الحديث الثامن والخمسون: البيّنة على من ادّعى (من كتاب بهجة قلوب الأبرار)

الحديث الثامن والخمسون: البيّنة على من ادّعى

 

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :

قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ :

«لَوْ يُعطى الناسُ بدَعْواهم لادَّعى رجالٌ دماءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ. وَلَكِنِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ[1]» رواه مسلم

وفي لفظ عند البيهقي : «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر»

 

تخريج الحديث :

 

أخرجه : البخاري في صحيحه (6/ 35) (رقم : 4552)، ومسلم في صحيحه (3/ 1336) (رقم : 1711)، والنسائي في سننه (8/ 248) (رقم : 5425)، والبيهقي في السنن الكبرى للبيهقي (10/ 427) (رقم : 21201)، وابن ماجه في سننه (2/ 778) (رقم : 2321)، وعبد الرزاق الصنعاني في مصنفه (8/ 273) (رقم : 15193)، و (الشافعيّ) في "مسنده" (2/ 180 - 181)، و (أحمد) في "مسنده" (1/ 343 و 351 و 356 و 363)، وابن أبي عاصم في الديات (ص: 40)، وابن حبان في صحيحه (11/ 476 و 477) (رقم : 5082 و 5083)، وأبو يعلى الموصلي في مسنده (4/ 464) (رقم : 2595)، وأبو عوانة في مسنده (4/ 54) (رقم : 6005)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 329) (رقم : 4473)، شرح معاني الآثار (3/ 191) (رقم : 5039)، المعجم الكبير للطبراني (11/ 117) (رقم : 11224_11225)، سنن الدارقطني (5/ 277) (رقم : 4312) السنن الكبرى للبيهقي (5/ 541) (رقم : 10803)، وفي معرفة السنن والآثار (14/ 349) (20251)، السنن الصغير للبيهقي (4/ 188) (رقم : 3385)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة" (2501)

 

شرح الحديث :

 

تنبيه : أن حكم الحاكم لا يغير الباطن

وفي صحيح البخاري (3/ 131) (رقم : 2458)، وصحيح مسلم (3/ 1337) (رقم : 1713) : عن أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ:

«إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ، فَأَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ فَلْيَتْرُكْهَا»

 

وفي صحيح البخاري (4/ 107) (رقم : 3198)، صحيح مسلم (3/ 1231) (رقم : 1610)

«مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا، فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»

 

وفي شرح النووي على مسلم (11/ 49) :

"وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُ الظُّلْمِ وَتَحْرِيمُ الْغَصْبِ وَتَغْلِيظُ عُقُوبَتِهِ." اهـ

 

وهو موافق لقول الله _تعالى_ : {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]

 

قال المؤلف الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي _رحمه الله_ في "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ط الوزارة" (ص: 123_124) :

"هذا الحديث عظيم القدر. وهو أصل كبير من أصول القضايا والأحكام؛ فإن القضاء بين الناس إنما يكون عند التنازع: هذا يدعي على هذا حقا من الحقوق، فينكره، وهذا يدعي براءته من الحق الذي كان ثابتا عليه.

 

فبين صلى الله عليه وسلم أصلا يفض نزاعهم، ويتضح به المحق من المبطل.

 

فمن ادعى عَيْنًا من الأعيان، أو دينا، أو حقا من الحقوق وتوابعها على غيره، وأنكره ذلك الغير، فالأصل مع الْمُنْكِرِ.

 

فهذا المدعي إِنْ أَتَى بِبينةٍ تثبت ذلك الحق، ثبت له، وحُكِمَ لَهُ بِهِ، وإن لم يأت ببينة، فليس له على الآخر إلا اليمينُ.

 

وكذلك من ادعى براءته من الحق الذي عليه، وأنكر صاحب الحق ذلك، وقال: إنه باق في ذمته، فإن لم يأت مدعي الوفاء والبراءةِ ببينة، وإلا حكم ببقاء الحق في ذمته، لأنه الأصل. ولكن على صاحب الحق اليمين ببقائه.

 

وكذلك دعوى العيوب، والشروط، والآجال، والوثائق: كلها من هذا الباب.

 

فعلم : أن هذا الحديث تضطر إليه القضاة في مسائل القضاء كلها؛ لأن البينة اسم للمُبَيِّنِ الْحَقَّ. وهي تتفاوت بتفاوت الحقوق، وقد فصلها أهل العلم.

 

وقد بين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الحكم، وبين الحكمة في هذه الشريعة الكلية، وأنها عين صلاح العباد في دينهم ودنياهم، وأنه لو يعطى الناس بدعواهم لكثر الشر والفساد، ولادّعى رجالٌ دماءَ قومٍ وأموالَهُمْ.___

 

فعلم أن شريعة الإسلام بها صلاح البشر. وإذا أردت أن تعرف ذلك، فقابل بين كل شريعة من شرائعه الكلية وبين ضدها، تجد الفرق العظيم، وتشهد أن الذي شرعها حكيمٌ عليمٌ، رحيم بالعباد؛ لاشتمالها على الحكمة والعدل، والرحمة، ونصر المظلوم، وردع الظالم.

 

وقد قال بعض المحققين: إن الشريعة جعلت اليمين في أقوى جنبتي المدعين. ومن تتبع ذلك عرفه. . والله أعلم.

 

من فوائد الحديث :

 

شرح معاني الآثار (3/ 191)

فَمَنَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطَى أَحَدٌ بِدَعْوَاهُ دَمًا أَوْ مَالًا وَلَمْ يُوجِبْ لِلْمُدَّعَى فِيهِ بِدَعْوَاهُ إِلَّا بِالْيَمِينِ. فَهَذَا حُكْمُ هَذَا الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ تَصْحِيحِ مَعَانِي الْآثَارِ. وَأَمَّا وَجْهُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ رَجُلًا لَوِ ادَّعَى فِي حَالِ مَوْتِهِ أَنَّ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ ثُمَّ مَاتَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ وَأَنَّهُ فِي ذَلِكَ كَهُوَ فِي دَعْوَاهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ. فَالنَّظَرُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ هُوَ فِي دَعْوَاهُ الدَّمَ فِي تِلْكَ الْحَالِ كَهُوَ فِي دَعْوَاهُ ذَلِكَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ

 

فتح الباري لابن حجر (5/ 283) :

"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ قَالَ :

«لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»،

وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَيْسَتْ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَإِسْنَادُهَا حَسَنٌ.

وَقَدْ بَيَّنَ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ : «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ»، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ.

وَقَالَ الْعُلَمَاءُ : الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ جَانِبَ الْمُدَّعِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَقُولُ خِلَافَ الظَّاهِرِ، فَكُلِّفَ الْحُجَّةَ الْقَوِيَّةَ، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ، لِأَنَّهَا لَا تَجْلِبُ لِنَفْسِهَا نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ عَنْهَا ضَرَرًا، فَيَقْوَى بِهَا ضَعْفُ الْمُدَّعِي، وَجَانِبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَوِيٌّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فَرَاغُ ذِمَّتِهِ. فَاكْتُفِيَ مِنْهُ بِالْيَمِينِ، وَهِيَ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ، لِأَنَّ الْحَالِفَ يَجْلِبُ لِنَفْسِهِ النَّفْعَ وَيَدْفَعُ الضَّرَرَ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ." اهـ

 

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (16/ 66)

وإنَّما كانت اليمين على المدَّعَى عليه ؛ لأنَّ الأصل براءة ذمته عمَّا طُلِبَ منه ، وهو متمسّك به . لكن يمكن أن يقال : قد شغلها بما طلب منه ، فيدفع ذلك الاحتمال عن نفسه باليمين إن شاء .

 

فتح الباري لابن حجر (5/ 283)

وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْجُمْهُورِ بِحَمْلِهِ عَلَى عُمُومِهِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ اخْتِلَاطٌ أَمْ لَا وَعَنْ مَالِكٍ لَا تَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ إِلَّا عَلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي اخْتِلَاطٌ لِئَلَّا يَبْتَذِلَ أَهْلُ السَّفَهِ أَهْلَ الْفَضْلِ بِتَحْلِيفِهِمْ مِرَارًا." اهـ[2]

 

إكمال المعلم بفوائد مسلم (5/ 556) :

"وأجمع العلماء على استحلاف المدعى عليه فى الأموال إما مطلقة أو بعد موجب الخلطة أو الشبهة على ما تقدم." اهـ

 

شرح النووي على مسلم (12/ 3)

وَهَذَا الْحَدِيثُ قَاعِدَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْإِنْسَانِ فِيمَا يَدَّعِيهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ أَوْ تَصْدِيقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ طَلَبَ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهِ لَا يُعْطَى بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أُعْطِيَ بِمُجَرَّدِهَا لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَاسْتُبِيحَ وَلَا يُمْكِنُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَصُونَ مَالَهُ وَدَمَهُ وَأَمَّا الْمُدَّعِي فَيُمْكِنُهُ صِيَانَتُهُمَا بِالْبَيِّنَةِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ : دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا أَنَّ الْيَمِينَ تَتَوَجَّهُ عَلَى كُلِّ مَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ حَقٌّ سَوَاءٌ كان بينه وبين المدعى اختلاطا أَمْ لَا وَقَالَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ إِنَّ الْيَمِينَ لَا تَتَوَجَّهُ إِلَّا عَلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ خُلْطَةٌ لِئَلَّا يَبْتَذِلَ السُّفَهَاءُ أَهْلَ الْفَضْلِ بِتَحْلِيفِهِمْ مِرَارًا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ فَاشْتُرِطَتِ الْخُلْطَةُ دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَفْسَدَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْخُلْطَةِ فَقِيلَ هِيَ مَعْرِفَتُهُ بمعاملته ومدينته أبشاهد أَوْ بِشَاهِدَيْنِ وَقِيلَ تَكْفِي الشُّبْهَةُ وَقِيلَ هِيَ أَنْ تَلِيقَ بِهِ الدَّعْوَى بِمِثْلِهَا عَلَى مِثْلِهِ وَقِيلَ أَنْ يَلِيقَ بِهِ أَنْ يُعَامِلَهُ بِمِثْلِهَا،

وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ الْبَابِ وَلَا أَصْلَ لِاشْتِرَاطِ الْخُلْطَةِ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ

 

 

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (16/ 65)

وهذا الحديث أصل من أصول الأحكام ، وأعظم مرجع عند التنازع والخصام ، يقتضى ألا يحكم لأحد بدعواه وإن كان فاضلاً شريفًا - في حقٍّ من الحقوق - وإن كان محتقرًا يسيرًا - حتَّى يستند المدَّعي إلى ما يقوي دعواه ، وإلا فالدَّعاوي متكافئة ، والأصل : براءة الذمم من الحقوق ، فلا بدَّ مما يدلّ على تعلُّق الحق بالذمَّة ، وتترجَّحُ به الدعوى .

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (30/ 19_21)

في فوائده:

1 - (منها): بيان أن اليمين على المدّعى عليه، والبيّنة على المدّعي.

2 - (ومنها): ما قال النوويّ - رحمه الله -: وهذا الحديث قاعدة كبيرةٌ من قواعد أحكام الشرع، ففيه أنَّه لا يُقْبَل قول الإنسان فيما يدّعيه بمجرد دعواه، بل يَحتاج إلى بيّنة، أو تصديق المدعَى عليه، فإن طلب يمين المدعَى عليه فله ذلك، وقد بَيَّن - صلى الله عليه وسلم - الحكمة في كونه لا يُعْطَى بمجرد دعواه؛ لأنه لو كان أُعطي بمجردها لادَّعَى قوم دماء قوم وأموالهم، واستبيح، ولا يمكن المدعَى عليه أن يصون ماله ودمه، وأما المدعي فيمكنه صيانتهما بالبينة. انتهى ["شرح النوويّ" 12/ 3].

3 - (ومنها): أنَّه استُدِلّ بقوله: "اليمين على المدعَى عليه" للجمهور بحمله على عمومه، في حقّ كل واحد، سواء كان ببن المدعي والمدعى عليه اختلاط أم لا، وعن مالك: لا تتوجه اليمين إلا على من بينه وبين المدعي اختلاط؛ لئلا يَبتَذِل أهل السَّفَه أهلَ الفضل بتحليفهم مرارًا، وقريب من مذهب مالك قول الإصطخري من الشافعية: إن قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدَّعي، لم يُلتفت إلى دعواه، قاله في "الفتح" ["الفتح" 6/ 549، كتاب "الشهادات" رقم (2668)]___

وقال النوويّ - رحمه الله -: وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعيّ، والجمهور، مِنْ سلف الأمة وخلفها، أن اليمين تتوجه على كل مَن ادُّعِي عليه حقّ، سواء كان بينه وبين المدعِي اختلاط أم لا، وقال مالك، وجمهور أصحابه، والفقهاء السبعة، فقهاء المدينة: إن اليمين لا تتوجه إلا على من بينه وبينه خُلْطة؛ لئلا يَبتذِل السفهاءُ أهلَ الفضل بتحليفهم مرارًا في اليوم الواحد، فاشتُرطت الخلطة دفعًا؛ لهذه المفسدة، واختلفوا في تفسير الْخُلْطة، فقيل: هي معرفته بمعاملته، ومداينته، بشاهد، أو بشاهدين، وقيل: تكفي الشبهة، وقيل: هي أن تليق به الدعوى بمثلها على مثله، وقيل: أن يليق به أن يعامله بمثلها، ودليل الجمهور حديث الباب، ولا أصل لاشتراط الْخُلطة في كتاب، ولا سُنَّة، ولا إجماع. انتهى ["شرح النوويّ" 12/ 3].

4 - (ومنها): أنَّه استُدِلّ بقوله: "لادّعَى ناس دماء ناس وأموالهم" على إبطال قول المالكية في التدمية، ووجه الدلالة تسويته - صلى الله عليه وسلم - بين الدماء والأموال.

[وأجيب]: بأنهم لم يُسندوا القصاص مثلًا إلى قول المدعي، بل للقَسامة، فيكون قوله ذلك لَوْثًا يقوّي جانب المدعي في بداءته بالأيمان، ذَكَره في "الفتح" [6/ 549، كتاب "الشهادات" رقم (2668)].

5 - (ومنها): ما قال ابن دقيق العيد - رحمه الله - : الحديث دليل على أنَّه لا يجوز الحكم إلا بالقانون الشرعيّ الذي رُتِّب، وإن غلب على الظنّ صِدْق المدعِي، ويدل على أن اليمين على المدعَى عليه مطلقًا، وقد اختلف الفقهاء في اشتراط أمر آخر في وجه اليمين على المدعى عليه.

وفي مذهب مالك وأصحابه: تصرفات بالتخصيصات لهذا العموم، خالفهم فيها غيرهم.

منها: اعتبار الخلطة بين المدعي والمدعى عليه في اليمين.

ومنها: أن من ادعى سببًا من أسباب القصاص: لم تجب به اليمين، إلا أن يقيم على ذلك شاهدًا فتجب اليمين.____

ومنها: إذا ادعى رجل على امرأة نكاحًا، لم يجب له عليها اليمين في ذلك، قال سحنون منهم: إلا أن يكونا طارئين.

ومنها: أن بعض الأمناء - ممن يَجعل القول قوله - لا يوجبون عليه يمينًا.

ومنها: دعوى المرأة طلاقًا على الزوج.

وكل من خالفهم في شيء من هذا يستدل بعموم هذا الحديث. انتهى ["إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" 3/ 161 - 162].

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح؛ لعموم حديث الباب، والله تعالى أعلم.

6 - (ومنها): ما تقدَّم في قصّة المرأتين، أن فيه مشروعيّة وَعْظ من تتوجّه عليه اليمين بالآية الكريمة، ونحوها؛ ليرتدع عن الإقدام على اليمين الكاذبة، كما اتّفق لهذه المرأة، فقد اعترفت لَمّا وعظوها بالآية.

7 - (ومنها): أن في أمر ابن عبّاس - رضي الله عنهما - بتلاوة الآية الإشارة إلى العمل بعموم الآية، دون النظر إلى خصوص سببها، فإنها كما تقدَّم نزلت في الأشعث بن قيس - رضي الله عنه - كانت بينه وبين رجل أرض، فجحده إياها، وقد تقدّمت قصّته في "المساقاة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب." اهـ

 

المسالك في شرح موطأ مالك (6/ 295)

والحكمةُ في ذلك بَيِّنَةٌ، فإنّ قولَ المتداعيين قد تعارضا وتَسَاوَيَا، وليس قبُول أحدِهما أَوْلَى من قبُولِ الآخر، فشرعَ اللهُ التَّرجيحَ، ولهذا قال علماؤنا: لا يكونُ الشّاهدُ واليمينُ إلّا في الأموال وما جَرَى مجراها؛ لأنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- إنّما قَضَى به فيها، ولم يَقوَ القوّةَ الّتي تُراقُ بها الدِّماءُ وتقامُ بها الحدودُ؛ فإنّ هذه معانٍ تسقُطُ بالشُّبهةِ، والشُّبهةُ بالشَّاهدِ واليمين قائمةٌ، فاقتُصِرَ بها على مَورِدِهَا وهي الأموال.

 

جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (2/ 235)

«لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ» ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَّعِيَ الدَّمِ وَالْمَالِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَيِّنَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ ذَلِكَ أَنَّ مَنِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ مَوْرُوثَهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا قَوْلُ الْمَقْتُولِ عِنْدَ مَوْتِهِ: جَرَحَنِي فُلَانٌ، أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِهِ لَوْثًا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ، وَإِنَّهُمْ جَعَلُوهُ لَوْثًا يُقْسِمُ مَعَهُ الْأَوْلِيَاءُ، وَيَسْتَحِقُّونَ الدَّمَ.

وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ أَيْضًا مَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَلَاعَنَهَا، فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ دَمُهَا بِمُجَرَّدِ لِعَانِهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَ قَوْلَهُ الْجُوزَجَانِيُّ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] [النُّورِ: 8] ،

 

التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثا النووية (ص: 76) لإسماعيل بن محمد بن ماحي السعدي الأنصاري (المتوفى: 1417هـ) :

يستفاد منه:

1 - أنه لا يحكم لأحد بمجرد دعواه.

2 - أنه لا يجوز الحكم إلا بما رتبه الشرع، وإن غلب على الظن صدق المدعى.

3 - أن اليمين على المدعى عليه مطلقا.

 

شرح الأربعين النووية للعثيمين (ص: 329) :

"من فوائد هذا الحديث:

1. أن الدعوى تكون في الدماء والأموال، لقوله "أَموَال قَوم وَدِمَاءهُم" وهو كذلك، وتكون في الأموال الأعيان، وفي الأموال المنافع، كأن يدعي أن هذا أجره بيته لمدة سنة فهذه منافع، وتكون أيضاً في الحقوق كأن يدعي الرجل أن زوجته لا تقوم بحقه أو بالعكس، فالدعوى بابها واسع، لكن هذا الضابط، وذكر المال والدم على سبيل المثال، وإلا قد يدعي حقوقاً أخرى.

2. أن الشريعة جاءت لحماية أموال الناس ودمائهم عن التلاعب..

3. أن البينة على المدعي، والبينة أنواع منها: الشهادة، قال الله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) (البقرة: الآية282)____

ومن البينة : ظاهر الحال فإنها بينة، مثال ذلك: رجل ليس عليه عمامة يلحق رجلاً عليه عمامة وبيده عمامة ويقول: يا فلان أعطني عمامتي. فالرجل الذي ليس عليه عمامة معه ظاهر الحال، لأن الملحوق عليه عمامة وبيده عمامة ولم تَجرِ العادة بأن الإنسان يحمل عمامة وعلى رأسه عمامة.

فالآن شاهد الحال للمدعي، فهو أقوى، فنقول في هذه الحال: الذي ادعى أن العمامة التي في يد الهارب له هو الذي معه ظاهر الحال، لكن لا مانع من أن نحلفه بأنها عمامته.

كذلك أيضاً لو اختلف الزوجان في أواني البيت، فقالت الزوجة: الأواني لي، وقال الزوج: الأواني لي. فننظر حسب الأواني: إذا كانت من الأواني التي يستعملها الرجال فهي للزوج، وإذا كانت من الأواني التي يستعملها النساء فهي للزوجة، وإذا كانت صالحة لهما فلابد من البينة على المدعي.

فإذاً القرائن بينة، وعليه فالبينات لا تختص بالشهود.

ومن العمل بالقرائن : قصة سليمان عليه السلام، فإن سليمان عليه السلام مرت به امرأتان معهما ولد، وكانت المرأتان قد خرجتا إلى البر فأكل الذئب ولد الكبرى، واحتكمتا إلى داود عليه السلام، فقضى داود عليه السلام بأن الولد للكبيرة اجتهاداً منه، لأن الكبيرة قد تكون انتهت ولادتها والصغيرة في مستقبل العمر.

فخرجتا من عند داود عليه السلام وكأنهما - والله أعلم - في نزاع، فسألهما سليمان عليه السلام فأخبرتاه بالخبر، فدعا بالسكين وقال: سأشق الولد نصفين، أما الكبيرة فوافقت، وأما الصغيرة فقالت: الولد ولدها يا نبي الله، فقضى به للصغيرة [خ م] ، لأن هنا بينة وهي القرينة الظاهرة التي تدل على أن الولد للصغيرة لأنها أدركتها____الشفقة وقالت: كونه مع كبيرة ويبقى في الحياة أحب إلي من فقده الحياة، والكبيرة لا يهمها هذا، لأن ولدها قد أكله الذئب.

كذلك قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز لما قال الحاكم: (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ*وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ*فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (يوسف: 26-28)

ومن ذلك أيضاً: امرأة ادعت على زوجها أن له سنة كاملة لم ينفق، والرجل يشاهد هو يأتي للبيت بالخبز والطعام وكل ما يحتاجه البيت، وليس في البيت إلا هو وامرأته، وقال هو: إنه ينفق فالظاهر مع الزوج، فلا نقبل قولها وإن كان الأصل عدم الإنفاق لكن هنا ظاهر قوي وهو مشاهدة الرجل يدخل على بيته بالأكل والشرب وغيرهما من متطلبات البيت.

في القسامة: القسامة أن يدعي قوم قتل لهم قتيل بأن القبيلة الفلانية قتلته، وبين القبيلتين عداوة، فادعت القبيلة التي لها القتيل أن هذه القبيلة قتلت صاحبهم وعينت القاتل أنه فلان، فهنا مدعي ومدعىً عليه، المدعي أولياء المقتول، والمدعى عليه القبيلة الثانية.

فإذا قلنا: البينة على المدعي واليمين على من أنكر وقلنا البينة ليست الشاهد، بل ما أبان الحق اختلف الحكم.

ولو قلنا إن البينة الشاهد لقلنا للمُدَّعين هاتوا بينة على أن فلاناً قتله وإلا فلا شيء لكم،

ولكن السنة جاءت على خلاف هذا، جاءت بأن المُدَّعين يحلفون خمسين يميناً على هذا الرجل أنه قتل صاحبهم [خ م] ، فإذا حلفوا فهو كالشهود تماماً، فيأخذونه برمته ويقتلونه.____

وهذه وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقضى بها هكذا، على أنه إذا حلف خمسون رجلاً من أولياء المقتول فإنهم يستحقون قتل المدعى عليه، وهذا هو الحق، وإن كان بعض السلف والخلف أنكر هذا وقال: كيف يُحكم لهم بأيمانهم وهم مدعون.

فيقال: السنة هنا مطابقة تماماً للواقع، لأن مع المُدَّعين قرينة تدل على أنهم قتلوا صاحبهم وهي العداوة، فهذا القتيل رؤي عند القبيلة الأخرى المدعى عليها، ولا نقول: هاتوا شهوداً، لأن قرينة الحال أقوى من الشهود.

فإذا قال قائل: لماذا كررت الأيمان خمسين يميناً؟

فالجواب: لعظم شأن الدماء، فليس من السهل أن نقول احلف مرة واقتل المدعى عليه.

فإن قال قائل: كيف يحلف أولياء المقتول على شخص معين وهم لا يدرون عنه؟

فالجواب : أننا لا نسلم أنهم لا يدرون عنه، فربما يكونون شاهدوه وهو يقتل صاحبهم، وإذا سلمنا جدلاً أو حقيقة أنهم لم يشاهدوه فلهم أن يحلفوا عليه بناء على غلبة الظن وتتم الدعوى، والحلف بناء على غلبة الظن جائز.

ولذلك القسامة قال عنها بعض العلماء: إنها تخالف القياس من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أن الأيمان صارت في جانب المُدَّعين، والأصل أن اليمين في جانب المنكر.

الوجه الثاني: أنها كررت إلى خمسين يميناً.

الوجه الثالث: أن أولياء المقتول يحلفون على شخص قد لايكونون شاهدوا قتله.

وسبق الجواب عن هذا، وأن القسامة مطابقة تماماً للقواعد الشرعية.

4. فيه أنه لو أنكر المنكر وقال لا أَحلف فإنه يقضي عليه بالنكول،

ووجه ذلك أنه إذا أبى أن يحلف فقد امتنع مما يجب عليه، فيحكم عليه بالنكول، والله أعلم.

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (7/ 213_216)

* ما يؤخذ من الحديث:

1 - يبين النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أنَّ من ادَّعَى على أحدٍ دعوى، فإنَّ عليه الإثبات والبينَةَ على دعواه، فإنْ لم يكن لديه بينةٌ، فعلى المدعى عليه اليمين -لنفي ما ادُّعِيَ- عليه به من حقٍّ.

2 - ثمَّ ذكر -صلى الله عليه وسلم- الحكمة في كون البينة على المدعي، واليمين على من المنكِر، وهي أنَّه لو أُعْطِيَ كُلُّ من ادَّعَى دعوى ما ادعاه، لادَّعَى كلُّ من لا يراقب الله تعالى على الأبرياء دماءً وأموالاً، يبهتونهم بها؛ ولكن الحكيم العليم جعل حدًّا وحكماً؛ لتخف وطأة الشر، ويقل الظلم والفساد.

قال ابن دقيق العيد: الحديث يدل على أنَّه لا يجوز الحكم إلاَّ بالقانون الشرعي الذي رُتِّب، وإنْ غلب على الظنِّ صدق المدَّعِي.

3 - أنَّ اليمين على المدَّعى عليه، وأنَّ البينة على المدعي، كما في رواية البيهقي؛ وذلك أنَّ اليمين تكون في الجانب القوي من المترافعين، وجانب المدعى عليه بلا بينة من المدعي هو القوي؛ لأن الأصل براءة ذمته، فاكتفي منه باليمين.

قال ابن القيم: الذي جاءت به الشريعة: أن اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعيَيْن، فأي الخصمين ترجح جانبه، جعلت اليمين من جهته.

وهذا مذهبُ جمهورِ العلماء؛ كأهل المدينة، وفقهاء المحدِّثين؛ كأحمد، والشَّافعي، ومالك، وغيرهم.

4 - البيِّنَة عند كثيرٍ من أهل العلم هي الشهود، والأيمان، والنكول.

وهي عند المحقِّقين: اسمٌ لكلِّ ما أبان الحقَّ وأظهره، من الشهود، وقرائن الحال، وَوَصْفِ المدَّعي في نحو اللُّقَطَة.

قال ابن رجب: كل عينٍ لم يدعها صاحب اليد، فمن جاء فوصفها بأوصافها الخفية، فهيَ له، فإنْ نازعه أحدٌ ما في يده، فهي لصاحب اليد___بيمينه، مالم يأت المدَّعي ببينةٍ أقوى من اليد.

قال ابن القيم؛ البيِّنة في كلام الله تعالى، وكلام رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وكلام الصحابة: اسمٌ لما يبيِّن الحق، فهي أعم من البيِّنة في اصطلاح الفقهاء، حيث خصوها بالشَّاهد أو الشَّاهد واليمين، ولا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمَّن حجر كلام الله، وكلام رسول -صلى الله عليه وسلم-، فيقع في ذلك الغلط في فهم النصوص، وحملها على غير مراد المتكلِّم منها.

5 - حديث الباب قاعدةٌ عظمى من قواعد القضاء؛ فعليها يدور غالب الأحكام.

6 - هذا حديثٌ عظيم القدر، فهو أصلٌ من أصول القضاء والأحكام؛ فإنَّ القضاء بين النَّاس إنَّما يكون عند التنازع، هذا يدَّعي على هذا حقًّا من الحقوق، والآخر ينكره ويتبرَّأ منه.

7 - من ادَّعى عيناً، أو ديناً، أو حقًّا على غيره، وأنكر المدَّعَى عليه الدعوى، فالأصل مع المنكِر؛ لأنَّ الأصل براءة الذِّمة.

فإنْ أتى المدَّعي ببينةٍ تثبت ذلك الحقَّ، ثبت له به، وإنْ لم يأتِ ببينةٍ، فليس له على المدَّعَى عليه إلاَّ اليمينُ على نفي دعواه.

8 - الحديث يدل على مذهب جمهور العلماء، ومنهم الشَّافعية، والحنابلة: على أنَّ اليمين متوجِّهةٌ على المدعى عليه، سواءٌ كان بينه وبين المدَّعي اختلاطٌ، أم لا.

أمَّا مذهب المالكية، وأهل المدينة، ومنهم الفقهاء السبعة: فإنَّ اليمين لا تتوجَّه إلاَّ على من بينه وبين المدَّعِي خلطة؛ لئلا يبتذل السفهاء أهل الفضل بتحليفهم.

9 - أمَّا من كان عليه دينٌ، أو حقٌّ ثابتٌ بذمته، وطولب به، فادَّعى أنَّ ذمته برئت بوفاءٍ، أو إسقاطٍ، أو صلحٍ، أو غير ذلك، فالأصل أنَّ ما في ذمته باقٍ، فإنْ لم يأت ببينةٍ على الوفاء والبراءة، فإنَّ له على صاحب الحقِّ اليمينَ على أنَّ____حقَّه لا يزال باقياً بذمته؛ لأنَّ الأصل بقاء ما كان على ما كان.

10 - ومثل ذلك دعوى العيوب، ودعوى الشروط، والآجال، والوثائق، الأصلُ عدَمُهَا، وَعَدَمُ الالتزامِ بها، ومن ادَّعاها فعليه البينةُ، فإنْ لم يكنْ بينةٌ، فعلى منكرها اليمين.

11 - فهذا الحديثُ أصلُ المرافعات، والمنهجُ الَّذي رَسَمَتْهُ هذه القاعدةُ في إنهاءِ الدَّعوى، هو سبيلُ فصلٍ في منع الدَّعاوى الباطلة، وإثباتِ الحقوق الصحيحة.

12 - قال المحقِّقون من العلماء: إنَّ الشريعة جعلت اليمين في أقوى جانبٍ من المدَّعي، أو المدعى عليه، والله أعلم.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنَّ البينة على المدَّعِي، واليمين على من أنكر.

13 - قال ابن رجب في شرح الأربعين: معنى قوله: "البينة على المدَّعي" يعني: أنَّه يَسْتَحق بها ما ادَّعَى؛ لأَنَّها واجبة يؤخذ بها.

ومعنى قوله: "اليمين على المدَّعى عليه" أي: يبرأ بها؛ لأَنَّها واجبةٌ عليه يؤخذ بها على كلِّ حالٍ.

14 - وقال رحمه الله تعالى: المدعي إذا أقام شاهداً، فإنَّه قد قَوِيَ جانبه، فإذا حلف معهُ قُضِيَ له.

15 - وقال: البينة كل ما بيَّن صحَّة دعوى المدَّعي، وشهد بصدقه، فاللوث مع أقسامه بيِّنة، والشاهد مع اليمين بينة.

16 - وقال: قوله: "لو يعطى النَّاس بدعواهم ... " يدل على أنَّ مدَّعي الدَّم والمال لابدَّ له من بينة تدل على ما ادَّعاه، ويدخل في عموم ذلك: أنَّ من ادَّعى عليه رجل أنَّه قتل مورِّثه، وليس معه إلاَّ قول المقتول عند موته: جرحني فلان، أنَّه لا يكتفي بذلك، ولا يكون بمجرَّده لوثاً؛ وهذا قول الجمهور.____خلافاً للمالكية، فإنَّهم جعلوه لوثاً يقسم معه الأولياء، ويُسْتَحَقُّ الدم.

17 - وقال: قوله: "واليمين على المدَّعى عليه" يدل على أنَّ كلَّ من دُعِيَ عليه دعوى، فأنكر، فإنَّ عليه اليمين؛ وهذا قول أكثر الفقهاء.

وقال مالك: إنَّما تجب اليمين على المنكر، إذا كان بين المتداعيَيْنِ نوع مخالطة؛ خوفاً من أنْ يبتذل السفهاء على الرؤساء بطلب أيمانهم.

قال شيخ الإسلام: كنا عند نائب السلطنة وأنا إلى جانبه، فادَّعى بعض الحاضرين أنَّ له قِبَلِي وديعةً، وسأل إجلاسي معه وإحلافي، فقلت لقاضي المالكيَّة، وكان حاضراً: أتسوغ هذه الدعوى، وتسمع؟ فقال: لا، فقلت: فما مذهبُك في مثل ذلك؟ فقال: تعزير المدَّعي، قلت: فاحكم بمذهبك، فأقيمَ المدَّعِي، وأُخرج.

18 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، "البينة على المدَّعي، واليمين على من أنكر"؛ ياله من كلام ما أبلغه، وأجمعه لجميع الوقائع والجزئيات بين النَّاس في جميع الحقوق؛ فهو أصلٌ تنطبق عليه جميع المشكلات.

فيدخل في هذا أمور:

الأوَّل: من ادَّعى حَقًّا على غيره، وأنكر المدَّعَى عليه.

الثاني: من ثبت عليه حقٌّ، ثمَّ ادَّعى البراءةَ منه، وأنكر صاحب الحق.

الثالث: من ثبتت يده على شيءٍ، وادَّعى آخر أنَّه له، وأنكر صاحب اليد.

الرَّابع: إذا اتفقا على عقد، وادَّعى أحدهما أنَّه مختلٌّ لفقد شرط ونحوه، وأنكر الآخر، فالقول قول مدَّعِي السَّلامة.

الخامس: من ادَّعى شرطاً، أو عيباً، أو أجلاً، ونحو ذلك، وأنكر الآخر، فالقول قول المنكر.

إلى غير ذلك من الأمور التي تدخل تحت هذه القاعدة." اهـ

 

فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين للنووي وابن رجب رحمهما الله (ص: 115)

وكما أنَّ المدَّعي عليه البيِّنة فيما يدَّعيه من الأمور الدنيوية، فإنَّ على المدَّعي البيِّنة في الأمور الأخرويَّة، فمَن ادَّعى محبَّةَ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يكون صادقاً في دعواه إذا اتَّبع الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "هذه الآية الكريمة حاكمةٌ على كلِّ مَن____ادَّعى محبَّة الله وليس هو على الطريقة المحمَّدية، فإنَّه كاذب في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمَّدي والدِّين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، ولهذا قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبَّتكم إيَّاه، وهو محبَّته إيَّاكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تُحِب، إنَّما الشأن أن تُحَبَّ، وقال الحسن البصري وغيرُه من السلف: زعم قومٌ أنَّهم يُحبُّون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية".

 

فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين للنووي وابن رجب رحمهما الله (ص: 116) :

مِمَّا يُستفاد من الحديث:

1 اشتمال الشريعة على حفظ أموال الناس ودمائهم.

2 بيان الرسول صلى الله عليه وسلم الطرق التي يُفصَل فيها بين المتخاصمين.

3 إذا لم يُقرَّ المدَّعى عليه، فإنَّ على المدَّعي إقامة البيِّنة على دعواه.

4 إذا لم تُقم البيِّنة حُلِّف المدَّعى عليه وبرئت ساحتُه، وإن لم يحلف قُضي عليه بالنُّكول." اهـ

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (6/ 195)

وهذا الحديث يستفاد منه فوائد: أولا: سد باب الفساد لقوله: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء قوم وأموالهم"، وهذه هي قواعد الشريعة العامة، لأن الشريعة إنما جاءت باستجلاب المصالح ودفع المفاسد وتأمل هذا في جميع مشروعاتها.

ثانيا: ظاهر الحديث أن الدعوى مقبولة بأي حال كان، وقد ذكرنا أن ذلك مشروط فيما إذا كانت الدعوى ممكنة، فأما دعوى المستحيل فإنها لا [تقبل]، وضربنا لذلك مثلا.

ولكن هل من المستحيل ما يستحيل عادة بحسب مقام المدعى عليه؟ إذا فرضنا أن رجلا من الناس قال: إن الملك اشترى مني حزمة علف هل يمكن هذا عادة؟ لا، جاء بالملك عند القاضي قال: هذا اشترى مني حزمة علف بربع ريال، يعني: فرضا، هل نقول: إن المستحيل ما استحال عادة وواقعا؟ يرى الإمام مالك رحمه الله أن الدعوى على مثل هؤلاء بمثل هذا الشيء الصغير لا تقيل، لكن لو ادعى أن يستولي الأمير أو الوزير على مثل هذا، وما ذهب إليه الإمام مالك هو الصواب؛ لأننا لو قبلنا سماع الدعوى على مثل هؤلاء بمثل هذه الأشياء الزهيدة لحصل في ذلك مضرة، كل إنسان ادعى على إنسان ذي شرف وجاه، ويريد أن يحطم شرفه____وجاهه يدعي عليه ويحضره للقاضي، وربما إذا امتنع أرسلوا إليه الشرط يحضرونه وهذه مشكلة، فما ذهب إليه الإمام مالك لا شك أنه قول قوي جدا.

ومن فوائد الحديث: أن كل دعوى لابد فيها من بينة، وهذا وإن كان في الخصومات بين الناس، لكل يشمل حتى في الأحكام الشرعية، أي إنسان يدعي أن هذا حرام أو هذا حلال أو هذا واجب، فإننا نقول: له هات البينة، وما هي بينة التحليل والتحريم والإيجاب؟ الأدلة وهي أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس الصحيح، فلابد لكل مدع من بينة.

ومن فوائد هذا الحديث: أن البينة هنا مطلقة، ولكنها ذكرنا أنها ما يبين به الحق على حسب ما رتب في الشرع، فمثلا: بينة الزنا أربعة أشياء، بينة مدعي الفقر بعد [أن كان غنيا] ثلاثة، بينة السرقة من أجل القطع شاهدان ومن أجل ضمان المال شاهدان أو شاهد وامرأتان أو شاهد ويمين حسب ما ذكرنا سابقا." اهـ



[1]  وفي المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (16/ 66) لأبي العباس القرطبي : "المدَّعَى عليه : هو المطلوب منه . والمدَّعِي : هو الطالب ." اهـ

وفي الذخيرة للقرافي (6/ 54) :

"فَلَيْسَ الْمُدَّعِي الطَّالِبَ وَلَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمَطْلُوبَ، بَلْ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى خِلَافِ أَصْلٍ أَوْ ظَاهر فَهُوَ الْمُدَّعِي - وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَالظَّاهِرُ يَنْقَسِمُ إِلَى الْعَادَةِ وَظَاهِرِ الْحَالِ وَالْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَالْمَقَالِيَّةِ وَكُلِّ مَا أَفَادَ ظَنَّ الصِّدْقِ كَمُدَّعِي شَغْلَ الذِّمَّةِ وَالْأَصْلُ براءتها كولادة الْإِنْسَانِ بَرِيئًا مِنْ جَمِيعِ الْحُقُوقِ وَمُدَّعِي الرَّدِّ وَقَدْ قَبَضَ بِبَيِّنَةٍ فَالْعَادَةُ تُؤْثِرُ سُوءَ الظَّنِّ فِي الرَّدِّ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَكَمُدَّعِي إِنْفَاقِ مَالِ الْمَحْجُورِ فِيمَا لَا يُشْبِهُ عَادَتَهُ فَهَؤُلَاءِ مَطْلُوبُونَ وَهُمْ مُدَّعُونَ وَعَلَيْهِمُ الْبَيِّنَةُ،

وَمَنْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى وَفْقِ أَصْلٍ أَوْ ظَاهِرٍ فَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيُصَدَّقُ مَعَ يَمِينِهِ كَخُصُومِ هَؤُلَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ أَرْجَحُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا وَالْآخَرُ الْمُدَّعِي وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَتَخَرَّجُ فُرُوعُ التَّدَاعِي فِي الْقِرَاضِ وَغَيْرِهِ." اهـ

[2]  وفي المعلم بفوائد مسلم (2/ 402) للمازري :

"وقد يتعلق بهذا الحديث من يوجب اليمينَ على المدَّعَى عليه من غير اعتبار خلطة أخذًا بعُمومِهِ وظاهره من غير تقييد بخلطة. ومذهبُ مالك مراعاتها لضربٍ من المصلحة، وذلك أنه لَوْ وجبت لكل أحد على كل أحد لابتذل السّفَهَاءُ العلماءَ والأفاضلَ بتحليفهم مرارا كثيرة في يوم واحد فجعَل مراعاة الخلطة حاجزًا من ذلك." اهـ


Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين