبغي لولي الأَمر مجالسة القراء والفقهاء ليذكروه إذا نسي، ويعينوه إذا ذكر. وفيه: الحِلْم والصفح عن الجهال.

قال جعفر الصادق: ليس في القرآن آيةٌ أَجمع لمكارم الأخلاق من هذه. ورُوي أَنَّ جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ ربَّك يأمرك أن تصل مَنْ قطعك، وتُعطي مَنْ حرمك، وتعفوَ عَمَّن ظلمك» .

والخطاب له - صلى الله عليه وسلم - يدخل في حكمه أُمَّته." اهـ

 

وقال فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376 هـ) _رحمه الله_ في "تطريز رياض الصالحين"

 (ص: 245) :

"في هذا الحديث : تقديم أُولِيْ الْفَضْلِ على من عداهم، وإن كانوا دونهم في السن والنسب.

وفيه : أنه ينبغي لولي الأمر مجالسة القراء، والفقهاء، ليذكروه إذا ... نسي، ويعينوه إذا ذكر.

وفيه : الحلم عن الجهال والصبر على أذاهم.

قال جعفر الصادق : "ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية." اهـ

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين