شرح الحديث 82 (باب آداب قضاء الحاجة) من بلوغ المرام

 

82 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ _رضي الله عنه_، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_:

"لَا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ، وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنَ الْخَلَاءِ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ." مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

 

ترجمة أبي قتادة الأنصاري السَّلِمِيِّ (ت 54 بـ المدينة)

 

أبو قتادة الأنصارى ، قيل اسمه : الحارث بن ربعي بن بلدمة السَّلِمِيُّ الْمَدَنِيُّ (أمه كبشة بنت مطهر)، روى له :  خ م د ت س ق

 

قال المزي في "تهذيب الكمال":

( خ م د ت س ق ): أبو قتادة الأنصارى صاحب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وفارسه ، قيل : اسمه الحارث بن ربعي، و قيل: النعمان بن ربعي، وقيل: عمرو ابن ربعي،

و المشهور: الحارث بن رِبْعِيٍّ بْنِ بَلْدَمَةَ بِن خُنَاسِ بْنِ سِنَانٍ بْنِ عُبَيْدٍ بْنِ عَدِيٍّ بْنِ غَنْمٍ بْنِ كَعْبٍ بْنِ سَلِمَةَ السَّلِمِيُّ الْمَدَنِيُّ .

 

وأمه:  كبشة بنت مطهر بن حرام بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة .

 

مناقبه:

وقال المزي:

ذكره محمد بن سعد فى الطبقة الثانية، وقال : "شهد أحدا، والخندق، وما بعد ذلك من المشاهد مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_" اهـ

 

ففي "صحيح مسلم" (3/ 1439) (رقم: 1807):

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ»

.

و قال أبو نضرة ، عن أبى سعيد الخدري: أخبرنى من هو خير مني أبو قتادة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعمار : " تقتلك الفئة الباغية " . م (2915)

 

قال الواقدى ، عن يحيى بن عبد الله بن أبى قتادة : توفى أبو قتادة بالمدينة سنة أربع و خمسين (54 هـ)، و هو ابن سبعين (70) سنة .

 

و قال عمرو بن علي: مات بالمدينة سنة أربع و خمسين، وهو ابن اثنتين و سبعين (72) سنة .

و قال الهيثم بن عدي، و غير واحد: مات بالكوفة و صلى عليه على . قال بعضهم: سنة ثمان و ثلاثين .

 

قال الواقدى : و لم أر بين ولد أبى قتادة و أهل البلد عندنا اختلافا : أن أبا قتادة توفى بالمدينة ،

وروى أهل الكوفة : أنه توفى بالكوفة و على بن أبى طالب بها و هو صلى عليه ، فالله أعلم .

 

قال الحافظ في "تهذيب التهذيب" (12 / 205):

و حكى خليفة أن ذلك ( أى وفاته ) كان سنة ثمان و ثلاثين، وهو شاذ، و الأكثر على أنه مات سنة أربع و خمسين (54 هـ).

 

و مما يؤيد ذلك أن البخارى ذكره فى " الأوسط " فى فصل من مات بعد الخمسين إلى الستين ثم روى بإسناده إلى مروان بن الحكم قال : كان واليا على المدينة من قبل معاوية أرسل إلى أبى قتادة ليريه مواقف النبى صلى الله عليه و آله وسلم و أصحابه .

 

و قال ابن عبد البر: روي من وجوه عن موسى بن عبد الله و الشعبى أنهما قالا : صلى علي على أبى قتادة ، و كبر عليه سبعا .

 

قال الشعبى : و كان بدريا .

 

و رجح هذا ابن القطان، و لكن قال البيهقى: رواية موسى و الشعبى غلط لإجماع أهل التاريخ على أن أبا قتادة بقي إلى بعد الخمسين .

 

قلت : و لأن أحدا لم يوافق الشعبى على أنه شهد بدرا ، و الظاهر أن الغلط فيه ممن دون الشعبى، و الله تعالى أعلم . اهـ .

 

نص الحديث وشرحه:

 

وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ _رضي الله عنه_، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_:

"لَا يمسن (يُمْسِكَنَّ) أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ، وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنَ الْخَلَاءِ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ." مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

 

وفي "مسند أحمد - عالم الكتب (5/ 300):

رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَمَسُّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ ، وَلاَ يَسْتَنْجِي بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَتَنَفَّسُ فِي الإِنَاءِ).

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 558)

في اختلاف أهل العلم في حكم الاستنجاء باليمين:

ذهب الجمهور إلى أن النهي فيه للتنزيه، وذهب الظاهريّة إلى أنه للتحريم، حتى قال الحسين بن عبد الله الناصريّ في كتابه "البرهان على مذهب___أهل الظاهر": ولو استنجى بيمينه لا يُجزيه، وهو وجه عند الحنابلة، وطائفة من الشافعيّة؛ قاله العينيّ.

ومال العلامة الشوكانيّ - رَحِمَهُ اللهُ - إلى رأي أهل الظاهر، حيث قال: وهو الحقّ؛ لأن النهي يقتضي التحريم، ولا صارف له، فلا وجه للحكم بالكراهة فقط. انتهى

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الشوكانيّ هو الصواب، وأما ما قاله في "الفتح" من أن القرينة الصارفة للنهي عن التحريم هي أن ذلك من الآداب، فقد تعقّبه الصنعانيّ - رَحِمَهُ اللهُ -، فقال: ولا يخفى بُعد هذه القرينة. انتهى.

والحاصل: أن كون النهي هنا للتحريم هو الأظهر؛ لعدم وجود صارف معتبر، وقولهم: "يصرفه كونه للأدب" عجيب، كيف يكون كونه أدبًا صارفًا عن التحريم؟ ، أليست كلّ الأحكام الشرعية أوامرها، ونواهيها آدابًا، وإرشادات، فهل كلّها للندب، والكراهة التنزيهيّة؟ إن هذا لهو العجب العجاب!!!

وخلاصة القول: أن كون الشيء أدبًا من الآداب الشرعيّة لا ينافي وجوبه، أو تحريمه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وملجأ العنيد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه البخاري في "صحيحه" (1/ 42 و 7/ 112) (رقم: 153_154 و 5630)، ومسلم في "صحيحه" (1/ 225/ 63) (رقم: 267)، وأبو داود في "سننه" (1/ 8) (رقم: 31)، والنسائي في "سننه" (1/ 43) (رقم: 47_48)، وأحمد في "مسنده" – ط. عالم الكتب (4/ 383 و 5/ 296 و 5/ 300 و 5/ 309 و 5/ 310 و 5/ 311) (19419 و 22534 و 22565 و 22638 و 22647 و 22655)، سنن الدارمي (2/ 1348) (رقم: 2168)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 43) (رقم: 78_79)، وأبو عوانة في "مستخرجه" (1/ 187) (رقم: 588_591)، وابن الأعرابي في "المعجم" (1/ 31) (رقم: 12)، والمحاملي في "الأمالي" - رواية ابن يحيى البيع (ص: 318) (رقم: 341)، وتمام في "فوائد" (1/ 241) (رقم: 584)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 180 و 7/ 462) (رقم: 543 و 14654)، و"الآداب" (ص: 181) (رقم: 441)

 

من فوائد الحديث:

 

وقال ابن بطال في "شرح صحيح البخارى" (1/ 243):

"التنفس فى الإناء منهى عنه كما نُهى عن النفخ فى الإناء، وإنما السنة إراقة القذى من الإناء لا النفخ فيه، ولا التنفس، لئلا يتقذره جلساؤه." اهـ

 

وقال ابن بطال في "شرح صحيح البخارى" (6/ 79):

"قال المهلب: التنفس إنما نهى عنه عليه السلام كما نهى عن النفخ فى الطعام والشراب - والله أعلم - من أجل أنه لا يؤمن أن يقع فيه شىء من ريقه، فيعافه الطاعم له ويستقذر أكله؛ إذ كان التقذر فى باب الطعام والشراب، والتنظف فيه الغالب على طباع أكثر الناس،

فنهاه عن ذلك؛ لئلا يفسد الطعام والشراب على من يريد تناوله هذا إذا أكل أو شرب مع غيره، وإذا كان الإنسان يأكل أو يشرب وحده أو مع أهله أو مع من يعلم أنه لا يقذر شيئا مما يأكل منه، فلا بأس بالتنفس فى الإناء، كما فعل النبى مع عمر بن أبى سلمة أمره أن يأكل مما يليه، وكان هو عليه السلام، يتتبع الدباء فى الصحفة،

علما منه أنه لا يقذر منه شىء عليه السلام، وكيف يظن ذلك وكان إذا تنخم تبادر أصحابه نخامته فدلكوا بها وجوههم، وكذلك فضل وضوئه، فهذا فرق بين فعل النبى وأمره غيره بالأكل مما يليه." اهـ

 

وقال ابن بطال في "شرح صحيح البخارى" (1/ 244):

"وهذا كله من باب الأدب، وتفضيل الميامن، ألا ترى قول عثمان: ولا مسست ذكرى بيمينى مذ بايعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فينبغى التأدب بأدب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وسلف الصحابة، وتنزيه اليمنى عن استعمالها فى الأقذار ومواضعها." اهـ

 

وقال عبد الله بن عبد الرحمن البسام في "توضيح الأحكام من بلوغ المرام" (1/ 341_342):

"* ما يؤخذ من الحديث:

1 - النَّهي عن مَسِّ الذكَرِ باليمنَى حال البول.

2 - النَّهي عن مسِّ المرأة فرجَهَا باليمنَى حال البول.

3 - النَّهي عن الاستجمارِ باليمنَى، ومثله الاستنجاء بها.___

4 - وجوبُ اجتناب الأشياء النجسة، فإذا اضطرَّ إلى مباشرتها، فليكن باليسار.

5 - بيانُ شرفِ اليدَ اليمنَى وفضلِها على اليد اليسرى.

6 - أنْ تُعَدَّ اليمنى للأشياء المستطابة؛ لما في الصحيحين: "كان يعجبه التيمن في تنعله وطهوره وفي شأنه كله".

7 - النَّهي عن التنفُّس في الإنَاءِ حيث يكرهه مَنْ بعده، ولئلا يسقُطَ فيه شيءٌ من فضلات فمه أو أنفه، وربما عاد الضرر على الشَّارب أيضًا.

8 - العناية بالنَّظافة لا سيَّما في المأكولات والمشروبات التي يحصُلُ من تلوُّثها ضررٌ في الصحة.

9 - سموُّ الشريعة الإسلامية حيثُ أمرَتْ بكلِّ نافعٍ، ونهت عن كلِّ ضارٍّ؛ فهذا الحديثُ جمَعَ الأدبَ والتوجيه الرشيد في إدخال ما ينفع البدن ويغذِّيه، وفي حالِ إخراج فضلاته النجسة." اهـ

 

وقال العثيمين _رحمه الله_ في "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" – ط. المكتبة الإسلامية (1/ 296_298):

"أما هذا الحديث، ففيه فوائد:

"أولا: نهي الإنسان عن مس ذكره بيمينه وهو يبول والنهي هنا صريح، وهذا النهي أيضا مؤكد بنون التوكيد، فهل هذا النهي للتحريم أو للكراهة؟ جمهور العلماء على أنه للكراهة___وليس للتحريم؛ لأنه من باب الأدب؛ إذ النهي لا يعدو أحد أمرين إما أن يكون تكريما لليمين، وإما أن يكون لخوف أن تتلوث اليمين بالبول فتكون منتنة، وأيا كان فإن هذا لا يقتضي أن يكون النهي للتحريم، لكن حقيقة الأمر أن القول بأنه للتحريم قول قوي؛ لأنه مؤكد حيث قال: "لا يمسن"، وهذا قول أهل الظاهر أن النهي للتحريم.

ومن فوائد هذا الحديث: جواز مس الإنسان ذكره بيده اليمنى في غير حال البول، من أين تؤخذ؟ من قوله: "وهو يبول"،

وهذا هو الأصل في المفهوم أن يكون مفهوم مخالفة؛ أي: أن المفهوم يخالف المنطوق بالحكم هذا هو الأصل، وربما يقوي هذا الأصل أنه إذا مس ذكره بيمينه وهو يبول صارت عرضة للتلوث بالنجاسة بخلاف ما إذا مسه من غير أن يكون على البول،

ومن العلماء من قال: إنه لا يمسن ذكره بيمينه لا حال البول لا غيره، وأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مس الذكر باليمين حال البول مع أن الإنسان قد يحتاج إليه ففي غير ذلك من باب أولى، وعلى هذا فالمسألة محتملة، وإذا كانت محتملة فما هو الورع؟ عدم المس مطلقا؛ لكننا لا نجزم بأن هذا عام؛ لأن التقييد بكونه يبول لا شك أن له مناسبة وهي الحاجة.

فإن قال قائل: إذا كانت الإنسان لا يستطيع أن يستجمر باليسار فماذا يفعل؟

قلنا: الحاجة لها أحكام وسيأتي - إن شاء الله- الكلام عليها في الحديث الذي بعده.

ومن فوائد هذا الحديث: أن اليمين خير من اليسار وهذا مطرد في الأمر الكونية والأمور الشرعية:

* أما الأمور الكونية: فلا يخفى علينا جميعا أن الله تعالى جعل في اليمين من القوة ما ليس في اليسار فهي التي يأخذ بها ويكتب بها، ويأكل بها، ويحمل بها الثقيل، وهذا من الميزة القدرية،

* وأما الشرع: فكما رأيتم أنه نهى عن مس الذكر باليمين في حال البول، والمس باليسار لا بأس به.

ومن فوائد هذا الحديث: جواز التصريح بلفظ البول، وأنه لا يعد مخالفا للحياء؛ لأن الذي عبر به أحيا الناس، وهو النبي - عليه الصلاة والسلام-، فقال: "وهو يبول"

وأما ما يستعمله الناس الآن إذا أراد أن يبول يقول: أطير الماء فهذا لا أصل له، بل قال صاحب الفروع رحمه الله:

الأولى أن يقول: أبول، ولا يقول: أريق الماء؛ لأن البول ليس ماء؛ ولأن التعبير بالبول ومشتقاته وارد في السنة، قال النبي - عليه الصلاة والسلام- في البول: "أما أحدهما فكان لا يستتر من البول". وهنا المشتق وهو يبول، فالصواب جواز التعبير بهذا.___

فإذا قال قائل: إنه يعتبر مخالفا للمروءة، أعني: التصريح بالبول في عرفنا الآن، فهل نقول: العرف كما يغير المعاني فهو أيضا يغير الأحوال، أليس المرجع في الإيمان إلى ما تقتضيه الكلمة في العرف قبل أن نرجع إلى ما تقتضيه في اللغة،

فإذا كان العرف المطرد عند الناس كراهة التصريح بالبول ومشتقاته وعبروا عن ذلك بكناية تدل عليه، وليس فيها محذور شرعي فعندي أنه لا بأس بها؛ ولهذا قال صاحب الفروع: "الأولى"، ولم يقل: يجب، بل قال: الأولى، ولعله في عرفه - صاحب الفروع- لم تصل الحال إلى ما وصلت إليه اليوم، فإن لفظ البول اليوم جدا مكروه عند الناس في غير الحديث، الحديث يقبله الناس إذا مر به، لكن في الكلام العادي لو قلت: أبول، أو بلت اليوم، عند العامة ماذا يقول؟ يستقذر جدا ويقول: هذا ما يصلح، فلا أرى مانعا إذا كان هذا عند الناس من الألفاظ التي يستحيا منها ويكنى عنها بما يدل عليها من غير محذور شرعي لا أرى في ذلك بأسا." اهـ

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 298_299):

ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن التمسح من الخلاء باليمين، لقوله: "ولا يتمسح من الخلاء بيمينه"، وهل هو مكروه أو محرم؟ ذكر بعض العلماء أنه حرام؛ لأنه هو الأصل في___النهي؛ ولأنه إذا تمسح باليمين تلوثت اليمين بالنجاسة، واليمين لها الكرامة والبعد عن هذا الشيء، ولهذا كان الاستنثار وهو ليس نجسا باليسار، ومن العلماء من قال: إن النهي للكراهة؛ لأن من باب الأدب والورع أن يتجنب الإنسان هذا إلا للحاجة.

ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن التنفس في الإناء لقوله: "ولا يتنفس في الإناء"، وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون هذا الإناء يشرب منه غيره أو لا يشرب؛ لأنه مطلق "ولا يتنفس في الإناء".

فإن قال قائل: وإذا اضطر الإنسان إلى التنفس إما لكونه قصير النفس، أو لكونه يحتاج إلى شرب ماء كثير لا يدركه بنفس واحد؟

قلنا: يفصل الإناء ويتنفس، والسنة أن يتنفس في الشراب ثلاث مرات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا أهنأ وأبرأ وأمرأ". اهـ

 

وقال فيصل بن عبد العزيز الحريملي في "تطريز رياض الصالحين" (ص: 926_927):

"فيه: النهي عن إمساك الذكر باليمين عند البول. وعن إزالة الأذي باليمين.

وفيه: النهي عن التنفس في الإناء، أي: داخله؛ لأن التنفس فيه مستقذر، وربما أفسد على غيره. وأما إذا أبانَ الإِناء، وتنفس خارجه فهو السنة.___

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت يد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه، وما كان من أذى. رواه أبو داود." اهـ

 

عمدة القاري شرح صحيح البخاري (2/ 296)

(بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول كَرَاهَة التنفس فِي الْإِنَاء وَقد ذَكرْنَاهُ مفصلا. الثَّانِي فِيهِ جَوَاز الشّرْب من نفس وَاحِد لِأَنَّهُ إِنَّمَا نهى عَن التنفس فِي الْإِنَاء وَالَّذِي شرب فِي نفس وَاحِد لم يتنفس فِيهِ فَلَا يكون مُخَالفا للنَّهْي وَكَرِهَهُ جمَاعَة وَقَالُوا هُوَ شرب الشَّيْطَان وَفِي التِّرْمِذِيّ محسنا من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مَرْفُوعا لَا تشْربُوا وَاحِدًا كشرب الْبَعِير وَلَكِن اشربوا مثنى وَثَلَاث وَسموا إِذا أَنْتُم شربتم واحمدوا إِذا أَنْتُم رفعتم الثَّالِث فِيهِ النَّهْي عَن مس الذّكر بِالْيَمِينِ الرَّابِع فِيهِ النَّهْي عَن الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ الْخَامِس فِيهِ فضل الميامن وَالله أعلم بِالصَّوَابِ

 

أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري) (1/ 244_245):

نهيه عن التنفس في الإناء نهي أدب وتعليم، وذلك أنه إذا فعل ذلك لم يأمن أن يبدر من فيه الريق فيخالط الماء فيعافه الشارب منه، وربما تروح بنكهة المتنفس إذا كانت فاسدة، والماء للطفه ورقة طبعه تسرع إليه الروائح، ثم إنه من فعل الدواب إذا كرعت في الأواني جرعت ثم تنفست فيه، ثم عادت فشربت،

وإنما السنة___والأدب أن يشرب الماء في ثلاثة أنفاس، كلما شرب نفسا من الإناء نحاه عن فمه، ثم عاد مصا له، غير عب إلى أن يأخذ ريه منه.

ونهيه عن مس الذكر بيمينه، تنزيه لها عن مباشرة العضو الذي يكون منه الأذى والحدث، وكان صلى الله عليه وسلم يجعل يمناه لطعامه وشرابه ولباسه، ويسراه لخدمة أسافل بدنه. وكذلك الأمر في نهيه عن الاستنجاء باليمين إنما هو تنزيه وصيانة لقدرها عن مباشرة ذلك الفعل.

وإذا كان مس الذكر باليمين منهيا عنه، والاستنجاء بها منهيا عنه كذلك فقد يحتاج البائل في بعض الأحوال أن يتأنى لمعالجة ذلك وأن يرفق فيه، وذلك إن لم يجد (إلا) حجرا ضخما لا يزول عن المكان إذا اعتمده أو لم يجد (إلا) جذم حائط أو نحوه فيحتاج إلى أن يلصق مقعدته بالأرض ويمسك (الممسوح) بين عقبيه، ويتناول عضوه بشماله فيمسحه به، وينزه عنه يمينه ليخرج به عن النهي في الوجهين معاً." اهـ

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 554)

وقال ابن دقيق العيد - رَحِمَهُ اللهُ -: ظاهر النهي التحريم، وعليه حمله الظاهريّة، وجمهور الفقهاء على الكراهة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: حمله على التحريم هو الأرجح؛ لأن الأصل في المناهي للتحريم، وسيأتي تحقيق الحقّ فيه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 557_558)

في فوائده:

1 - (منها): بيان النهي عن مسّ الذكر بيمينه عند البول.

2 - (ومنها): النهي عن الاستنجاء باليمين.

3 - (ومنها): النهي عن التنفّس عند الشرب في الإناء.

4 - (ومنها): أن فيه إشارةً إلى جواز الشرب في نَفَس واحد؛ لأنه إنما نهي عن التنفّس في الإناء، والذي يشرب في نفس واحد، ولم يتنفّس في الإناء، فلا يكون مخالفًا للنهي، وهو مقتضى حديث أبي سعيد الخدريّ منه، حيث أقرّه - صلى الله عليه وسلم - عليه، وقال المازريّ: ومذهبنا جوازه، وحكاه القاضي عن ابن المسيّب، وعطاء، وعمر بن عبد العزيز، قال: وكرهه ابن عبّاس، وطاوس، وعكرمة، وقالوا: هو شرب الشيطان؛ قاله ابن الملقّن - رَحِمَهُ اللهُ – ["الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 502 - 503]

قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - المشار إليه هو ما أخرجه أحمد، والترمذيّ - رَحِمَهُ اللهُ - بسند حسن، عن أبي سعيد الخدريّ، أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن النفخ في الشرب، فقال رجل: القَذَاة أراها في الإناء؟ قال: "أهرقها"، قال: فإني لا أَرْوَى من نَفَسبى واحد، قال: "فَأَبِن القَدَحَ إِذَنْ عن فيك". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى [أخرجه أحمد في "مسنده" برقم (10771 و 11227)، والترمذيّ برقم (1809)].

ووجه الاستدلال أنه - صلى الله عليه وسلم - أقرّه على قوله: "من نفَس واحد"، وإنما أرشده إلى إبانة القدح عن فيه؛ لأجل أن يروي، فدلّ على جواز الشرب من نفس واحد.

قال الحافظ ابن عبد البرّ - رَحِمَهُ اللهُ - في "التمهيد" بعد أن أورد حديث أبي سعيد المذكور ما نصّه: وفيه إباحة الشرب في نَفَس واحد، وكذلك قال مالك - رَحِمَهُ اللهُ - ثم أخرج بسنده، عن ابن القاسم، عن مالك، أنه رأى في قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي قال له: إني لا أَرْوَى من نفس واحد، فقال له النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "فأَبِنِ القَدَح عن فيك"، قال مالك: فكأني أرى في ذلك الرخصة أن يشرب من___نفس واحد ما شاء، ولا أرى بأسًا بالشرب من نفس واحد، وأرى فيه رخصة لموضع الحديث: "إني لا أروى من نفس واحد"، قال أبو عمر: يريد مالك - رَحِمَهُ اللهُ - أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ ينه الرجل حين قال له: "إني لا أروى من نفس واحد" أن يشرب في نفس واحد، بل قال له كلامًا، معناه: فإن منت لا تروى في نفس واحد، فأبن القدح عن فيك، وهذا إباحة منه للشرب من نفس واحد إن شاء الله.

وقد رُوِيت آثار عن بعض السلف فيها كراهة الشرب في نفس واحد، وليس منها شيء تجب به حجة، ثم أخرج بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: الشراب بنفس واحد شرب الشيطان، وفي سنده إبراهيم بن أبي حبيبة، قال أبو عمر: ضعيفٌ، لا يحتجّ به، ولو صح كان المصير إلى المسند أولى من قول الصاحب [راجع: "التمهيد" 1/ 392 - 393].

قال الجامع عفا الله عنه: يعني أن ما دلّ عليه حديث أبي سعيد - رضي الله عنهما - من جواز الشرب بنفس واحد أولى من هذا الموقوف الضعيف؛ لأنه مرفوع، وصحيح.

والحاصل أن الشرب بنفس واحد لا كراهة فيه، ولكن المستحبّ أن يشرب بثلاثة أنفاس؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتنفس في الشراب ثلاثًا، ويقول: إنه أروي، وأبرأ، وأمرأ، قال أنس: فأنا أتنفس في الشراب ثلاثًا، متّفقٌ عليه، واللفظ لمسلم. وسيأتي تمام البحث في "كتاب الأشربة" - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

Komentar

Postingan populer dari blog ini

فضائل عشر ذي الحجة