الحديث 41 من كتاب رياض الصالحين

 

[40] وعن أنس[1] _رضي الله عنه_ قَالَ:

قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:

«لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ أصَابَهُ،

فَإنْ كَانَ لا بُدَّ فَاعِلاً، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أحْيِني مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْراً لي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَت الوَفَاةُ خَيراً لي» . متفقٌ عَلَيْهِ.

 

شرح غريب الحديث:

 

وفي فتح الباري لابن حجر (10/ 128):

"وَقَوْلُهُ (مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ) :

حَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَلَى الضُّرِّ الدُّنْيَوِيِّ، فَإِن وجد الضّر الْأُخْرَوِيَّ بِأَنْ خَشِيَ فِتْنَةً فِي دِينِهِ، لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ من رِوَايَة بن حِبَّانَ : "لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فِي الدُّنْيَا."[2]

عَلَى أَنَّ (فِي) فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَبَبِيَّةٌ أَيْ بِسَبَبِ أَمْرٍ مِنَ الدُّنْيَا." اهـ

 

وفي عمدة القاري شرح صحيح البخاري (21/ 225) للعيني :

"قَوْله: (من ضرّ) أَي: لأجل ضرّ أَصَابَهُ، وَهُوَ يَشْمَل الْمَرَض وَغَيره من أَنْوَاع الضَّرَر." اهـ

 

وعلة النهي وحكمته: أن طول الحياة للإنسان فرصة ثمينة في زيادة الخير والأعمال الصالحة، والتوبة من الذنوب.

 

أخرج مسلم في صحيحه (4/ 2065) (رقم: 2682): عن أَبُي هُرَيْرَةَ _رضي الله عنه_:

عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، قَالَ: «لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا»

 

وفي "صحيح البخاري" (9/ 84) (رقم: 7235): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:

«لاَ يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ المَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ».

 

وقال ابن الجوزي _رحمه الله_ في "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (3/ 505):

"اعْلَم أَن تمني الْمَوْت اخْتِيَار من العَبْد لنَفسِهِ مَا يظنّ فِيهِ الْخيرَة، والخيرة غَائِبَة عَن الْآدَمِيّ لَا يعلمهَا، وَالْمُؤمن إِذا بَقِي ازْدَادَ خيرا أَو تَابَ من شَرّ. والإستعتاب: الرُّجُوع عَن الْإِسَاءَة إِلَى الْإِحْسَان." اهـ

 

وقال السعدي _رحمه الله_ في "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" – ط. الرشد (ص: 175_176):

"هذا نهي عن تمني الموت للضر الذي ينزل بالعبد، من مرض أو فقر أو خوف، أو وقوع في شدة ومهلكة، أو نحوها من الأشياء. فإن في تمني الموت لذلك مفاسد.

منها: أنه يؤذن بالتسخط والتضجر من الحالة التي أصيب بها، وهو مأمور بالصبر والقيام بوظيفته.[3]

ومعلوم أن تمني الموت ينافي ذلك.

ومنها: أنه يُضعف النفس، ويحدث الخَوَر والكسل. ويوقع في اليأس. والمطلوب من العبد: مقاومة هذه الأمور، والسعي في إضعافها وتخفيفها بحسب اقتداره، وأن يكون معه من قوة القلب وقوة الطمع في زوال ما نزل به.

وذلك موجب لأمرين: اللطف الإلهي لمن أتى بالأسباب المأمور بها، والسعي النافع الذي يوجبه قوة القلب ورجاؤه.

ومنها: أن تمنى الموت جهل وحمق؛ فإنه لا يدري ما يكون بعد الموت، فربما كان كالمستجير من الضر إلى ما هو أفظع منه، من عذاب البرزخ وأهواله.

ومنها: أن الموت يقطع على العبد الأعمال الصالحة التي هو بصدد فعلها والقيام بها، وبقية عمر المؤمن لا قيمة له. فكيف يتمنى انقطاع عملٍ، الذَّرةُ منه خير من الدنيا وما عليها.

وأخص من هذا العموم: قيامه بالصبر على الضر الذي أصبه. فإن الله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب.

ولهذا قال في آخر الحديث: "فإن كان لا بد فاعلاُ فليقلك اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيراً___لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي" فيجعل العبد الأمر مفوضاً إلى ربه الذي يعلم ما فيه الخير والصلاح له، الذي يعلم من مصالح عبده ما لا يعلم العبد، ويريد له من الخير ما لا يريده، ويلطف به في بلائه كما يلطف به في نعمائه." اهـ

 

وقال العثيمين في شرح رياض الصالحين (3/ 480_481):

"أما ما يتعلق بفتنة الدين، إذا افتتن الناس في دينهم وأصابتهم فتنة؛ إما في زخارف الدنيا أو غيرها من الفتن، أو أفكار فاسدة، أو ديانات منحرفة أو ما أشبه ذلك، فهذا أيضاً لا يتمنى بسببه الإنسان الموت، ولكن يقول اللهم اقبضني إليك غير مفتون، فيسأل الله أن يثبته وأن يقبضه إليه غير مفتون.___

وإلا فليصبر لأنه ربما يكون بقاءه مع هذه الفتن خيراً للمسلمين؛ يدافع عنهم ويناضل، ويساعد المسلمين، ويقوي ظهورهم، لكن يقول اللهم إن أردت بعبادك فتنة؛ فاقبضني إليك غير مفتون." اهـ

 

وفي سنن الترمذي – ت. أحمد شاكر (5/ 366) (رقم: 3233): عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ _رضي الله عنهما_، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَانِيَ اللَّيْلَةَ رَبِّيْ _تَبَارَكَ وَتَعَالَى_ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، - قَالَ أَحْسَبُهُ فِي الْمَنَامِ - ...وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِذَا صَلَّيْتَ فَقُلْ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ المَسَاكِينِ، وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ)." صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 290) (رقم: 408)

 

تخريج الحديث :

 

أخرجه البخاري في صحيحه (7/ 121) (رقم : 5671)، ومسلم في صحيحه (4/ 2064) (رقم : 2680)، وأبو داود في سننه (3/ 188) (رقم : 3108)، وابن ماجه في سننه (2/ 1425) (رقم : 4265)

 

من فوائد الحديث :

 

قال الشيخ محمد بن علي بن آدم الإثيوبي _رحمه الله_البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (42/ 53_54)

في فوائده:

1 - (منها): بيان النهي عن تمني الموت، وعن الدعاء به، وهو محمول على الكراهة على ما قيل، وحَمَله بعضهم على التحريم، وهو الظاهر.

2 - (ومنها): أن قوله: "فإن كان لا بدّ متمنيًا، فليقل: اللَّهُمَّ أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي"، ليس المراد بهذا الأمر استحباب الدعاء به لهذا، بل تَرْكه أفضل من الدعاء به، فإنه رتَّب الأمر به على كون المتمني لا بدّ أن يقع منه صورة تمنّ مع نهيه أوّلًا عن ذلك، وكذا قال النوويّ: في هذه الحالة الأفضل الصبر، والسكون للقضاء.

3 - (منها): ما قاله في "الفتح": لا يَرِد على هذا الحديث مشروعية الدعاء بالعافية مثلًا؛ لأن الدعاء بتحصيل الأمور الأخروية، يتضمن الإيمان بالغيب، مع ما فيه من إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتذلل له، والاحتياج، والمسكنة بين يديه، والدعاء بتحصيل الأمور الدنيوية؛ لاحتياج الداعي إليها، فقد تكون قُدّرت له إن دعا بها،

فكل من الأسباب والمسببات مقدّر، وهذا كله بخلاف الدعاء بالموت، فليست فيه مصلحة ظاهرة، بل فيه مفسدة، وهي طلب إزالة نعمة الحياة، وما يترتب عليها من الفوائد، لا سيما لمن يكون مؤمنًا، فإن استمرار الإيمان من أفضل الأعمال، والله أعلم. انتهى ["الفتح" 17/ 81 - 82، "كتاب التمنّي" رقم (7235)].

4 - (ومنها): أن الحديث قد دلّ على أن الوفاة قد تكون خيرًا للعبد،

فما الجمع بينه وبين قوله في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "وإنه لا يزيد المؤمن من عمره إلا خيرًا؟ ".

[قلت]: إنْ حُمل المؤمن على الكامل في الإيمان، فالأمر في ذلك واضح، فإن ذلك الذي تكون الوفاة خيرًا له ليس كامل الإيمان،

وإنْ حُمل على مطلق الإيمان، فالغالب أن تكون الحياة خيرًا له، كما تقدم، وهذه___الصورة التي تكون الوفاة فيها خيرًا له نادرة، فلا يدعو بها، ولا يعتمد عليها على ظنّ نفسه فيها، إلا إن وَكَل الأمر في ذلك إلى علم الله تعالى، قاله وليّ

الدين -رحمه الله-." اهـ

 

وقال العثيمين _رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (1/ 250):

"وإنما نهي النبي _عليه الصلاة والسلام_ عن تمني الموت لضر نزل به؛ لأن من تمني الموت لضر نزل به ليس عنده صبر، الواجب أن يصبر الإنسان علي الضر، وأن يحتسب الأجر من الله عز وجل،

فإن الضرر الذي يصيبك من هم أو غم أو مرض أو أي شيء مكفر لسيئاتك، فإن احتسبت الأجر كان رفعة لدرجاتك.

وهذا الذي ينال الإنسان من الأذى والمرض وغيره لا يدوم، لابد أن ينتهي، فإذا انتهى وأنت تكسب حسنات باحتساب الأجر على الله _عز وجل_، ويكفر عنك من سيئاتك بسببه؛ صار خيرا لك،

كما ثبت عن النبي _عليه الصلاة والسلام_ أنه قال: ((عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خير له)) [م]،

فالمؤمن على كل حال___هو خير، في ضراء أو في سراء." اهـ

 

قال الشيخ فيصل بن عبد العزيز آل مبارك الحريملي _رحمه الله_ في "تطريز رياض الصالحين" (ص: 45):

"في هذا الحديث: النهي عن تمنِّي الموت جزعًا من البلاء الدنيوي، بل يصبر على قدر الله ويسأَلُه العافيةَ، ويفوِّضُ أَمرَه إِلى الله." اهـ

 

وقال _رحمه الله_ في "تطريز رياض الصالحين" (ص: 388):

"في هذه الأحاديث: النهي عن تمني الموت لضرٍّ أصابه من مرض، أو فقر أو نحو ذلك، وإنما كره تمنيه حينئذٍ، لأنه يشعر بعدم الرضا بالقضاء.

وفي الحديث الآخر: «خيركم من طال عمره وحسن عمله» [ت][4].

 

وقال الحافظ ابن حجر _رحمه الله في فتح الباري (10/ 128):

"وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ لِأَنَّ فِي التَّمَنِّي الْمُطْلَقِ نَوْعَ اعْتِرَاضٍ وَمُرَاغَمَةٍ لِلْقَدْرِ الْمَحْتُومِ وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا نَوْعُ تَفْوِيضٍ وَتَسْلِيمٍ لِلْقَضَاءِ." اهـ

 

شرح النووي على مسلم (17/ 7_8)

فِيهِ : التَّصْرِيحُ بِكَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَاقَةٍ أَوْ مِحْنَةٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَشَاقِّ الدُّنْيَا،

فَأَمَّا إِذَا خَافَ ضررا فى دينه___أو فتنة فِيهِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ، لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ.

وَقَدْ فَعَلَ هَذَا الثَّانِي خَلَائِقُ مِنَ السَّلَفِ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ فِي أَدْيَانِهِمْ،

وَفِيهِ : أَنَّهُ إِنْ خَافَ وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى حَالِهِ فِي بَلْوَاهُ بِالْمَرَضِ وَنَحْوهِ، فَلْيَقُلْ : "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي إن كانت الحياة خيرا لى"، إِلَخْ.

وَالْأَفْضَلُ الصَّبْرُ وَالسُّكُونُ لِلْقَضَاءِ."[5]

 

وفي طرح التثريب في شرح التقريب (3/ 258) للعراقي :

"لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْأَمْرِ اسْتِحْبَابَ الدُّعَاءِ بِهِ لِهَذَا، بَلْ تَرْكُهُ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ بِهِ فَإَنَّهُ رَتَّبَ الْأَمْرَ بِهِ عَلَى كَوْنِ الْمُتَمَنِّي لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ صُورَةُ تَمَنٍّ مَعَ نَهْيِهِ أَوَّلًا عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْأَفْضَلُ الصَّبْرُ وَالسُّكُونُ لِلْقَضَاءِ." اهـ

 

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 1157)

قَدْ أَفْتَى النَّوَوِيُّ: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِخَوْفِ فِتْنَةٍ دِينِيَّةٍ، بَلْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَغَيْرِهِمَا.

وَكَذَا يُنْدَبُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، بَلْ صَحَّ عَنْ مُعَاذٍ: أَنَّهُ تَمَنَّاهُ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ،

وَمِنْهُ: يُؤْخَذُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ وَلَوْ بِنَحْوِ طَاعُونٍ. وَفِي مُسْلِمٍ: «مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا، وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ» [م][6].

وَيُنْدَبُ أَيْضًا تَمَنِّي الْمَوْتِ بِبَلَدٍ شَرِيفٍ لِمَا فِي الْبُخَارِيُّ :

أَنَّ عُمَرَ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_ قَالَ: (اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي بِبَلَدِ رَسُولِكَ)[7]. فَقَالَتْ بِنْتُهُ حَفْصَةُ: أَنَّى يَكُونُ هَذَا؟ فَقَالَ: يَأْتِي بِهِ اللَّهُ إِذَا شَاءَ، أَيْ : وَقَدْ فَعَلَ، فَإِنَّ قَاتِلَهُ كَافِرٌ مَجُوسِيٌّ." اهـ

 

قلت: أشار النووي _رحمه الله_ إلى ما أخرجه البخاري في صحيحه (9/ 58) (رقم: 7115)، ومسلم في صحيحه (4/ 2231) (رقم: 157):

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ " [خ م]

 

وقال الحسين بن محمد بن سعيد اللاعيّ، المعروف بالمَغرِبي (المتوفى: 1119 هـ) في "البدر التمام شرح بلوغ المرام" (4/ 126):

"في الحديث دلالة على النهي عن تمني الموت لأجل الضر النازل من مرض أو محنة من عدو أو فاقة أو نحو ذلك من مشاق الدنيا، لما في ذلك من الجزع، وعدم الصبر على القضاء وفيه إظهار عدم الرضى، وظاهر التقييد بقوله: "لضر نزل به"،

وأما إذا كان المتمني لغير ذلك فليس بداخل في النهي بأن يخاف على نفسه الفتنة في الدين أو محبة إدراك فضيلة كتمني الشهادة كما وقع مثل ذلك من عبد الله بن رواحة وغيره من السلف وكما في قصة مريم عليها السلام، وقولها: {يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا}، فإن التمني منها -صلوات الله وسلامه عليها- إنما هو لمثل هذا الأمر الخوف مِن كفر من كفَر وشقاوة من شقي بسببها." اهـ

 

وقال العيني _رحمه الله_ في "شرح أبي داود" (6/ 26):

"ويستفاد منه أن العبد يختار من الدعاء ما هو خير لدينه أو لدنياه، فافهم." اهـ

 

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (8/ 118):

في هذا الحديث دليل على استعمال التفويض وسؤال الخيرة، حتى فيما لا بدّ منه، وهو الموت.

وقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يعلمهم الاستخارة في الأمور كلها ، كما يعلمهم السورة من القرآن،

فإذا تمنى الموت وجزم به ، كان قد اختار لنفسه ما لعلّه ينقطع عنه به خير، كما قال _صلى الله عليه وسلم_ : (إن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرًا)." اهـ

 

وقال ابن بطال (9/ 387):

قال المؤلف: نهى النبى أمته عن تمنى الموت عند نزول البلاء بهم، وأمرهم أن يدعوا بالموت ما كان الموت خيرًا لهم فى حديث أبى هريرة: (لا يتمنى أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب).

قال الطبرى: فإن قيل: هذا الحديث جاء بلفظ (لعلى) وهى موضوعة لغير التحقيق. قيل: قد جاء هذا الحديث بلفظ (إن) التى هى موضوعة للتحقيق من رواية معمر، عن همام بن منبه، عن أبى هريرة قال: قال النبى: (لا يتمنى أحدكم الموت ولايدعو به قبل أن يأتيه،___فإنه إذا مات أحدكم انقطع أمله وعمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا)." اهـ

 

وقال الحافظ ابن عبد البر _رحمه الله_ في "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (18/ 28):

"فَهَذِهِ الْآثَارُ وَمَا كَانَ مِثْلَهَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ حُبَّ لِقَاءِ اللَّهِ، لَيْسَ بِتَمَنِّي الْمَوْتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ،

وَقَدْ يَجُوزُ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِغَيْرِ الْبَلَاءِ النَّازِلِ مِثْلَ أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَرْءُ فِتْنَةً فِي دِينِهِ.

قَالَ مَالِكٌ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا يَبْلُغُهُ شَيْءٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَّا أَحَبَّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ حَتَّى لَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَعَا عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَوْتِ فَدَعَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَوْتِ، فَمَا أَتَتِ الْجُمُعَةُ حَتَّى مَاتَ _رَحِمَهُ اللَّهُ_،

وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذَا الْكِتَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: (لاتقوم السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ أَخِيهِ فَيَقُولَ يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ) [خ م]." اهـ

 

الإفصاح عن معاني الصحاح (5/ 51)

* في هذا الحديث من الفقه: أنه لا يجوز أن يتمنى الموت أحد من أجل ضِيْقٍ نَزَلَ بِهِ، لأن طلبه الموت فرارٌ من قدر الله،

ويقاس على هذا أنه من تمناه من غير ضر لم يستحب له ذلك؛ لأن المؤمن إن كان على سبيل عمل صالح، فإنه كلَّ وقتٍ في زيادةٍ، وإن كان على غير عمل صالح فإنه يستعجل بتمني الموت ما هو شر له،

فأما تمني الموت لخوف الفتنة فقد ذُكِرَ عن جماعة من الأخيار، إلا إني أخاف أن يكون نفس تمنيهم الموتَ فتنةً، وليس إلا الرضا بما يريد الله _عز وجل_ به عبده، فإن كان الإنسان لابد متمنيا: (فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي)." اهـ

 

وقال المظهري الزيداني في "المفاتيح في شرح المصابيح" (2/ 412):

"وإنما نهى الرجل عن تمني الموت؛ لأن الحياة حكم الله تعالى عليه، وطلب زوال الحياة عدم الرضا بحكم الله تعالى،

فإن كان تمني الموت لخوف الدِّين جاز، وليقل: "اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وأمتني ما كان الموت خيرًا لي".

 

وقال محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ) _رحمه الله_ في تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين (ص: 329):

"قَالَ [يعني: النووي _رحمه الله_] :

"هَذِه الْمقَالة الَّتِي ارشد إِلَيْهَا الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والخشية على دينه لفساد الزَّمَان هِيَ من جملَة مَا يصدق عَلَيْهِ أَنه ضرّ بل الضّر الْعَائِد إِلَى الدّين أَشد عِنْد الْمُؤمن من الضّر الْعَائِد إِلَى الْبدن أَو الْعَائِد إِلَى الدُّنْيَا

فَالْحَاصِل: أَنه لَيْسَ لأحد أَن يتَمَنَّى الْمَوْت لشَيْء من الْأَشْيَاء كَائِنا مَا كَانَ، بل يعدل عَن ذَلِك إِلَى هَذَا الدُّعَاء الَّذِي جَاءَ عَن الشَّارِع _صلى الله عَلَيْهِ وَسلم_." اهـ

 

وقال السعدي _رحمه الله_ في "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" – ط. الرشد (ص: 176):

"والفرق بين هذا وبين قوله صلّى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت. اللهم ارحمني إن شئت. ولكن ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له":

أنَّ المذكور في هذا الحديث الذي فيه التعليق بعلم الله وإرادته: هو في الأمور المعيّنة التي لا يدري العبد من عاقبتها ومصلحتها.

وأما المذكور في الحديث الآخر: فهي الأمور التي يعلم مصلحتها بل ضرورتها وحاجة كل عبد إليها. وهي مغفرة الله ورحمته ونحوها. فإن العبد يسألها ويطلبها من ربه طلباً جازماً، لا معلقاً بالمشيئة وغيرها؛ لأنه مأمور ومحتم عليه السعي فيها، وفي جميع ما يتوسل به إليها.

وهذا كالفرق بين فعل الواجبات والمستحبات الثابت الأمر بها؛ فإن العبد يؤمر بفعلها أمر إيجاب أو استحباب، وبعض الأمور المعينة التي لا يدري العبد من حقيقتها ومصلحتها، فإنه يتوقف حتى يتضح له الأمر فيها." اهـ

 

وقال _رحمه الله_ في "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" – ط. الرشد (ص: 176):

"واستثنى كثير من أهل العلم من هذا جوازَ تمني الْمَوتِ خوفاً من الفتنة. وجعلوا من هذا قول مريم رضي الله عنها: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم: 23].

كما استثنى بعضهم تمني الموت شوقاً إلى الله. وجعلوا منه قول يوسف صلّى الله عليه وسلم: {أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101] .

وفي هذا نظر؛ فإن يوسف _صلّى الله عليه وسلم_ لم يتمن الموت. وإنما سأل الله الثبات على الإسلام، حتى يتوفاه مسلماً، كما يسأل العبد ربه حسن الخاتمة. والله أعلم.

 

وقال حمزة محمد قاسم المغربي _رحمه الله_ في "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" (5/ 205):

"دل الحديث على أَنه يستحب للعبد المؤمن إذا اشتدت عليه الَكروب أن يصبر، ويلجأ إلى الصلاة والتضرع والدعاء، وأن يقول كما علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي "، والله أعلم. " اهـ

 

وقال ابن بطال القرطبي _رحمه الله_ في "شرح صحيح البخارى" (10/ 111):

"فقد يكون له فى ذلك الضرِّ خيْرٌ لدينه ودنياه، إما تمحيصٌ لذنوبٍ سلفَتْ له، وطُهُورٌ من سيئاتٍ، كما قال _صلى الله عليه وسلم_ للشيخ الذى زاره فى مرضه، وقد أصابته الحمىّ، فقال _صلى الله عليه وسلم_ : (لا بأس طهور إن شاء الله) [خ].

وقد يكون له فى المرض منافع:

منها: أن يكون المرض سببًا إلى امتناعه من سيئات كان يعملها لو كان صحيحًا، أو بلاء يندفع عنه فى نفسه وماله، فالله أنظر لعبده المؤمن، فينبغى له الرضا عن الله تعالى فى مرضه وصحته ولا يتهم قدره، ويعلم أنه أنظر له من نفسه، ولا يسأله الوفاة عند ضيق نفسه بمرضه أو تعذّر أمور دنياه عليه.

وقد جاء وجه سؤال الموت فيه مباح، وهو خوف فتنة تكون سببًا لإتلاف الدين، فقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (وإذا أردت بقومٍ فتنةً فاقبضنى إليك غير مفتون)." اهـ

 



 [1] ترجمة أنس بن مالك الأنصاري  الخزرجي النجاري _رضي الله عنه_ :

وفي سير أعلام النبلاء ط الرسالة (3/ 395) :

"أَنَسُ بنُ مَالِكِ بنِ النَّضْرِ بنِ ضَمْضَمٍ الأَنْصَارِيُّ * (ع) : ابْنِ زَيْدِ بنِ حَرَامِ بنِ جُنْدُبِ بنِ عَامِرِ بنِ غَنْمِ بنِ عَدِيِّ بنِ النَّجَّارِ : الإِمَامُ، المُفْتِي، المُقْرِئُ، المُحَدِّثُ، رَاوِيَةُ الإِسْلاَمِ، أَبُو حَمْزَةَ الأَنْصَارِيُّ، الخَزْرَجِيُّ، النَّجَّارِيُّ، المَدَنِيُّ، خَادِمُ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَرَابَتُهُ مِنَ النِّسَاءِ، وَتِلْمِيذُهُ، وَتَبَعُهُ، وَآخِرُ أَصْحَابِهِ مَوْتاً." اهـ

وفي تاريخ دمشق لابن عساكر (9/ 361):

"عن أنس قال: "شهدت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الحديبية وعمرته والحج والفتح وحنينا وخيبر." اهـ

وفي معرفة الصحابة لأبي نعيم (1/ 231) :

"تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ: إِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ: تِسْعِينَ، آخِرُ مِنْ تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ مِنَ الْصَّحَابَةِ، وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَكَانَتْ نَخْلَاتُهُ تَحْمِلُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، وَوُلِدَ لَهُ مِنْ صُلْبِهِ ثَمَانُونَ وَلَدًا، وَقِيلَ: بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ." اهـ

[2] أخرجه ابن حبان في صحيحه (7/ 232) (رقم: 2966)، وكذا النسائي في سننه (4/ 3) (رقم: 1820)، وغيره. صححه الألباني في "صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان" (2/ 462) (رقم: 2084). وللفائدة: انظر "أَحكام الجنائز" (12)، "الإرواء" (3/ 146 - 147).

[3] وقال العثيمين _رحمه الله_ في شرح رياض الصالحين (3/ 480): "فإن هذا حرام ولا يجوز؛ لأنه لو مات فإنه لن يستريح، ربما ينتقل من عذاب الدنيا إلى عذاب في الآخرة أشد وأشد." اهـ

[4] أخرجه الترمذي في سننه – ت. أحمد شاكر (4/ 565) (رقم: 2329). صححه الألباني في "تخريج مشكاة المصابيح" (2/ 702) (رقم: 2270)، و"صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 729) (رقم: 3928)

[5] وفي طرح التثريب في شرح التقريب (3/ 258) للعراقي :

"لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْأَمْرِ اسْتِحْبَابَ الدُّعَاءِ بِهِ لِهَذَا بَلْ تَرْكُهُ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ بِهِ فَأَنَّهُ رَتَّبَ الْأَمْرَ بِهِ عَلَى كَوْنِ الْمُتَمَنِّي لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ صُورَةُ تَمَنٍّ مَعَ نَهْيِهِ أَوَّلًا عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْأَفْضَلُ الصَّبْرُ وَالسُّكُونُ لِلْقَضَاءِ." اهـ

[6] أخرجه مسلم في صحيحه (3/ 1517) (رقم: 1908)، وغيره. صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 93) (رقم: 1277)

[7] أخرجه البخاري في صحيحه (3/ 23) (رقم: 1890)

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين