شرح الحديث السادس والخمسون : لا طاعة إلاّ في المعروف (من كتاب بهجة قلوب الأبرار)

 

الشارح : عبد القادر أبو فائزة البوجيسي


الحديث السادس والخمسون : لا طاعة إلاّ في المعروف.

عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيةٍ. إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ" متفق عليه

 

تخريج الحديث :

 

أخرجه : البخاري في صحيحه (5/ 161 و 9/ 63 و 88) (رقم : 4340 و 7145 و 7257)، ومسلم في صحيحه (3/ 1469) (رقم : 1840)، وأبو داود في سننه (3/ 40) (رقم : 2625)، والنسائي في سننه (7/ 159) (رقم : 4205)، وفي السنن الكبرى (8/ 71 و 72) (رقم : 8668 و 8669)    :

عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا[1]، فَأَوْقَدَ نَارًا، وَقَالَ : (ادْخُلُوهَا)، فَأَرَادَ نَاسٌ أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ : (إِنَّا قَدْ فَرَرْنَا مِنْهَا)،

فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا :

«لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وَقَالَ لِلْآخَرِينَ قَوْلًا حَسَنًا، وَقَالَ: «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ»[2]

 

شرح الحديث :

 

قال العلامة المفسر الجليل الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي _رحمه الله_ في "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" ط. الوزارة (ص: 120) :

هذا الحديث: قيد في كلِّ مَنْ تَجِبُ طاعتُه من الولاةِ، والوالدَيْنِ والزوجِ، وغيرِهم. فإن الشارع أمر بطاعة هؤلاء.

وكل منهم طاعته فيما يناسب حاله، وكلها بالمعروف. فإن الشارع رد الناس في كثير مما أمرهم به إلى العرف والعادة، كالبر والصلة، والعدل والإحسان العام. فكذلك طاعة من تجب طاعته.

 

وقال الجرجاني في التعريفات (ص: 221) : "المعروف : هو كل ما يحسن في الشرع." اهـ

 

وفي المفردات في غريب القرآن (ص: 561) للراغب :

"(والمَعْرُوفُ) : اسمٌ لكلّ فعل يُعْرَفُ بالعقل أو الشّرع حسنه، والمنكر: ما ينكر بهما. قال: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران/ 104] ، وقال تعالى : وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ

[لقمان/ 17] ، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً [الأحزاب/ 32]." اهـ

 

وفي المفردات في غريب القرآن (ص: 823) :

"والمُنْكَرُ: كلُّ فِعْلٍ تحكُم العقولُ الصحيحةُ بقُبْحِهِ، أو تتوقَّفُ في استقباحِهِ واستحسانه العقولُ، فتحكم بقبحه الشّريعة، وإلى ذلك قصد بقوله: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة/ 112] ، كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة/ 79] ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران/ 104] ، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت/ 29]." اهـ

 

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (4/ 57) للفيروزآبادي :

"والمعروف: اسم لكلّ فعل يُعرف بالشرع والعقل حُسنُه." اهـ

 

ثم قال العلامة المفسر الجليل الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي _رحمه الله_ في "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" ط. الوزارة (ص: 120) :

وكلها تقيد بهذا القيد، وأن من أمر منهم بمعصية الله بفعلِ محرمٍ، أو تَرْكِ واجبٍ، فلا طاعةَ لمخلوق في معصية الله، فإذا أمر أحدهم بقتل معصوم، أو___ضربه، أو أخذ ماله، أو بتركِ حجٍّ واجبٍ، أو عبادةٍ واجبةٍ، أو بقطيعة من تجب صِلَتُه، فلا طاعة لهم، وتقدم طاعة الله على طاعة الخلق.

ويفهم من هذا الحديث : أنه إذا تعارضت طاعة هؤلاء الواجبة، ونافلة من النوافل، فإن طاعتهم تقدم: لأن ترك النفل ليس بمعصية، فإذا نهى زوجته عن صيام النفل، أو حج النفل، أو أمر الوالي بأمر من أمور السياسة يستلزم ترك مستحب، وجب تقديم الواجب.

وقوله صلى الله عليه وسلم : «إنما الطاعة في المعروف» كما أنه يتناول ما ذكرنا، فإنه يتناول أيضا تعليق ذلك بالقدرة والاستطاعة، كما تعلق الواجبات بأصل الشرع.

وفي الحديث «عليكم السمع والطاعة فيما استطعتم» .

والله أعلم.

 

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ :

كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، يَقُولُ لَنَا: «فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ»

أخرجه البخاري في صحيحه (9/ 77) (رقم : 7202)، ومسلم في صحيحه (3/ 1490) (رقم : 1867)

 

من فوائد الحديث :

 

عمدة القاري شرح صحيح البخاري (14/ 221)

وَذكر عِيَاض: أجمع الْعلمَاء على وجوب طَاعَة الإِمَام فِي غير مَعْصِيّة وتحريمها فِي الْمعْصِيَة، وَقَالَ ابْن بطال: احْتج بِهَذَا الْخَوَارِج فَرَأَوْا الْخُرُوج على أَئِمَّة الْجور وَالْقِيَام عَلَيْهِم عِنْد ظُهُور جَوْرهمْ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور: أَنه لَا يجب الْقيام عَلَيْهِم عِنْد ظُهُور جَوْرهمْ وَلَا خلعهم إلاَّ بكفرهم بعد إِيمَانهم، أَو تَركهم إِقَامَة الصَّلَوَات، وَأما دون ذَلِك من الْجور فَلَا يجوز الْخُرُوج عَلَيْهِم إِذا استوطن أَمرهم وَأمر النَّاس مَعَهم، لِأَن فِي ترك الْخُرُوج عَلَيْهِم تحصين الْفروج وَالْأَمْوَال وحقن الدِّمَاء، وَفِي الْقيام عَلَيْهِم تفرق الْكَلِمَة، وَلذَلِك لَا يجوز الْقِتَال مَعَهم لمن خرج عَلَيْهِم عَن ظلم ظهر مِنْهُم،

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (32/ 80_81) :

"في فوائده :

1 - (منها): بيان وجوب طاعة الأمراء في غير معصية الله تعالى.

2 - (ومنها): بيان أَنَّ حُكْم الأمير فِي حَال الْغَضَب يَنْفُذ مِنْهُ مَا لَا يُخَالِف الشَّرْع.

3 - (ومنها): أَن الْغَضَب يُغَطِّي عَلَى ذَوِي الْعُقُول عقولهم.

4 - (ومنها): أنَّ الْإيمَان بِاللهِ يُنَجِّي مِنَ النَّار لِقَوْلِهِمْ: "إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ النَّارِ".

5 - (ومنها): أن الْفِرَار إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فِرَار إلَى الله، وَالْفِرَار إِلَى الله، يُطْلَق عَلَى الْإيمَان، قَالَ الله تَعَالَى: " {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)} [الذاريات: 50].

6 - (ومنها): ما قال القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -: قوله: "لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا،____إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" ظاهر في أنه تحرم الطاعة في المعصية المأمور بها، وأن المطيع فيها يستحقّ العقاب.

7 - (ومنها): ما قاله أيضًا: قوله: "وقال للآخرين قولًا حسنًا" يدلّ على مدح المصيب في المجتهدات، كما أنّ القول الأول يدلّ على ذمِّ المقصّر المخطئ وتعصيته، مع أنه ما كان تقدّم لهم في مثل تلك النازلة نصٌّ، لكنهم قصّروا حيث لَمْ ينظروا في قواعد الشريعة الكلية، ومقاصدها المعلومة الجليّة. انتهى (1).

8 - (ومنها): أَنَّ الْأَمْر الْمُطْلَق لَا يَعُمّ الْأَحْوَال؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوا الْأَمِير، فَحَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى عُمُوم الْأَحْوَال، حَتَّى فِي حَال الْغَضَب، وَفِي حَال الْأَمْر بِالْمَعْصِيَة، فَبَيَّنَ لَهُمْ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّ الْأَمْر بِطَاعَتِه، مَقْصُور عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي غَيْر مَعْصِيَة (2).

9 - (ومنها): أنه اسْتَنْبَطَ مِنْ هذا الحديث الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة، أَنَّ الْجَمْع مِنْ هَذِهِ الْأَمَة، لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى خَطَأ؛ لِانْقِسَامِ السَّرِيَّة قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ دُخُول النَّار، فَظَنَّهُ طَاعَة، وَمِنْهُمْ مَنْ فَهِمَ حَقِيقَة الْأَمْر، وَأَنَّهُ مَقْصُور عَلَى مَا لَيْسَ بمَعْصِيَةٍ، فَكَانَ اخْتِلَافهمْ سَبَبًا لِرَحْمَةِ الْجَمِيع، قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ مَنْ كَانَ صَادِق النِّيَّة، لَا يَقَع إِلَّا فِي خَيْر، وَلَوْ قَصَدَ الشَّرّ، فَإِنَّ الله يَصْرِفهُ عَنْهُ، وَلهَذَا قَالَ بَعْض أَهْل الْمَعْرِفَة: مَنْ صَدَقَ مَعَ الله، وَقَاهُ اللهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى الله، كَفَاهُ اللهُ (3)، والله تعالى أعلم." اهـ

 

 



[1]  وفي البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (32/ 76) للإثيوبي :

"وقال أبو العبّاس القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -: قوله: "رجلًا من الأنصار" ظاهرٌ في أنه ليس عبد الله بن حذافة، فإنه مهاجريّ، وذلك أنصاريّ، فافترقا، وقضيّة عبد الله بن حُذافة هي التي ذَكر منها ابن عبّاس - رضي الله عنهما - طرفًا، كما تقدَّم، فلا معنى لقول من قال: إن هذا الذي حكى عنه عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - هو عبد الله بن حُذافة، وكذلك لا معنى لقول من قال: إن ذلك الأمير إنما أمرهم بدخول النار ليختبر طاعتهم له، وقد قال في هذه الرواية: إنهم أغضبوه، وقال: وسكن غضبه عليهم، فأراد عقوبتهم بذلك، وهذه نصوصٌ أنه إنما حَمَله على ذلك غضبه عليهم. انتهى كلام القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -.

واستظهر الحافظ - رَحِمَهُ اللهُ - في "الفتح" تعدَّد القصَّة، وقال ما حاصله: إن التعدّد هو الذي يظهر لي؛ لاختلاف سياقهما، واسم أميرهما، والسبب في أمره بدخولهم النار، قال: ويَحْتَمِل الجمع بينهما بضرب من التأويل، ويُبعده وصف عبد الله بن حُذافة السهميّ القرشيء المهاجريّ بكونه أنصاريًّا، قال: ويَحْتَمِل الحمل على المعنى الأعمّ، أي: أنه نصر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجملة.

وإلى التعدّد جنح ابن القيِّم - رَحِمَهُ اللهُ -، وأما ابن الجوزيّ - رَحِمَهُ اللهُ -، فقال: قوله: "من الأنصار" وَهَمٌ من بعض الرواة، وإنما هو سهميّ.

قال الحافظ: ويؤيِّده حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند أحمد في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} الآية [النساء: 59] نزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس بن عديّ، بعثه رسول الله في سريّة. انتهى (2).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتضح بما ذُكر كلّه أن الأرجح تعدد الواقعة، وأن الرجل المبهم في حديث عليّ - رضي الله عنه - المذكور في الباب ليس هو عبد الله بن حُذافة، وإنما هو رجلٌ آخر من الأنصار - رضي الله عنهم - لَمْ يُعرف اسمه، والله تعالى أعلم. اهـ

[2]  صححه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح (2/ 1086) (رقم : 3665)

Komentar

Postingan populer dari blog ini

شرح الحديث 112 - 113 - الترغيب في نشر العلم والدلالة على الخير - من صحيح الرغيب

شرح الحديث 66 من رياض الصالحين