شرح الحديث 49 من صحيح الترغيب لأبي فائزة البوجيسي _حفظ الله_

 

2 - (الترهيب من ترك السنة وارتكاب البدع والأهواء)

49 - (1) [صحيح] عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

"من أحْدَثَ في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو ردٌّ".

رواه البخاري ومسلم،

 

وأبو داود، ولفظه:

"مَن صنع أمراً على غير أمرِنا؛ فهو ردٌّ". وابن ماجه.

 

وفي رواية لمسلم:

"من عمل عملاً ليس عليه أمرُنا؛ فهو ردٌّ".

 

ترجمة عائشة بنت أبي بكر التيمية _رضي الله عنهما_:

 

وقال الذهبي _رحمه الله_ في "سير أعلام النبلاء" – ط. الرسالة (2/ 135) (رقم: 19):

"عَائِشَةُ بِنْتُ الصِّدِّيْقِ أَبِي بَكْرٍ التَّيْمِيَّةُ أُمُّ المُؤْمِنِيْنَ * (ع): بِنْتُ الإِمَامِ الصِّدِّيْقِ الأَكْبَرِ، خَلِيْفَةِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي قُحَافَةَ عُثْمَانَ بنِ عَامِرِ بنِ عَمْرِو بنِ كَعْبِ بنِ سَعْدِ بنِ تَيْمِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ القُرَشِيَّةُ، التَّيْمِيَّةُ، المَكِّيَّةُ، النَّبَوِيَّةُ، أُمُّ المُؤْمِنِيْنَ، زَوجَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفْقَهُ نِسَاءِ الأُمَّةِ عَلَى الإِطْلاَقِ.

وَأُمُّهَا: هِيَ أُمُّ رُوْمَانَ بِنْتُ عَامِرِ بنِ عُوَيْمِرِ بنِ عَبْدِ شَمْسٍ بنِ عَتَّابِ بنِ أُذَيْنَةَ الكِنَانِيَّةُ.

هَاجَرَ بِعَائِشَةَ أَبَوَاهَا، وَتَزَوَّجَهَا نَبِيُّ اللهِ قَبْلَ مُهَاجَرِهِ بَعْدَ وَفَاةِ الصِّدِّيْقَةِ خَدِيْجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِبِضْعَةَ عَشَرَ شَهْراً، وَقِيْلَ: بِعَامَيْنِ.

وَدَخَلَ بِهَا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ، مُنَصَرَفَهُ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ - مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ.

فَرَوَتْ عَنْهُ: عِلْماً كَثِيْراً، طَيِّباً، مُبَارَكاً فِيْهِ." اهـ

 

الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/ 1882)

قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَانَ نِكَاحُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ فِي شَوَّالٍ، وَابْتِنَاؤُهُ بِهَا فِي شَوَّالٍ، وَكَانَتْ تُحِبُّ أَنْ تُدْخِلَ النِّسَاءَ مِنْ أَهْلِهَا وَأَحِبَّتِهَا فِي شَوَّالٍ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَتَقُولُ: هَلْ كَانَ فِي نِسَائِهِ عِنْدَهُ أَحْظَى مِنِّي، وَقَدْ نَكَحَنِي وَابْتَنَى بِيَ فِي شَوَّالٍ، وَتُوُفِّيَ عَنْهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ مُكْثُهَا مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ سِنِينَ.

 

تهذيب الكمال في أسماء الرجال (35/ 235) للمزي:

"وَقَال الزُّهْرِيّ[1]: (لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل)." اهـ

 

الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/ 1883_1885):

"وَكَانَ مسروق إذا حدث عن عائشة يقول: حدثني الصادقة ابنة الصديق البرية المبرأة بكذا وكذا، ذكره الشعبي،

عَنْ مسروق. وَقَالَ أَبُو الضحى، عَنْ مسروق: رأيت مشيخة من أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأكابر يسألونها عَنِ الفرائض.

وَقَالَ عطاء بْن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيًا فِي العامة

وَقَالَ هشام بْن عروة، عَنْ أبيه: مَا رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة...

وتوفيت عائشة سنة سبع وخمسين، ذكره المدائني، عَنْ سُفْيَان بْن عيينة، عَنْ هشام بْن عروة عَنْ أبيه " اهـ

 

شرح الحديث:

 

فتح الباري لابن حجر (13/ 253):

"والْمُحْدَثَاتُ (بِفَتْحِ الدَّالِّ): جَمْعُ مُحْدَثَةٍ. وَالْمُرَادُ بِهَا: مَا أُحْدِثَ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَيُسَمَّى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ (بِدْعَةً)،

وَمَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ. فَالْبِدْعَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَذْمُومَةٌ، بِخِلَافِ اللُّغَةِ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ يُسَمَّى بِدْعَةً سَوَاءٌ كَانَ مَحْمُودًا أَوْ مَذْمُومًا." اهـ

 

تخريج الحديث :

 

الرواية الأولى : أخرجه البخاري في صحيحه (3/ 184) (رقم : 2697)، ومسلم في صحيحه (3/ 1343) (رقم : 1718)، وأبو داود في سننه (4/ 200) (رقم : 4606)، وابن ماجه في سننه (1/ 7) (رقم : 14)

 

الرواية الثانية : سنن أبي داود (4/ 200) (رقم : 4606)، مسند أحمد مخرجا (40/ 507) (رقم : 24450)، السنن الكبرى للبيهقي (10/ 425) (رقم : 21196)[2]

 

الرواية الثالثة : أخرجه مسلم في صحيحه (3/ 1343) (رقم : 1718)، وأحمد في مسنده (42/ 61) (رقم : 25128)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 28) (رقم : 52)، وأبو عوانة في مستخرجه (4/ 171) (رقم : 6410)، والدارقطني في سننه (5/ 406) (رقم : 4537)

 

من فوائد الحديث :

 

صحيح ابن حبان - مخرجا (1/ 207)

ذِكْرُ الزَّجْرِ عَنْ أَنْ يُحَدِّثَ الْمَرْءُ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ

 

صحيح ابن حبان - مخرجا (1/ 209)

"ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِ اللَّهِ حُكْمًا لَيْسَ مَرْجِعُهُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ." اهـ

 

جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (1/ 177_178)

وَقَوْلُهُ: " لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا " إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَعْمَالَ الْعَامِلِينَ كُلِّهِمْ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَتَكُونُ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ حَاكِمَةً عَلَيْهَا بِأَمْرِهَا وَنَهْيِهَا، فَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ جَارِيًا تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مُوَافِقًا لَهَا، فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَمَنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مَرْدُودٌ.

وَالْأَعْمَالُ قِسْمَانِ: عِبَادَاتٌ وَمُعَامَلَاتٌ.

فَأَمَّا الْعِبَادَاتُ، فَمَا كَانَ مِنْهَا خَارِجًا عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى عَامِلِهِ، وَعَامِلُهُ يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ___الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] (الشُّورَى: 21) فَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِعَمَلٍ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ، فَعَمَلُهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ،

وَهُوَ شَبِيهٌ بِحَالِ الَّذِينَ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً،

وَهَذَا كَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِسَمَاعِ الْمَلَاهِي، أَوْ بِالرَّقْصِ، أَوْ بِكَشْفِ الرَّأْسِ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ الَّتِي لَمْ يَشْرَعِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ التَّقَرُّبَ بِهَا بِالْكُلِّيَّةِ."

 

تطريز رياض الصالحين (ص: 137)

هذا الحديث: من أصول الدين وقواعده، فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهيّ عنها، وفي ردِّ المحدثاث وجميع المنهيّات.

 

عمدة القاري شرح صحيح البخاري (13/ 274)

وَفِيه: رد المحدثات وَأَنَّهَا لَيست من الدّين لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا أمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْمرَاد بِهِ أَمر الدّين.

 

جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (1/ 176)

وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ كَالْمِيزَانِ لِلْأَعْمَالِ فِي ظَاهِرِهَا كَمَا أَنَّ حَدِيثَ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» مِيزَانٌ لِلْأَعْمَالِ فِي بَاطِنِهَا، فَكَمَا أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ لِعَامِلِهِ فِيهِ ثَوَابٌ، فَكَذَلِكَ كُلُّ عَمَلٍ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى عَامِلِهِ، وَكُلُّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ

 

جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (2/ 128)

فَكُلُّ مَنْ أَحْدَثَ شَيْئًا، وَنَسَبَهُ إِلَى الدِّينِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ مِنَ الدِّينِ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَهُوَ ضَلَالَةٌ، وَالِدَيْنُ بَرِيءٌ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَسَائِلُ الِاعْتِقَادَاتِ، أَوِ الْأَعْمَالُ، أَوِ الْأَقْوَالُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ.

 

"شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 98):

"من فوائد هذا الحديث:

1_ تحريم إحداث شيء في دين الله ولو عن حسن قصد، ولو كان القلب يرق لذلك ويقبل عليه، لأن هذا من عمل الشيطان." اهـ

 

الأحاديث الأربعين النووية مع ما زاد عليها ابن رجب وعليها "الشرح الموجز المفيد" (ص: 14_15) للشيخ عبد الله بن صالح المحسن:

"الفوائد:

(1) الحث على الإتباع والتحذير من الابتداع.

(2) رد كل محدثة في الدين وأنه لا فرق بين ما يحدثه الإنسان أو يحدثه غيره ويعمل به.

(3) أن كل ما وافق الشرع أو تضمنته القواعد العامة ليس بمردود.

(4) إبطال جميع العقود المنهي عنها.

(5) أن حكم الحاكم لا يغير الحقائق فلا يحل حراما ولا يحرم حلالا وإن نفذ ظاهرا.

الموجز:

يرشدنا هذا الحديث على أن كل من تعبد بشيء لم يشرعه الله ورسوله أو أحدث في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله السنة أو القواعد___العامة فإن ذلك مردود على صاحبه وهو آثم في ذلك.

وكل شيء من المعاملات إذا حدث فيه ما يفسد العقد لمخالفته الحكم الشرعي، يجب رده على صاحبه،

فليحذر كل مسلم الابتداع في الدين وليتمسك بهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم." اهـ

 

فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين للنووي وابن رجب رحمهما الله (ص: 40)

مِمَّا يُستفاد من الحديث:

1 تحريم الابتداع في الدين.

2 أنَّ العمل المبني على بدعة مردود على صاحبه.

3 أنَّ النهي يقتضي الفساد.

4 أنَّ العمل الصالح إذا أُتي به على غير الوجه المشروع، كالتنفل في وقت النهي بغير سبب، وصيام يوم العيد، ونحو ذلك، فإنَّه باطل لا يُعتدُّ به.

5 أنَّ حكم الحاكم لا يُغيّر ما في باطن الأمر؛ لقوله: "ليس عليه أمرنا".

6 أنَّ الصلح الفاسد باطل، والمأخوذ عليه مستحق الرد، كما في حديث العسيف." اهـ

 

مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه (1/ 208)

في فوائده:

1 - (منها): أن هذا الحديث قاعدة عظيمة، من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات.

2 - (ومنها): أنه وقع في رواية لمسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ".

ففي هذه الرواية ردّ على من قد يعاند من بعض الفاعلين في بدعة سُبق إليها، فإذا احتُجَّ عليه بالرواية الأولى، يقول: أنا ما أحدثت شيئًا، فيحتج عليه بالثانية التي فيها التصريح برد كل المحدثات، سواء أحدثها الفاعل، أو سُبق بإحداثها. قاله النوويّ رحمه الله تعالى (1).

وقال في "الفتح": واللفظ الثاني -وهو قوله: "من عَمِلَ"- أعم من اللفظ الأول -وهو قوله: "من أحدث"- فيُحتَجُّ به في إبطال جميع العقود المنهية، وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها، وفيه ردُّ المحدثات، وأن النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهيات كلها___ليست من أمر الدين، فيجب ردّها. انتهى (1).

3 - (ومنها): أنه يستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر؛ لقوله: "ليس عليه أمرنا"، والمراد به أمر الدين.

4 - (ومنها): أن الصلح الفاسد مُنتَقَضٌ، والمأخوذ عليه مُستحق الرد.

5 - (ومنها): أن هذا الحديث دليلٌ لمن يقول من الأصوليين: إن النهي يقتضي الفساد، ومن قال: لا يقتضي الفساد يقول: هذا خبر واحد، ولا يكفي في إثبات هذه القاعدة المهمة. قال النوويّ رحمه الله تعالى: وهذا جواب فاسد.

وقال القرطبيّ: فيه حجةً على أن النهي يدلّ على الفساد، وهو قول جمهور الفقهاء. وذهب بعض المالكيّة، وأكثر المتكلّمين إلى أنه لا يدل على الفساد، وإنما مدلوله المنع من إدخال المنهيّ عنه في الوجود فقط، وأما حكمه إذا وقع من فساد أو صحّة، فالنهي لا يدلّ عليه، ويُنظر دليل ذلك من خارج النهي. وقد اختلف حال المنهيّات، فبعضها يصحّ إذا وقع، كالطلاق في الحيض، وبعضها لا يصحّ، كبيع الملاقيح والمضمامين، وبعضها يَختلف فيه الفقهاء، كالبيع عند النداء. قاله القرطبيّ (2).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ هو ما عليه جمهور الفقهاء من أن النهي يقتضي الفساد، وهذا فيما إذا لم يدلّ دليل على خلافه، كالنهي عن تلقّي الجلب،

فقد أخرج مسلم في "صحيحه" وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "لا تَلَقَّوُا الجلب، فمن تلقاه، فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار"،

فقد خير -صلى الله عليه وسلم- صاحبه بعد النهي بين أن يجيز البيع، وبين أن يُبطله، فدلّ على أن النهي ليس للفساد،

ومثله النهي عن التصرية[3]، فقد أخرج مسلم أيضًا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: (ولا تُصَرُّوا الإبلَ والغنمَ، فمن ابتاعها بعد ذلك، فهو بخير النظرين، بعد أن يَحْلُبها، فإن رضيها أمسكها، وإن___سخطها رَدّها، وصاعا من تمر).

فقد خيّر -صلى الله عليه وسلم- المشتري بين الرضا، وبين الردّ مع صاع من تمر، فدلّ على أن النهي ليس للفساد، وكذا كلّ نهي دلّ النصّ على عدم اقتضائه الفساد، وما عدا ذلك كلّه على الفساد. والله تعالى أعلم.

6 - (ومنها): أن هذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله، فلا يلتفت إليه. قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه، واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به كذلك. وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يُسمَّى نصف أدلة الشرع؛ لأن الدليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم، أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه؛ لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم، مثل أن يُقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، وإنما يقع النزاع في الأولى، ومفهومه أن من عمل عملا عليه أمر الشرع فهو صحيح، مثل أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، والأولى فيها النزاع، فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه، لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع، لكن هذا الثاني لا يوجد، فإذًا حديث الباب نصف أدلة الشرع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب."

 



[1] انظر: "المستدرك" (4 / 11) للحاكم.

[2] وصححه الألباني في غاية المرام (رقم : 5)

[3]  قال فيصل الحريملي _رحمه الله_ في "تطريز رياض الصالحين" (ص: 1000): "التصرية: ترك حَلْبِ الدابة ليجتمع اللبن في ضرعها، فيتوهم كثرة لبنها، حرم لما فيه من الغش والخديعة." اهـ

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين