الحديث الحادي والثمانون من بهجة قلوب الأبرار

 

الحديث الحادي والثمانون: النهي عن كثرة السؤال.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

"دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ[1]؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كثرةُ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ. فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَائْتُوا منه ما استطعتم" متفق عليه1

 

سبب ورود الحديث:

كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 508_509):

"قد بَين فِي الحَدِيث سَبَب قَوْله هَذَا، وَهُوَ أَنه لما قَالَ: ((أَيهَا___النَّاس، قد فرض عَلَيْكُم الْحَج فحجوا)) . قَالَ رجل: كل عَام؟ فَسكت، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَو قلت نعم لَوَجَبَتْ وَلما اسْتَطَعْتُم))

ثمَّ قَالَ: ((ذروني مَا تركتكم))

فَأَرَادَ مِنْهُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقومُوا بظواهر الْأَوَامِر من غير تعمق وتكلف، فَإِن قَوْله: ((قد فرض عَلَيْكُم الْحَج)) يَكْفِي فِي امْتِثَال هَذَا حجَّة وَاحِدَة،

فالسؤال: هَل هُوَ كل عَام؟ تكلّف وتعمق. وَمثل هَذَا جرى لبني إِسْرَائِيل حِين قَالَ لَهُم: (اذبحوا بقرة) فَلَو اعْترضُوا بقرة فذبحوها كَانُوا قد عمِلُوا بِمُقْتَضى الْخطاب، وَلَكنهُمْ شَدَّدُوا فَشدد عَلَيْهِم." اهـ

 

ففي صحيح مسلم (2/ 975) (رقم: 1337):

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:

«أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: "أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟"

فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ "،

ثُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ»

 

وفي رواية له في صحيحه (4/ 1830) (رقم: 1337) : كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

«مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه البخاري (9/ 94) (رقم: 7288)، ومسلم (2/ 975) (رقم: 1337)، والترمذي ت شاكر (5/ 47) (رقم: 2679)، والنسائي (5/ 110) (رقم: 2619)، وابن ماجه (1/ 3) (رقم: 1_2)

 

بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ط الوزارة (ص: 164_168)

هذه الأسئلة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها: هي التي نهى الله عنها في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]

 

وهي الأسئلة عن أشياء:

* من أمور الغيب،

* أو من الأمور التي عفا الله عنها، فلم يحرمها ولم يوجبها،

 

فيسأل السائل عنها وقت نزول الوحي والتشريع، فربما وجبت بسبب السؤال، وربما حرمت كذلك، فيدخل السائل في قوله صلى الله عليه وسلم: «أعظم المسلمين جرما: من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» [خ م].

 

* وكذلك ينهى العبد عن سؤال التعنت والأغلوطات،

* وينهى أيضا عن أن يسأل عن الأمور الطفيفة غير المهمة، ويدع السؤال عن الأمور المهمة،

 

فهذه الأسئلة وما أشبهها هي التي نهى الشارع عنها.

وأما السؤال على وجه الاسترشاد عن المسائل الدينية من أصول وفروع، عبادات أو معاملات، فهي مما أمر الله بها ورسوله، ومما حث عليها، وهي الوسيلة لتعلم العلوم، وإدراك الحقائق،

 

قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]

 

وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] إلى غيرها من الآيات.

 

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ به خيرا يفقهه في الدين» [خ م]

 

وذلك بسلوك طريق التفقه في الدين دراسة وتعلما وسؤالا، وقال: «ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال» [د][2].

 

وقد أمر الله بالرفق بالسائل، وإعطائه مطلوبه، وعدم التضجر منه. وقال في سورة الضحى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 10]

 

فهذا يشمل___السائل عن العلوم النافعة والسائل لما يحتاجه من أمور الدنيا، من مال وغيره.

 

* ومما يدخل في هذا الحديث: السؤال عن كيفية صفات الباري، فإن الأمر في الصفات كلها، كما قال الإمام مالك لمن سأله عن كيفية الاستواء على العرش؟ فقال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)[3].

 

فمن سأل عن كيفية علم الله، أو كيفية خلقه وتدبيره، قيل له: فكما أن ذات الله تعالى لا تشبهها الذوات، فصفاته لا تشبهها الصفات، فالخلق يعرفون الله، ويعرفون ما تعرف لهم به من صفاته وأفعاله، وأما كيفية ذلك، فلا يعلم تأويله إلا الله.

 

************************

 

ثم ذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أصلين عظيمين:

أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا نهيتكم عنه فاجتنبوه»

فكل ما نهى عنه النبي من الأقوال والأفعال، الظاهرة والباطنة، وجب تركه، والكف عنه، امتثالا وطاعة لله ورسوله.

ولم يقل في النهي: " ما استطعتم " لأن النهي طلب كف النفس، وهو مقدور لكل أحد، فكل أحد يقدر على ترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله،

 

ولم يضطر العباد إلى شيء من المحرمات المطلقة، فإن الحلال واسع، يسع جميع الخلق في عباداتهم ومعاملاتهم، وجميع تصرفاتهم.

 

وأما إباحة الميتة والدم ولحم الخنزير للمضطر، فإنه في هذه الحالة الملجئة إليه قد صار من جنس الحلال ; فإن الضرورات تبيح المحظورات، فتصيرها الضرورة مباحة، لأنه تعالى إنما حرم المحرمات حفظًا لعباده، وصيانةً لهم___عن الشرور والمفاسد، ومصلحة لهم، فإذا قاوم ذلك مصلحة أعظم - وهو بقاء النفس - قدمت هذه على تلك رحمة من الله وإحسانا.

 

وليست الأدوية من هذا الباب، فإن الدواء لا يدخل في باب الضرورات، فإن الله تعالى يشفي المبتلى بأسباب متنوعة، لا تتعين في الدواء. وإن كان الدواء يغلب على الظن الشفاء به، فإنه لا يحل التداوي بالمحرمات، كالخمر وألبان الحمر الأهلية، وأصناف المحرمات،

 

بخلاف المضطر إلى أكل الميتة، فإنه يتيقن أنه إذا لم يأكل منها يموت.

 

الأصل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»

 

وهذا أصل كبير، دل عليه أيضا قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]

 

فأوامر الشريعة كلها معلقة بقدرة العبد واستطاعته. فإذا لم يقدر على واجب من الواجبات بالكلية، سقط عنه وجوبه. وإذا قدر على بعضه - وذلك البعض عبادة - وجب ما يقدر عليه منه، وسقط عنه ما يعجز عنه.

 

ويدخل في هذا من مسائل الفقه والأحكام ما لا يعد ولا يحصى. فيصلي المريض قائما، فإن لم يستطع صلى قاعدا، فإن لم يستطع صلى على جنبه، فإن لم يستطع الإيماء برأسه، أومأ بطرفه. ويصوم العبد ما دام قادرا عليه.

 

فإن أعجزه مرض لا يرجى زواله، أطعم عنه كل يوم مسكينا، وإن كان مرضا يرجى زواله، أفطر، وقضى عدته من أيام أخر.

 

ومن ذلك من عجز عن سترة الصلاة الواجبة، أو عن الاستقبال أو توقي النجاسة: سقط عنه ما عجز عنه. وكذلك بقية شروط الصلاة وأركانها، وشروط الطهارة، ومن تعذرت عليه الطهارة بالماء للعدم، أو للضرر في جميع الطهارة، أو بعضها، عدل إلى طهارة التيمم.

 

والمعضوب في الحج، عليه أن يستنيب من يحج عنه، إذا كان قادرا على ذلك بماله.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب على من قدر عليه باليد، ثم باللسان ثم بالقلب.

 

وليس على الأعمى والأعرج والمريض حرج في ترك العبادات التي يعجزون عنها، أو تشق عليهم مشقة غير محتملة.

 

ومن عليه نفقة واجبة، وعجز عن جميعها، بدأ بزوجته، فرقيقه، فالولد، فالوالدين، فالأقرب ثم الأقرب. وكذلك الفطرة.

 

وهكذا جميع ما أمر به العبد أمر إيجاب أو استحباب، إذا قدر على بعضه، وعجز عن باقيه، وجب عليه ما يقدر عليه، وسقط عنه ما عجز عنه. وكلها داخلة في هذا الحديث.

 

ومسائل القرعة لها دخول في هذا الأصل؛ لأن الأمور إذا اشتبهت: (لمن هي؟ ومن أحق بها؟)، رجعنا إلى المرجحات.

 

فإن تعذر الترجيح من كل وجه، سقط هذا الواجب للعجز عنه، وعدل إلى القرعة التي هي غاية ما يمكن. وهي مسائل كثيرة معروفة في كتب الفقه.

 

والولايات كلها - صغارها وكبارها - تدخل تحت هذا الأصل، فإن كل ولاية يجب فيها تولية المتصف بالأوصاف التي يحصل بها مقصود الولاية. فإن تعذرت كلها، وجب فيها تولية الأمثل فالأمثل.

 

وكما يستدل على هذا الأصل بتلك الآية وذلك الحديث، فإنه يستدل___عليها بالآيات والأحاديث التي نفى الله ورسوله فيها الحرج عن الأمة، كقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]

 

{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]

{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]

{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]

{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]

 

فالتخفيفات الشرعية في العبادات وغيرها بجميع أنواعها داخلة في هذا الأصل، مع ما يستدل على هذا بما لله تعالى من الأسماء والصفات المقتضية لذلك، كالحمد والحكمة، والرحمة الواسعة، واللطف والكرم والامتنان.

 

فإن آثار هذه الأسماء الجليلة الجميلة كما هي سابغة وافرة واسعة في المخلوقات والتدبيرات، فهي كذلك في الشرائع، بل أعظم لأنها هي الغاية في الخلق. وهي الوسيلة العظمى للسعادة الأبدية.

 

فالله تعالى خلق المكلفين ليقوموا بعبوديته. وجعل عبوديته والقيام بشرعه طريقا إلى نيل رضاه وكرامته. كما قال تعالى - بعد ما شرع الطهارة بأنواعها -:

{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]

 

فظهرت آثار رحمته ونعمته في الشرعيات والمباحات، كما ظهرت في الموجودات. فله تعالى أتم الحمد وأعلاه، وأوفر الشكر والثناء وأعلاه، وغاية الحب والتعظيم ومنتهاه. وبالله التوفيق.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24/ 278)

في فوائده:

1 - (منها): بيان وجوب الحجّ.

2 - (ومنها): أن الحجّ لا يتكرّر وجوبه، بل هو مرّة في العمر.

قال الخطّابيّ رحمه الله: لا خلاف في أن الحجّ لا يتكرّر وجوبه، إلا أن هذا

الإجماع إنما حصل بدليل، أما نفس اللفظ فقد يوهم التكرار، ولذا سأل

السائل، فإن الحجّ في اللغة قصدٌ فيه تكرار. انتهى (1).

3 - (ومنها): أنه يدلّ على أن المسلم إذا حجّ مرّة، ثم ارتدّ عن الإسلام

-والعياذ بالله- ثم أسلم أنه لا يلزمه إعادة الحجّ، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله،

وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، ومالك -رحمهم الله تعالى- إلى أن المرتدّ لو

عاد إلى الإسلام لا تعود إليه حسنات أعماله، ولكن لا يلزمه إعادة ما أدّاه منها

قبل الرّدّة، إلا الحجّ، فيلزمه إعادته؛ لأن وقته العمر، فلما أحبط حجه بالردّة،

ثم أدرك وقته مسلمًا لزمه، وكذا يلزمه إعادة فرض أدّاه، فارتدّ، ثم أسلم في

الوقت (2).

4 - (ومنها): أن جميع الأشياء على الإباحة حتى يثبت دليل المنع من

قبل الشارع.

5 - (ومنها): أنه استدلّ به من قال: إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان يجتهد في

الأحكام؛ لقوله: "ولو قلت: نعم، لوجبت"، وأجاب من منع ذلك باحتمال أن

يكون أوحي إليه ذلك في الحال، والقول بثبوت الاجتهاد له -صلى الله عليه وسلم- هو الأرجح،

كما أسلفته قريبًا، والله تعالى أعلم.

6 - (ومنها): أن من أُمر بشيء، فعجز عن بعضه، ففعل المقدور أنه

يسقط عنه ما عجز عنه، وبذلك استدلّ المزنيّ رحمه الله على أنّ ما وجب أداؤه لا

يجب قضاؤه، ومن ثمّ كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بأن القضاء بالأمر هو الأرجح، كما بيّنته

في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها".___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24/ 279)

7 - (ومنها): أن اعتناء الشارع بالمنهيّات فوق اعتنائه بالمأمورات؛ لأنه

أطلق الاجتناب في المنهيّات، ولو مع المشقّة في الترك، وقيّد في المأمورات

بقدر الطاقة، وهذا منقول عن الإمام أحمد رحمه الله.

[فإن قيل]: إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضًا؛ إذ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا

إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

[أجيب]: بأن الاستطاعة تُطلق باعتبارين، قال الحافظ: كذا قيل، والذي

يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدلّ على المدّعَى من الاعتناء به، بل

هو من جهة الكفّ، إذ كلّ أحد قادر على الكفّ، لولا داعية الشهوة مثلًا، فلا

يُتصوّر عدم الاستطاعة عن الكفّ، بل كلّ مكلّف قادرٌ على الترك، بخلاف

الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثمّ قُيّد في الأمر بحسب

الاستطاعة، دون النهي.

وعبّر الطوفيّ في هذا الموضع بأن ترك المنهيّ عنه عبارة عن استصحاب

حال عدمه، أو الاستمرار على عدمه، وفعل المأمور به عبارة عن إخراجه من

العدم إلى الوجود، وقد نوزع بأن القدرة على استصحاب عدم المنهيّ عنه قد

تتخلّف.

واستُدِلّ له بجواز أكل المضطرّ الميتة.

وأجيب بأن النهي في هذا عارضه الإذن بالتناول في تلك الحالة.

8 - (ومنها): أنه استُدلّ به على أن المكروه يجب اجتنابه؛ لعموم الأمر

باجتناب المنهيّ عنه، فشمل الواجب والمندوب.

وأجيب بأن قوله: "فاجتنبوه" يُعمل به في الإيجاب والندب بالاعتبارين،

ويجيء مثل هذا السؤال وجوابه في الجانب الآخر، وهو الأمر.

وقال الفاكهانيّ: النهي يكون تارة مع المانع من النقيض، وهو المحرّم،

وتارة لا معه، وهو المكروه، وظاهر الحديث يتناولهما.

9 - (ومنها): أنه استدلّ به على أن المباح ليس مأمورًا به؛ لأن التأكيد

في الفعل إنما يناسب الواجب والمندوب، وكذا عكسه.

وأجيب: بأن من قال: المباح مأمور به، لم يُرد الأمر بمعنى الطلب،

وإنما أراد بالمعنى الأعمّ، وهو الإذن.___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24/ 280)

10 - (ومنها): أنه استُدلّ به على أن الأمر لا يقتضى التكرار، ولا

عدمه، وقيل: يقتضيه، وقيل: بل يُتوقّف فيما زاد على مرّة، وحديث الباب

يتمسّك به لذلك؛ لما في سببه أن السائل قال في الحجّ: "أكلّ عام؟ "، فلو

كان مطلقه يقتضي التكرار، أو عدمه لم يحسُن السؤال، ولا العناية بالجواب،

وقد يقال: إنما سأل استظهارًا واحتياطًا.

وقال المازريّ: يَحْتَمِل أن يقال: إن التكرار إنما احتمل من جهة أن

الحجّ في اللغة قصد فيه تكرارٌ، فاحتمل عند السائل التكرار من جهة اللغة، لا

من صيغة الأمر.

وقد تمسّك به من قال بإيجاب العمرة؛ لأن الأمر بالحجّ إذا كان معناه

تكرار قصد البيت بحكم اللغة والاشتقاق، وقد ثبت في الإجماع أن الحجّ لا

يجب إلا مرّة، فيكون العود إِليه مرّة أخرى دالًّا على وجوب العمرة.

11 - (ومنها): أنه استُدلّ به على النهي عن كثرة المسائل، والتعمّق في

ذلك.

قال البغويّ رحمه الله في "شرح السنّة": المسائل على وجهين:

"أحدهما": ما كان على وجه التعليم لما يُحتاج إليه من أمر الدين، فهو

جائز، بل مأمور به؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} الآية [النحل: 43]،

وعلى ذلك تتنزّل أسئلة الصحابة -رضي الله عنهم- عن الأنفال، والكلالة، وغيرهما.

"ثانيهما": ما كان على وجه التعنّت والتكلّف، وهو المراد في هذا

الحديث، والله أعلم.

ويؤيّده ورود الزجر في الحديث عن ذلك، وذمّ السلف، فعند أحمد من

حديث معاوية: "أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عن الأغلوطات"، قال الأوزاعيّ: هي شداد

المسائل، وقال الأوزاعيّ أيضًا: إن الله إذا أراد أن يَحْرِمَ عبده بركة العلم ألقى

على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقلّ الناس علمًا.

وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: المراء في العلم يذهب بنور العلم

من قلب الرجل.

وقال ابن العربيّ: كان النهي عن السؤال في العهد النبويّ خشية أن ينزل

ما يشقّ عليهم، فأما بعده فقد أُمِن ذلك، لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24/ 281)

الكلام في المسائل التي لم تقع، قال: وإنه لمكروه إن لم يكن حرامًا إلا

للعلماء، فإنهم فرّعوا، ومهّدوا، فنفع الله من بعدهم بذلك، ولا سيّما مع

ذهاب العلماء، ودروس العلم. انتهى ملخّصًا.

قال الحافظ رحمه الله: وينبغي أن يكون محلّ الكراهة للعالم، إذا شغله ذلك

عمّا هو أهمّ منه، وكان ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجرّدًا عما يندر، ولا

سيّما في المختصرات؛ ليسهل تناوله، والله المستعان. انتهى.

12 - (ومنها): أن فيه إشارةً إلى الاشتغال بالأهمّ المحتاج إليه عاجلًا

عما لا يحتاج إليه في الحال، فكأنه قال: عليكم بفعل الأوامر، واجتناب

النواهي، فاجعلوا اشتغالكم بها عوضًا عن الاشتغال بالسؤال عما لم يقع.

فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم يجتهد

في تفهّم ذلك، والوقوف على المراد به، ثم يتشاغل بالعمل به، فإن كان من

العلميّات يتشاغل بتصديقه، واعتقاد أحقيّته، وإن كان من العمليّات بذَلَ وُسْعه

في القيام به، فعلًا وتركًا، فإن وجد وقتًا زائدًا على ذلك فلا بأس بأن يصرفه

في الاشتغال بتعرّف حكم ما سيقع على قصد العمل به أن لو وقع، فأما إن

كانت الهمّة مصروفةً عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع، وقد لا

تقع مع الإعراض عن القيام بمقتضى ما سمع، فإن هذا مما يدخل في النهي،

فالتفقّه في الدين إنما يُحمَد إذا كان للعمل، لا للمراء والجدل (1)، والله تعالى

أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): عقد الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" في "كتاب

الاعتصام بالكتاب والسنّة" بابًا مهمًّا جدًّا، له شدّة ارتباط بحديث الباب،

وكتب الحافظ رحمه الله في شرحه كلامًا نفيسًا أحببت إيراده تتميمًا للفائدة، ونشرًا

للعائدة، قال رحمه الله:

"باب ما يكره من كثرة السؤال، وتكلّف ما لا يعنيه، وقول الله تعالى:

{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. ثم ساق بسنده عن

سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه-؛ أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أعظم المسلمين جُرْمًا من___سأل عن شيء، لم يُحرَّم، فحرّم من أجل مسألته"، ثم أورد بعده ثمانية

أحاديث.

قال الشارح رحمه الله: كأنه يريد أن يستدلّ بالآية على المدّعَى من الكراهة،

وهو مصير منه إلى ترجيح بعض ما جاء في تفسيرها، وقد ذكرتُ الاختلاف في

سبب نزولها في "تفسير سورة المائدة"، وترجيح ابن المنيّر أنه في كثرة المسائل

عما كان، وعمّا لم يكن، وصنيع البخاريّ يقتضيه، والأحاديث التي ساقها في

الباب تؤيّده، وقد اشتدّ إنكار جماعة من الفقهاء ذلك، منهم: القاضي أبو بكر

ابن العربيّ، فقال: اعتقد قوم من الغافلين منع السؤال عن النوازل إلى أن تقع

تعلّقًا بهذه الآية، وليس كذلك؛ لأنها مصرّحة بأن المنهيّ عنه ما تقع المسألة

في جوابه، ومسائل النوازل ليست كذلك. انتهى.

قال الحافظ: وهو كما قال؛ لأن ظاهرها اختصاص ذلك بزمان نزول

الوحي، ويؤيّده حديث سعد الذي صدّر به البخاريّ الباب: "من سأل عن

شيء، لم يحرّم، فحرّم من أجل مسألته"، فإن مثل ذلك قد أُمن وقوعه، ويدخل

في معنى حديث سعد ما أخرجه البزّار، وقال: سنده صالح، وصححه الحاكم،

من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-، رفعه: "ما أحلّ الله في كتابه، فهو حلال، وما

حرّم فهو حرام، وما سكت عنه، فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم

يكن ينسى شيئًا، ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] ".

وأخرج الدارقطنيّ من حديث أبي ثعلبة -رضي الله عنه-، رفعه: "إن الله فرض

فرائض، فلا تضيّعوها، وحدّ حدودًا، فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة

لكم، غيرَ نسيان، فلا تبحثوا عنها"، وله شاهد من حديث سلمان -رضي الله عنه-،

أخرجه الترمذيّ، وآخر من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، أخرجه أبو داود.

وقد أخرج مسلم، وأصله في البخاريّ، من طريق ثابت، عن أنس

رضي الله تعالى عنه، قال: "كنا نُهينا أن نسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء، وكان

يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية، فيسأله، ونحن نسمع ... "

فذكر الحديث.

وللبخاريّ في قصّة اللعان من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "فكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

المسائل، وعابها".___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24/ 283)

ولمسلم عن النوّاس بن سمعان -رضي الله عنه-، قال: "أقمت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل

النبيّ -صلى الله عليه وسلم-". ومراده أنه قدم وافدًا، فاستمرّ بتلك الصورة لِيُحَصّلَ المسائل،

خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة، فيصير مهاجرًا، فيمتنع

عليه السؤال، وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب،

وفودًا كانوا، أو غيرهم.

وأخرج أحمد عن أبي أُمامة -رضي الله عنه-، قال: لَمّا نزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية [المائدة: 5]، كنّا قد اتقينا أن نسأله -صلى الله عليه وسلم-، فأتينا

أعرابيًّا، فرشوناه بُردًا، وقلنا: سل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولأبي يعلى عن البراء: "إن كان

ليأتي عليّ السَّنَةُ أريد أن أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الشيء، فأتهيّب، وإن كنّا

لنتمنّى الأعراب - أي: قدومهم- ليسألوا، فيسمعوا هم أجوبة سؤالات

الأعراب، فيستفيدوها.

وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة -رضي الله عنهم-، فيَحْتَمِل أن يكون

قبل نزول الآية، وَيحْتَمِل أن النهي في الآية لا يتناول ما يُحتاج إليه مما تقرّر

حكمه، أو ما لهم بمعرفته حاجةٌ راهنةٌ؛ كالسؤال عن الذبح بالقصب، والسؤال

عن وجوب طاعة الأمراء، إذا أَمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم

القيامة، وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن؛ كسؤالهم عن

الكلالة، والخمر، والميسر، والقتال في الشهر الحرام، واليتامى، والمحيض،

والنساء، والصيد، وغير ذلك، لكن الذين تعلّقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل

عما لم يقع أخذوه بطريق الإلحاق من جهة أن كثرة السؤال لمّا كانت سببًا

للتكليف بما يشقّ، فحقّها أن تُجتنب.

وقد عقد الإمام الدارميّ رحمه الله في أوائل "مسنده" لذلك بابًا، وأورد فيه

عن جماعة من الصحابة والتابعين آثارًا كثيرةً في ذلك، منها:

عن ابن عمر: "لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن السائل

عما لم يكن".

وعن عمر: "أحرّج عليكم أن تسألوا عما لم يكن، فإن لنا فيما كان

شغلًا".___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24/ 284)

وعن زيد بن ثابت أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول: كان هذا؟ فإن

قيل: لا، قال: دعوه حتى يكون.

وعن أُبيّ بن كعب، وعن عمّار كذلك، وأخرج أبو داود في "المراسيل"

من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، مرفوعًا، ومن طريق طاوس، عن

معاذ، رفعه: "لا تعجلوا بالبليّة قبل نزولها، فإنكم إن تفعلوا لم يزل في

المسلمين من إذا قال سُدّد، أو وفّق، وإن عجلتم تشتّت بكم السبل". وهما

مرسلان، يقوّي بعضٌ بعضًا، ومن وجه ثالث عن أشياخ الزبير بن سعيد،

مرفوعًا: "لا يزال في أمتي من إذا سُئل سُدّد، وأُرشد، حتى يتساءلوا عما لم

ينزل ... " الحديث نحوه.

قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نصّ

على قسمين:

(أحدهما): أن يُبحث عن دخوله في دلالة النصّ على اختلاف وجوهها،

فهذا مطلوب، لا مكروه، بل ربّما كان فرضًا على من تعيّن عليه من

المجتهدين.

(ثانيهما): أن يدقّق النظر في وجوه الفروق، فيفرّق بين متماثلين بفرق

ليس له أثرٌ في الشرع مع وجود وصف الجمع، أو بالعكس، بأن يجمع بين

متفرّقين بوصف طرديّ مثلًا، فهذا الذي ذمّه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن

مسعود، رفعه: "هلك المتنطّعون"، أخرجه مسلم، فرأوا أن فيه تضييع الزمان

بما لا طائل تحته، ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في

الكتاب، ولا في السنّة، ولا الإجماع، وهي نادرة الوقوع جدًّا، فيصرف فيها

زمانًا كان صرفه في غيرها أولى، ولا سيّما إن لزم من ذلك إغفال التوسّع في

بيان ما يكثر وقوعه، وأشدّ من ذلك في كثرة السؤال، البحثُ عن أمور مغيبة

وَرَدَ الشرع بالإيمان بها، مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم

الحسّ؛ كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الروح، وعن مدّة هذه الأمّة، إلى

أمثال ذلك مما لا يُعرف إلا بالنقل الصِّرْف، والكثير منه لم يثبت فيه شيء،

فيجب الإيمان به من غير بحث، وأشدّ من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في

الشكّ والحيرة.___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24/ 285)

وقال بعض الشرّاح: مثال التنطّع في السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى

الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن أن يسال عن السِّلَعِ التي توجد في

الأسواق، هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه،

أو لا؟ فيجيبه بالجواز، فإن عاد، فقال: أخشى أن يكون من نهب، أو غصب،

ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة، فيحتاج أن يجيبه

بالمنع، ويقيّد ذلك، إن ثبت شيء من ذلك حَرُم، وإن تردّد كُره، أو كان

خلاف الأولى، ولو سكت السائل عن هذا التنطّع لم يزد المفتي على جوابه

بالجواز.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في التمثيل للتنطّع في السؤال بهذا المثال

نظر لا يخفى لمن تأمّل، والله تعالى أعلم.

قال: وإذا تقرّر ذلك، فمن يسدّ باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من

الأحكام التي يكثر وقوعها، فإنه يقلّ فَهْمُهُ وعلمه، ومن توسّع في تفريع

المسائل، وتوليدها، ولا سيّما فيما يقلّ وقوعه، أو يندر، ولا سيّما إن كان

الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة، فإنه يذمّ فعله، وهو عين الذي كرهه

السلف.

ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظًا على ما جاء في

تفسيره عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل، وحصّل من

الأحكام ما يستفاد من منطوقه، ومفهومه، وعن معاني السنّة، وما دلّت عليه

كذلك، مقتصرًا على ما يصلح للحجّيّة منها، فإنه الذي يُحمَد، ويُنتفع به،

وعلى ذلك يُحمل عمل فقهاء الأمصار، من التابعين، فمن بعدهم حتى حدثت

الطائفة الثانية، فعارضتها الطائفة الأولى، فكثر بينهم المراء والجدال، وتولّدت

البغضاء، وتسمَّوْا خُصُومًا، وهم من أهل دين واحد، والواسط هو المعتدل من

كلّ شيء، وإلى ذلك يشير قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث الباب: "فإنما هلك من كان

قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم"، فإن الاختلاف يجرّ إلى عدم

الانقياد.

وهذا كلّه من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم.

وأما العمل بما ورد في الكتاب والسنّة، والتشاغل به، فقد وقع الكلام___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24/ 286)

في أيّهما أولى، والإنصاف أن يقال: كلُّ ما زاد على ما هو في حقّ المكلّف

فرض عين، فالناس فيه على قسمين: مَنْ وجد في نفسه قوّةً على الفهم،

والتحرير، فتشاغله بذلك أولى من إعراضه عنه، وتشاغلِهِ بالعبادة؛ لما فيه من

النفع المتعدّي، ومن وجد في نفسه قصورًا، فإقباله على العبادة أولى؛ لعسر

اجتماع الأمرين، فإن الأول لو ترك العلم لأوشك أن يضيع بعض الأحكام

بإعراضه، والثاني لو أقبل على العلم، وترك العبادة فاته الأمران؛ لعدم حصول

الأول له، وإعراضه به عن الثاني. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بَحْثٌ نفيس

جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.



[1] وفي شرح رياض الصالحين (2/ 269) للعثيمين:

"(دعوني ما تركتكم) قاله النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن بعض الصحابة من حرصهم على العلم ومعرفة السنة، كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء قد لا تكون حراماً فتحرم من أجل مسألتهم، أو قد لا تكون واجبة، فتجب من أجل مسألتهم، فلهذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوه، أن يتركوا ما تركه ما دام لم يأمرهم ولم ينههم، فليحمدوا الله على العافية." اهـ

[2] حسن, أخرجه أبو داود (رقم: 336)، من حديث جابر.

وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه أبو داود (رقم: 333)، وابن ماجه (رقم: 572). وانظر "إرواء الغليل" رقم: (رقم: 105).

[3] أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/325،326)، واللالكائي (3/398) (رقم: 664)، والصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص: 7)، والدارمي في الرد على الجهمية (ص104)، وابن عبد البر في التمهيد(7/151)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص408).

قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/406): "إسناده جيد"،

وصححه الذهبي في العلو (ص103).

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين