شرح الحديث السابع والثمانون من كتاب بهجة قلوب الأبرار لأبي فائزة البوجيسي

 

الحديث السابع والثمانون: من فضائل سُورَةِ الْإِخْلَاصِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثلث القرآن" رواه مسلم

 

شرح الحديث:

 

ففي صحيح الإمام مسلم بن الحجاج:

عَنْ أَبِي هُريرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-:

"احْشُدُوا، فَإنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"، فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}،

ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: إِنِّي أُرَى هَذَا خَبَرًا جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَذَاكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ: سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، أَلَا إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ".

 

قال فيصل بن عبد العزيز الحريملي _رحمه الله_ في "تطريز رياض الصالحين" (ص: 591):

"قوله: «ثلث القرآن» ، أي باعتبار معانيه؛ لأن القرآن أحكامٌ، وأخبارٌ، وتوحيدٌ. وقد اشتملت هذه السورة على التوحيد خالصًا، ولهذا سميت بـ"سورة الإخلاص"، وفيها اسمان من أسماء الله تعالى يتضمنان جميع أوصاف الكمال وهما: (الأحد الصمد) ، وفيها نفي الكفؤ لله المتضمن لنفي الشيبه والنظير.

 

تخريج الحديث:

 

صحيح مسلم (1/ 557) (رقم: 812)، سنن الترمذي ت شاكر (5/ 168) (رقم: 2899 و 2900)، سنن ابن ماجه (2/ 1244) (رقم: 3787).

صحيح: صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (7/ 1706) (رقم: 3978)، وفي صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 100) (رقم: 197)

 

وقال المؤلف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي _رحمه الله_ في "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" – ط. الوزارة (ص: 182_184):

 

"«قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» تكلم أهل العلم على معنى هذه المعادلة وتوجيهِها.

 

وأحسن ما قيل فيها: أن معادلتها لثلث القرآن، لما تضمنته من المعاني العظيمة: معاني التوحيد، وأصول الإيمان.

 

فإن المواضيع الجليلة التي اشتمل القرآن عليها:

1 - إما أحكام شرعية: ظاهرة أو باطنة، عبادات أو معاملات.

2 - وإما قصص وأخبار عن المخلوقات السابقة واللاحقة، وأحوال المكلفين في الجزاء على الأعمال.

3 - وإما توحيد ومعارف، تتعلق بأسماء الله وصفاته، وتفرده بالوحدانية___والكمال، وتنزهه عن كل عيب، ومماثلة أحد من المخلوقات.

 

فسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مشتملة على هذا، وشاملة لكل ما يجب اعتقاده من هذا الأصل، الذي هو أصل الأصول كلها.

 

ولهذا أمرنا الله أن نقولها بألسنتنا، ونعرفها بقلوبنا، ونعترف بها وندين لله باعتقادها، والتعبد لله بها. فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]

 

فالله: هو المألوه المستحق لمعاني الألوهية كلها، التي توجب أن يكون هو المعبود وحده، المحمود وحده، المشكور وحده، المعظم المقدس، ذو الجلال والإكرام.

 

و" الأحد " يعني: الذي تفرد بكل كمال، ومجد وجلال، وجمال وحمد، وحكمة ورحمة، وغيرها من صفات الكمال.

 

فليس له فيها مثيل ولا نظير، ولا مناسب بوجه من الوجوه. فهو الأحد في حياته وقيوميته، وعلمه وقدرته، وعظمته وجلاله، وجماله وحمده، وحكمته ورحمته، وغيرها من صفاته، موصوف بغاية الكمال ونهايته، من كل صفة من هذه الصفات.

 

ومن تحقيق أحديته وتفرده بها أنه {الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] أي: الرب الكامل، والسيد العظيم، الذي لم يبق صفة كمال إلا اتصف بها. ووصف بغايتها وكمالها، بحيث لا تحيط الخلائق ببعض تلك الصفات بقلوبهم، ولا تعبر عنها ألسنتهم. وهو المصمود إليه، المقصود في جميع الحوائج والنوائب: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]

 

فهو الغني بذاته، وجميع الكائنات فقيرة إليه بذاتهم، في إيجادهم___وإعدادهم، وإمدادهم بكل ما هم محتاجون إليه من جميع الوجوه، ليس لأحد منها غنى عنه مثقال ذرة، في كل حالة من أحوالها.

 

فالصمد: هو المصمود إليه، المقصود في كل شيء، لكماله وكرمه وجوده وإحسانه. ولذلك {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3]

 

فإن المخلوقات كلها متولد بعضها من بعض، وبعضها والد بعض، وبعضها مولود. وكل مخلوق فإنه مخلوق من مادة. وأما الرب جل جلاله، فإنه منزه عن مماثلتها في هذا الوصف، كما هو منزه عن مماثلتها في كل صفة نقص.

 

ولهذا حقق ذلك التنزيه، وتمم ذلك الكمال بقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]

 

أي: ليس له نظير ولا مكافئ ولا مثيل، لا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في جميع حقوقه التي اختص بها.

 

فحقه الخاص أمران: التفرد بالكمال كله من جميع الوجوه، والعبودية الخالصة من جميع الخلق.

 

فحق لسورة تتضمن هذه الجمل العظيمة: أن تعادل ثلث القرآن، فإن جميع ما في القرآن من الأسماء الحسنى، ومن الصفات العظيمة العليا، ومن أفعال الله وأحكام صفاته، تفاصيل لهذه الأسماء التي ذكرت في هذه السورة،

 

بل كل ما في القرآن من العبوديات الظاهرة والباطنة، وأصنافها وتفاصيلها، تفصيل لمضمون هذه السورة. والله أعلم.

 

 

من فوائد الحديث:

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (16/ 403_404):

"في فوائده:

1 - (منها): إثبات فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، وقد قال بعض العلماء: إنها تضاهي كلمة التوحيد؛ لما اشتَمَلَت عليه من الجمل المثبتة والنافية، مع زيادة تعليل، ومعنى النفي فيها أنه الخالق الرزاق المعبود؛ لأنه___ليس فوقه من يمنعه كالوالد، ولا من يساويه في ذلك كالكفء، ولا من يعينه على ذلك كالولد.

2 - (ومنها): أن فيه إلقاءَ العالم المسائل على أصحابه، وإن لم يبدءوه بسؤالها؛ لأهمّيّتها، وحاجتهم إليها.

3 - (ومنها): جواز استعمال اللفظ في غير ما يَتبادَر للفهم؛ لأن المتبادِر من إطلاق ثلث القرآن أن المراد ثلث حجمه المكتوب مثلًا، وقد ظهر أن ذلك غير مراد هنا.

4 - (ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في شدّة اهتمامه في تعليم أصحابه ما ينفعهم، وإن لم يسألوه، فهو مصداق قوله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)}، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين