شرح الحديث 84 (باب آداب قضاء الحاجة) من بلوغ المرام
84 - وَلِلسَّبْعَةِ
عَنْ أَبِي أَيُّوْبَ الأنْصارِيِّ _رضي الله عنه_: "فلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلا
تَسْتَدْبِرُوْها بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ, وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ
غَرِّبُوا" |
ترجمة أَبُي
أَيُّوب الأَنصاري _رضي الله عنه_:
وفي "الأعلام"
للزركلي (2/ 295_296):
"أَبُو
أَيُّوب الأَنصاري (000 - 52 هـ = 000 - 672 م):
خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة، أَبو أَيُّوب الأَنصاري، من بني النجار:
صحابي، شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد.
وكان شجاعا صابرا تقيا محبا
للغزو والجهاد.
عاش إلى أيام بني أمية وكان
يسكن المدينة، فرحل إلى الشام.
ولما غزا يزيد القسطنطينية في
خلافة أبيه معاوية، صحبه أبو أيوب غازيا، فحضر الوقائع ومرض فأوصى أن يوغل به في
أرض العدوّ،
فلما توفي دفن في أصل حصن
القسطنطينية. له 155 حديثا ولعبد الحفيظ___ابن عثمان القاري الطائفي (جلاء القلوب
وكشف الكروب في مناقب سيّدنا أبي أيوب - ط)
نص
الحديث وشرحه:
ففي "صحيح البخاري"
(1/ 88):
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ
الأَنْصَارِيِّ:
أَنَّ النَّبِيَّ _صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، قَالَ:
«إِذَا أَتَيْتُمُ الغَائِطَ
فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ، وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ
غَرِّبُوا»،
قَالَ أَبُو أَيُّوبَ:
«فَقَدِمْنَا الشَّأْمَ
فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ القِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ، وَنَسْتَغْفِرُ
اللَّهَ تَعَالَى»
فتح الباري لابن حجر (10/
177)
وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ
غَرِّبُوا فَقَوْلُهُ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا لَيْسَ عَامًّا لِجَمِيعِ أَهْلِ
الْأَرْضِ بَلْ هُوَ خَاصٌّ لِمَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَعَلَى
سَمْتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَة." اهـ
المعنى
الإجمالي:
"يرشد
النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيء من آداب قضاء الحاجة بأن لا يستقبلوا القبلة،
وهى الكعبة المشرفة، ولا يستدبروها حال قضاء الحاجة لأنها قبلة الصلاة، وموضع
التكريم والتقديس، وعليهم أن ينحرفوا عنها قِبَلَ المشرق أو المغرب إذا كان
التشريق أو التغريب ليس موجَّها إليها، كقبلة أهل المدينة.
ولما كان الصحابة رضي الله
عنهم أسرع الناس قبولا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، الذي هو الحق، ذكر أبو
أيوب: أنهم لما قدموا الشام إثر الفتح وجدوا فيها المراحيض المعدة لقضاء الحاجة،
قد بنيت متجهة إلى الكعبة، فكانوا ينحرفون عن القبلة، ولكن قد يقع منهم السهو
فيستقبلون الكعبة، فإذا فطنوا، انحرفوا عنها، وسألوا الله الغفران عما بدر منهم
سهواً." اهـ من"تيسير العلام شرح عمدة الأحكام" (ص: 38) للبسام
* خلاف
العلماء:
جاء في البخاري (145) ومسلم
(266) عن ابن عمر قال: "رقيت يومًا على بيت حفصة، فرأيتُ النَّبيَّ -صلى الله
عليه وسلم- يقضي حاجته مستقبلًا الشَّام، مستدبرًا الكعبة"، ومن أجل هذا الحديث
اختلف العلماء:
فذهب ابن حزم: إلى تحريم
استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء الحاجة مطلقًا، في الفضاء والبنيان، ويروى
هذا القول عن أبي أيوب ومجاهد والنخعي والثوري والشيخ تقي الدِّين وابن القيم.
واحتجوا بحديث أبي أيوب؛
فإنَّ القول لا يعارض الفعل في حديث ابن عمر؛ فإنَّ الفعل يحكى ويحتمل الخصوصية أو
النسيان أو العذر، وأمَّا القول: فهو محكَمٌ لا تتطرَّق إليه احتمالات.
وذهب إلى جواز الاستدبار
مطلقًا: عروة بن الزبير وربيعة وداود؛ محتجِّين بحديث ابن عمر الذي في الصحيحين،
فقد خصَّص الاستدبار من حديث أبي أيوب، أمَّا الاستقبال: فيبقى داخلًا في عموم
حديث أبي أيوب من عدم الجواز.
وذهب إلى التَّفصيل، وهو
جوازه في البناء، وتحريمه في الفضاء الأئمة: مالك والشَّافعي وأحمد وإسحاق، وهو
مرويٌّ عن ابن عمر، والشَّعبي.
وقالوا: إنَّ الأدلَّة تجتمع
في هذا القولُ، ويحصل إعمالها كلها.
قال الصنعاني: وهذا القول ليس
ببعيد؛ لإبقاء أحاديث النَّهْيِ على بابها، وأحاديثِ الإباحة كذلك.
قلت: وهذا هو الرَّاجحُ من
الأقوال الثلاثة، وبالله التوفيق." اهـ من "توضيح الأحكام من بلوغ
المرام" (1/ 348)
تخريج
الحديث:
أخرجه البخاري في
"صحيحه" (1/ 41 و 1/ 88) (رقم: 144 و 394)، ومسلم (1/ 224/ 59) (رقم: 264)،
سنن أبي داود (1/ 3) (رقم: 9)، سنن الترمذي – ت. شاكر (1/ 13) (رقم: 8)، سنن
النسائي (1/ 21_23) (رقم: 20_22)، السنن الكبرى للنسائي (1/ 81) (رقم: 20_21)، سنن
ابن ماجه (1/ 115) (رقم: 318).
والحديث صحيح: صححه الألباني _رحمه الله_ في "صحيح الجامع الصغير
وزيادته" (1/ 110) (رقم: 262)، و"تخريج مشكاة المصابيح" (1/ 109)
(رقم: 334)، و"إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" (1/ 99 و 1/
326) (رقم: 60 و 293) و"صحيح أبي داود" - الأم (1/ 31) (رقم: 7)،
و"التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان" (3/ 87) (رقم: 1413)
من
فوائد الحديث:
البحر المحيط الثجاج في شرح
صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 529)
في فوائده:
1 - (منها):
بيان تعظيم جهة القبلة، وتكريمها، والنهي عما يلزم منه عدم ذلك.
2 - (ومنها):
بيان ما كان عليه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من القيام ببيان الإحكام وإيضاحه
لأمته.
3 - (ومنها):
ابتداء العالم أصحابه بالعلم، خصوصًا إذا عَلِمَ أن بهم حاجةً إلى العمل به.
4 - (ومنها):
أنه ينبغي للعالم التنبيه على الوقائع المخالفة للشرع، والرجوع عنها، والاستغفار
منها، والتوبة إن كان تلبّس بها متلبّسٌ.
5 - (ومنها):
استحباب الكناية عن المستقذرات بألفاظ غير شنيعة النطق بها.
6 - (ومنها): أن
في قول أبي أيوب - رضي الله عنه -: "فقدمنا الشام .. إلخ" دلالةً على أن
للعموم صيغةً عند العرب، وأهل الشرع، على خلاف ما ذهب إليه بعض الأصوليين، والمعنى
به استعمال صيغة العموم في بعض أفراده، كما فعله الجمهور في حديث أبي أيوب - رضي
الله عنه - هذا. ["الإعلام بفوائد عمدة الإحكام" 1/ 452]
7 - (ومنها): أن
فيه القراءة على العالم، وأن قوله: نعم يقوم مقام إخباره،
قال ابن عبد البرّ - رَحِمَهُ
اللهُ -:
"وكذلك الإقرار يجري
عندنا هذا المجري، وإن كان غيرنا قد خالفنا فيه، وهو أن يقال للرجل: الفلان عندك
كذا؟ فيقول: نعم، فيلزمه، كما لو قال: لفلان عندي كذا." انتهى ["التمهيد"
1/ 402]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب." اهـ
وقال ابن العطار في "العدة
في شرح العمدة في أحاديث الأحكام" (1/ 123):
"وفي
الحديث: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من القيام بالبيان والإيضاح والنصح
لأمَّتِه.
وفيه: ابتداء العالمِ أصحابَه
بالعلم، خصوصًا إذا علم أن بهم حاجةً إلى العمل به.
وفيه: أنَّه ينبغي للعالم
التنبيهُ على الوقائع المخالفة للعلم، والرجوع عنها، أو الاستغفار والتوبة منها،
إِنْ كانَ تلبَّسَ بها متلبِّس.
وفيه: الكناية عن المستقذرات
بألفاظ غير شنيعة النُّطق بها.
وفيه: تعظيم جهة القبلة،
وتكريمُها، والنهي عمَّا يلزم منه عدمُ ذلك؛ كما في الاستدبار -والله أعلم-."
اهـ
قال عبد الله بن عبد الرحمن
البسام _رحمه الله_ في "توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 347_348):
* ما يؤخذ من
الحديث:
1 - النَّهْيُ
عن استقبال أو استدبار القبلة، أثناء البول أو الغائط.
2 - الأمرُ
بالتشريق أو التغريب حتَّى ينحرف عن استقبال القبلة واستدبارها.
3 - الأصلُ:
أنَّ أمر الشَّارع ونهيه عامَّان لجميع الأمَّة، ولكن قد يكونان خاصَّين لبعض
الأمَّة؛ فإنَّ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا"
أمرٌ بالنسبة لأهل المدينة المنوَّرة، ومَنْ هم في سَمْتهم ممَّن إذا شرَّق أو
غرَّب، لا يستقبل القبلة.
4 - الحكمة في
هذا هو تعظيمُ الكعبة المشرَّفة، وتقدَّم الكلام عليه.
5 - حسنُ تعليمِ
النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنَّه لمَّا بين الجهة المحرَّمة في الاستقبال
والاستدبار، عَلَّمَهُم مخرجًا مباحًا، فلم يَسُدَّ عليهم الباب ويتركهم، ولكنَّه
أرشدهم إلى الطريق المباحة، وله -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذا قضايا كثيرة،
مثلُ إرشادِهِ جابي التمر من خيبر: "بعِ الجمع بالدراهم، ثمَّ اشتر
بالدَّراهم جنيباً".___
6 - هذا المنهج الحكيم في
الفتوى هو الذي يتعيَّن على المفتين أنْ يسلكوه؛ فإنَّ وَصْدَ الباب أمامَ
المستفتي بالتحريم، والسكوت عن مسألة النَّاس، وهم في حاجةٍ إليها، ويوجد في
الشريعة طريقٌ مباحٌ بدلًا عنها يمكنُ سلوكُها: ممَّا يسبِّب للنّاسِ الحرَجَ
والضيق في شريعةٍ وسَّعها الله عليهم، أو يسبِّبُ الإقدامَ على الحرام.
تيسير العلام شرح عمدة
الأحكام (ص: 38)
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهي عن
استقبال القبلة واستدبارها، حال قضاء الحاجة.
2- الأمر
بالانحراف عن القبلة في تلك الحال.
3- إن أوامر
الشرع ونواهيه تكون عامة لجميع الأمة، وهذا هو الأصل. وقد تكون خاصة لبعض الأمة،
ومنها هذا الأمر فإن قوله: "ولكن شرقوا أو غربوا" هو أمر بالنسبة لأهل
المدينة ومن هو في جهتهم، ممن إذا شرقوا أو غربوا لا يستقبلون القبلة.
4- الحكمة في
ذلك تعظيم الكعبة المشرفة واحترامها. فقد جاء في حديث مرفوع "إذا أتى أحدكم
البراز فليكرم قبلة اللَه عز وجل ولا يستقبل القبلة".
5- المراد
بالاستغفار هنا: الاستغفار القلبي لا اللساني، لأن ذكر الله باللسان في حال كشف
العورة وقضاء الحاجة ممنوع.
سبل السلام (1/ 115)
فَقَوْلُهُ «فَلَا
تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ،
وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» صَرِيحٌ فِي جَوَازِ اسْتِقْبَالِ
الْقَمَرَيْنِ وَاسْتِدْبَارهمَا إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا فِي الشَّرْقِ أَوْ
الْغَرْبِ غَالِبًا.
منار القاري شرح مختصر صحيح
البخاري (1/ 243_244):
ويستفاد منه: تحريم استقبال
القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة مطلقاً،___
وهو قول أبي حنيفة وأحمد في
رواية سواء كان في الفضاء أو البنيان، وذهب مالك والشافعي إلى تحريم الاستقبال
والاستدبار في الفضاء خاصة، لحديث ابن عمر أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- جالساً على لبنتين مستقبلاً بيت المقدس أخرجه الستة، وقال أحمد: يحرم الاستقبال
مطلقاً دون الاستدبار لحديث سلمان قال: " نهانا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أن نستقبل القبلة بغائط أو بول " أخرجه مسلم.
شرح سنن أبي داود للعباد (5/
9، بترقيم الشاملة آليا)
هذا الحديث مع ما تقدمه من
الأحاديث يدل على أن القبلة لا تستقبل عند قضاء الحاجة وكذلك لا تستدبر، وهذا فيه
احترام القبلة وتوقيرها، وأن الإنسان عندما يقضي حاجته لا يستقبل ولا يستدبر
القبلة.
شرح سنن أبي داود للعباد (5/
9، بترقيم الشاملة آليا)
والذي ينبغي إذا بنيت البيوت
وجعلت فيها أماكن لقضاء الحاجة أن يلاحظ عدم توجيه المراحيض إلى القبلة أو
استدبارها؛ لأنه وإن كان جائزاً أن الإنسان يستقبل أو يستدبر في داخل البنيان كما
جاء في حديث ابن عمر ولكن لاشك أنه إذا أمكن عدم الاستقبال أو الاستدبار ولو كان
ذلك في البنيان فإنه يكون أولى، فالأولى عدم الاستقبال والاستدبار في البنيان وغير
البنيان.
ولكن من حيث الجواز فإن حديث
ابن عمر يدل عليه، وأن ذلك سائغ ولا بأس به، لكن عندما تبنى أماكن قضاء الحاجة في
البيوت ينبغي أن توضع على هيئة متفقة مع ما جاء في حديث أبي أيوب من حيث إن
الاستقبال أو الاستدبار لا يكون إلى القبلة، وإن كان ذلك جائزاً في البنيان إلا أن
غيره لاشك أنه أولى وأفضل.
وإذا لم يمكن ذلك فإن ذلك جائز.
وقال محمود بن خطاب السبكي
_رحمه الله_ في "المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود" (1/ 49):
"(فقه
الحديث) دلّ الحديث على تعظيم القبلة ومنع استقبالها ببول أو غائط. وعلى أنه تطلب
المحافظة على الآداب ومراعاتها في كل حال بما يقدر عليه." اهـ
وقال العثيمين _رحمه الله_ في
"فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" – ط. المكتبة الإسلامية (1/
303_305):
"يستفاد من هذا الحديث: تحريم استقبال القبلة واستدبارها
حال الغائط أو البول لقوله: "بغائط أو بول".
ويستفاد منه: بمفهومه أنه لا يحرم أو ينهى عن استقبالها أو استدبارها
بالاستنجاء؛ يعني: لو أن الإنسان تخلى في مكان وقام ليستنجي في مكان آخر؛ فإنه لا
حرج أن يستقبل القبلة أو يستدبرها، وأما قول بعض الفقهاء - رحمهم الله- أنه يكره
استقبال القبلة حال الاستنجاء؛ فهذا يحتاج إلى دليل.
ومن فوائد هذا
الحديث: احترام
القبلة، وألا يتوجه الإنسان إليها حال قضاء الحاجة ولا يستدبرها.
ومن فوائد الحديث: أن الأكمل أن تكون القبلة عن يمينه، أو عن يساره.
ومن فوائد الحديث: أن الانحراف اليسير لا يعتبر مخالفة؛ لأنه قال: "شرقوا
أو غربوا"، وهذا انحراف كثير ولا يكفي الانحراف اليسير، ويتفرع على هذه الفائدة
فائدة أخرى، وهي استقبال القبلة في حال الصلاة، وأن الإنسان إذا استقبل القبلة حال
الصلاة ولو انحرف يسيرا فإن ذلك لا يضر، والذي لا يضر أن ينحرف كثيرا بحيث تكون
القبلة عن يساره أو عن يمينه.___
ومن فوائد هذا
الحديث: جواز الخطاب
بلفظ يعم الأمة ولفظ يخص بعض الأمة، أيهما الذي يعم الأمة؟ "لا تستقبلوا
القبلة، ولا تستدبروها بغائط أو بول" هذا عام لجميع الأمة، "ولكن شرقوا
أو غربوا" خاص بأهل المدينة، ومن كان مثلهم بالنسبة لنا هنا نقول: "لا
تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن أشملوا أو أجنبوا"؛ لأن
القبلة في القصيم جهة الغرب فيقال لأهل القصيم: "أشملوا أو أجنبوا".
ومن فوائد هذا
الحديث: أنه لا يجوز
ذلك؛ أي: استقبال القبلة أو استدبارها بغائط أو بول ولا في البنيان؛ لأن الحديث
عام ما قال: "إلا في البنيان"، والأصل العمل بالعموم حتى يقوم دليل على
التخصيص؛
ولهذا يقول أبو أيوب رضي الله
عنه:
"فقدمنا الشام فوجدنا
مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله".
وهذا يدل على أن أبا أيوب فهم
أن الحديث عامٌّ سواء كان ذلك في البنيان أو في القضاء، وجه
ذلك: أن الإنسان يقال إنه مستقبل القبلة ولو كان في البنيان ولهذا لو كان
في الحجرة واستقبل القبلة في الصلاة يقال: إنه مستقبل، وعلى هذا فلا فرق، لكن في
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول:
"رقيت يوما على بيت حفصة،
فرأيت النبي _صلى الله عليه وسلم_ يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة".
فهنا نقول: جاز استدبار الكعبة
في البنيان لفعل النبي _صلى الله عليه وسلم_، ولأن الاستدبار أهون من الاستقبال؛
لأن الإنسان يستحي أن يستقبل الناس بوجهه حال قضاء الحاجة، لكن لا يستحي أن
يستدبرهم؛
ولهذا يدل على أن
الاستقبال أكثر من الاستدبار، فهل يقاس عليه الاستقبال؟
من العلماء من قال: يقاس
عليه، وأنه في البنيان لا بأس من استقبال القبلة واستدبارها، وعلى هذا فالمراحيض
التي ببيننا الآن إذا كانت مستقبلة الكعبة أو مستدبرتها فلا بأس بها، ولكن الصحيح
العموم أنه لا يجوز لا في القضاء ولا في البنيان.
بقي علينا: هل لنا أن نخصص
هذا النهي، وهو سنة قولية بالسنة الفعلية؟
من العلماء: من يرى
أن الألفاظ لا تخصص بالأفعال، وأننا نحن مطالبون بتنفيذ السنة القولية، أما السنة الفعلية فلا؛ لأن السنة الفعلية تحتمل الخصوصية، وتحتمل الحاجة؛ أي: أنه فعل ذلك لحاجة، وتحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله بسبب آخر، وهو
لم يعلنه على الناس، هو في بيت حفصة مستدبر الكعبة لم يعلنه فلا يمكن أن نخصص به
اللفظ العام،
وإلى هذا ذهب بعض
أهل العلم، ومنهم
الشوكاني في "شرح المنتقى"، ولكن الصحيح: أن
السنة القولية تخصصها السنة___الفعلية؛ لأن الكل حق، واحتمال الخصوصية غير وارد،
واحتمال النسيان غير وارد، واحتمال سبب آخر غير وارد؛ لأن
الأصل التشريع في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به، ثم إنه لا
حاجة إلى أن نقول بتقديم القول إذا تعذر الجمع، والجمع هنا ممكن، فإذا كان ممكنا،
وجب العمل بالحديثين جميعا؛ لأنك لو قلت: هذا
الفعل لا يخصص ألغيت سنة، ولو قلت: هذا الفعل يخصص إذا كان في البنيان لم تلغ سنة؛
إذن القول الراجح: أن حديث عبد الله بن عمر _رضي الله عنهما_ مخصص لعموم حديث
أبي أيوب.
بقي أن يقال: هل
يقاس عليه الاستقبال؟
الجواب: لا، لا يقال؛ لأن من
شرط القياس تساوي الأصل والفرع، والتساوي هنا لا يوجد،
ويدل لهذا أن حديث
سلمان في النهي عن الاستقبال دون الاستدبار مما يدل على أنه الاستقبال أشنع، وإذا كان أشنع فإنه لا يمكن أن يقاس على ما هو أهون منه.
فإن قال قائل: إذا
كان الرجل قد بنى مراحيضه متجهة إلى القبلة فماذا يصنع؟
نقول: يجب عليه أن ينقضها ويخلفها،
فإن قال: أنا أنحرف. نقول: أنت إذا استطعت أن تنحرف فربما يخلفك من لا ينحرف،
فتكون أنت السبب في انتهاك حرمة الكعبة، وعلى هذا، فلا بد لمن بنى مراحيضه متجهة
إلى القبلة أن ينقضها ويوجهها إلى جهة أخرى.
ومن فوائد هذا
الحديث: ما سبق من
تعظيم القبلة واحترامها." اهـ
مجموع الفتاوى (22/ 207)
نَهَى عَنْ اسْتِقْبَالِ
الْقِبْلَةِ بِغَائِطِ أَوْ بَوْلٍ وَأَمَرَ بِاسْتِقْبَالِهَا فِي الصَّلَاةِ
فَالْقِبْلَةُ الَّتِي نَهَى عَنْ اسْتِقْبَالِهَا___وَاسْتِدْبَارِهَا
بِالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي أَمَرَ الْمُصَلِّيَ
بِاسْتِقْبَالِهَا فِي الصَّلَاةِ.
وقال ابن باز _رحمه الله_ في
"فتاوى نور على الدرب" - بعناية الشويعر (5/ 15_16):
"الأحاديث
الصحيحة في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها حول قضاء الحاجة كثيرة، تدل على
تحريم استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة؛ البول أو الغائط، وهذا في
الصحراء، وهو أمر واضح، وهو الحق؛ لأن الأحاديث صريحة في ذلك، فلا ينبغي ولا يجوز
أبدا استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء بالبول أو الغائط، أما___في البنيان.
فاختلف العلماء في ذلك، فقال
بعضهم: يجوز في البناء؛ لأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه في بيت
حفصة قضى حاجته مستقبل الشام، مستدبر الكعبة»، كما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين
من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
قالوا: هذا يدل على أنه لا
بأس في استقبالها واستدبارها في البناء، لأن الإنسان مستور بالأبنية، والأصل أنه يفعل ذلك للتشريع، ويتأسى به عليه الصلاة
والسلام في أفعاله،
فلما فعل ذلك دل على جوازه؛
لأنه عليه الصلاة والسلام «قضى حاجته على لبنتين مستقبل الشام مستدبر الكعبة»،
هذا يدل على جوازه في البناء،
وقال آخرون: هذا خاص به _صلى الله عليه وسلم_؛ لأنه إنما فعله في البيت،
ولم يشتهر، ولم يفعله في الصحراء، فيدل هذا على أنه خاص به، وأنه يجب على المسلمين
عدم استقبالها وعدم استدبارها حتى في البناء؛ عملا بالأحاديث العامة في هذا
التعميم، وعدم التخصيص،
وهذا القول أظهر أنه ينبغي عدم الاستقبال، وعدم الاستدبار مطلقا في البناء
والصحراء، لكن كونه محرما في البناء محل نظر؛ لأن الأصل عدم التخصيص بالنبي صلى
الله عليه وسلم، لكنه يحتمل أن يكون هذا قبل النهي، ويحتمل أنه خاص به عليه الصلاة
والسلام،
فلهذا لا يكون التحريم فيه
مثل التحريم في الصحراء، فالأولى بالمؤمن أن لا
يستقبل في الصحراء، ولا في البناء، وأن لا يستدبر، لكن البناء أسهل وأيسر، ولا
سيما عند عدم تيسر ذلك؛ لوجود المراحيض الكثيرة إلى القبلة،
فحينئذ يكون
الإنسان معذورا لأمرين؛
* الأمر الأول: وجود المراحيض التي في القبلة___ويشق عليه
الانحراف عنها،
* والأمر الثاني: ما عرفت من حديث ابن عمر في استقبال النبي
صلى الله عليه وسلم الشام، واستدبارها الكعبة في قضاء حاجته في بيت حفصة،
هذا يدل على الجواز، والأصل
عدم التخصيص له _صلى الله عليه وسلم_ بذلك، فيكون فعلا جائزا، مع أن الأولى ترك ذلك في البناء، ويكون في الصحراء
محرما؛ لعدم ما يخص ذلك، هذا هو الأقرب في هذه المسألة، والله _جل وعلا_ أعلم."
اهـ
فتاوى أركان الإسلام (ص: 212)
ما حكم استقبال القبلة، أو
استدبارها حال قضاء الحاجة؟
الجواب: اختلف أهل العلم في
هذه المسألة على أقوال:___
وقال العثيمين في "فتاوى
أركان الإسلام" (ص: 213_214):
"فذهب بعض
أهل العلم إلى أنه يحرم استقبال القبلة واستدبارها في غير البنيان، واستدلوا لذلك
بحديث أبى أيوب -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تستقبلوا
القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا)) قال أبو أيوب: فقدمنا
الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله." [خ م]،
وحملوا ذلك على غير البنيان
أما في البنيان: فيجوز الاستقبال والاستدبار، لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال:
((رقيت يوماً على بيت حفصة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل
الشام مستدبر الكعبة)) [خ].
وقال بعض العلماء:
إنه لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها بكل حال، سواء في البنيان أو غيره، واستدلوا بحديث أبي أيوب المتقدم،
وأجابوا عن حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- بأجوبة منها:
أولاً: أن حديث ابن عمر يحمل
على ما قبل النهي.
ثانياً: أن النهي يرجح، لأن
النهي ناقل عن الأصل، وهو الجواز، والناقل عن الأصل أولى.
ثالثاً: إن حديث أبي أيوب
قولٌ، وحديث ابن عمر فعلٌ، والفعل لا يمكن أن يعارض القول، لأن الفعل يحتمل
الخصوصية ويحتمل النسيان، ويحتمل عذراً آخر.___
والقول الراجح عندي
في هذه المسألة:
أنه يحرم الاستقبال
والاستدبار في الفضاء ويجوز الاستدبار في البنيان دون الاستقبال، لأن النهي عن الاستقبال
محفوظ ليس فيه تخصيص، والنهي عن الاستدبار مخصوص بالفعل، وأيضاً الاستدبار أهون من
الاستقبال،
ولهذا -والله أعلم- جاء
التخفيف فيه فيما إذا كان الإنسان في البنيان، والأفضل أن لا يستدبرها إن أمكن."
اهـ
Komentar
Posting Komentar