شرح الحديث 38 من كتاب رياض لأبي فائزة البوجيسي _حفظه الله_

 

[38] وعن ابنِ مسعودٍ  - رضي الله عنه - قَالَ:

دخلتُ عَلَى النَّبيِّ _صلى الله عليه وسلم_ وهو يُوعَكُ[1]، فقلت :

"يَا رسُولَ الله، إنَّكَ تُوْعَكُ وَعْكاً شَدِيداً"،

قَالَ: «أجَلْ، إنِّي أوعَكُ كمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنكُمْ» .

قلْتُ : ذلِكَ أن لَكَ أجْرينِ؟

قَالَ: «أَجَلْ، ذلِكَ[2] كَذلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصيبُهُ أذىً، شَوْكَةٌ فَمَا فَوقَهَا إلا كَفَّرَ اللهُ بهَا سَيِّئَاتِهِ، وَحُطَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وَ (الوَعْكُ) : مَغْثُ الحُمَّى، وَقيلَ: الحُمَّى[3].

 

ترجمة عبد الله بن مسعود أبي عبد الرحمن الهذلي _رضي الله عنه_ :

 

وفي تهذيب الكمال في أسماء الرجال (16/ 121) للمزي :

"عَبد اللَّهِ بن مسعود بن غافل بن حبيب بْن____شمخ بن مخزوم، ويُقال: ابْن شمخ بْن فار بْن مخزوم بْن صاهلة بْن كاهل بْن الحارث بْن تميم بْن سعد بْن هذيل بْن مدركة بْن إلياس بْن مضر بْن نزار بن معد بن عدنان، أبو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الهذلي، صاحب رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وكان أبو مسعود بْن غافل، قد حالف عبد بْن الحارث بْن زهرة فِي الجاهلية، وأمه أم عبد بنت ود بْن سواء من هذيل أَيْضًا، لها صحبة.

أسلم بمكة قديما، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وهُوَ صاحب نعل رَسُول اللَّهِ صلى___الله عليه وسلم. كَانَ يلبسه إياها إِذَا قام، فإذا جلس أدخلها فِي ذراعه. وكَانَ كثير الولوج عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم." اهـ

 

وفي تهذيب الكمال في أسماء الرجال (16/ 127) : "وَقَال أَبُو بَكْر بْن أَبي خيثمة، عَن يحيى بْن مَعِين: مات سنة ثلاث أَوِ اثنتين وثلاثين." اهـ

 

تخريج الحديث :

 

أخرجه البخاري في صحيح البخاري (7/ 115 و 118 و 119_120) (رقم: 5647 و 5660 و 5661 و 5667)، ومسلم في صحيحه (4/ 1991) (رقم : 2571)، السنن الكبرى للنسائي (7/ 47 و 7/ 57 و 7/ 58) (رقم: 7441 و 7461 و 7463)،

 

من فوائد الحديث :

 

فتح الباري لابن حجر (10/ 112) :

"وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّ الْمَرَضَ إِذَا اشْتَدَّ ضَاعَفَ الْأَجْرَ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ تَنْتَهِي إِلَى أَنْ تُحَطَّ السَّيِّئَاتُ كُلُّهَا." اهـ

 

قلت: ويؤيد ذلك ما ورد في سنن الترمذي (4/ 602) (رقم : 2399) : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

«مَا يَزَالُ البَلَاءُ بِالمُؤْمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»،

والحديث صحيح : صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (5/ 349) (رقم : 2280).

 

وفي صحيح البخاري (7/ 115) (رقم : 5645) : عن أبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ»

 

وفي سنن الترمذي (4/ 601) (رقم : 2398)، سنن ابن ماجه (2/ 1334) (رقم : 4023) :عن سعد بن أبي وقاص، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ :

«الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»

والحديث صحيح : صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 329) (رقم : 3402)

 

 

فتح الباري لابن حجر (10/ 112)

قِيَاسِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلْحَاقِ الْأَوْلِيَاءِ بِهِمْ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَتْ دَرَجَتُهُمْ مُنْحَطَّةً عَنْهُمْ،

وَالسِّرُّ فِيهِ: أَنَّ الْبَلَاءَ فِي مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ فَمَنْ كَانَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ كَانَ بَلَاؤُهُ أَشَدَّ وَمِنْ ثَمَّ ضُوعِفَ حَدُّ الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ وَقِيلَ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مبينه يضعف لَهَا الْعَذَاب ضعفين،

قَالَ بن الْجَوْزِيِّ[4] : فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَوِيَّ يَحْمِلُ مَا حَمَلَ وَالضَّعِيفَ يُرْفَقُ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ كُلَّمَا قَوِيَتِ الْمَعْرِفَةُ بِالْمُبْتَلَى هَانَ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى أَجْرِ الْبَلَاءِ فَيَهُونُ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ دَرَجَةُ مَنْ يَرَى أَنَّ هَذَا تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ فَيُسَلِّمُ وَلَا يَعْتَرِضُ وَأَرْفَعُ مِنْهُ مَنْ شَغَلَتْهُ الْمَحَبَّةُ عَنْ طَلَبِ رَفْعِ الْبَلَاءِ وَأَنْهَى الْمَرَاتِبِ مَنْ يَتَلَذَّذُ بِهِ لِأَنَّهُ عَنِ اخْتِيَارِهِ نَشأ وَالله أعلم." اهـ

 

تطريز رياض الصالحين (ص: 44)

"أَجَلْ: جوابٌ مثل نعم، إِلا أَنَّه أَحسن من نعم في التصديق، ونعم، أَحسن في الاستفهام.

وفي هذا الحديث: فضل الصبر على الأَمراض والأَعراض، وأَنها تُكَفِّر السيِّئات، وتحط الذنوب." اهـ[5]

 

تطريز رياض الصالحين (ص: 541)

فيه: جواز إخبار المريض لمن سأله بما يجده من الألم، وأنه كلما اشتد وجعه عظم أجره.

 

شرح صحيح البخارى لابن بطال (9/ 374)

خص الله أنبياءه الأوجاع والأصواب لما خصهم به من قوة اليقين وشدة الصبر والاحتساب ليكمل لهم الثواب ويتم لهم الأجر

 

الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 40)

* في هذا الحديث جواز أن يخبر الرجل بشدة ألمه لقوله: (أوعك كما يوعك رجلان).___

* وفيه من السنة: أن العائد يمس المريض ليتعرف بذلك حاله فيخبره بما يجد منه. فلقد يحس الرجل من لمس صاحبه مالا يحس به الملموس من نفسه.

* وفيه أيضًا: دليل أن الرجل إذا عاد مريضًا عزيزًا عليه صدقه فيما يراه منه لقول ابن مسعود (إنك لمتوعك).

* وفيه: أن يستحب للعائد أن يبشر المريض بثوابه ويذكره بأجر صبره على ألمه؛ لقول ابن مسعود: (إن لك أجرين) وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أجل)، فصدقه في ذلك، ولم ينكره عليه لأنها بشرى لسائر الأمة في المرض.

* وفيه أيضًا: بشرى لكل مؤمن[6]، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:

(ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواء إلا حط الله سيئاته كما تحط الشجرة ورقها).

وذلك أن السيئات من ثمرات الأبدان والنفوس، فلما أصاب الأبدان التي أثمرت السوء من الألم ما شاركته فيه نفوسها عم أجزاءها، فكان كالعقوبة لمثمر السوء، فصار على نحو الشجرة التي إذا قلت المادة منها لما كانت تمده من الورق انتثر،

فلما قلت مادة السيئات بما أصاب البدن من الألم انتثرت من الخطايا بلطف من الله سبحانه، وهذا مما ينبغي للعبد أن يتضاعف شكره لله تعالى عليه، لأنه يحط عنه خطاياه بغير عزم من المخطئ تطهيرًا منه لعباده." اهـ

 

المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 395) للزيداني :

"وهذا الحديث يدل على أن المرض إذا كان أشد يكون الأجر أكثر." اهـ

 

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 1129)

قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ حَالَ الْمَرِيضِ وَإِصَابَةَ الْمَرَضِ جَسَدَهُ، ثُمَّ مَحْوَ السَّيِّئَاتِ عَنْهُ سَرِيعًا بِحَالَةِ الشَّجَرَةِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ الْخَرِيفِيَّةِ، وَتَنَاثُرِ الْأَوْرَاقِ مِنْهَا، فَهُوَ تَشْبِيهٌ تَمْثِيلِيٌّ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ الْإِزَالَةُ الْكُلِّيَّةُ عَلَى سَبِيلِ السُّرْعَةِ.

 

دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 180)

وهذا الحديث يشهد للقول المختار من حصول الأجر على الأمراض والأعراض: أي بشرط الصبر وعدم التبرم من القدر والسخط منه، وقد بسطت هذا المقام في «شرح الأذكار» .

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (3/ 137)

وقوله: "أُوْعَكَ كمَا يُوعَك رجلان منكم"، ونحو ذلك مما يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان من المصائب، وإذا كانت مما يمكن كتمانه، فكتمانه من الأعمال الخفية لله تعالى.

 

صحيح ابن حبان (7/ 199) :

"ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ الْمَخْصُوصِينَ يُضَاعَفُ عَلَيْهِمْ أَلَمُ الْحُمَّى لِيَسْتَوفُوا عَلَيْهَا الثَّوَابَ فِي الْعُقْبَى." اهـ

 

السنن الكبرى للبيهقي (3/ 521)

بَابُ مَا يَنْبَغِي لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَسْتَشْعِرَهُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى جَمِيعِ مَا يُصِيبُهُ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْجَاعِ وَالْأَحْزَانِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْكَفَّارَاتِ وَالدَّرَجَاتِ

 

السنن الكبرى للبيهقي (7/ 109) :

"بَابُ مَا خُصَّ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْوَعْكِ لِزِيَادَةِ الْأَجْرِ." اهـ

 

موارد الظمآن لدروس الزمان (2/ 403) لعبد العزيز السلمان

واعْلَمْ أنَّ المرضَ يُذْهِبُ الخَطَايا وكُلَّمَا اشْتَدَّ المرضُ كَانَ أَذْهَبَ لها." اهـ

 

الذخيرة للقرافي (13/ 307_308) :

"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَيِّدَ الْمُتَوَكِّلِينَ وَكَانَ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ وَيَطْلُبُ فَضْلَهُ فِي أَسْبَابِهِ الْجَارِيَةِ بِهَا عَادَتُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ الْأَدَبِ وَالتَّوَكُّلِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ___وَالصِّدِّيقِينَ وَخَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ." اهـ

 

مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 229)

وفي الحديث بشارة عظيمة لأن كل مسلم لا يخلو عن كونه متأذياً

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (40/ 443_447)

في فوائده:

1 - (منها): بيان رفعة قَدْر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عند الله تعالى، حيث ضاعف له الأجر بمرضه،

قال القرطبيّ _رحمه الله_:

"ومضاعفة المرض على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ ليضاعف له الأجر في الآخرة، وهو كما قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآخر: "أشدّ الناس بلاء____الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه"،

وفي الحديث الآخر: "نحن معاشر الأنبياء يشتدّ علينا البلاء، ويعظم لنا الأجر".[7] انتهى.

2 - (ومنها) : بيان أن البلاء بالنسبة للمؤمن نعمة من الله عز وجل ينبغي أن يشكره عليه، فلذا كان الأنبياء أشدّ الناس بلاء؛ لِمَا لهم به من الزلفى والقرب من ربهم عز وجل.

3 - (ومنها): أن الأمراض ونحوها ترفع الدرجات، كما تحظ

الخطيئات، فتجمع بين الاثنين، كما هو رأي الجمهور، وخالف في ذلك بعضهم، فجعلها للحطّ فقط، والصواب الأول.

4 - (ومنها): ما قاله ابن الجوزيّ رحمه الله: في الحديث دلالة على أن القويّ يَحْمِل ما حُمِّل، والضعيف يُرفَق به، إلا أنه كلما قويت المعرفة بالمبتلي

هان عليه البلاء، ومنهم من ينظر إلى أجر البلاء، فيهون عليه البلاء، وأعلى من ذلك درجة مَن يرى أن هذا تصرّف المالك في مُلكه، فيُسَلِّم، ولا يعترض، وأرفع منه من شغلته المحبة عن طلب رفع البلاء، وأنهى المراتب من يتلذذ به؛ لأنه عن اختياره نشأ، والله أعلم. انتهى.

5 - (ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في هذه الأحاديث بشارةٌ عظيمةٌ للمسلمين، فإنه قلما ينفكّ الواحد منهم ساعةً من شيء من هذه الأمور، وفيه تكفير الخطايا بالأمراض، والأسقام، ومصائب الدنيا، وهمومها، وإن قَلّت مشقتها، وفيه رفع الدرجات بهذه الأمور، وزيادة الحسنات، وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء، وحَكَى القاضي عياض عن بعضهم أنها تكفّر الخطايا فقط، ولا ترفع درجة، ولا تكتب حسنة، قال: ورُوي نحوه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: الوجع لا يُكتب به أجر، لكن ممفّر به الخطايا فقط، واعتَمَد على الأحاديث التي فيها تكفير الخطايا، ولم تبلغه الأحاديث التي ذكرها مسلم المصرِّحة برفع الدرجات، وكتْب الحسنات.

قال العلماء: والحكمة في كون الأنبياء أشدّ بلاءً، ثم الأمثل فالأمثل، أنهم مخصوصون بكمال الصبر، وصحة الاحتساب، ومعرفة أن ذلك نعمة____من الله تعالى؛ لِيُتِمّ لهم الخيرَ، ويُضاعِف لهم الأجر، ويُظهر صبرهم، ورضاهم. انتهى.

6 - (ومنها): أن البخاريّ ترجم في "صحيحه" بقوله: "باب أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل"،

قال في "الفتح": كذا للأكثر، وللنسفيّ: "الأول، فالأول"، وجَمَعهما المستملي، والمراد بالأول: الأولية في الفضل،

والأمثل أفعل من المثالة، والجمع أماثل، وهم الفضلاء، وصَدْر هذه الترجمة لفظ حديث، أخرجه الدارميّ، والنسائيّ في "الكبرى"، وابن ماجه، وصححه الترمذيّ، وابن حبان، والحاكم، كلهم من طريق عاصم بن بَهْدلة، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، "قال: قلت: يا رسول الله؛ أيُّ: "الناس أشدّ بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه .. " الحديث، وفيه: "حتى يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة"، أخرجه الحاكم من رواية العلاء بن المسيَّب، عن مصعب أيضًا،

وأخرج له شاهدًا من حديث أبي سعيد، ولفظه: "قال: الأنبياء، قال: ثم من؟ قال: العلماء، قال: ثم من؟ قال: الصالحون ... " الحديث، وليس فيه ما في آخر حديث سعد،

ولعل الإشارة بلفظ "الأول، فالأول" إلى ما أخرجه النسائيّ، وصححه الحاكم، من حديث فاطمة بنت اليمان، أخت حذيفة: "قالت: أتيت النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في نساء نَعُوده، فإذا بسقاء يقطر عليه من شدّة الحمى، فقال: إن من أشدّ الناس بلاءً الأنبياءَ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".

قال: ووجه دلالة حديث الباب على الترجمة من جهة قياس الأنبياء على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإلحاق الأولياء بهم؛ لِقُرْبهم منهم، وإن كانت درجتهم منحطة عنهم، والسرّ فيه أن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر، كان بلاؤه أشدّ، ومِن ثم ضوعف حدّ الحرّ على العبد، وقيل لأمهات المؤمنين: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}

[الأحزاب: 30].انتهى.____

وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "أشدّ الناس بلاءً الأنبياء"؛ أي: مِحْنةً، ويُطلق على المنحة، لكن المراد هنا بقرينة السياق: المحنة، فإن أصله الاختبار، لكن لمّا كان اختبار الله تعالى لعباده تارةً بالمحنة، وتارة بالمنحة،

أُطلق عليهما.

وقوله: "الأنبياء": المراد بهم ما يشمل الرسل، وذلك لتتضاعف أجورهم، وتتكامل فضائلهم، ويظهر للناس صبرهم ورضاهم، فيُقتدَى بهم، ولئلا يُفتتن الناس بدوام صحتهم، فيعبدوهم. وقوله: "ثم الأمثل، فالأمثل"؛

أي: الأشرف، فالأشرف، والأعلى، فالأعلى؛ لأن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر، فبلاؤه أشدّ، ولهذا ضوعف حدّ الحرّ على العبد، فهم مُعَرَّضون للمحن، والمصائب، وضُروب المنغّصات والمتاعب،

قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} الآية [البقرة: 155].

وقال بعضهم : جَعَل مقام المبتلى يلي مقام النبوة، ولم يفصل بين بلاء الأبدان، وبلاء الأعراض، فيشمل كل ما يتأذى به الإنسان.

قال الطيبيّ: و"ثُمّ" للتراخي في الرتبة، والفاء للتعاقب على سبيل التوالي تنزّلًا من الأعلى إلى الأسفل.

وقوله: "يُبتلَى الرجل" بيان للجملة الأُولى، والتعريف في "الأمثل" للجنس، وفي "الرجل" للاستغراق في الأجناس المتوالية، "على حسب دينه"؛

أي: بقدر قوّة إيمانه، وشدّة إيقانه، وضَعْف ذلك، "فإن كان في دينه صلبًا"؛ أي: قويًّا، "اشتد بلاؤه"؛ أي: عَظُم للغاية، "وإن كان في دينه رِقّة"؛ أي: ضَعف، وليْن، "ابتلي على قدر دينه"؛ أي: ببلاء هَيِّن لَيِّن، والبلاء في مقابلة النعمة، كما مرّ،

ومن ثم قيل لأمهات المؤمنين: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} [الأحزاب: 30]،

"فما يبرح البلاء بالعبد"؛ أي: الإنسان، "حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة" كناية عن سلامته من الذنوب، وخلاصه منها؛ كأنه كان محبوسًا، فامع طلق، وخُلِّي سبيله، فهو يمشي، وما عليه بأس، ومن ظن أن شدّة البلاء هوان بالعبد، فقد ذهب لبّه، وعَمِي قلبه، فقد ابتُلي من الأكابر

مالايحصى.____

ألا ترى إلى ذبح نبيّ الله يحيى بن زكريا، وقَتْل الخلفاء الثلاثة، والحسين، وابن الزبير، وابن جبير، وقد ضُرِب أبو حنيفة، وحُبس، ومات بالسجن، وجُرِّد مالك، وضُرب بالسياط، وجُذبت يده، حتى انخلعت من كتفه، وضُرب أحمد، حتى أغمي عليه، وقُطّع من لحمه، وهو حيّ، وأُمر بصَلْب سفيان، فاختفى، ومات البويطيّ مسجونًافي قيوده، ونُفي البخاريّ من بلده، ومات ابن تيميّة في السجن، إلى غير ذلك مما يطول، والله تعالى أعلم." اهـ كلام الأثيوبي _رحمه الله_.

 



[1] وفي رواية البخاري (7/ 118) (رقم : 5660) عن َبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي..."

[2] وفي فتح الباري لابن حجر (10/ 112) : "قَوْلُهُ (ذَلِكَ) إِشَارَةٌ إِلَى مُضَاعَفَةِ الْأَجْرِ بِشِدَّةِ الْحُمَّى." اهـ

[3] وفي فتح الباري لابن حجر (10/ 111) :                                                                            

"وَالْوَعْكُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْحُمَّى وَقَدْ تُفْتَحُ وَقِيلَ أَلَمُ الْحُمَّى وَقِيلَ تَعَبُهَا وَقِيلَ إِرْعَادُهَا الْمَوْعُوكَ وَتَحْرِيكُهَا إِيَّاهُ،

وعَنِ الْأَصْمَعِي : "الوعك___الْحَرُّ"،

فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّ الْحُمَّى سُمِّيَتْ وَعْكًا لِحَرَارَتِهَا." اهـ

[4] وفي التوضيح لشرح الجامع الصحيح (27/ 272) لابن الملقن :

قال ابن الجوزي: والحديث دال على أن القوي يحمل والضعيف يرفق به إلاَّ أنه كلما قويت المعرفة بالمبتلي هان البلاء الشديد، ومنهم من ينظر إلى أجر بلائه فيهون عليه، وأعلى هذين درجة من يرى أن هذا تصرف المبتلي في ملكه، وأرفع منه من تشغله محبة الحق عن دفع البلاء، ونهاية المراتب التلذذ بضرب الحبيب؛ لأنه عن اختياره نشأ." اهـ

[5] وفي تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي (ص: 529) :

"قَالَ سَلْمَانُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْتَلِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِالْبَلَاءِ، ثُمَّ يُعَافِيهِ، فَيَكُونُ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى، وَمُسْتَعْتَبًا لِمَا بَقِيَ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيَبْتَلِي عَبْدَهُ الْفَاجِرَ بِالْبَلَاءِ، ثُمَّ يُعَافِيهِ، فَيَكُونُ كَالْبَعِيرِ الَّذِي عَقَلَهُ أَهْلُهُ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُ، وَلَا يَدْرِي فِيمَ عَقَلُوهُ وَلَا فِيمَ أَطْلَقُوهُ»" اهـ

[6] وفي شرح المصابيح لابن الملك (2/ 310) : "وفيه بشارة عظيمة؛ لأن كل مسلم لا يخلو من كونه متأذِّياً."

[7] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص: 179) (رقم : 510)، وابن ماجه (2/ 1334) (رقم : 4024)، وأحمد في مسنده - عالم الكتب (3/ 94) (رقم : 11893)، واللفظ له. الحديث صحيح : صححه الألباني في «الصحيحة» (144)

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين