شرح الحديث 87 من بلوغ المرام

 

87 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ:

"أَتَى النَّبِيُّ _صلى الله عليه وسلم_ مِنَ الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، وَلَمْ أَجِدْ ثَالِثًا،

فَأَتَيْتُهُ بِرَوْثَةٍ، فَأَخَذَهُمَا وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: (إنَّها رِكْسٌ).

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وزَادَ أَحْمَدُ, وَالدَّارَقُطْنِيُّ: (ائْتِنِي بِغَيْرِهَا).

 

نص الحديث وشرحه:

 

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ:

"أَتَى النَّبِيُّ _صلى الله عليه وسلم_ مِنَ الْغَائِطَ،

 

فتح الباري لابن حجر (1/ 257)

قَوْلُهُ أَتَى الْغَائِطَ أَيِ الْأَرْضَ الْمُطَمْئِنَةَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ

 

فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ،

 

فتح الباري لابن حجر (1/ 257)

قَوْلُهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فِيهِ الْعَمَلُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّهْيُ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَلَا يَسْتَنْجِ أَحَدُكُمْ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ

وَأَخَذَ بِهَذَا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ، فَاشْتَرَطُوا أَنْ لَا يَنْقُصَ مِنَ الثَّلَاثِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْإِنْقَاءِ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ بِهَا فَيُزَادُ حَتَّى يُنَقَّى.

وَيُسْتَحَبُّ حِينَئِذٍ الْإِيتَارُ لِقَوْلِهِ: (وَمَنِ اسْتَجْمَرَ، فَلْيُوتِرْ) وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ لِزِيَادَةٍ فِي أَبِي دَاوُدَ حَسَنَةِ الْإِسْنَادِ قَالَ: (وَمَنْ لَا، فَلَا حَرَجَ). وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ:

(لَوْ كَانَ الْقَصْدُ الْإِنْقَاءَ فَقَطْ، لَخَلَا اشْتِرَاطُ الْعَدَدِ عَنِ الْفَائِدَةِ. فَلَمَّا اشْتَرَطَ الْعَدَدَ لَفْظًا، وَعُلِمَ الْإِنْقَاءُ فِيهِ مَعْنًى، دَلَّ عَلَى إِيجَابِ الْأَمْرَيْنِ. وَنَظِيرُهُ: الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ، فَإِنَّ الْعَدَدَ مُشْتَرَطٌ، وَلَوْ تَحَقَّقَتْ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ." اهـ

 

فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، وَلَمْ أَجِدْ ثَالِثًا،

فَأَتَيْتُهُ بِرَوْثَةٍ،

 

وفي "فتح الباري" لابن حجر (1/ 257)

قَوْلُهُ: (فَأَخَذْتُ رَوْثَةً)،

زَادَ ابن خُزَيْمَةَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: (أَنَّهَا كَانَتْ رَوْثَةَ حِمَارٍ). وَنَقَلَ التَّيْمِيُّ أَنَّ الرَّوْثَ مُخْتَصٌّ بِمَا يَكُونُ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ." اهـ

 

فَأَخَذَهُمَا وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: (إنَّها رِكْسٌ).

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وزَادَ أَحْمَدُ, وَالدَّارَقُطْنِيُّ: (ائْتِنِي بِغَيْرِهَا).

 

وفي "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (2/ 303) للعيني:

"وَقَالَ ابْن التِّين:

(الرجس والركس فِي هَذَا الحَدِيث قيل النَّجس وَقيل القذر وَقَالَ ابْن بطال يُمكن أَن يكون معنى ركس رِجْس قَالَ وَلم أجد لأهل اللُّغَة شرح هَذِه الْكَلِمَة، وَالنَّبِيّ___عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أعلم الْأمة باللغة)،

وَقَالَ الدَّاودِيّ:

(يحْتَمل أَن يُرِيد بالركس النَّجس، وَيحْتَمل أَن يُرِيد لِأَنَّهَا طَعَام الْجِنّ)...

وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الرجس اسْم لكل مَا استقذر من الْعَمَل، وَيُقَال: الرجس المأثم." اهـ

 

وفي "فتح الباري" لابن حجر (1/ 258):

"قَوْلُهُ: (هَذَا رِكْسٌ)، كَذَا وَقَعَ هُنَا بِكَسْرِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ.

فَقِيلَ: هِيَ لُغَةٌ فِي رِجْسٍ بِالْجِيمِ.

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ بن ماجة وبن خُزَيْمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهَا عِنْدَهُمَا بِالْجِيمِ.

وَقِيلَ: الرِّكْسُ الرَّجِيعُ رُدَّ مِنْ حَالَةِ الطَّهَارَةِ إِلَى حَالَةِ النَّجَاسَةِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالْأَوْلَى: أَنْ يُقَالَ رُدَّ مِنْ حَالَةِ الطَّعَامِ إِلَى حَالَة الروث.

وَقَالَ بن بَطَّالٍ: (لَمْ أَرَ هَذَا الْحَرْفَ فِي اللُّغَةِ يَعْنِي الرِّكْسَ بِالْكَافِ)

وَتَعَقَّبَهُ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ الرَّدُّ كَمَا قَالَ _تَعَالَى_: {أُرْكِسُوا فِيهَا} [النساء: 91]، أَيْ: رُدُّوا،

فَكَأَنَّهُ قَالَ: (هَذَا رَدٌّ عَلَيْكَ)، انْتَهَى.

وَلَوْ ثَبَتَ مَا قَالَ، لَكَانَ بِفَتْحِ الرَّاءِ، يُقَالُ: (رَكَسَهُ رَكْسًا)، إِذَا رَدَّهُ.

وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: (هَذَا رِكْسٌ)، يَعْنِي: نَجَسًا.

وَهَذَا يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ. وَأَغْرَبَ النَّسَائِيُّ فَقَالَ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ الرِّكْسُ طَعَامُ الْجِنِّ وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مُرِيحٌ مِنَ الْإِشْكَالِ." اهـ

 

ففي "سنن النسائي" (1/ 39):

"قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: (الرِّكْسُ: طَعَامُ الْجِنِّ)."

 

قال أبو فائزة: والنسائي _رحمه الله_ لم يغرب، وإنما قال ذلك إشارة إلى ما ورد أن الركس منهي عنه لكونه طعام الجن، والله أعلم.

 

صحيح مسلم (1/ 332):

فَقَالَ: " لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ»

 

مسند ابن أبي شيبة (1/ 145) (رقم: 197):

نا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسْتَنْجُوا بِالْعِظَامِ، وَلَا بِالرَّوْثِ، فَإِنَّهُمَا زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ»

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه البخاري في "صحيحه" (1/ 43) (رقم: 156)، سنن الترمذي ت شاكر (1/ 25) (رقم: 17)، وفي العلل الكبير للترمذي = ترتيب علل الترمذي الكبير (ص: 27) (رقم: 11)، سنن النسائي (1/ 39) (رقم: 42)، السنن الكبرى للنسائي (1/ 89) (رقم: 43) سنن ابن ماجه (1/ 114) (رقم: 314)، مسند أحمد – ط. عالم الكتب (1/ 388 و 1/ 418 و 1/ 427 و 1/ 450 و 1/ 465) (رقم: 3685 و 3966 و 4056 و 4299 و 4435)، مسند أبي داود الطيالسي (1/ 230) (رقم: 285)، مصنف ابن أبي شيبة (1/ 143) (رقم: 1643)، مسند ابن أبي شيبة (1/ 281 و 7/ 305) (رقم: 424 و 36311)، مسند البزار = البحر الزخار (5/ 43 و 5/ 50 و 5/ 74 و 5/ 75) (رقم: 1606 و 1611 و 1645 و 1646)، مسند أبي يعلى الموصلي (9/ 63 و 9/ 229) (رقم: 5127 و 5336)، صحيح ابن خزيمة (1/ 39) (رقم: 70)، شرح معاني الآثار (1/ 122) (رقم: 744)، الضعفاء الكبير للعقيلي (2/ 214)، المسند للشاشي (2/ 330) (رقم: 921)، المعجم الكبير للطبراني (10/ 61_63) (رقم: 9951_9956)، المعجم الأوسط (6/ 7) (رقم: 5637)، سنن الدارقطني (1/ 85) (رقم: 148)، السنن الكبرى للبيهقي (1/ 167 و 1/ 174 و 2/ 579) (رقم: 503 و 526 و 4144)، معرفة السنن والآثار (1/ 347) (رقم: 866).

 

والحديث صحيح: صححه شعيب الأرنؤوط _رحمه الله_ في "تخريج مسند أحمد" – ط. الرسالة (7/ 76) (رقم: 3966)

 

من فوائد الحديث:

 

كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 37)

وَأما الرجيع فَهُوَ الْعذرَة، وَسمي رجيعا لِأَنَّهُ رَجَعَ عَن حَالَته الأولى بعد أَن كَانَ طَعَاما.

وَعِنْدنَا أَنه لَا يجوز الِاسْتِنْجَاء بالرجيع سَوَاء كَانَ طَاهِرا كروث الْبَقر وَالْإِبِل، أَو نجسا كروث الْبَغْل وَالْحمار،

وَكَذَلِكَ الْعظم، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَأما إِذا كَانَ نجسا فالنجس لَا يجوز اسْتِعْمَاله. وَأما إِذا كَانَ الْعظم طَاهِرا فقد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود أَن الْجِنّ سَأَلُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزَّادَ، فَقَالَ: (لكم كل عظم ذكر اسْم الله عَلَيْهِ، وكل بَعرَة علف لدوابكم) [م]،

فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَلَا تستنجوا بهما؛ فَإِنَّهُمَا طَعَام إخْوَانكُمْ)."

 

عمدة القاري شرح صحيح البخاري (2/ 304)

(بَيَان استنباط الْأَحْكَام):

* الأول فِيهِ منع الِاسْتِنْجَاء بالروث، وَالْبَاب مَعْقُود عَلَيْهِ. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي الْبَاب الَّذِي قبله

* قَالَ ابْن خُزَيْمَة فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن:

فِيهِ بَيَان أَن أرواث الْحمر نَجِسَة وَإِذا كَانَت أرواث الْحمر نَجِسَة بِحكم النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ حكم جَمِيع أرواث مَا لَا يجوز أكل لَحمهَا من ذَوَات الْأَرْبَع مثل أرواث الْحمر،

قلت قد اخْتلف الْعلمَاء فِي صفة نَجَاسَة الأرواث فَعِنْدَ أبي حنيفَة هِيَ نجس مغلظ وَبِه قَالَ زفر وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد نجس مخفف وَقَالَ مَالك الروث طَاهِر

* الثَّانِي: فِيهِ منع الِاسْتِنْجَاء بِالنَّجسِ فَإِن الركس هُوَ النَّجس كَمَا ذَكرْنَاهُ الثَّالِث

* قَالَ الْخطابِيّ:

فِيهِ إِيجَاب عدد الثَّلَاث فِي الِاسْتِنْجَاء إِذْ كَانَ معقولا أَنه إِنَّمَا استدعاها ليستنجي بهَا كلهَا وَلَيْسَ فِي قَوْله فَأخذ الحجرين دَلِيل على أَنه اقْتصر عَلَيْهِمَا لجَوَاز أَن يكون بِحَضْرَتِهِ ثَالِث، فَيكون قد استوفاها عددا وَيدل على ذَلِك خبر سلمَان قَالَ:

(نَهَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نكتفي بِدُونِ ثَلَاثَة أَحْجَار)،

وَخبر أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:

(وَلَا يستنجي بِدُونِ ثَلَاثَة أَحْجَار) قَالَ وَلَو كَانَ الْقَصْد الإنقاء فَقَط لخلا اشْتِرَاط الْعدَد عَن الْفَائِدَة، فَلَمَّا اشْترط الْعدَد لفظا وَعلم الانقاء فِيهِ معنى دلّ على إِيجَاب الْأَمريْنِ، وَنَظِيره الْعدة بالإقراء فَإِن الْعدَد مشترط وَلَو تحققت بَرَاءَة الرَّحِم بقرء وَاحِد انْتهى [أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري) (1/ 249)]." اهـ

 

وقال أبو عبد الله المازري _رحمه الله_ في "المعلم بفوائد مسلم" (1/ 361)

وأما قوله: "لا يستنجى بروثة ولا عظم" فقد قيل: علة منعه لأجل أنه زاد الجن وعلف دوابهم.

وقيل: لأن الروثة تزيد في نجاسة المكان، والعظم لا ينقى لملوسته." اهـ

 

وقال القاضي عياض _رحمه الله_ في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (2/ 70)

"وتعليله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ عند طرح الروثة بقوله: (إنها رِكسٌ)،

فبيَّن علَّتها، ولم يقل: إنها ليست بحجرٍ، دَلّ أن لا اعتبار بالحجر نفسه، لكنْ ذِكْرُهُ الأحجارَ، لأنها أكثر ما يوجد، ولأنه قد جاء فى حديث ابن عباس: (أو ثلاث حثَياتٍ من ترابٍ أو ثلاثةِ أعواد)." اهـ

 

قلت: حديث ابن عباس _رضي الله عنه_ ضعيف.

 

وقال النووي في "شرح صحيح مسلم" (3/ 157):

"وَإِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ، لِكَوْنِهَا الْغَالِبَ الْمُتَيَسَّرَ، فَلَا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ _تَعَالَى_: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151]، وَنَظَائِرِهِ.

وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَعْيِينِ الْحَجَرِ: نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعِظَامِ وَالْبَعْرِ والرجيع. ولو كان الحجر متعينا، لنهى عما سِوَاهُ مُطْلَقًا.

قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالَّذِي يَقُومُ مَقَامَ الْحَجَرِ كُلُّ جَامِدٍ طَاهِرٍ مُزِيلٍ لِلْعَيْنِ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ وَلَا هُوَ جُزْءٌ مِنْ حَيَوَانٍ.

قَالُوا: وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ جِنْسِهِ، فَيَجُوزُ فِي الْقُبُلِ أَحْجَارٌ، وَفِي الدُّبُرِ خِرَقٌ. وَيَجُوزُ فِي أَحَدِهِمَا حَجَرٌ مَعَ خِرْقَتَيْن،ِ أَوْ مَعَ خِرْقَةٍ وَخَشَبَةٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ." اهـ

 

وقال النووي في "شرح صحيح مسلم" (3/ 157):

"قَوْلُهُ (أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ عَظْمٍ)

فِيهِ النَّهْيُ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالنَّجَاسَةِ وَنَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّجِيعِ عَلَى جِنْسِ النَّجَسِ فَإِنَّ الرَّجِيعَ هُوَ الرَّوْثُ، وَأَمَّا الْعَظْمُ فَلِكَوْنِهِ طَعَامًا لِلْجِنِّ.

فَنَبَّهَ عَلَى جَمِيعِ الْمَطْعُومَاتِ وَتَلْتَحِقُ بِهِ الْمُحْتَرَمَاتُ كَأَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ وَأَوْرَاقِ كُتُبِ الْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا فَرْقَ فِي النَّجَسِ بَيْنَ الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ فَإِنِ اسْتَنْجَى بِنَجَسٍ لَمْ يَصِحَّ اسْتِنْجَاؤُهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ وَلَا يُجْزِئُهُ الْحَجَرُ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ صَارَ نَجِسًا بِنَجَاسَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ.

وَلَوِ اسْتَنْجَى بِمَطْعُومٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُحْتَرَمَاتِ الطَّاهِرَاتِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِنْجَاؤُهُ، وَلَكِنْ يُجْزِئُهُ الْحَجَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ نقل النجاسة من موضعها. وقيل: أن استنجاؤه الْأَوَّلَ يُجْزِئُهُ مَعَ الْمَعْصِيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ." اهـ

 

وقال الإثيوبي _رحمه الله_ في "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" (1/ 626):

"قد اشتمل حديث الباب على أحكام قد مر معظمها في الأبواب المتقدمة، ومن جملتها ما بوَّب عليه المصنف هنا، وهو الرخصة في الاستطابة بحجرين، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وداود قالوا: المدار على الإنقاء، لا على العدد المعين، واستدلوا بهذا الحديث؛ لأنه لو كان العدد شرطًا لطلب ثالثًا، وقد عرفت أن الصواب مع من اشترط الثلاثة، والجوابُ عما تمسك به هؤلاء قد مر في الباب الذي قبل هذا. والله أعلم.

 

وقال الإثيوبي _رحمه الله_ في "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" (1/ 611):

"ومنها: النهي عن الاكتفاء بأقل من ثلاثة أحجار، وهذا هو الذي ترجم له المصنف وهو الذي نبحث عنه في المسألة التالية." اهـ

 

وقال ابن هبيرة _رحمه الله_ في "الإفصاح عن معاني الصحاح" (2/ 86):

"هذا الحديث يدل على أنه لا يجوز الاستجمار إلا بكل طاهر مزيل للعين." اهـ

 

وقال ابن هبيرة _رحمه الله_ في "الإفصاح عن معاني الصحاح" (2/ 87):

"وفيه دليل على أن الروث نجس لأن قوله ركس أي نجس، فعلى هذا لو كان الحجر يابسًا قد علقت به نجاسة لم يجز الاستجمار به.

 

وقال البسام _رحمه الله_ في "توضيح الأحكام من بلوغ المرام" (1/ 353_354):

"ما يؤخذ من الحديث:

1 - الروثة هي فضلة الحمار ونحوه مِنْ ذوات الحافر، وقد جاء في زيادة ابن خزيمة: "إنَّها كانت روثة الحمار"؛ فيكون ابن مسعود أتاه بروثة حمار، فألقى الروثة ولم يستعملها، وقَبِل الحجرين، وأمره أنْ يأتيه بغير الروثة بدلًا عنها.

2 - ظاهر الحديث أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يريدُ الاقتصار في الاستنجاء على الحجارة؛ ذلك أنَّه طلب ثلاثة أحجار؛ إذ أنَّها أدنى حد للحجارة المطهِّرة وحدها؛ كما تقدَّم___في حديث سلمان: "أو أن نستنجي بأقلَّ من ثلاثة أحجار"، ولو أراد أنْ يُتْبعَ الحجارة الماء، لَمَا عيَّن الثلاثة، ولما طلب حجرًا ثالثًا بدل الروثة التي ردَّها.

والذي يريد أنْ يتبع الحجارة الماء، يكتفي بما تيسَّر حصوله لتخفيف النَّجاسة، والتقليل من مباشرتها، وإِلَّا فالماءُ وحده كافٍ؛ كما في "حديث أهل قباء" الآتي إنْ شاء الله.

3 - الحديث يدل على أنَّه يحرُمُ الاستنجاء بالروثة؛ لأنَّها رِجْسٌ نجس، وتقدَّم أنَّ الروثة هي فضلة ذوات الحافر، والمستعمل من هذه الفصيلة الحيوانية هو الحمار النجس.

4 - قال الفقهاء: الأفضلُ قطعُ الاستجمار على وتر، والحديثُ يدُلُّ على ذلك؛ فإنَّه طَلَبَ ثلاثة أحجار، ولمّا ردَّ الروثة، طلب بدلها، ولعلَّ هذا مراعاةً للإنقاء والإيتار، فالإنقاء لابدَّ منه، وأمَّا الإيتار فمستحب.

5 - تقدَّم في حديث سلمان: أنَّ المراد هو المسحات الثلاث، ولو بحجر واحد ذي ثلاث شُعُب.

6 - فيه دليلٌ على حُسْنِ تعليم النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنَّه لمَّا ردَّ الروثة، أعلم ابن مسعود بسبب ذلك، ولم يردَّها ويطلب غيرها، ويسكت." اهـ

 

منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (1/ 248)

فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي:

أولاً: مشروعية الاستجمار وجواز الاستغناء بالحجارة عن الماء لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ابغني أحجاراً أستنفض بها "

وقد ذهب أحمد وأهل الظاهر إلى أن الاستجمار لا يكون إلاّ بالأحجار خاصة، لأنها هي المنصوص عليها في لفظ الحديث،

والجمهور على جواز الاستجمار بكل جامد طاهر منق غير مطعوم ولا محترم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه إلاّ عن العظم والروث، وذلك لكونهما مطعومين للجن، ولكون العظم غير منق، فكل ما كان مطهراً منقياً غير مطعوم لآدمي فإنّه يجوز الاستجمار به.

ثانياً: لا يجوز الاستجمار بالعظم والروث وما في معناهما." اهـ

 

وقال العثيمين في "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" – ط. المكتبة الإسلامية (1/ 307_309):

من فوائد هذا الحديث: منقبة لعبد الله بم مسعود، كيف ذلك؟ لكونه خدم النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن فوائد الحديث: جواز استخدام الأحرار؛ لأن ابن مسعود كان حرا.

ومن فوائده: أن أمر الخادم ونحوه لا يعد سؤالا مذموما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر خدمه، الناس لا يعدون هذا سؤالا، بل يعدونه أمرا، ويرون أن الآمر فوق المأمور.

ومن فوائد هذا الحديث: جواز الاستعانة بالغير في الطهارة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم استعان بعبد الله بن مسعود أن يحضر ما يتطهر به.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الاجتهاد إذا خالف النص فهو باطل، من كون النبي صلى الله عليه وسلم رد اجتهاد عبد الله بن مسعود وقال: "إن هذا رجس"، لكنه لم يوبخه؛ لأنه مجتهد، وإلا فمن المعلوم أن___

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 308)

كونه يأتي بروثة على النبي صلى الله عليه وسلم ليتطهر بها، أن فيها شيئا من الاستخفاف، لكنه رضي الله عنه مجتهد؛ فيستفاد منه: أن المجتهد إذا أخطأ لا يلام على خطئه؛ لأنه مجتهد، وهذه هي قاعدة الشريعة والحمد لله أن الحاكم إذا حكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للرجل الذي تيمم وصلى ثم وجد الماء فتوضأ وأعاد الصلاة جعل له الأجر مرتين مع أنه مخطئ في هذا العمل؛ حيث إن صاحبه الذي لم يعد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبت السنة".

ومن فوائد هذا الحديث: أنه لابد في الاستجمار من ثلاثة أحجار، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من عبد الله بن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار، ثم قال حين رد الروثة: "ائتني بغيرها"؛ فدل هذا على أنه لابد من ثلاثة أحجار.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الاستجمار مطهر لقوله: "هذا رجس"، والرجس لا يطهر، فدل هذا على أنه لو كان طيبا طاهرا لكان مطهرا، وهذا هو الصواب أن ما يحصل من الاستجمار فهو تطهير، وبناء على ذلك لو أن الإنسان استجمر من بول أو غائط بأحجار أو تراب؛ أو مناديل، ثم عرق أو أصاب ثوبه بلل وصل إلى مقعدته أو إلى ذكره فهل نقول: إن ما أصابه الماء والبلل والعرق ومن هذا المحل يكون نجسا؟ الجواب: لا، وهذا هو القول الراجح المتعين.

ومن العلماء من يقول: إن الاستجمار لا يطهر، وأنه لا يعفى عن أثر الاستجمار إذا تجاوز غير محله، ولكن هذا القول ضعيف، والصواب: أنه مطهر تطهيرا تاما، فهل يقاس على ذلك ما لو أزيلت النجاسة في غير هذا الموضع بحجر حتى لم يبق لها أثر؟ الجواب: نعم؛ وذلك لأن النجاسة عين خبيثة متى أزيلت بأي مزيل سواء كان بحجر أو بغير ذلك فإنها تطهر، لكن بشرط أن تكون الإزالة إزالة تامة.

فإن قال قائل: قياسكم غير هذا المحل عليه فيه نظر؛ لأن هذا المحل يكثر تلوثه بالنجاسة، فإن الإنسان دائما يبول، ودائما يتغوط، وغير هذا المحل لا يكثر فيه التلوث بالنجاسة فلا يمكن القياس، ويدل لعدم إمكان القياس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بول الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد: "أريقوا عليه سجلا من ماء". فهذا يدل على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء؛ فجوابنا على هذا أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يصب عليه ماء من أجل الإسراع في تطهيره؛ لأنه لو بقي___

ما يطهر الآن يحتاج إلى وقت، ولكن الرسول - عليه الصلاة والسلام- أراد أن يبادروا في تطهيره فأمر أن يصب عليه ماء.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الأرواث نجسة؛ لأن ابن مسعود أتى بروثة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إنها نجسة"، ولم يبين عبد الله بن مسعود أنها روثة حمار أو روثة بعير، فيدل على أن جميع الأرواث نجسة، وجميع الأبوال نجسة، وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله أن جميع الأبوال نجسة ولو مما يؤكل، وجميع الأرواث نجسة ولو مما يؤكل، ولكن هذا القول ضعيف، فقد دلت السنة على طهارة بول ما يؤكل وروثه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها، ولم يأمرهم بالتنزه منها؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم". ومعلوم أن مرابضها لا تخلو من بول أو روث، فدل هذا على أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر؛ إذن يجب أن نحمل قوله: "روثة" على روثة حمار؛ لأن روث الحمار نجس وبوله نجس.

ومن فوائد هذا الحديث: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إنه ألقى الروثة ولم يوبخ عبد الله بن مسعود، ولم يغضب ويدع أمره مرة أخرى، بل قال: "ائتني بغيرها".

Komentar

Postingan populer dari blog ini

فضائل عشر ذي الحجة