شرح الحديث 83 (باب آداب قضاء الحاجة)
83 - وَعَنْ سَلْمَانَ _رضي الله عنه_، قَالَ:
"لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه
وسلم_ أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ
أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ
أَوْ عَظْمٍ." رَوَاهُ مُسْلِمٌ |
ترجمة
سلمان الفارسي _رضي الله_:
قابن عبد البر _رحمه الله_ في
"الاستيعاب في معرفة الأصحاب" (2/ 634) (رقم: 1014):
سلمان الفارسي، أبو عبد الله،
يقَالُ: إنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرف بسلمان الخير، كان أصله من فارس من رامهرمز، من قرية يقال لها (جيّ).
ويقال: بل كان أصله من أصبهان لخبر قد ذكرته في التمهيد، وهناك ذكرت حديث
إسلامه بتمامه،
وكان إذا قيل له: ابن من أنت؟
قال: أنا سلمان ابن الإسلام من بني آدم." اهـ
وفي "سير أعلام النبلاء"
– ط. الرسالة (1/ 555):
"قَالَ
أَبُو نُعَيْمٍ الأَصْبَهَانِيُّ: يُقَالُ: اسْمُ سَلْمَانَ مَاهَوَيْه.
وَقِيْلَ: مَايَةُ.
وَقِيْلَ: بُهْبُوْدُ بنُ
بَذْخَشَانَ بنِ آذَرجشِيْشَ، مِنْ وَلَدِ مَنُوْجَهْرَ المَلِكِ." اهـ
وقال الذهبي _رحمه الله_ في
"سير أعلام النبلاء" – ط. الرسالة (1/ 555):
"قَالَ:
وَتَارِيْخُ كِتَابِ عِتْقِهِ يَوْمُ الاثْنَيْنِ، فِي جُمَادَى الأُوْلَى،
مُهَاجَرَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَمَوْلاَهُ الَّذِي بَاعَهُ:
عُثْمَانُ بنُ أَشْهَلَ القُرَظِيُّ اليَهُوْدِيُّ." اهـ
وفي "سير أعلام النبلاء"
– ط. الرسالة (1/ 555):
"وَقِيْلَ:
إِنَّهُ عَادَ إِلَى أَصْبَهَانَ زَمَنَ عُمَرَ.
وَقِيْلَ: كَانَ لَهُ أَخٌ
اسْمُهُ بَشِيْرٌ، وَبِنْتٌ بِأَصْبَهَانَ لَهَا نَسْلٌ، وَبِنْتَانِ بِمِصْرَ.
وَقِيْلَ: كَانَ لَهُ ابْنٌ
اسْمُهُ كَثِيْرٌ.
وفي "سبل السلام"
(1/ 112)
سَلْمَانَ هُوَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَيُقَالُ لَهُ: سَلْمَانُ
الْخَيْرِ؛ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَصْلُهُ مِنْ فَارِسَ، سَافَرَ لِطَلَبِ الدِّينِ
وَتَنَصَّرَ، وَقَرَأَ الْكُتُبَ، وَلَهُ أَخْبَارٌ طَوِيلَةٌ نَفِيسَةٌ، ثُمَّ تَنَقَّلَ حَتَّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَآمَنَ بِهِ، وَحَسُنَ إسْلَامُهُ، وَكَانَ
رَأْسًا فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ،
وَقَالَ فِيهِ رَسُولُ
اللَّهِ: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلُ الْبَيْتِ»[1]
وَوَلَّاهُ عُمَرُ " الْمَدَائِنَ، وَكَانَ مِنْ الْمُعَمِّرِينَ، قِيلَ: عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً،
وَقِيلَ: ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ،
وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ
يَدِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِعَطَائِهِ،___مَاتَ بِالْمَدِينَةِ
سَنَةَ خَمْسِينَ. وَقِيلَ: اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ." اهـ
وفي "الأعلام"
للزركلي (3/ 112):
"له في كتب
الحديث 60 حديثا." اهـ
نص
الحديث وشرحه:
وَعَنْ سَلْمَانَ _رضي الله
عنه_، قَالَ:
"لَقَدْ نَهَانَا
رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_ أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ
أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ،
أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ
أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ
عَظْمٍ." رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وتمام الحديث فيما
ورد في "صحيح مسلم" (1/ 223)
عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قِيلَ
لَهُ:
"قَدْ
عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى
الْخِرَاءَةَ."
وفي "البحر المحيط
الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (6/ 500):
وقد بيّن القائل في الرواية
التالية، حيث قال: "عن سلمان، قال: قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم
يُعلّمكم .. إلخ"، وفي رواية ابن ماجه: "قال:
قال بعض المشركين، وهم يستهزئون به: إني أرى صاحبكم .. إلخ"،
والحاصل أنهم قالوا ذلك
استهزاءً، ومقول "قيل" جملة قوله: (قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ - صلى
الله عليه وسلم - كُلَّ شَيْءٍ) أي أيَّ شيء كان، خطيرًا، أو حقيرًا (حَتَّى الْخِرَاءَةَ؟ ) بكسر الخاء المعجمة، والمدّ: هو
التخلّي، والقعود للحاجة؛ قاله ابن الأثير - رَحِمَهُ اللهُ -.
وقال القرطبيّ - رَحِمَهُ
اللهُ -: هو بكسر الخاء، ممدود، مهموزٌ، وهو اسم فعل الحدث، وأما الحدث نفسه فبغير
تاء ممدودٌ، وتُفتح خاؤه، وتُكسر، ويقال: بفتحها، وسكون الراء والقصر، من غير مدّ.
انتهى
قَالَ: فَقَالَ: "أَجَلْ
وفي "البحر المحيط
الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (6/ 501_502):
يقول سلمان - رضي الله عنه -:
نعم عَلَّمنا نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - كلّ شيء نحتاج إليه في ديننا حتى
الخراءة التي ذكرتها أيها المستهزئ، فإنه علّمنا آدابها.__
قال الطيبيّ - رَحِمَهُ اللهُ
-:
جواب سلمان هذا من باب أسلوب
الحكيم؛ لأن المشرك لَمّا استهزأ كان من حقّه أن يُهَدَّد، أو يُسكَت عن جوابه،
لكن ما التفت سلمان إلى استهزائه، وأجاب جواب المرشد للسائل المجِدّ. انتهى.
وقال بعضهم: يحتمل أنه ردٌّ
له بأن ما زعمه سببًا للاستهزاء ليس بسبب له، بل المسلم يصرِّح به عند الأعداء؛
لأنه أمرٌ يُحسّنه العقل عند معرفة تفصيله، فلا عبرة بالاستهزاء به؛ لإضافته إلى
أمر مستقبح ذكرُهُ، والجواب بالردّ لا يُسمّى أسلوب الحكيم. انتهى [راجع
"المنهل العذب المورود" 1/ 38]
قال الجامع عفا
الله عنه: أسلوب
الحكيم نوعٌ من أنواع الْمُحَسِّنات البديعيّة المعنويّة، وهو تَلَقِّي المخاطب
بغير ما يترقّبه، إما بترك سؤاله، والإجابة عن سؤال لم يسأله، وإما بحمل كلامه على
غير ما كان يقصد؛ إشارةً إلى أنه كان ينبغي له أن يسأل هذا السؤال، أو يَقصِد هذا
المعنى.
إذا تقرّر هذا، فقد اتّضح أن
ما قاله الطيبيّ - رَحِمَهُ اللهُ - من أن جواب سلمان - رضي الله عنه - من أسلوب
الحكيم هو الحقّ، لا الاحتمال الذي ذكره البعض، فتبصّر، والله تعالى أعلم."
اهـ
«لَقَدْ نَهَانَا
أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ
بِالْيَمِينِ،
وقال ابن الأثير - رَحِمَهُ
اللهُ – في "النهاية" (5/ 26):
"الاستنجاء: استخراجِ
النَّجْو من البطن، وقيل: هو إزالته عن بدنه
بالغسل والمسح، وقيل: هو مِن (نجَوْتُ الشجرةَ،
وأنجيتها): إذا قطعتها، كأنه قَطَعَ الأذى عن نفسه، وقيل:
هو من النَّجْوَة، وهو ما ارتفع من الأرض، كأنه يَطلُبها ليجلس تحتها."
اهـ
وفي "البحر المحيط
الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (6/ 504):
[تنبيه]: يُسمّى الاستنجاءُ الاستطابةَ أيضًا، وهى إزالة
الأذى عن المَخرجين بحجر، أو نحوه، أو هي مأخوذة من الطيب؛ لأن إزالة الفضلة
تُطَيِّب المحلَّ، وتذهب عنه القَذَر، يقال: استطاب الرجل، فهو مستطيبٌ، وأطاب،
فهو مُطِيب؛ قاله ابن الملقّن." اهـ ["الإعلام بفوائد عمدة
الأحكام" (1/ 420)]
أَوْ أَنْ
نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ
بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ»."
وفي "البحر المحيط
الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (6/ 505):
"(أَوْ
أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ) - بفتح الراء، وكسر الجيم -: فعيلٌ بمعنى فاعل، وهو
الروث، والْعَذِرَةُ؛ سُمّي به؛ لأنه رَجَعَ عن حالته الأولى بعد أن كان طعامًا،
أو عَلَفًا، وكذلك كلُّ فعلٍ، أو قولٍ يُرَدّ فهو رَجِيعٌ، فَعِيلٌ بمعنى مفعول
بالتخفيف؛ أفاده الفيّوميّ ["المصباح المنير" 1/ 220]." اهـ
البحر المحيط الثجاج في شرح
صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 506)
وقال القرطبيّ - رَحِمَهُ
اللهُ -: وقوله: "برجيع، أو بعظم" الرَّجِيع: الْعَذِرة، والأرواث، ولا
يُستنجى بها؛ لنجاستها، ولذلك قال - صلى الله عليه
وسلم - لعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حين أتاه بالحجرين والروثة: (إنها
رجسٌ)، رواه البخاريّ.
وقد أخرج أبو داود في "سننه" بسند صحيح، عن عبد الله بن مسعود - رضي
الله عنه - قال:
قَدِم وَفْدُ الجن على رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: فقالوا: "يا محمد انْهَ أُمّتك أن يستنجوا
بعظمٍ، أو روثة، أو حُمَمة، فإن الله تعالى جَعَلَ لنا فيها رزقًا."
وأخرج البخاريّ في "المناقب" من "صحيحه"، عن أبي هريرة
- رضي الله عنه -:
أنه كان يَحْمِل مع النبيَّ -
صلى الله عليه وسلم - إداوةً لوضوئه، وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال:
"مَنْ هذا؟ " فقال: أنا أبو هريرة، فقال: (ابْغِنِيْ أحجارًا، أستنفض
بها، ولا تأتني بعظم، ولا بروثة)،
فأتيته بأحجار، أحملها في طرف
ثوبي، حتى وضعتها إلى جنبه، ثم انصرفت، حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم
والروثة؟ ، قال: "هما من طعام الجنّ، وإنه أتاني وَفْدُ جنّ نَصِيبين - ونعم
الجنُّ - فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يَمُرُّوا بعظم، ولا بروثة، إلا
وَجَدُوا عليها طعامًا".
وأخرج المصنّف -
رَحِمَهُ اللهُ - في "الصلاة" حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - بطوله، وفيه:
"وسألوه الزاد، فقال: (لكم
كلُّ عظم ذُكِر اسمُ الله عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا، وكلُّ بعرةٍ
عَلَفٌ لدوابكم)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فلا تستنجوا بهما،
فإنهما طعام إخوانكم."
وسيأتي تمام البحث فيه في
المسألة السابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع
والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وفي "الأوسط في السنن
والإجماع والاختلاف" (1/ 349) لابن المنذر:
"وَقَالَ:
«لَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ دُونَ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ»."
تخريج
الحديث:
أخرجه مسلم (1/ 223/ 57) (رقم:
262)، وأبو داود (1/ 3) (رقم: 7)، سنن الترمذي – ت. شاكر (1/ 24) (رقم: 16)، والنسائي
(1/ 38 و 1/ 44) (رقم: 41 و 49)، وفي "السنن الكبرى" (1/ 87) (رقم: 40)،
سنن ابن ماجه (1/ 115) (رقم: 316)، وابن المنذر في "الأوسط في السنن والإجماع
والاختلاف" (1/ 349 و1/ 354) (رقم: 311 و 316)
والحديث صحيح: صححه الألباني _رحمه الله_ في "تخريج مشكاة المصابيح"
(1/ 109) (رقم: 336)، و"إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" (1/
81) (رقم: 40_41)، و"صحيح أبي داود" - الأم (1/ 29) (رقم: 5).
من
فوائد الحديث:
قال الإثيوبي _رحمه الله_ في
"البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (6/ 507_508):
"في
فوائده:
1 - (منها):
شدّة اهتمام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بتعليم أمته كلّ ما تحتاج إليه من أمر
دينها.
2 - (ومنها):
شدّة اهتمام أعداء الإسلام من المشركين، وأهل الكتاب في البحث عما يعيبون به
الإسلام، ويجادلون في ذلك بالباطل، وليس مرادهم إلا إغواء ضعفاء الإيمان، فلا
ينبغي الاستماع إليهم، كما قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ
إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ
لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].
3 - (ومنها):
بيان فضل فقه الصحابيّ الجليل سلمان - رضي الله عنه -، حيث أجاب المشركين
المعاندين ببيان الأحكام الشرعيّة التي لو فكّر أيّ عاقل لاستحسنها، ولعمل بها،
فكلّ التعليمات النبويّة ليس فيها شيء يأباه القلب، ويعرض عنه، إلا من كتب الله -
عز وجل - عليه الشقاء المؤبّد، فإنه الذي لا يدرك محاسنها، ولكنه لا يضرّ الإسلام
شيئًا، كما قال الشاعر [من البسيط]:
مَا ضَرَّ شَمْسَ الضُّحَى
فِي الأُفْقِ طَالِعَةً ... أَنْ لَا يَرَى ضَوْأَهَا مَنْ لَيْسَ ذَا بَصَرِ
4 - (ومنها):
بيان النهي عن استقبال القبلة بغائط، أو بول، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة
التالية - إن شاء الله تعالى -.
5 - (ومنها):
بيان النهي عن الاستنجاء باليمين، وسيأتي الكلام عليه في شرح حديث أبي قتادة - رضي
الله عنه - في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.
6 - (ومنها):
بيان مشروعيّة الاستنجاء بالحجارة، وفيه خلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه في المسألة
الخامسة - إن شاء الله تعالى -. ____
7 - (ومنها): بيان النهي عن
الاستنجاء بأقلّ من ثلاثة أحجار، وأن ما دونها لا يجزئ؛ لأن قوله: "أو أن
نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" نصّ صريحٌ صحيحٌ في أن استيفاء ثلاث مسحات
واجبٌ، لا بد منه،
وهذه المسألة فيها خلاف بين
العلماء، وهذا هو المذهبُ الحقّ، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة السادسة - إن
شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب." اهـ
وقال البسام _رحمه الله_ في
"توضيح الأحكام من بلوغ المرام" (1/ 344_346):
* ما يؤخذ من
الحديث:
1 - النَّهي عن
استقبال القبلة أثناء البول أو الغائط؛ لأنَّها قبلة الصلاة وغيرها من العبادات،
وهي أشرف الجهات، وظاهر الحديث: أنَّه لا فرق في الاستقبال بين الفضاء وبين
البنيان، وسيأتي الخلاف فيه إنْ شاء الله؛ كما أنَّ النَّهي متوجِّهٌ إلى
الاستدبار؛ لما في الصحيحين، من حديث أبي أيوب؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم-
قَال: "إذَا أتيتم الغائط، فلا تستقبلوا القبلة بغائطٍ ولا بولٍ، ولا
تستدبروها" -كما سيأتي في الحديث الذي بعده إنْ شاء الله تعالى- فلا تكون
القبلة___مُتَّجَهًا للنَّجاسات؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30].
2 - تعظيم
الكعبة المشرَّفة بتجنُّب كلِّ ما يَمَسُّ قدسيتها، ومقامها من المعاصي حولها؛ قال
تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
(25)} [الحج].
3 - تقديسُها
بالطَّاعاتِ؛ كالحجِّ والاعتمار، والطواف، والصلاة، وسائر العبادات والقربات؛ قال
تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا
وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} [آل عمران].
4 - تعظيمُ
البيت العتيقِ يشمَلُ حَرَمَهُ ممَّا أدخلَتْهُ الحدود التي تفصل الحَرَمَ من
الحل، ويشمل المشاعر المقدسة من مقام إبراهيم وزمزم والصفا والمروة والمسعى وعرفات
ومزدلفة ومنى والجمرات، فكلها من شعائر الله تعالى.
5 - على قاعدة
أنَّ العبادات توقيفية، لا يُشْرَعُ منها إلاَّ ما شرعه الله ورسوله، فإِنَّها لا
تدخُلُ هذه المشاعر في الحكم مع الكعبة المشرَّفة بالنَّهي عن استقبالها
واستدبارها بالبول والغائط، وإنَّما توافقها في أصل التعظيم.
6 - النَّهْيُ
عن الاستنجاء، أو الاستجمار باليد اليمنى؛ تكريمًا لها، فيكون الاستنجاء باليد
اليسرى، ما لم يكن فيها خاتَمٌ فيه ذِكْرُ اسمِ الله، فيجعله في باطن يده اليمنى.
7 - النَّهْيُ
عن الاستجمار باقلَّ من ثلاثة أحجار، ويقيَّد هذا النَّهي بما إذا لم يرد إتباع
الحجارة الماء، أمَّا إذا أراد إتباعها، فلا بأس من الاقتصار على أقلَّ من ثلاثة؛
لأنَّ القصد هُنا هو تخفيف النَّجاسة عن المكان فقطْ، لا التطهُّرُ الكامل.
8 - ذِكْرُ
الأحجار بناء على الأغلب في أعمال المستجمرين، وإِلاَّ فالقصدُ التطهُّر بالحجارة،
أو ما قام مقامها في الإنقاء؛ مِنَ الأخشاب، أو الخرق، أو الورق___المنشف، ونحو
ذلك؛ لأنَّ الغرض التطهير، لا نوعٌ بعينه.
9 - ليس المراد
بالأحجار عددها، وإنَّما المراد بذلك المسحات.
قال في الروض وحاشيته: ويشترط
ثلاث مسحات منقية فأكثر، إنْ لم يحصُلِ الإنقاءُ بثلاث، ولو كانتِ الثلاثُ بحجرٍ
ذي شعب أجزت إنْ أنقت؛ لحديث جابر: "فليمسح ثلاث مرَّات"، فبيّن أنَّ
الغرض عدد المسحات لا الأحجار، ولأنَّه يحصُلُ بالشعب الثلاث ما يحصُلُ بالأحجار
الثلاثة من كلِّ وجهٍ، فلا فرق.
10 - والإنقاءُ
بالحجر أنْ لا يبقى أَثَرٌ يزيله إلاَّ بالماء، قال الشيخ تقي الدِّين: علامة
الإنقاء أنْ لا يبقى في المحلِّ شيءٌ يزيله الحجر.
11 - النَّهْيُ
عن الاستجمار بالرجيع؛ لأنَّه إمَّا نجس، وإِمَّا لأنَّه عَلَفُ داوبِّ الجنِّ.
12 - النَّهي عن
الاستجمار بالعظم؛ لأنَّه إمَّا نجس، وإمَّا لأنَّه طعام الجِنِّ أنفسهم.
13 - لعلَّ
قائلًا يقول: إنَّنا لا نرى الجنَّ ولا دوابَّهم، ولا نتصوَّر وجود لحمٍ ينبت على
العظم؛ ليكون طعامًا لهم، ولا نتصوَّر كيف يكون الروث علفًا لدوابِّهم:
والجوابُ: أنَّ مثل هذه
الأمور من الأحكامِ السمعيَّة التوقيفية يجبُ الإيمان بها، متى صحَّتْ أخبارها،
ولو لم ندركْ كيفيتها؛ فنحن لم نؤتَ من العلم إلاَّ قليلًا، وهُناك عالمٌ غيبيٌّ
لم نطلع عليه ولا على أحواله، والإيمان به من الإيمان بالغيب الذي مدح الله تعالى
أهله بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3].
14 - قال
الفقهاء: والإنقاء بالماء: الصَّبُّ مع الدَّلك، حتَّى يعود المحل كما كان قبل
خروج الخارجِ، ويسترخي قليلًا.
قال العثيمين _رحمه الله_ في
"شرح رياض الصالحين" (4/ 246):
"فالمهم:
أن شريعتنا ولله الحمد كاملة من كل وجه، ليس فيها نقص ولا تحتاج إلى أحد يكملها.
وفيه رد على السفهاء الذين
يزعمون (أن الشريعة الإسلامية إنما تنظم العبادة بين الله وبين الخلق فقط، وأما
المعاملات بين الناس بعضهمِ بعضا، فإن الشريعة لا تعتني بها)،
فيقال لهؤلاء: تبا لكم وسفها لعقولكم، أَطْوَلُ آيةٍ في كتاب الله العزيز،
كلُّها في المداينة في التعامل بين الناس، وهل بعد هذا من اعتناء؟!
وما أكثر الآيات في القرآن
الكريم في تنظيم المال وإصلاحه وما أشبه ذلك! وكذلك في السنة. فالشريعة الإسلامية
ولله الحمد كاملة من كل وجه!" اهـ
وقال العثيمين _رحمه الله_ في
"فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية" (1/ 300_303):
"ففي هذا
الحديث:
* بيان شمول الشريعة
الإسلامية لكل ما يحتاج الناس إليه؛ لأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ علمنا حتى
الخراءة، علمنا آداب الأكل، وآداب الشراب، آداب النوم، آداب دخول البيت، والخروج
منه، آداب اللباس،
ما من شيء نحتاجه، إلا علمنا
إياه _عليه الصلاة والسلام_ تحقيقا لقول الله _تعالى_: (وأنزلنا إليك الذكر لنبين
للناس ما نزل إليهم) [النحل: 44].
ولقوله تعالى: (ونزلنا عليك
الكتب تبينا لكل شيء) [النحل: 89].
وإذا كان الدين الإسلامي وإذا
كانت الشريعة الإسلامية قد بينت حتى هذه الأمور الطفيفة فغيرها من باب أولى؛ ولذلك
غلط من قال: إن آيات الصفات وأحاديثها لا يعلم معناها، وصاروا يفوضون المعنى،
فإن هؤلاء غلطوا أكبر غلط،
فيقال: شبحان الله! أنتم الآن تقرون بأن قصة فرعون وهامان وقارون وغيرهم من طغاة
العالم وقصص الصالحين كلها مفهومة المعنى عندكم، وما ذكره الله عن نفسه فهو عندكم
غير معلوم بمنزلة الحروف الهجائية، كيف يكون هاذ؟ !
فجميع ما يحتاج الناس إليه في
معبودهم، وعباداتهم، وفي أحوالهم، وفي معاملاتهم كله بين، ولكن الناس يختلفون؛
منهم من يعطيه الله تعالى علما واسعا يحيط بكثير من السنة، ومنهم من دون ذلك،
ومنهم من يعطيه الله تعالى فهما ثاقبا يفهم ما يسمع وما يقرأ، ومن الناس من هو دون
ذلك، وفضل الله يؤتيه من يشاء.
ومن فوائد هذا
الحديث: تحريم
استقبال القبلة بغائط أو بول؛ لقوله: "نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو
بول" والأصل في النهي التحريم.
ومن فوائد هذا
الحديث: جواز
استقبال الشمس والقمر، كيف ذلك؟ لأن أهل المدينة إذا لم يستقبلوا القبلة فسوف
يستقبلون الشرق أو الغرب؛ حينئذ يكونون مستقبلين إما للمش وإما للقمر،
وذكرت هذا لأن بعض أهل العلم
- رحمهم الله- قالوا: إنه يكره للإنسان أن___يستقبل الشمس أو القمر، وعللوا لذلك
بتعليل عليل منتقض: لأن في الشمس والقمر نورًا، فما فيهما من نور الله يجعلهما
محترمين؛
فنقول:
أولا: لا يجوز أن نثبت
الأحكام الشرعية بمثل هذا التعليل.
وثانيا: هو تعليل منتقض،
النجوم فيها أيضا نور من الذي أشاءها؟ الله - سبحانه وتعالى- هل نقول للإنسان: لا
تستقبل النجوم، وإن قلنا: لا تستقبل النجوم فكيف يجلس؟ لأن النجوم على يمينه، وعلى
يساره، وأمامه وخلفه؛ فلهذا ذكرت ذلك ليعلم أن ما قاله بعض الفقهاء - رحمهم الله-
في هذا قول ضعيف لا دليل عليه.
ومن فوائد هذا
الحديث: النهي عن
الاستنجاء باليمين، وإذا كنا نقول في استقبال القبلة أنه حرام، فيجب أن نقول في
هذا إنه حرام؛ لأن الحديث واحد،
والغالب أن المسائل المذكورة
في حديث واحد أن حكمها واحد،
أقول: الغالب، لكن ليس هذا دلالة؛ فإن الله تعالى قال: {والخيل
والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8].
فذكر الخيل والبغال والحمير
مع أن الخيل حلال، والبغال والحمير حرام، ولا عبرة بدلالة الاقتران؛ لأنه ثبت عن
النبي - عليه الصلاة والسلام- أن الصحابة نحروا فرسا في عهده - علي الصلاة
والسلام- وأقرهم على هذا.
المهم إذا لم نجد صارفا يصرف النهي إلى الكراهة في الاستنجاء
باليمين، فالواجب أن يكون للتحريم.
فإذا قال قائل: إذا كان الإنسان أشل في يده اليسرى؟ نقول: حينئذ يكون مضطرا إلى الاستنجاء باليمين، وقد قال
الله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام: 119].
ومن فوائد هذا
الحديث: تكريم
اليمين، وهو كذلك؛ ولهذا قال الفقهاء - رحمهم الله- في ذلك ضابطا مهما، قالوا: إن
اليسرى تقدم للأذى، واليمنى لها سواها، اليسرى تقدم للأذى كالاستنجاء، والاستنثار،
وغسل الأوساخ، وما أشبه ذلك، واليمنى لها سواها.
ومن فوائد هذا
الحديث: جواز
الاستنجاء بالحجار؛ لقوله: "أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" فإنه يفيد
أن الثلاثة فما فوق يجوز الاستنجاء به.
ومن فوائد هذا
الحديث: أنه لا يجوز
الاقتصار على أقل من ثلاثة حتى لو طهر المحل لابد من ثلاثة، قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "من استجمر فليوتر".
ومن فوائد هذا
الحديث: أنه لو
استنجى بحجر ذي شعب، فإن ذلك جائز؛ لأن كل شعبة بمنزلة حجر،
ومن العلماء من قال: لا يجوز
بحجر ذي شعب؛ لأن الحديث أقل من ثلاثة أحجار،___لكن هذا
القول جمود على اللفظ؛ لأن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أحجار ألا
يمسح بوجه مرتين أو أكثر، وإنما مراده: أن يكون كل
وجه له مسحة إما بثلاثة أحجار أو بحجر ذي شعب، ولم يذكر الرسول - عليه الصلاة
والسلام- الحجر ذا الشعب؛ لأن هذا قد يكون نادرا أن يجد الإنسان حجرا فيه ثلاث شعب
متوازية بحيث إذا مسح بشعبة لم تتلوث الأخرى هذا نادر.
ومن فوائد هذا
الحديث: النهي عن
لاستنجاء بالرجيع، والرجيع ما هو؟ الروث؛ لأن الروث إن كان طاهرا فهو علف بهائم
الجن، وإن كان نجسا فالنجس لا يطهر، وكما تعلمون أن الروث ينقسم إلى قسمين على
القول الراجح: طاهر؛ وهو روث المأكول، ونجس؛ وهو روث غير المأكول.
ومن فوائد هذا
الحديث: النهي عن
الاستنجاء بالعظام لقوله: "أو عظم"، سواء كانت هذه العظام عظام ميتة او
عظام مذكاة، أو عظام مباح الأكل أو غير مباح الأكل؛ لأنه إذا كانت العظام عظام
ميتة، فهي نجسة عند جماهير العلماء،
وإذا كانت نجسة فالنجس لا
يمكن أن يطهر، وإن كانت مذكاة فهي طعام الجن، ولا يحل لنا أن نعتدي عليهم بإفساد
طعامهم، وإن كان العظم من غير المأكول فهو نجس، والنجس لا يطهر.
فإن قال قائل: هل يقيسون على هذا تحريم الاستنجاء بعلف بهائم الإنس؟
فالجواب: نعم، نقيسه قياسا جليا واضحا؛ لأنه إذا كان لا يجوز أن نفسد
علف بهائم الجن، وهو عالم غيبي فعلف بهائم الإنس من باب أولى.
وإن قال قائل: وهل يقسمون على النهي عن الاستنجاء بالعظم الاستنجاء بطعام
الإنس كاللحم أو الخبز أو ما أشبه ذلك؟
فالجواب: نعم من باب القياس الأجلى والأوضح؛ لأنه إذا كان إفساد طعام
الجن حراما فإفساد طعام الإنس من باب أولى.
فإن قال قائل: وهل
تجيزون أن يستنجي الإنسان بغير الأحجار مما يزيل الأذى؟
فالجواب: نعم نجيز ذلك، فلو
استنجى الإنسان بمناديل طاهرة منقية فلا بأس، وإن استنجى بخشبة فلا بأس، وإن
استنجى بمدر - وهو الطين اليابس- فلا بأس أيضا، ولو استنجى بزجاجة لا يجوز؛ لأنها
لا تنقي، ولو استنجى بحجر رطب لا يجوز؛ لأنه لا يطهر ولا ينشف.
فإن قال قائل: إذا
لم ينق بثلاث - أعني: الاستجمار- هل يجب أن يزيد رابعة؟ نعم يجب أن يزيد رابعة، وإذا أنقى برابعة فالأفضل أن يزيد
خامسة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من استجمر فليوتر".
من فوائد الحديث -
ونسيت أن أقولها -: تحريم العدوان على حق الغير لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء
بالرجيع أو العظم، فإذا كان يحرم العدوان من الإنس على الجن فإنه حرام من الجن___على
الإنس؛
ولهذا كان العلماء الذين وهبهم
الله - تبارك وتعالى- من القوة في الإيمان، كانوا ينكرون على الجن الذين يصرعون
الإنس، ويقولون لهم: هذا حرام عليكم وعدوان، والله تعالى لا يحب المعتدين، فربما
يدي الله هاذ الجن ويخرج وقد لا يخرج، لكن الكلام على أن العدوان محرم من الإنس
على الجن، ومن الجن على الإنس." اهـ
وقال الإثيوبي في "البحر
المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (6/ 504):
"والنهي عن
الاستنجاء باليمين يدلّ على إكرامها، وصيانتها عن الأقذار،___ونحوها؛ لأن اليمين
للأكل والشرب، والأخذ، والإعطاء، وهي مصونة عن مباشرة الثُّفْل، وعن ممارسة
الأعضاء التي هي مجاري الأثفال والنجاسات،
خلاف الشمال، فإنها لخدمة
أسفل البدن بإماطة ما هناك من الْقَذَارَات، وتنظيف ما يحدث من الإنسان وغيره،
وسيأتي تحقيق المسألة قريبًا - إن شاء الله تعالى -." اهـ
وقال الإثيوبي في "البحر
المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (6/ 505):
"(أَوْ
أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثةِ أَحْجَارٍ) أي نهانا أيضًا عن
الاستنجاء بأقلّ من ثلاثة أحجار،
وهذا نصّ صريح
صحيحٌ في أن استيفاء
ثلاث مسحات واجبٌ لا بدّ منه، وهو الصواب، والمسألة فيها خلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه
في المسألة السادسة - إن شاء الله تعالى -.
وقال الخطّابيّ - رَحِمَهُ
اللهُ -: فيه بيان أن الاستنجاء بالأحجار أحد المطهِّرين، وأنه إذا لم يستعمل
الماء لم يكن بُدّ من الحجارة، أو ما يقوم مقامها، وهو قول سفيان الثوريّ، ومالك
بن أنس، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل. انتهى." اهـ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابن
المنذر _رحمه الله_ في "الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف" (1/ 349)
دَلَّتِ الْأَخْبَارُ
الثَّابِتَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ
ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ تَجْزِي مِنَ الِاسْتِنْجَاءِ، وَبِذَلِكَ قَالَ كُلُّ مَنْ
نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِذَا أَنْقَى وَدَلَّ حَدِيثُ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَا يَجْزِي
بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ
ثم قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابن
المنذر _رحمه الله_ في "الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف" (1/ 349_350):
فَقَوْلُهُ: «لَا يَجْزِي
أَحَدَكُمْ دُونَ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ»
يَدُلُّ عَلَى إِغْفَالِ مَنْ
زَعَمَ (أَنَّ الْمَعْنَى مِنْهُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ، وَأَنَّ أَقَلَّ مِنْ
ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ تَجْزِي إِذَا نَقِي)،
وَيَلْزَمُ قَائِلَ هَذَا
الْقَوْلِ طَرْحُ الِاسْتِنْجَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْغَائِطِ___أَثَرٌ،
وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النَّاسِ،
وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ
مَعَ حَدِيثِ سَلْمَانَ يَدُلُّ أَنَّ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَا
تَجْزِي." اهـ
وقَالَ أَبُو بَكْرٍ ابن
المنذر _رحمه الله_ في "الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف" (1/ 352):
"يَسْتَنْجِي
مِنَ الْبَوْلِ بِالْأَحْجَارِ كَمَا يَسْتَنْجِي مِنَ الْغَائِطِ، رُوِّينَا عَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ بَالَ، ثُمَّ أَخَذَ حَجَرًا فَمَسَحَ بِهِ
ذَكَرَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى، وَمِمَّنْ رَأَى أَنَّ
الِاسْتِنْجَاءَ مِنَ الْبَوْلِ يَجْزِي مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ،
وَإِسْحَاقُ، وَكُلٌّ مَنْ لَقِينَاهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ." اهـ
الأوسط في السنن والإجماع
والاختلاف (1/ 353)
ذِكْرُ الِاسْتِنْجَاءِ
بِغَيْرِ الْحِجَارَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا نَحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ أَمَرَ
بِالِاسْتِنْجَاءِ بِغَيْرِ حِجَارَةِ، وَمَنِ اسْتَنْجَى بِالْحِجَارَةِ كَمَا
أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَتَى بِمَا
عَلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَنْجَى بِغَيْرِ الْحِجَارَةِ، فَالَّذِينَ نَحْفَظُ عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ قَالُوا: ذَلِكَ جَائِزٌ،
وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْحِجَارَةِ أَحْوَطُ، كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: إِنِّي
لَأَسْتَنْجِي بِالْإِذْخَرِ، وَقَالَ طَاوُسٌ: ثَلَاثَةٌ أَحْجَارٍ أَوْ
ثَلَاثَةُ حَثَيَاتٍ مِنْ تُرَابٍ أَوْ ثَلَاثَةُ أَعْوَادٍ، وَيُجْزِي كُلُّ
ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ آجُرَّاتٍ أَوْ مَقَابِسَ
أَوْ خَزَفٍ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ إِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَجَازَ
مَالِكٌ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَدَرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَرْجُو أَنْ
يَجْزِيَ مَا قَالُوا، وَلَيْسَ فِي النَّفْسِ شَيْءٌ إِذَا اسْتَنْجَى
بِالْأَحْجَارِ وَأَنْقَى، فَإِنِ اسْتَنْجَى بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، وَلَمْ
يُنْقِ زَادَ حَتَّى يُنْقِيَ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: لَا يَجْزِيهِ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ مِنَ الِامْتِسَاحِ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُبْقِ
أَثَرًا قَائِمٌا، فَأَمَّا أَثَرٌ لَاصِقٌ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الْمَاءُ
فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِنْقَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَهَدَ لَمْ يُنْقِهِ بِغَيْرِ
مَاءٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَذَلِكَ نَقُولُ."
الأوسط في السنن والإجماع
والاختلاف (1/ 355)
فَلَا يَجُوزُ
الِاسْتِنْجَاءُ بِشَيْءٍ مِمَّا نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْهُ، وَلَا بِمَا قَدِ اسْتُنْجِيَ بِهِ مَرَّةً إِلَّا أَنْ
يُطَهَّرَ بِالْمَاءِ، وَيَرْجِعُ إِلَى حَالَةِ الطَّهَارَةِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ: لَا يُسْتَنْجَى، (لَا يُسْتَنْجَى بِعَظْمٍ، وَلَا رَجِيعٍ،
وَيُكْرَهُ أَنْ يُسْتَنْجَى بِمَاءٍ قَدِ اسْتُنْجِيَ بِهِ)،
وَقَالَ إِسْحَاقُ وَأَبُو
ثَوْرٍ: (لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِعَظْمٍ وَلَا غَيْرِهِ مِمَّا نَهَى
عَنْهُ النَّبِيُّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_)،
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: (لَا
يُسْتَنْجَى بِعَظْمِ ذَكِيٍّ، وَلَا مَيِّتٍ؛ لِلنَّهْىِ عَنِ الْعَظْمِ
مُطْلَقًا، وَلَا بِحمَمِهِ)." اهـ
[1] أخرجه الطبراني في
"المعجم الكبير" (6/ 212) (رقم: 6040)، والحاكم في "المستدرك على
الصحيحين" (3/ 691) (رقم: 6541)، وهو حديث ضعيف جدا كما بينه الألباني _رحمه
الله_ في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة" (8/
176) (رقم: 3704)
Komentar
Posting Komentar