شرح الحديث 130 من رياض الصالحين

 

[130] الرابع عشر: عَنْهُ، عن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّراتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ» . رواه مسلم.

 

ترجمة أبي هريرة الدوسي _رضي الله عنه_:

 

اختلف فِي اسمه واسم أبيه اختلافا كثيرا،

فقيل: اسمه عبد الرحمن بْن صخر بن  ذي الشري بْن طريف بْن عيان بْن أَبي صعب بْن هنية بْن سعد ابن ثعلبة بْن سليم بْن فهم بْن غنم بْن دوس بْن عدثان بن عَبد الله بن زهران بن كعب بن الْحَارِثِ بْن كعب بْن عَبد اللَّهِ بن مالك ابن نصر بْن الأزد.

 

وفي تهذيب الكمال في أسماء الرجال (34/ 366_367) للمزي:

"ويُقال: كَانَ اسمه فِي الجاهلية عبد شمس وكنيته أبو الأسود...وروي عَنْهُ أنه قال، إنما كنيت بأبي هُرَيْرة أني وجدت أولاد هرة وحشية فحملتها فِي كمي، فقيل: ما هَذِهِ؟ فقلت: هرة، قِيلَ فأنت أَبُو هُرَيْرة."

وذكر أَبُو القاسم الطبراني أن اسم أمه ميمونة بنت صبيح." اهـ

 

وفي تهذيب الكمال في أسماء الرجال (34/ 377) :

"وَقَال عَمْرو بْن علي: نزل المدينة، وكان مقدمه وإسلامه عام خيبر، وكانت خيبر فِي المحرم سنة سبع."اهـ

 

وفي تهذيب الكمال في أسماء الرجال (34/ 378)

قال سفيان بْن عُيَيْنَة، عن هشام بْن عروة: مات أَبُو هُرَيْرة، وعائشة سنة سبع وخمسين.

وَقَال أَبُو الحسن المدائني، وعلي ابن المديني، ويحيى بْن بكير، وخليفة بْن خياط، وعَمْرو بْن علي: مات أَبُو هُرَيْرة سنة سبع وخمسين.

 

وفي "تاريخ الإسلام" – ت. بشار (2/ 561) للذهبي:

"قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَى عَنْهُ: ثمان مائة رَجُلٌ أَوْ أكثر.

قلت:

روي لَهُ نَحْو من خمسة آلاف حديث وثلاث مائة وسبعين (5370) حديثًا. في الصحيحين منها ثلاث مائة وخمسة وعشرون حديثًا (325)، وانفرد الْبُخَارِيُّ أيضًا لَهُ بثلاثة وتسعين (93)، ومسلم بمائة وتسعين (190)." اهـ

 

نص الحديث وشرحه:

 

الرابع عشر: عَنْهُ، عن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:

«الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّراتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ» . رواه مسلم.

 

الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 317)

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ:

"هَذَا فِي الْقُرْآنِ: {إِنْ تَجْتَنبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] ،

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] ،

قَالَ: فَطَرَفَا النَّهَارِ: الْفَجْرُ، وَالظُّهْرُ، وَالْعَصْرُ، وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ: الْمَغْرِبُ، وَالْعِشَاءُ،

{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] : فَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ." اهـ

 

وفي "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (6/ 168):

وقال النوويّ - رحمه الله -: معنى الحديث: أن ما بينهنّ من الذنوب كلّها مغفورة إلا الكبائر، لا يكفّرها إلا التوبة، أو فضل الله تعالى، هذا مذهب أهل السنّة.

وقال الشيخ محمد طاهر الفتّني - رحمه الله -: لا بُدّ في حقوق الناس من القصاص، ولو صغيرة، وفي الكبائر من التوبة.

ثم إنه ورد المغفرة في الصلوات الخمس، والجمعة، ورمضان، فإذا تكرّرت يُغفَر بأولها الصغائر، والباقي يُخفَّف بها عن الكبائر، وإن لم تُصادف صغيرة، ولا كبيرةً تُرفع بها الدرجات. انتهى

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه مسلم في "صحيحه" متابعةً (1/ 209/ 16) (رقم: 233)، مسند أحمد - عالم الكتب (2/ 400) (رقم: 9197)، مستخرج أبي عوانة ط الجامعة الإسلامية (7/ 334) (رقم: 2897)، السنن الكبرى للبيهقي (10/ 315) (رقم: 20759)، شعب الإيمان (5/ 230) (رقم: 3347)، فضائل الأوقات للبيهقي (ص: 161) (رقم: 47)

وفيه: عمر بن إسحاق، لم يوثقه غيرُ ابن حبان والعجلي. وقال الحافظ: "مقبول."

 

وله متابعة في "مسند أحمد" – ط. عالم الكتب (2/ 229) (رقم: 7129):

حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

«الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي بَعْدَهَا، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا»،

قَالَ:

«وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَالشَّهْرُ إِلَى الشَّهْرِ - يَعْنِي رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ - كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا»،

قَالَ: ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: "إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ -، قَالَ: فَعَرَفْتُ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ حَدَثَ -: إِلَّا مِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، وَنَكْثِ الصَّفْقَةِ، وَتَرْكِ السُّنَّةِ "

قَالَ: "أَمَّا نَكْثُ الصَّفْقَةِ: أَنْ تُبَايِعَ رَجُلًا ثُمَّ تُخَالِفَ إِلَيْهِ، تُقَاتِلُهُ بِسَيْفِكَ، وَأَمَّا تَرْكُ السُّنَّةِ،

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَّا الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا نَكْثُ الصَّفْقَةِ؟

قَالَ: «فَأَنْ تُبَايِعَ رَجُلًا، ثُمَّ تُخَالِفَ إِلَيْهِ تُقَاتِلَهُ بِسَيْفِكَ. وَأَمَّا تَرْكُ السُّنَّةِ، فَالْخُرُوجُ مِنَ الْجَمَاعَةِ»

 

قال الأرنؤوط _رحمه الله_ في "تخريج مسند أحمد" ط الرسالة (12/ 30):

"صحيح دون قوله: "إلا من ثلاث ..." إلى آخر الحديث،

ورجاله ثقات___رجال الشيخين غير عبد الله بن السائب -وهو الكندي الكوفي- فمن رجال مسلم، إلا أنه قد روي عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب كما سيأتي عند المصنف برقم (10576) بزيادة رجل مبهم من الأنصار بين عبد الله بن السائب وبين أبي هريرة، قال الدارقطني في "العلل" 3/ورقة 202: وقول يزيد أشبه بالصواب.

وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3620): من طريق هشيم، بهذا الإسناد." اهـ

 

فالحديث صحيح: صححه الألباني _رحمه الله_ في "سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (7/ 955) (رقم: 3322)، و"تخريج مشكاة المصابيح" (1/ 179) (رقم: 564)، و"صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 719) (رقم: 3875)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 430 و 1/ 583) (رقم: 684 و 994)

 

من فوائد الحديث:

 

قال البيهقي في "شعب الإيمان" (5/ 327):

قَالَ الْحَلِيمِيُّ _رَحِمَهُ اللهُ_[1]:

(فِيمَا رُوِّينَا مِنْ أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.

قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ثُمَّ الْجُمُعَاتِ، ثُمَّ صِيَامِ رَمَضَانَ، ثُمَّ صِيَامِ عَرَفَةَ، ثُمَّ صِيَامِ عَاشُورَاءَ، لَهُ مِنَ الْقَدْرِ عِنْدَ اللهِ أَنْ يُعْفِي عَلَى أَثَرِ السَّيِّئَاتِ كُلِّهَا بَالِغَةٌ مَا بَلَغَتْ، وَكَائِنَةً مَا كَانَتْ مَا لَمْ يَكُنْ كَبَائِرٌ،

وَإِذا كَانَتْ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ وَقَعَ بِهَا تَكْفِيرُ مَا يُصَادِفُهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَمَا لَمْ يُصَادِفْهُ مِنْهَا سَيِّئَاتٍ فَيُكَفِّرُها، انْقَلَبَتْ زِيَادَةً فِي دَرَجَاتِ أَنْفُسِهَا،

وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: "الْوُضُوءُ طَهَارَةٌ"، أَوْ "أَنَّهُ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ"، أَوْ يُقَالُ: "الْعِتْقُ كَفَّارَةٌ"،

فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنْ كَانَ هُنَاكَ مَا يَتَطَهَّرُ مِنْهُ أَوْ كَانَ مَا يُكَفَّرُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، كَانَ عِبَادَةً وَفَضْلًا وَبِرًّا يُوجِبُ لِصَاحِبِهِ الثَّوَابَ)،

وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ." اهـ"

 

السنن الكبرى للبيهقي (10/ 316)

فَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَمَا جَانَسَهَا مِنَ التَّغْلِيظِ فِي الْكَبَائِرِ وَالتَّكْفِيرِ عَنِ الصَّغَائِرِ مَا يُؤَكِّدُ قَوْلَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِرَدِّ شَهَادَةِ مَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً دُونَ مَنِ ارْتَكَبَ صَغِيرَةً

 

عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (2 / 124)

فإن قيل قد ثبت في الصحيح هذا الحديث في قيام رمضان والآخر في صيامه والآخر في قيام ليلة القدر والآخر في صوم عرفة

أنه كفارة سنتين

وفي عاشوراء أنه كفارة سنة

والآخر رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما

والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما

والآخر إذا توضأ خرجت خطايا فيه إلى آخره

والآخر مثل الصلوات الخمس كمثل نهر إلى آخره

والآخر من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ونحو ذلك

فكيف الجمع بينها

أجيب: إن المراد أن كل واحد من هذه الخصال صالحة لتكفير الصغائر فإن صادفها كفرتها وإن لم يصادفها فإن كان فاعلها سليما من الصغائر لكونه صغيرا غير مكلف أو موفقا لم يعمل صغيرة أو عملها وتاب أو فعلها وعقبها بحسنة أذهبتها كما قال تعالى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]،

فهذا يكتب له بها حسنات ويرفع له بها درجات. وقال بعض العلماء: (ويرجى أن يخفف بعض الكبيرة أو الكبائر)." اهـ

 

شرح النووي على مسلم - (3 / 113)

وقد يقال إذا كفر الوضوء فماذا تكفر الصلاة واذا كفرت الصلاة فماذا تكفر الجمعات ورمضان وكذلك صوم يوم عرفة كفارة سنتين ويوم عاشوراء كفارة سنة واذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه والجواب ما أجابه العلماء أن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير فان وجد ما يكفره من الصغائر كفره وان لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات ورفعت به درجات وان صادفت كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر والله أعلم

 

 

جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (1/ 425_426):

وَأَمَّا الْكَبَائِرُ، فَلَابُدَّ لَهَا مِنَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ بِالتَّوْبَةِ، وَجَعَلَ مَنْ___لَمْ يَتُبْ ظَالِمًا، وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ فَرْضٌ، وَالْفَرَائِضُ لَا تُؤَدَّى إِلَّا بِنِيَّةٍ وَقَصْدٍ،

وَلَوْ كَانَتِ الْكَبَائِرُ تَقَعُ مُكَفَّرَةً بِالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، وَأَدَاءِ بَقِيَّةِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ.

وَأَيْضًا فَلَوْ كُفِّرَتِ الْكَبَائِرُ بِفِعْلِ الْفَرَائِضِ، لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ ذَنْبٌ يَدْخُلُ بِهِ النَّارَ إِذَا أَتَى بِالْفَرَائِضِ،

وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ " التَّمْهِيدِ " وَحَكَى إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ،

وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَحَادِيثَ: مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» وَهُوَ مُخَرَّجٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تُكَفِّرُهَا هَذِهِ الْفَرَائِضُ.

وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا - عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ - أَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ شَرْطٌ لِتَكْفِيرِ هَذِهِ الْفَرَائِضِ لِلصَّغَائِرِ، فَإِنْ لَمْ تُجْتَنَبْ، لَمْ تُكَفِّرْ هَذِهِ الْفَرَائِضُ شَيْئًا بِالْكُلِّيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ مُطْلَقًا، وَلَا تُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ وَإِنْ وُجِدَتْ، لَكِنْ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ، وَحَكَاهُ عَنِ الْحُذَّاقِ. وَقَوْلُهُ: بِشَرْطِ التَّوْبَةِ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، مُرَادُهُ أَنَّهُ إِذَا أَصَرَّ عَلَيْهَا، صَارَتْ كَبِيرَةً، فَلَمْ تُكَفِّرْهَا الْأَعْمَالُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي حَكَاهُ غَرِيبٌ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ حُكِيَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جَعْفَرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مِثْلُهُ.

 

قال ابن رجب في "فتح الباري" (3 / 51)

فكذلك الصلوات الخمس في كل يوم تمحو الذنوب والخطايا حتى لا يبقى منها شيء .

واستدل بذلك بعض من يقول: إن الصلاة تكفر الكبائر والصغائر، لكن الجمهور القائلون بأن الكبائر لا يكفرها مجرد الصلاة بدون توبة، يقولون : هذا العموم خص منه الكبائر بما خرجه مسلم من حديث أبي هريرة ، عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ، ما اجتنبت الكبائر)." اهـ

 

وقال المباركفوري _رحمه الله_ في "تحفة الأحوذي" (1 / 535):

"قال القاضي عياض:

(هذا المذكور في الحديث من غفر الذنوب ما لم يؤت كبيرة، هو مذهب أهل السنة، وأن الكبائر إنما يكفرها التوبةُ أو رحمةُ الله تعالى وفضلُه.

وقال القارىء في "المرقاة":

إن الكبيرة لا يكفرها الصلاة والصوم وكذا الحج، وإنما يكفرها التوبة الصحيحة، لا غيرها.

نقل بن عبد البر الإجماع عليه بعد ما حكى في "تمهيده" عن بعض معاصريه: أن الكبائر لا يكفرها غيرُ التوبة.

ثم قال: وهذا جهل وموافقة للمرجئة في قولهم: (إنه لا يضر مع الايمان ذنب)، وهو مذهب باطل بإجماع الأمة انتهى

 

تحفة الأحوذي - (1 / 535)

قال العلامة الشيخ محمد طاهر في مجمع البحار ص 122 ج 2 ما لفظه:

"في تعليقي للترمذي لا بد في حقوق الناس من القصاص ولو صغيرة، وفي الكبائر من التوبة ثم ورد وعد المغفرة في الصلوات الخمس والجمعة ورمضان فإذا تكرر يغفر بأولها الصغائر وبالبواقي يخفف عن الكبائر، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة يرفع بها الدرجات." انتهى." اهـ

 

وقال المناوي في "فيض القدير" (3 / 358):

حكى ابن عطية عن جمهور أهل السنة أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض للصغائر. فإن لم تجتنب فلا تكفير بالكلية، وعن الحذاق أنها تكفر الصغائر ما لم يصر عليها، وإن فعل الفرائض لا يكفر شيئا من الكبائر أصلا، وإلا لزم بطلان فرضية التوبة.

وقول ابن حزم: (العمل يكفر الكبائر رد بأنه إن أريد أن من عمل، وهو مصر على كبير، يغفر)، فهو معلوم البطلان من الدين ضرورة وأن من لم يصر وحافظ على الفرائض بغير توبة، كفرت بذلك، فمحتمل لظاهر آية {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه}

كذا قرره جمع، لكن أطلق الجمهور أن الكبيرة لا يكفرها إلا التوبة." اهـ

 

وقال الإثيوبي في "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (6/ 167)

ثم ظاهر الحديث يفيد أن التكفير مشروط باجتناب الكبائر، فإن لم يَجتنبها لم تُكَفَّر الصغائر، ومثله قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية [النساء: 31]،

وهذا إنما يلزم عند من يقول بمفهوم المخالفة، وأما من لم يقل بمفهوم المخالفة، فأمر تكفير الصغائر وقت ارتكاب الكبائر مسكوت عنه عنده، وقد عُلِم من الأدلّة الأخرى أنه تغفر الصغائر بالطاعات، وإن لم تُجتَنَب الكبائر، وقيل في توجيه الآية: أن محو الصغائر لمن اجتنب الكبائر وعدٌ مقطوع به، ومحوها لمن تعاطى الكبائر ليس كذلك، بل في مشيئة الله تعالى وإرادته.

 

وقال الحريملي في "تطريز رياض الصالحين" (ص: 108):

في هذا الحديث: سعة رحمة الله تعالى، وأنَّ المدوامة على الفرائض تكفر الصغائر من الذنوب، وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم (32) ]." اهـ

 

وقال الإثيوبي في "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (6/ 172):

"وقوله: (وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ) فيه جواز قول: "رمضان" من غير إضافة "شهر" إليه، وهذا هو الصواب، خلافًا لمن أنكر ذلك، وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه من "كتاب الصيام" - إن شاء الله تعالى -." اهـ

 

وقال العثيمين في "شرح رياض الصالحين" (2/ 185):

الكبائر لابد لها من توبة خاصة، فإذا لم يتب توبة خاصة فإن الأعمال الصالحة لا تكفرها، بل لابد من توبة خاصة.

 

حجة الله البالغة (1/ 317)

أَقُول: الصَّلَاة جَامِعَة للتنظيف والاخبات، مُقَدَّسَة للنَّفس إِلَى عَالم الملكوت، وَمن خاصية النَّفس إِنَّهَا إِذا اتصفت بِصفة رفضت ضدها، وَتَبَاعَدَتْ عَنهُ، وَصَارَ ذَلِك مِنْهَا كَأَن لم يكن شَيْئا مَذْكُورا، فَمن أدّى الصَّلَوَات على وَجههَا، وَأحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وَأتم ركوعهن وخشوعهن وأذكارهن وهيآتهن، وَقصد بالأشباح أرواحها، وبالصور مَعَانِيهَا، لَا بُد أَنه يَخُوض فِي لجة عَظِيمَة من الرَّحْمَة، ويمحو الله عَنهُ الْخَطَايَا.

 

بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ط الرشد (ص: 66)

هذا الحديث يدل على عظيم فضل الله وكرمه بتفضيله هذه العبادات الثلاث العظيمة، وأن لها عند الله المنزلة العالية، وثمراتها لا تعدّ ولا تحصى.

فمن ثمراتها: أن الله جعلها مكملة لدين العبد وإسلامه، وأنها منمية للإيمان، مسقية لشجرته. فإن الله غرس شجرة الإيمان في قلوب المؤمنين بحسب إيمانهم، وقَدَّرَ من ألطافه وفضله من الواجبات والسنن ما يسقي هذه الشجرة وينميها، ويدفع عنها الآفات حتى تكمل وتؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها، وجعلها تنفي عنها الآفات.

فالذنوب ضررها عظيم، وتنقيصها للإيمان معلوم.

فهذه الفرائض الثلاث إذا تجنب العبد كبائر الذنوب غفر الله بها الصغائر والخطيئات. وهي من أعظم ما يدخل في قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] , كما أن الله جعل من لطفه تجنب الكبائر سبباً لتكفير الصغائر. قال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء:31] , أما الكبائر فلا بد لها من توبة.

وعلم من هذا الحديث: أن كل نص جاء فيه تكفير بعض الأعمال الصالحة للسيئات، فإنما المراد به الصغائر؛ لأن هذه العبادات الكبار إذا كانت لا تكفر بها الكبائر فكيف بما دونها؟

والحديث صريح في أن الذنوب قسمان: كبائر، وصغائر.___

وقد كثر كلام الناس في الفرق بين الصغائر والكبائر. وأحسن ما قيل: إن الكبيرة ما رتب عليه حد في الدنيا، أو توعد عليه بالآخرة أو لعن صاحبه، أو رتب عليه غضب ونحوه، والصغائر ما عدا ذلك.

أو يقال: الكبائر: ما كان تحريمه تحريم المقاصد. والصغائر: ما حرم تحريم الوسائل، فالوسائل: كالنظرة المحرمة مع الخلوة بالأجنبية. والكبيرة: نفس الزنا، وكربا الفضل مع ربا النسيئة، ونحو ذلك. والله أعلم.



[1] قال الذهبي _رحمه الله_ في "سير أعلام النبلاء" – ط. الرسالة (17/ 231) (رقم: 138):

"الحَلِيْمِيُّ الحُسَيْنُ بنُ الحَسَنِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَلِيْمٍ...أبوعَبْدِ اللهِ الحُسَيْنُ بنُ الحَسَنِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَلِيْم البُخَارِيُّ، الشَّافِعِيُّ. أَحَدُ الأَذكيَاء المُوْصُوفِيْنَ، وَمن أَصْحَابِ الوُجُوهِ فِي المَذْهَب. وَكَانَ مُتفنِّناً، سيَّال الذِّهن، مُنَاظِراً، طَوِيْلَ البَاعِ فِي الأَدب وَالبيَان.

أَخَذَ عَنِ: الأُسْتَاذ أَبِي بَكْرٍ القَفَّال، وَالإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الأُوْدَنِي... تُوُفِّيَ فِي شَهْرِ رَبِيْعٍ الأَوَّلِ، سَنَةَ ثَلاَثٍ وَأَرْبَع مائَة.

وَللحَافِظ أَبِي بَكْرٍ البَيْهَقِيِّ اعْتِنَاءٌ بكَلاَم الحَلِيْمِي، وَلاَ سِيَّمَا فِي كِتَاب: (شُعُبُ الإِيْمَان)." اهـ

Komentar

Postingan populer dari blog ini

فضائل عشر ذي الحجة