شرح الحديث 33 (17- باب دعوة الوالدين) من الأدب المفرد
33 - حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ شُرَحْبِيلَ، أَخِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يَقُولُ: «مَا
تَكَلَّمَ مَوْلُودٌ مِنَ النَّاسِ فِي مَهْدٍ إِلَّا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ»، قِيلَ:
"يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَا صَاحِبُ جُرَيْجٍ؟" قَالَ:
«فَإِنَّ
جُرَيْجًا كَانَ رَجُلًا رَاهِبًا فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ، وَكَانَ رَاعِيْ بَقَرٍ
يَأْوِي إِلَى أَسْفَلِ صَوْمَعَتِهِ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْقَرْيَةِ تَخْتَلِفُ إِلَى الرَّاعِي، فَأَتَتْ أُمُّهُ يَوْمًا فَقَالَتْ:
"يَا جُرَيْجُ." وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ
يُصَلِّي: "أُمِّي وَصَلَاتِي؟" فَرَأَى
أَنْ يُؤْثِرَ صَلَاتَهُ، ثُمَّ
صَرَخَتْ بِهِ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: "أُمِّي
وَصَلَاتِي؟" فَرَأَى أَنْ يُؤْثِرَ صَلَاتَهُ، ثُمَّ
صَرَخَتْ بِهِ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: "أُمِّي وَصَلَاتِي؟" فَرَأَى
أَنْ يُؤْثِرَ صَلَاتَهُ. فَلَمَّا
لَمْ يُجِبْهَا قَالَتْ: "لَا أَمَاتَكَ اللَّهُ _يَا جُرَيْجُ_ حَتَّى
تَنْظُرَ فِي وَجْهِ الْمُومِسَاتِ." ثُمَّ
انْصَرَفَتْ. فَأُتِيَ الْمَلِكُ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ وَلَدَتْ، فَقَالَ:
"مِمَّنْ؟" قَالَتْ: "مِنْ جُرَيْجٍ"، قَالَ:
"أَصَاحِبُ الصَّوْمَعَةِ؟" قَالَتْ: "نَعَمْ"، قَالَ:
"اهْدِمُوا صَوْمَعَتَهُ، وَأْتُونِي بِهِ." فَضَرَبُوا
صَوْمَعَتَهُ بِالْفُئُوسِ حَتَّى وَقَعَتْ. فَجَعَلُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ
بِحَبْلٍ، ثُمَّ انْطُلِقَ بِهِ، فَمُرَّ بِهِ عَلَى الْمُومِسَاتِ، فَرَآهُنَّ
فَتَبَسَّمَ، وَهُنَّ يَنْظُرْنَ إِلَيْهِ فِي النَّاسِ، فَقَالَ
الْمَلِكُ: "مَا تَزْعُمُ هَذِهِ؟" قَالَ: (مَا
تَزْعُمُ؟) قَالَ: "تَزْعُمُ أَنَّ
وَلَدَهَا مِنْكَ". قَالَ: (أَنْتِ
تَزْعُمِينَ؟) قَالَتْ: "نَعَمْ"، قَالَ: (أَيْنَ هَذَا الصَّغِيرُ؟) قَالُوا:
"هَذا هُوَ فِي حِجْرِهَا". فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: (مَنْ
أَبُوكَ؟)، قَالَ: "رَاعِي الْبَقَرِ." قَالَ
الْمَلِكُ: "أَنَجْعَلُ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟" قَالَ:
(لَا)، قَالَ: "مِنْ فِضَّةٍ؟" قَالَ:
(لَا)، قَالَ: "فَمَا نَجْعَلُهَا؟"
قَالَ: (رُدُّوهَا
كَمَا كَانَتْ)، قَالَ: "فَمَا الَّذِي تَبَسَّمْتَ؟" قَالَ: (أَمْرًا
عَرَفْتُهُ، أَدْرَكَتْنِي دَعْوَةُ أُمِّي)، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ." [قال الشيخ الألباني: صحيح] |
رواة
الحديث:
* حَدَّثَنَا
عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ (ثقة: 226 هـ):
عياش بن
الوليد الرقام القطان ، أبو الوليد البصرى، روى له: خ د س
* قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى (ثقة: 189 هـ):
عبد الأعلى بن
عبد الأعلى بن محمد القرشي البصري السَّامِيُّ[1]،
أبو محمد، (ولَقَبُهُ: أبو همام)، من الوسطى من أتباع التابعين، روى له: خ م د ت
س ق
* قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ (صدوق يدلس: ت
150 هـ):
محمد بنُ
إسحاق بْنِ يَسَارٍ المدني، أبو بكر، القرشي المطلبي مولاهم (نزيل العراق، إمامُ
المغازي)، من صغار التابعين، روى له: خت م د ت س ق
تابعه عليه مُسْلِمُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ في "صحيح البخاري"، ويَزِيدُ بْنُ هَارُونَ في
"صحيح مسلم."
* عَنْ
يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ (ثقة: ت 122
هـ بـ المدينة):
يزيد بن عبد
الله بن قُسَيْط بْنِ أسامة بن عُمير الليثيُّ، أبو عبد الله المدني، الأعرج، من
طبقةٍ تلى الوسطى من التابعين، روى له: خ م د ت س ق
* عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، أَخِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ (مقبول):
محمد بن ثابت
القرشي العبدري، أبو مصعب الحجازي، من طبقة تلى الوسطى من التابعين، روى له: بخ
تابعه عليه
ابن سيرين في رواية البخاري ومسلم في "صحيحهما"
* عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ (ت 57 هـ):
أبو هريرة
الدوسى اليماني (حافظ الصحابة، عبد الرحمن بن صخر) _رضي الله عنه_، روى له: خ م د
ت س ق
نص
الحديث وشرحه:
عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ:
«مَا
تَكَلَّمَ مَوْلُودٌ مِنَ النَّاسِ فِي مَهْدٍ، إِلَّا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ _صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ»،
[تعليق]:
وفي
رواية مسلم في "صحيحه" (4/ 1977):
"لَمْ
يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ:
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ...
وَبَيْنَا
صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ
رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ، وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ:
"اللهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا"، فَتَرَكَ الثَّدْيَ، وَأَقْبَلَ
إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: "اللهُمَّ
لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ."
ثُمَّ
أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ. قَالَ: "فَكَأَنِّي أَنْظُرُ
إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَحْكِي
ارْتِضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ، فَجَعَلَ يَمُصُّهَا،
قَالَ:
«وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ، وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا، وَيَقُولُونَ: (زَنَيْتِ،
سَرَقْتِ)، وَهِيَ تَقُولُ: (حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)،
فَقَالَتْ
أُمُّهُ: "اللهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا"، فَتَرَكَ
الرَّضَاعَ، وَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: (اللهُمَّ
اجْعَلْنِي مِثْلَهَا)، فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ، فَقَالَتْ:
"حَلْقَى."
مَرَّ
رَجُلٌ
حَسَنُ الْهَيْئَةِ فَقُلْتُ: اللهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: (اللهُمَّ
لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ)، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الْأَمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا
وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، فَقُلْتُ: (اللهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي
مِثْلَهَا)، فَقُلْتَ: (اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا)،
قَالَ: إِنَّ
ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا، فَقُلْتُ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ،
وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا زَنَيْتِ وَلَمْ تَزْنِ، وَسَرَقْتِ وَلَمْ
تَسْرِقْ فَقُلْتُ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا ".
قِيلَ:
"يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَا صَاحِبُ جُرَيْجٍ؟"
[تعليق]:
وفي "تاريخ
أصبهان" = أخبار أصبهان" (2/ 297)لأبي نعيم بإسناد حسن:
عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ:
"كَانَ
تَاجِرٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ يَنْقُصُ مَرَّةً وَيَزِيدُ أُخْرَى
فَقَالَ: «مَا لِي فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ مِنْ خَيْرٍ، لَأَلْتَمِسُ تِجَارَةً
لَا نُقْصَانَ فِيهَا» فَأَتَى صَوْمَعَةً فَتَرَهَّبَ فِيهَا، فَكَانَ يُسَمَّى جُرَيْجًا " فَذَكَرَ قِصَّةَ جُرَيْجٍ بِطُولِهِ
قَالَ:
«فَإِنَّ جُرَيْجًا كَانَ رَجُلًا رَاهِبًا فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ، وَكَانَ رَاعِيْ
بَقَرٍ يَأْوِي إِلَى أَسْفَلِ صَوْمَعَتِهِ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْقَرْيَةِ تَخْتَلِفُ إِلَى الرَّاعِي،
[تعليق]:
وفي
"صحيح البخاري" (2/ 64): "وَكَانَتْ تَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ
رَاعِيَةٌ تَرْعَى الغَنَمَ." اهـ
وفي
"المُخَلِّصِيَّاتِ" (1/ 282) (رقم: 416) للمخَلِّص (المتوفى: 393هـ):
"وكانَ يَخرجُ إلى صومعتِهِ رَاعي ضأنٍ وراعيةُ مِعزى."
وقال
الحافظ ابن حجر _رحمه الله_ في "فتح الباري" (6/ 481):
"وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذِهِ
الْمَرْأَةِ، لَكِنْ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : (أَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ مَلِكِ الْقَرْيَةِ)، وَفِي
رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ: «وَكَانَتْ تَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى
الْغَنَمَ»،
وَنَحْوَهُ
فِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي
سَلَمَةَ: «وَكَانَ عِنْدَ صَوْمَعَتِهِ
رَاعِي ضَأْنٍ وَرَاعِيَةُ مِعْزَى»،
وَيُمْكِنُ
الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ: بِأَنَّهَا
خَرَجَتْ مِنْ دَارِ أَبِيهَا بِغَيْرِ عِلْمِ أَهْلِهَا مُتَنَكِّرَةً، وَكَانَتْ
تَعْمَلُ الْفَسَادَ إِلَى أَنِ ادَّعَتْ أَنَّهَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَفْتِنَ
جُرَيْجًا فَاحْتَالَتْ بِأَنْ خَرَجَتْ فِي صُورَةِ رَاعِيَةٍ لِيُمْكِنَهَا أَنْ
تَأوِيَ إِلَى ظِلِّ صَوْمَعَتِهِ لِتَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى فِتْنَتِهِ."
اهـ
فَأَتَتْ
أُمُّهُ يَوْمًا فَقَالَتْ: "يَا جُرَيْجُ." وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ
فِي نَفْسِهِ وَهُوَ يُصَلِّي: "أُمِّي وَصَلَاتِي؟"
فَرَأَى أَنْ
يُؤْثِرَ صَلَاتَهُ،
ثُمَّ
صَرَخَتْ بِهِ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ فِي
نَفْسِهِ: "أُمِّي وَصَلَاتِي؟" فَرَأَى أَنْ يُؤْثِرَ صَلَاتَهُ،
ثُمَّ
صَرَخَتْ بِهِ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ:
"أُمِّي وَصَلَاتِي؟" فَرَأَى أَنْ يُؤْثِرَ صَلَاتَهُ.
فَلَمَّا لَمْ
يُجِبْهَا، قَالَتْ: "لَا أَمَاتَكَ اللَّهُ _يَا جُرَيْجُ_ حَتَّى تَنْظُرَ
فِي وَجْهِ الْمُومِسَاتِ."
ثُمَّ
انْصَرَفَتْ.
[تعليق]:
وفي رواية البخاري: «فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ
وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا،
فَوَلَدَتْ غُلاَمًا»
فَأُتِيَ
الْمَلِكُ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ وَلَدَتْ، فَقَالَ: "مِمَّنْ؟" قَالَتْ: "مِنْ جُرَيْجٍ"، قَالَ:
"أَصَاحِبُ الصَّوْمَعَةِ؟" قَالَتْ: "نَعَمْ"،
قَالَ: "اهْدِمُوا صَوْمَعَتَهُ، وَأْتُونِي بِهِ."
فَضَرَبُوا
صَوْمَعَتَهُ بِالْفُئُوسِ حَتَّى وَقَعَتْ. فَجَعَلُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ
بِحَبْلٍ، ثُمَّ انْطُلِقَ بِهِ، فَمُرَّ بِهِ عَلَى الْمُومِسَاتِ، فَرَآهُنَّ، فَتَبَسَّمَ، وَهُنَّ يَنْظُرْنَ
إِلَيْهِ فِي النَّاسِ،
فَقَالَ
الْمَلِكُ: "مَا تَزْعُمُ هَذِهِ؟" قَالَ: (مَا
تَزْعُمُ؟) قَالَ: "تَزْعُمُ أَنَّ وَلَدَهَا
مِنْكَ".
قَالَ:
(أَنْتِ تَزْعُمِينَ؟) قَالَتْ: "نَعَمْ"،
قَالَ: (أَيْنَ هَذَا الصَّغِيرُ؟)
[تعليق]:
وفي
"صحيح البخاري" (2/ 64) : "قَالَ: يَا بَابُوسُ، مَنْ
أَبُوكَ؟"
وفي
"فتح الباري" لابن حجر (6/ 482):
"وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الرَّاعِي،
وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَهُ صُهَيْبٌ، وَأَمَّا
الِابْنُ: فَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ بِلَفْظٍ، فَقَالَ: (يَا أَبَا
بَوْسٍ) وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَوَاخِرَ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ اسْمُهُ
كَمَا زَعَمَ الدَّاوُدِيُّ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الصَّغِيرُ
قَالُوا:
"هَذا هُوَ فِي حِجْرِهَا".
فَأَقْبَلَ
عَلَيْهِ، فَقَالَ: (مَنْ أَبُوكَ؟)، قَالَ: "رَاعِي الْبَقَرِ."
قَالَ
الْمَلِكُ: "أَنَجْعَلُ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟"
قَالَ: (لَا)، قَالَ: "مِنْ فِضَّةٍ؟"
قَالَ: (لَا)، قَالَ: "فَمَا
نَجْعَلُهَا؟" قَالَ: (رُدُّوهَا
كَمَا كَانَتْ)، قَالَ: "فَمَا الَّذِي تَبَسَّمْتَ؟" قَالَ: (أَمْرًا
عَرَفْتُهُ، أَدْرَكَتْنِي دَعْوَةُ أُمِّي)، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ "
تنبيه
ورد الحديث
كاملاً في "صحيح البخاري" (4/ 165) (رقم : 3436) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
_رضي الله عنه_، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
«لَمْ
يَتَكَلَّمْ فِي المَهْدِ إِلَّا ثَلاَثَةٌ: عِيسَى، وَكَانَ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ (جُرَيْجٌ)،
كَانَ يُصَلِّي، جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ
أُصَلِّي، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ
المُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ،
فَتَعَرَّضَتْ
لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ
نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا
صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ
وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الغُلاَمَ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟
قَالَ: الرَّاعِي، قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: لاَ، إِلَّا
مِنْ طِينٍ.
وَكَانَتِ
امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ
رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ
اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ،
فَقَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا
يَمَصُّهُ، - قَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَصُّ إِصْبَعَهُ –
ثُمَّ
مُرَّ بِأَمَةٍ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي
مِثْلَ هَذِهِ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا،
فَقَالَتْ: لِمَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الجَبَابِرَةِ،
وَهَذِهِ الأَمَةُ يَقُولُونَ: سَرَقْتِ، زَنَيْتِ، وَلَمْ تَفْعَلْ»
تخريج
الحديث:
أخرجه البخاري
في "الأدب المفرد" (ص: 26) (رقم: 33)، وفي "صحيحه" (3/ 137 و
4/ 165 و 4/ 173) (رقم: 2482 و 3436 و 3466)، ومسلم في "صحيحه" (4/
1976) (رقم: 2550)، وأحمد في "مسنده" – ط. عالم الكتب (2/ 307 و 385 و
395 و 433) (رقم: 8071 و 8994 و 9135 و 9602)، وابن أبي الدنيا في "مجابي
الدعوة" (ص: 12) (رقم: 1)، وأبي يعلى الموصلي في "مسنده" (11/ 178)
(رقم: 6289)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (4/ 166) (رقم: 1512)، وابن
حبان في "صحيحه" (14/ 410_411) (رقم : 6488 و 6489)، والطبراني في "مسند
الشاميين" (2/ 255) (رقم: 1292)، وفي "الأحاديث الطوال" (ص: 281)
(رقم : 39)، وأبو سعيد النقاش الأصبهاني في
"فنون العجائب" (ص: 65) (رقم : 49)، وغيرهم.
والحديث
صحيح: صححه
الألباني في "التعليقات
الحسان على صحيح ابن حبان" (9/ 220) (رقم : 6455)
من
فوائد الحديث:
وقال محمود بن
أحمد الغيتابى الحنفى، المعروف بـ"بدر الدين العيني" (المتوفى: 855 هـ) _رحمه
الله_ في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (7 / 282):
"فِيهِ
دلَالَة على أَن الْكَلَام لم يكن مَمْنُوعًا فِي الصَّلَاة فِي شريعتهم، فَلَمَّا
لَمْ يُجِبْ أمَّه، وَالْحَالُ أَن الْكَلَام مُبَاح لَهُ، أستجيبت دَعْوَة أمه
فِيهِ،
وَقد كَانَ
الْكَلَام مُبَاحا _أَيْضا_ فِي شريعتنا أَوَّلاً حَتَّى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ} [البقرة: 238]،
فَأَما الْآنَ،
فَلَا يجوز للْمُصَلِّي إِذا دَعَتْ أمُّه أَو غَيرُهَا أَن يَقْطَعَ صلَاتَه
لقَوْله _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم_: "لَا طَاعَة لمخلوق فِي
مَعْصِيّة الْخَالِق." [حم طي طب][2]."
اهـ
وقال محمود بن
أحمد الغيتابى الحنفى، المعروف بـ"بدر الدين العيني" (المتوفى: 855 هـ) _رحمه
الله_ في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (7 / 283):
"* وَفِيه: دلَالَة على صِحَة وُقُوع الكرامات من
الْأَوْلِيَاء، وَهُوَ قَول جُمْهُور أهل السّنة وَالْعُلَمَاء، خلافًا للمعتزلة،
وَقد نسب
لبَعض الْعلمَاء إنكارها وَالَّذِي نظنه بهم أَنهم مَا أَنْكَرُوا أَصْلهَا لتجويز
الْعقل لَهَا وَلِمَا وَقع فِي الْكتاب وَالسّنة وأخبار صالحي هَذِه الْأمة مَا
يدل على وُقُوعِهَا، وَإِنَّمَا مَحل الْإِنْكَار ادِّعَاء وُقُوعهَا مِمَّن
لَيْسَ مَوْصُوفا بشروطها، وَلَا هُوَ أهلٌ لَهَا.
* وَفِيه:
أَن
كَرَامَة الْوَلِيّ قد تقع بِاخْتِيَارِهِ وَطَلَبه، وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد
جمَاعَة الْمُتَكَلِّمين كَمَا فِي حَدِيث جريج. وَمِنْهُم
من قَالَ لَا تقع بِاخْتِيَارِهِ وَطَلَبه.
وَفِيه:
أَن
الْكَرَامَة قد تقع بخوارق الْعَادَات على جَمِيع أَنْوَاعهَا وَمنعه بَعضهم وأدعى
أَنَّهَا تخْتَص بِمثل إِجَابَة دُعَاء وَنَحْوه.
قَالَ بعض
الْعلمَاء: هَذَا غلط من قَائِله وإنكار للحس.
* فِيهِ:
دلَالَة
على أَن من أَخذ بالشدة فِي أُمُور الْعِبَادَات، كَانَ أفضل إِذا علم من نَفسه
قُوَّة على ذَلِك، لِأَن جريجا دَعَا الله فِي الْتِزَام الْخُشُوع لَهُ فِي
صلَاته وفضله على الاستجابة لأمه،
فعاقبه الله
تَعَالَى على ترك الاستجابة لَهَا بِمَا ابتلاه الله بِهِ من دَعْوَة أمه عَلَيْهِ،
ثمَّ أرَاهُ فضل مَا آثره من مُنَاجَاة ربه، والتزامِ الْخُشُوع لَهُ أَن جعل لَهُ
آيَة معْجزَة فِي كَلَام الطِّفْل، فخلصه بهَا من محنة دَعْوَة أمه عَلَيْهِ.
* وَفِيه:
أَن
من ابتلى بشيئين يسْأَل الله تَعَالَى أَن يلقِي فِي قلبه الْأَفْضَل ويحمله على
أولي الْأَمريْنِ، فَإِن جريجا لما ابْتُلِيَ بشيئين وَهُوَ قَوْله "
اللَّهُمَّ أُمِّي وصلاتي "
فَاخْتَارَ
الْتِزَام مُرَاعَاة حق الله تَعَالَى على حق أمه وَقَالَ ابْن بطال قد يُمكن أَن
يكون جريج نَبيا لِأَنَّهُ كَانَ فِي زمن تمكن النُّبُوَّة فِيهِ." اهـ كلام
العيني _رحمه الله_.
وقال محمود بن
أحمد الغيتابى الحنفى، المعروف بـ"بدر الدين العيني" (المتوفى: 855 هـ) _رحمه
الله_ في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (7 / 283):
"وَفِيه:
عظم بر الْوَالِدين، وَأَن دعاءَهُمَا مستجابٌ،
وَعَن هَذَا،
قَالَ الْعلمَاء: إِن إكرامهما وَاجِب وَلَو كَانَا كَافِرين." اهـ
وقال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (المتوفى:
676 هـ) _رحمه الله_ في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (8 / 337):
"وَفِي
حَدِيث جُرَيْجٍ هَذَا فَوَائِد كَثِيرَة:
* مِنْهَا:
عِظَم بِرّ الْوَالِدَيْنِ،
* وَتَأَكُّد
حَقّ الْأُمّ،
* وَأَنَّ
دُعَاءَهَا مُجَاب،
* وَأَنَّهُ
إِذَا تَعَارَضَتْ الْأُمُور بُدِئَ بِأَهَمِّهَا،
* وَأَنَّ
اللَّه تَعَالَى يَجْعَل لِأَوْلِيَائِهِ مَخَارِج عِنْد اِبْتِلَائِهِمْ
بِالشَّدَائِدِ غَالِبًا . قَالَ اللَّه تَعَالَى : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } [الطلاق: 2]،
* وَقَدْ
يَجْرِي عَلَيْهِمْ الشَّدَائِد بَعْض الْأَوْقَات زِيَادَةً فِي أَحْوَالهمْ ،
وَتَهْذِيبًا لَهُمْ ، فَيَكُون لُطْفًا .
* وَمِنْهَا:
اِسْتِحْبَاب الْوُضُوء لِلصَّلَاةِ عِنْد الدُّعَاء بِالْمُهِمَّاتِ،
* وَمِنْهَا:
أَنَّ الْوُضُوء كَانَ مَعْرُوفًا فِي شَرْع مَنْ قَبْلنَا ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا
الْحَدِيث فِي "كِتَاب الْبُخَارِيّ": (فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى)،
وَقَدْ حَكَى
الْقَاضِي عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ زَعَمَ اِخْتِصَاصه بِهَذِهِ الْأُمَّة.
وَمِنْهَا:
إِثْبَات
كَرَامَات الْأَوْلِيَاء ، وَهُوَ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة خِلَافًا
لِلْمُعْتَزِلَةِ.
وَفِيهِ:
أَنَّ
كَرَامَات الْأَوْلِيَاء قَدْ تَقَع بِاخْتِيَارِهِمْ وَطَلَبهمْ ، وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا الْمُتَكَلِّمِينَ،
وَمِنْهُمْ
مَنْ قَالَ: لَا تَقَع بِاخْتِيَارِهِمْ وَطَلَبهمْ.
* وَفِيهِ:
أَنَّ
الْكَرَامَات قَدْ تَكُون بِخَوَارِق الْعَادَات عَلَى جَمِيع أَنْوَاعهَا،
وَمَنَعَهُ
بَعْضهمْ، وَادَّعَى أَنَّهَا تَخْتَصّ بِمِثْلِ إِجَابَة دُعَاء، وَنَحْوِهِ،
وَهَذَا غَلَط مِنْ قَائِله، وَإِنْكَار لِلْحِسِّ، بَلْ
الصَّوَاب: جَرَيَانهَا بِقَلْبِ الْأَعْيَان وَإِحْضَار الشَّيْء مِنْ
الْعَدَم وَنَحْوِهِ." اهـ[3]
وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي، المعروف بـ"ابْنِ حجر العسقلاني" (المتوفى: 852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" (6/
482):
*
وَفِي الْحَدِيثِ: إِيثَارُ إِجَابَةِ الْأُمِّ عَلَى
صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِأَنَّ الِاسْتِمْرَارَ فِيهَا نَافِلَةٌ. وَإِجَابَةُ
الْأُمِّ وَبِرُّهَا وَاجِبٌ.[4]
قَالَ
النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا دَعَتْ عَلَيْهِ فَأُجِيبَتْ، لِأَنَّهُ كَانَ
يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَفِّفَ وَيُجِيبَهَا لَكِنْ لَعَلَّهُ خَشِيَ أَنْ تَدْعُوَهُ
إِلَى مُفَارَقَةِ صَوْمَعَتِهِ وَالْعَوْدِ إِلَى الدُّنْيَا وَتَعَلُّقَاتِهَا،
كَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ
تَأْتِيهِ فَيُكَلِّمُهَا،
وَالظَّاهِرُ:
أَنَّهَا كَانَتْ تَشْتَاقُ إِلَيْهِ فَتَزُورُهُ وَتَقْتَنِعُ بِرُؤْيَتِهِ
وَتَكْلِيمِهِ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُخَفِّفْ ثُمَّ يُجِيبُهَا لِأَنَّهُ
خَشِيَ أَنْ يَنْقَطِعَ خُشُوعُهُ،
وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ
أَبِيهِ:
أَنَّ
النَّبِيَّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ قَالَ: «لَوْ كَانَ جُرَيْجٌ
فَقِيهًا، لَعَلِمَ أَنَّ إِجَابَةَ أُمِّهِ أَوْلَى مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ»
أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ.[5]
* وَهَذَا
إِذَا حُمِلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ اسْتُفِيدَ مِنْهُ جَوَازُ قَطْعِ الصَّلَاةِ
مُطْلَقًا لِإِجَابَةِ نِدَاءِ الْأُمِّ نَفْلًا كَانَتْ أَوْ فَرْضًا وَهُوَ
وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ،
وَقَالَ
النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ: "هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى____أَنَّهُ كَانَ
مُبَاحًا فِي شَرْعِهِمْ."
وَفِيهِ
نَظَرٌ، قَدَّمْتُهُ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ، وَالْأَصَحُّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الصَّلَاةَ إِنْ كَانَتْ نَفْلًا وَعُلِمَ تَأَذِّي
الْوَالِدِ بِالتَّرْكِ، وَجَبَتِ الْإِجَابَةُ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا وَضَاقَ الْوَقْتُ، لَمْ تَجِبِ
الْإِجَابَةُ، وَإِنْ لَمْ يَضِقْ، وَجَبَ عِنْدَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ.
وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّهَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ،
وَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ أَن إِجَابَة الْوَالِد فِي النَّافِلَةِ أَفْضَلُ مِنَ
التَّمَادِي فِيهَا،
وَحَكَى
الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْأُمِّ دون الْأَب وَعند
بن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ مَا يَشْهَدُ لَهُ
وَقَالَ بِهِ مَكْحُولٌ وَقِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ مِنَ السَّلَفِ
غَيْرُهُ.
*
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: عِظَمُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ
وَإِجَابَةُ دُعَائِهِمَا وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ مَعْذُورًا لَكِنْ يَخْتَلِفُ
الْحَالُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ،
* وَفِيهِ:
الرِّفْقُ
بِالتَّابِعِ إِذَا جَرَى مِنْهُ مَا يَقْتَضِي التَّأْدِيبَ، لِأَنَّ أُمَّ
جُرَيْجٍ مَعَ غَضَبِهَا مِنْهُ لَمْ تَدْعُ عَلَيْهِ إِلَّا بِمَا دَعَتْ بِهِ
خَاصَّةً وَلَوْلَا طَلَبُهَا الرِّفْقَ بِهِ لَدَعَتْ عَلَيْهِ بِوُقُوعِ
الْفَاحِشَةِ أَوِ الْقَتْلِ،
*
وَفِيهِ: أَنَّ صَاحِبَ الصِّدْقِ مَعَ اللَّهِ لَا
تَضُرُّهُ الْفِتَنُ،
*
وَفِيهِ: قُوَّةُ يَقِينِ جُرَيْجٍ الْمَذْكُورِ وَصِحَّةُ
رَجَائِهِ لِأَنَّهُ اسْتَنْطَقَ الْمَوْلُودَ مَعَ كَوْنِ الْعَادَةِ أَنَّهُ لَا
يَنْطِقُ وَلَوْلَا صِحَّةُ رَجَائِهِ بِنُطْقِهِ مَا اسْتَنْطَقَهُ،
*
وَفِيهِ: أَنَّ الْأَمْرَيْنِ إِذَا تَعَارَضَا بُدِئَ
بِأَهَمِّهِمَا،
*
وَأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لِأَوْلِيَائِهِ عِنْدَ
ابْتِلَائِهِمْ مَخَارِجَ،
وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ
تَهْذِيبًا وَزِيَادَةً لَهُمْ فِي الثَّوَابِ،
*
وَفِيهِ: إِثْبَاتُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَوُقُوعُ
الْكَرَامَةِ لَهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ وَطَلَبِهِمْ.
وَقَالَ ابن
بَطَّالٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جُرَيْجٌ كَانَ نَبِيًّا فَتَكُونُ مُعْجِزَةً."
كَذَا قَالَ،
وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا يَتَأَتَّى فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَلَّمَهَا
وَلَدُهَا الْمُرْضَعُ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ،
*
وَفِيهِ: جَوَازُ الْأَخْذِ بِالْأَشَدِّ فِي الْعِبَادَةِ
لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً عَلَى ذَلِكَ.
*
وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ بَنِي
إِسْرَائِيلَ كَانَ مِنْ شَرْعِهِمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَصْدُقُ فِيمَا تَدَّعِيهِ
عَلَى الرِّجَالِ مِنَ الْوَطْءِ، وَيُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ، وَأَنَّهُ لَا
يَنْفَعُهُ جَحْدُ ذَلِكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ تَدْفَعُ قَوْلَهَا.
*
وَفِيهِ: أَنَّ مُرْتَكِبَ الْفَاحِشَةَ لَا تَبْقَى لَهُ
حُرْمَةٌ،
*
وَأَنَّ الْمَفْزَعَ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ إِلَى اللَّهِ يَكُونُ
بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ.
*
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِقَوْلِ جُرَيْجٍ (مَنْ
أَبُوكَ يَا غُلَامُ) بِأَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَوَلَدَتْ بِنْتًا، لَا
يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجَ بِتِلْكَ الْبِنْتِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ
وَلِابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَوَجْهُ
الدَّلَالَةِ: أَن جريجا نسب ابن الزِّنَا لِلزَّانِي
وَصَدَّقَ اللَّهُ نِسْبَتَهُ بِمَا خَرَقَ لَهُ مِنَ الْعَادَةِ فِي نُطْقِ
الْمَوْلُودِ بِشَهَادَتِهِ لَهُ بِذَلِكَ وَقَوْلِهُ (أَبِي فُلَانٌ الرَّاعِي)،
فَكَانَتْ
تِلْكَ النِّسْبَةُ صَحِيحَةٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَهُمَا أَحْكَامُ
الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ، خَرَجَ التَّوَارُثُ وَالْوَلَاءُ بِدَلِيلٍ،
فَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى حُكْمِهِ،
وَفِيهِ:
أَنَّ
الْوُضُوءَ لَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا
الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَا الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَيْضًا مِثْلُ ذَلِكَ فِي خَبَرِ سَارَةَ
مَعَ الْجَبَّارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ." اهـ كلام الحافظ ابن حجر _رحمه الله_.
وقال فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376 هـ) _رحمه الله_ في "تطريز
رياض الصالحين" (1 / 194):
"وفي
الحديث: إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع.
وفيه: أنّ
صاحب الصدق مع الله لا تضره الفتن.
وفيه: إثبات
كرامات الأولياء.
وفي الحديث
أيضًا: أنّ نفوس أهل الدنيا تقف مع الخيال الظاهر، بخلاف أهل الحقيقة، كما قال _تعالى_:
{فَخَرَجَ
عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ
آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)} [القصص: 79_80]."
اهـ
وقال عياض بن
موسى السبتي، المعروف بـ"القاضي عياض" اليحصبي
(المتوفى: 544 هـ) _رحمه الله_ في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (8 / 10):
"ولا شك
عندنا: أن بر أمه فرضٌ، والعزلة وصلوات النوافل طول
نهاره وليله ليست بفرض، والفرض مقدم. ولعله غلط فى
إيثار صلاته وعزلته على إجابة أمه." اهـ
وقال عياض بن
موسى السبتي، المعروف بـ"القاضي عياض" اليحصبي
(المتوفى: 544 هـ) _رحمه الله_ في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (8 / 13):
"وفيه:
إن الكرامات تجرى على أيدى الأولياء يخرق العادات وغيرها، فى أمتنا وغيرها خلافًا
لمن ذهب من شيوخنا أنها لا تصح فى أمتنا منها ما كان من خرق العادات وقلب الأعيان،
وإنما يصح فى مثلها إجابة الدعوة، وأن زمن بنى إسرائيل كان زمن خرق عادة وأيام
نبوة ولا نبى بعد محمد وهذا ولا تحقيق ورائه.
* وفيه: إجابة
دعوة الآباء والأمهات، وتشديد الحذر من ذلك، ومن سخطهم.
* وفى هذا
الحديث فى كتاب البخارى: " فتوضأ وصلى ".
ففيه حجة أن
الوضوء كان فى غير هذه الأمة. ورد على من ذهب إلى أنه مختص بها، وتصحيح لتأويل
اختصاصهم بالغرة والتحجيل به دون غيرهم، وقد بيناه فى كتاب الوضوء." اهـ
وقال عياض بن
موسى السبتي، المعروف بـ"القاضي عياض" اليحصبي
(المتوفى: 544 هـ) _رحمه الله_ في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (8 / 13):
"وفى
تمثيل النبي رضاعَ الصبيِّ، ودعاءِ أم جريج له: جوَازُ حكاياتِ الأحوالِ؛ إذ لم
يكن على طريق السخرية والمجون، وكان لبيان علم وزيادة فائدة." اهـ
وقال الشيخ محمد
بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ)
_رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (3 / 73):
"والإنسان
إذا نظر في وجوه الزواني افتتن؛ لأن نظر الرجل إلى المرأة فتنةٌ. فكيف إذا كانت _والعياذ
بالله_ زانية بغية؟! فأشد فتنة؛ لأنه ينظر إليها على أنها تمكنه من نفسها فيفتتن."
اهـ
وقال الشيخ محمد
بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ)
_رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (3 / 74):
"ويستفاد
من هذه القطعة: أن دعاء الوالد إذا كان بحق؛ فإنه حريّ بالإجابة، فدعاء الوالد على
ولده إذا كان بحق؛ فهو حري أن يجيبه الله، ولهذا ينبغي لك أن تحترس غاية الاحتراس
من دعاء الوالدين، حتى لا تعرض نفسك لقبول الله دعاءهما فتخسر.
* وفي الحديث
أيضاً: دليل على أن الشفقة التي أودعها الله في الوالدين." اهـ
وقال الشيخ محمد
بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ)
_رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (3 / 75):
"وفي
قصته من الفوائد غير ما سبق:
* أن
الإنسان إذا تعرف إلى الله تعالى في الرخاء؛ عرفه في
الشدة، فإن هذا الرجل كان عابداً يتعبد لله عز وجل، فلما وقع في الشدة العظيمة،
أنجاه الله منها
وقال الشيخ محمد
بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ)
_رحمه الله_ في "شرح رياض الصالحين" (3 / 76):
"وفي
هذا الحديث: دليل على صبر هذا الرجل _جريج_، حيث إنه لم ينتقم
لنفسه، ولم يكلفهم شططاً، فيبنون له صومعته من ذهب، وإنما رضي بما كان رضي به
أولاً من القناعة وأن تُبْنَى من الطين." اهـ
وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي، المعروف بـ"ابْنِ حجر العسقلاني" (المتوفى: 852 هـ) _رحمه الله_ في "فتح الباري" (6/
480):
"وَدَلَّ ذَلِكَ على
أَنه كَانَ بعد عِيسَى بن مَرْيَمَ، وَأَنَّهُ
كَانَ مِنْ أَتْبَاعِهِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا التَّرَهُّبَ،
وَحَبْسَ النَّفْسِ فِي الصَّوَامِعِ.
وَالصَّوْمَعَةُ
_بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ_: هِيَ الْبِنَاءُ الْمُرْتَفِعُ
الْمُحَدَّدُ أَعْلَاهُ وَوَزْنُهَا فَوْعَلَةٌ مِنْ (صَمَعْتُ) إِذَا دققت،
لِأَنَّهَا دقيقة الرَّأْس." اهـ
وقال محمد بن علي بن آدم بن موسى الإثيوبي
الوَلَّوِي (المتوفى 1442 هـ) _رحمه الله_ في "البحر المحيط الثجاج في
شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (40/ 239_240):
"وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-:
"قوله: (يا
رب، أمي وصلاتي) قولٌ يدلّ على أن جريجاً _رضي الله عنه_ كان عابداً، ولم يكن
عالِماً؛ إذ بأدنى فكرة يُدرك أن صلاته كانت ندباً، وإجابة أمه كانت عليه واجبة،
فلا تعارُض
يوجب إشكالاً، فكان يجب عليه تخفيف صلاته، أو قَطْعها، وإجابة أمه، لا سيما وقد
تكرر مجيئها إليه، وتشوّقها، واحتياجها لمكالمته،
وهذا كله يدلّ
على تعيّن إجابته إياها، ألا ترى___أنه أغضبها بإعراضه عنها،
وإقباله على صلاته، ويبعد اختلاف الشرائع في وجوب
برّ الوالدين، وعند ذلك دعت عليه، فأجاب الله تعالى دعاءها؛ تأديباً له، وإظهاراً
لكرامتها،
والظاهر
من هذا الدعاء: أن هذه المرأة كانت فاضلةً عالمةً، ألا ترى كيف
تحرزت في دعائها، فقالت: (اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حتى ينظر إلى وجوه المومسات)،
فقالت: حتى ينظر، ولم تقل غير ذلك،
وقد جاء في
بعض طرق هذا الحديث: (ولو دعت عليه أن يُفْتَن لَفُتن)، وهى أيضاً: لو كظمت غيظها،
وصبرت، لكان ذلك الأَولى بها، لكن لمّا عَلِم الله تعالى صِدْق حالهما لَطُف بهما،
وأظهر مكانتهما عنده بما أظهر من كرامتهما.
وفائدته:
تأكُّد
سعي الولد في إرضاء الأم، واجتناب ما يغيّر قلبها، واغتنام صالح دعوتها، ولذلك قال
- صلى الله عليه وسلم -: "الجنة تحت أقدام الأمهاتُ" [حديث حسن، أخرجه
النسائيّ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ، وأقرّه المنذريّ][6]
أي: من انتهى
من التواضع لأمه بحيث لا يشقّ عليه أن يضع قدمها على خدّه استوجب بذلك الجنة،
والأَولى في
هذا الحديث أن يقال: أنه خرج مخرج المَثَل الذي يُقصد به الإعياء في المبرّة
والإكرام،
وهو نحو من
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الجنة تحت ظلال السيوف" (متّفقٌ عليه).
انتهى ["المفهم" (6/ 512 – 513)]." اهـ
وقال محمد بن علي بن آدم بن موسى الإثيوبي
الوَلَّوِي (المتوفى 1442 هـ) _رحمه الله_ في " (40/ 248):
"في فوائده:
1 - (منها): بيان عِظَم برّ الوالدين، وتأكد
حقّ الأمّ، وإجابة دعائهما، ولو كان الولد معذوراً، لكن يختلف الحال في ذلك بحسب
المقاصد.
2 - (ومنها): أن الأمرين إذا تعارضا بُدئ
بأهمهما.
3 - (ومنها): ما قاله في "الفتح":
فيه إيثارُ إجابة الأم على صلاة التطوع؛ لأن الاستمرار فيها نافلة، وإجابة الأم
وبرّها واجب، قال النوويّ____وغيره: إنما دعت عليه، فأجيبت؛ لأنه كان يمكنه أن
يخفف، ويجيبها، لكن لعله خَشِي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته، والعود إلى الدنيا،
وتعلّقاتها.
قال الحافظ:
كذا قال النوويّ، وفيه نظرٌ؛ لِمَا تقدّم من أنها كانت تأتيه، فيكلمها، والظاهر
أنها كانت تشتاق إليه، فتزوره، وتقتنع برؤيته، وتكليمه، وكأنه إنما لم يخفف، ثم
يجيبها؛ لأنه خشي أن ينقطع خشوعه، وفي حديث يزيد بن حوشب، عن أبيه: "أن
النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: لو كان جريج فقيهاً لعلم أن إجابة أمه أَولى
من عبادة ربه"، أخرجه الحسن بن سفيان،
وهذا إذا
حُمِل على إطلاقه استفيد منه جواز قطع الصلاة مطلقاً لإجابة نداء الأم نفلاً كانت،
أو فرضاً، وهو وجه في مذهب الشافعيّ، حكاه الرويانيّ، وقال النوويّ تبعاً لغيره:
هذا محمول على أنه كان مباحاً في شرعهم، وفيه نَظَر، والأصح عند الشافعية أن
الصلاة إن كانت نفلاً، وعَلِم تأذي الوالد بالترك، وَجَبت الإجابة، وإلا فلا، وإن
كانت فرضاً، وضاق الوقت لم تَجِب الإجابة، وإن لم يَضِق وَجَب عند إمام الحرمين،
وخالفه غيره؛ لأنها تلزم بالشروع، وعند المالكية أن إجابة الوالد في النافلة أفضل
من التمادي فيها، وحكى القاضي أبو الوليد أن ذلك يختص بالأم دون الأب، وعند ابن
أبي شيبة من مرسل محمد بن المنكدر ما يشهد له، وقال به مكحول، وقيل: إنه لم يقل به
من السلف غيره. انتهى ["الفتح" 8/ 72 - 73، كتاب "أحاديث
الأنبياء" رقم (3436).]
4 - (ومنها): أن الله تعالى يجعل لأوليائه
مخارج عند ابتلائهم بالشدائد غالباً، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، وقد يُجري عليهم الشدائد في بعض الأوقات
زيادةً في أحوالهم، وتهذيباً لهم، فيكون لطفاً.
5 - (ومنها): استحباب الوضوء، والصلاة عند
الدعاء بالمهمات
6 - (ومنها): أن الوضوء كان معروفاً في شَرْع
من قبلنا، فقد ثبت في هذا الحديث في "صحيح البخاريّ": "فتوضأ،
وصلى" وقد حكى القاضي عياض عن بعضهم أنه زعم اختصاصه بهذه الأمة، قاله
النوويّ -رَحِمَهُ اللهُ-.
وقال في
"الفتح": وفيه أن الوضوء لا يختص بهذه الأمة، خلافاً لمن____زعم ذلك،
وإنما الذي يختص بها الغُرّة والتحجيل في الآخرة، وقد تقدم في
قصة إبراهيم
-عَلَيْهِ السَّلامُ- أيضاً مثل ذلك في خبر سارة مع الجبار، والله تعالى أعلم.
7 - (ومنها): إثبات كرامات الأولياء، وهو مذهب
أهل السُّنَّة والجماعة؛ خلافاً للمعتزلة.
وقال القرطبيّ
-رَحِمَهُ اللهُ-: وفي هذا الحديث ما يدلّ على صحة وقوع كرامات الأولياء، وهذا قول
جمهور أهل السُّنَّة والعلماء، وقد نُسب لبعض العلماء إنكارها، والظن بهم أنهم ما
أنكروا أصلها، لتجويز العقل لها، ولمَا وقع في الكتاب، والسُّنَّة، وأخبار صالحي
هذه الأمة، مما يدلّ على وقوعها،
وإنَّما
محل الإنكار ادّعاء وقوعها ممن ليس موصوفاً بشروطها، ولا هو أهل
لها، وادّعاء كثرة وقوع ذلك دائماً متكرراً حتى يلزم عليه أن يرجع خرق العادة عادة،
وذلك إبطال لسُنَّة الله تعالى، وحسمُ السبل الموصلة إلى معرفة نبوة أنبياء الله
تعالى. انتهى ["المفهم" 6/ 5517].
8 - (ومنها): بيان أن كرامات الأولياء قد تقع
باختيارِهم، وطَلبِهم،
قال النوويّ:
وهذا هو الصحيح عند أصحابنا المتكلمين، ومنهم من قال: لا تقع
باختيارهم
وطلبهم.
وقال ابن
بطال: يَحْتَمِل أن يكون جريج كان نبيّاً، فتكون معجزة، قال الحافظ: كذا قال، وهذا
الاحتمال لا يتأتى في حق المرأة التي كلمها ولدها المرضع، كما في بقية الحديث.
9 - (ومنها): بيان أن الكرامات قد تكون
بخوارق العادات على جميع أنواعها، ومَنَعه بعضهم، وادَّعَى أنها تختص بمثل إجابة دعاء،
ونحوه،
قال النوويّ:
وهذا غلط من قائله، وإنكار للحسّ، بل الصواب جريانها بقلب
الأعيان،
وإحضار الشيء من العدم ونحوه. انتهى [شرح النوويّ" (16/ 108)]
10 - (ومنها): الرفق بالتابع إذا جرى منه ما
يقتضي التأديب؛ لأن أم جريج مع غضبها منه لم تَدْعُ عليه إلا بما دَعَت به خاصّة،
ولولا طلبها الرفق به لَدَعَتْ عليه بوقوع الفاحشة، أو القتل.
11 - (ومنها): بيان أن صاحب الصدق مع الله
تعالى لا تضره الفتن.
12 - (ومنها): بيان قوّة يقين جريج المذكور،
وصحة رجائه؛ لأنه استنطق المولود مع كون العادة أنه لا ينطق، ولولا صحة رجائه
بنطقه ما استنطقه.
13 - (ومنها): أن فيه جواز الأخذ بالأشدّ في
العبادة لمن عَلِم من نفسه قوّة على ذلك.
14 - (ومنها): أنه استَدَلّ به بعضهم على أن
بني إسرائيل كان من شَرْعهم أن المرأة تُصَذَق فيما تدعيه على الرجال من الوطء،
ويُلحق به الولد، وأنه لا ينفعه جَحْد ذلك، إلا بحجة تدفع قولها.
15 - (ومنها): أن مرتكب الفاحشة لا تبقى له
حرمة.
16 - (ومنها): بيان أن الْمَفْزَع في الأمور
المهمة إلى الله تعالى يكون بالتوجه إليه في الصلاة.
17 - (ومنها): أنه استَدَلّ بعض المالكية
بقول جريج: "من أبوك يا غلام؟ " بأن من زنى بامرأة، فولدت بنتاً لا يحل
له التزوج بتلك البنت؛ خلافاً للشافعية، ولابن الماجشون من المالكية،
ووجه الدلالة
أن جريجاً نَسَب ابن الزنا للزاني، وصدّق الله نسبته بما خرق له من العادة في نُطق
المولود بشهادته له بذلك، وقوله: "أبي فلان الراعي"، فكانت تلك النسبة
صحيحة،
فيلزم أن يجري
بينهما أحكام الأبوّة والبنوّة، وخرج التوارث، والولاء بدليل، فبقي ما عدا ذلك على
حكمه.
وقال القرطبيّ
-رَحِمَهُ اللهُ-: قوله: "يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي" يَتمسك به
من قال: إن الزنى يُحَرِّم كما يُحَرِّم الوطء الحلال، فلا تحل أم المزني بها، ولا
بناتها للزاني، ولا تحل المزني بها لآباء الزاني، ولا لأولاده،
وهي رواية ابن
القاسم عن مالك في "المدونة"، وفي "الموطأ": إن الزنى لا يحرم
حلالاً، ويُستدلّ به أيضاً: أن المخلوقة من ماء الزاني لا تحل للزاني بأمها، وهو
المشهور، وقد قال عبد الملك ابن الماجشون: إنها تحلّ،
ووجه التمسّك
على تينك المسألتين: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد حَكَى عن جريج أنه نسب
ابن الزنى للزاني، وصدّق الله تسميته بما خرق له من العادة في نطق
الصبيّ____بالشهادة له بذلك، فقد صدّق الله جريجاً في تلك النسبة، وأخبر بها النبيّ
- صلى الله عليه وسلم - عن جريج في معرض المدح لجريج، وإظهار كرامته،
فكانت تلك
النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى، وبإخبار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك،
فثبتت الْبُنُوّة، وأحكامها.
لا يقال:
فيلزم على هذا أن تجري بسببهما أحكام البنوة والأبوة من التوارث، والولايات، وغير
ذلك، وقد اتفق المسلمون على أنه لا توارث بينهما، فلم تصح تلك النسبة؛ لأنَّا نجيب
عن ذلك بأن ذلك موجب ما ذكرناه،
وقد ظهر ذلك
في الأم من الزنى، فإنَّ أحكام البنوّة والأمومة جارية عليهما،
فما انعقد
الإجماع عليه من الأحكام أنه لا يجري بينهما استثناء، وبقي الباقي على أصل ذلك
الدليل. وفيها مباحث تستوفى في غير هذا الموضع -إن شاء الله
تعالى- انتهى
كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ- ["المفهم" 6/ 514.]
قال
الجامع عفا الله عنه: عندي أن قول من قال: لا يتعلّق بالزنا
تحريم؛ إذ الحرام لا يحرّم الحلال، فيجوز للزاني أن يتزوج بأم المزنيّ بها، أو
بأختها هو الأرجح،
وهو الذي
يقتضيه ظاهر صنيع البخاريّ -رَحِمَهُ اللهُ- في "صحيحه"، حيث نقل القول
بالجواز عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما -، فإنه قال: (إذا زنى بأخت امرأته لم تحرم
عليه امرأته،
وقال أيضاً:
إذا زنى بها لا تحرم عليه امرأته، وضعّف ما نُقل عنه من التحريم، وعزا هذا القول
في "الفتح" إلى الجمهور ["الفتح" 11/ 399.]، والله تعالى
أعلم.
18 - (ومنها): ما قاله القرطبيّ -رَحِمَهُ
اللهُ-:
قوله:
"نبني صومعتك من ذهب ... إلخ" يدلّ على
أن من تعدَّى على جدار أو دار، وجب عليه أن يعيده على حالته، إذا انضبطت صفته،
وتمكّنت مماثلته، ولا تلزم قيمة ما تعدّى عليه،
وقد بوّب
البخاريّ على حديث جريج هذا: "من هدم حائطأ بنى مثله"،
وهو تصريح بما
ذكرناه، وهو مقتضى قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، فإن تعذرت المماثلة، فالمرجع
إلى القيمة،
وهو مذهب
الكوفيين، والشافعيّ، وأبي ثور في الحائط، وفي "العتبية" عن___مالك
مثله،
ومذهب أهل
الظاهر في كل مُتْلَف هذا، ومشهور مذهب مالك وأصحابه، وجماعة من العلماء أن فيه
وفي سائر المتلفات المضمونات القيمة، إلا ما يرجع إلى الكيل والوزن، بناءً منهم
على أنه لا تتحقق المماثلة إلا فيهما. انتهى ["المفهم" 6/ 514 - 515.]،
والله تعالى أعلم." اهـ
وقال يحيى بن هُبَيْرَة بن محمد بن هبيرة الذهلي الشيبانيّ، أبو المظفر الحنبلي (المتوفى: 560هـ) _رحمه
الله_ في "الإفصاح عن معاني الصحاح" (7/ 179_184):
"* في هذا الحديث: وجوب الإيمان بأنه لم
يتكلم في المهد إلا ثلاثة، حتى إنه قد روي على النبي - صلى الله عليه وسلم - من
الأحاديث الواهية أنه قد تكلم غير هؤلاء، رد ذلك، وعمل بهذا.
* وفيه أيضًا: أن هذا الحديث قد اشتمل على
ثلاثة شؤون كبار مهمة من حيث إنه قرن كل شيء منها بما يناسبه؛ لأن أولها كلام عيسى
بن مريم عليه السلام في المهد، وذلك مما يدل على علوه على الحالتين الأخريين
لمشاركتهما قصة عيسى.
* فأما كلام غيسى في المهد، فإنه لم يكن
تبرئة أمه مما قذفت به إلا بنطق الولد، فإنها لما أتت به من غير ذكر، وكانت حالًا
في ظاهر الأمر هائلة خارقًا للعادة أتى الله عز وجل فيها بأمر بديع من كلام صبي في
المهد يقول: {إني____عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} وكان ذلك من الشأن العظيم
الذي قاوم الأمر العظيم، فقامت به الحجة وثبت به المعجزة.
*وأما جريج فإنه كان عبدًا صالحًا، إلا أنه
لما دخل عليه من استغراقه في التعبد بالصلاة، كان غير ناظر إلى أن عبادة الله _عز
وجل_ في كل الطرق المشروعة متى أكب الإنسان على طريق منها، أضر بالبواقي، فيكون
على نحو من أرجح كفه بأن أسف الأخرى،
فلما أتته
أمه، فكان كلامه لأمه أفضل عند الله من الصلاة النافلة، فقال: رب أمي وصلاتي،
فأقبل على صلاته وترك أمه، وكان من الفقه أن يقدم أمه؛ لأن صلاته إنما تكون له،
وتكليمه أمه يكون عملًا متعبدًا يشمله ويشمل غيره، فربما كانت أمه قد جاءت في حاجة
مهمة، بحيث يجب عليه أن يجيبها عنه.
* وفيه أيضًا: أنها صلة رحم، هي أولى الأرحام
بالصلة فآثر عليها ما لا يتعداه من الصلاة، فغلط في الموازنة فخسر، وقد ترددت إليه
يومًا بعد يوم، وهو يؤثر الأدنى على الأرفع حتى هاج صدرها، بأن دعت عليه دعاء لا
يبلغ فيه إلى الغاية؛ لأنها رفقت به؛ إذا خفي عليها فقالت: اللهم لا تمته حتى تيه
وجوه المومسات؛ يعني الفواجر، فلما لم ينظر في وجه أمه، دعت عليه بعقوبة من جنس ما
أعرض عنه من النظر في وجوه المومسات، والمومسات: جمع مومسة، وهي الفاجرة، ويقال:
مومسات وميامس.____
وإنما أجيب من
دعائها مقدار ما سألت على وجه الرفق به من أن ينظر في وجوه الفواجر؛ فاتهم بتهمة
هو بريء منها، إلا أنه لما آثر ما هو له، على ما هو له ولأمه، ابتلي ببلية لا ذنب
له فيها؛ بل اطلع في وجه الفاجرة حتى أظهر الله بذلك كرامة عرفه الله غلطه في
إيثاره صلاة النافلة على إجابة أمه.
* وفيه أيضًا: دليل على أنه لا يجوز أن يسرع
طاعن في مسلم بقول عن غير بينة، فإن هؤلاء لو كانوا عملوا بما أوجبه الله تعالى في
شرعه، من أنه لا يقبل طعن في مسلم إلا ببينة لم يهدموا صومعته ولم يؤذوه.
* وفيه أيضًا من الفقه: أن جريجًا لما بلي
بهذه البلية وعلم براءته منها، قوي إيمانه بالله _عز وجل_ في أن يكشف كل لبس؛ فجاء
إلى المولود فطعن في بطنه فقال: يا بابوس أو يا غلام، من أبوك؟ فقال: أبي الراعي،
فكفر بصدق إيمانه، وحسن يقينه بالله سبحانه ما كان منه إلى أمه، فأنطلق الله
الغلام ببراءته، حتى قال: أبي الراعي.
ولم يذكر رسول
الله _صلى الله عليه وسلم_ هذه الحالة إلا منبهًا لكل من جرى عليه تلبيس حتى
يتفاقم أمره ويعظم، فإنه ينبغي ألا يستطرح، بل بفزع إلى الله عز وجل، فإن الذي
أنطق المولود حتى بادر يسمع ويرى، ولم يذكر رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ مثل
هذا سمرًا قط بل ليعمل به،
فكانت
هذه القصة جامعة لفضل الوالدة، ولكونها أجيب دعاؤها في مثل
الولد الصالح مع كونه لم يشتغل عنها بمنكر ولا بمحرم، وإنما اشتغل بعبادة فجرى في
حقه هذا.
* وفيه: أن الله تعالى قائم بالقسط، عند كشف
كل إلباس.
* وفيه أيضًا: أن الله (53/ب) تعالى يجيب
الدعاء عند السؤال.____
* وقوله: يا
بابوس، فهي كلمة تقال للصغير.
* وأما القصة الثالثة: فالشارة الحسنة الجمال
الظاهرة في الهيئة.
* وفيه من الفقه: أن يتعوذ الإنسان أن يكون
مثل الجبار؛ لأنه قال: لا تجعلني مثله، فأنطق الله تعالى ذلك المولود بهذا؛ لتكون
هذه الحالة أوقع عند كل سامع لئلا يتمنى الناس أحوال الجبارين؛ ولبسه الظالمين
أدهى مقام فتنة؛ لأنه قد يأتي إبليس من هذه الطريق ويقول: فهذا الظالم أو الجبار
مع عنفه وغشمه هو أصلح حالًا في عاجل الدنيا من كثير الخلق،
فأوضح الله
الحق في ذلك، بإنطاق المولود؛ الذي نطقه بدع في وقته؛ لتسير به الأخبار، ويتهاداه
الرفاق؛ وحتى يذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينقل إلى يوم القيامة،
وليعلم الناس أن الإملاء للظالمين ليس بخير لهم.
* فأما حديث الجارية؛ فإنه قد يتهم الجهال
المرأة الصالحة بالزنا والسرق، وليست من أهل ذلك، فلا ينبغي أن يترك الرجل أهله من
أجل أن يقول عدو له أو لهم أو يطبع الشيطان في أفواه الناس: إنها زانية أو سارقة،
ولا يحل لمسلم أن يقبل هذا ولا يؤثر عنده بحال إلا أن يثبت ذلك بثبوت مثله، أو يرى
من قرائن الأحوال ما يفيده عليه الظن، فيكون لذلك حكمه؛
فأما مجرد
أقوال الأعداء فلا يحل العمل بذلك، إلا أن كثيرًا من النسوان يستجزن أن يقلن في
ضرائرهن الكلمة الخبيثة؛ ليكون سببًا لإتلاف من يتلف، وإبعاد من يبعد.
ولقد حدثني
ثلاثة رجال، أحدهم كان ذا طريقة صالحة، وممن حج بيت الله الحرام، أنهم سمعوا في
الليل أنينًا يصعد من قبر فحكيت أنا هذه الحكاية لرجل، قال لي ذلك الرجل: إن خالي
هو صاحب البستان الذي ذلك القبر____إلى جانبه، وقد كان أنس خالي بهذا الأنين لكثرة
ما يسمعه قال: وهذا القبر لرجل من أهل الكتاب المتعاطين القدامى، أتى امرأة فاسدة
اختصمت الفاجرة مع أخت هذه المتعاطي، فقالت الفاجرة له: إن أختك قد زنت فحمله
تعاطبه على أن أخذ أجنة وبقر بطنها فوجدها بكرًا لم تصب، ثم أعماه الله على أثر
ذلك، ثم أماته فدفن في هذا القبر، فمذ ليلة دفن سمع هذا الأنين.
فلا يحل لمسلم
أن يقبل في دعوى الزنا إلا البينة التي شرطها الله تعالى في ذلك أن قال: {لَوْلَا
جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ
فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [النور: 13]،
هذا ولو أنهم
رأوا وشاهدوا؛ فإنهم عند الله كاذبون، وذلك لأن هذه الوصمة إذا وصم بها رجل رجلًا
أو امرأة فقد أتى عظيمًا من الأمر، فإذا عمل الإنسان بقوله صار شريكًا له فيما
أناه الله.
*وأما قول المرأة: لا تجعل ابني مثل هذه؛
فلأنها رأت صورة كرهتها، من أنها تقذف وتؤدى، وما علمت الباطن.
*وأما إخراج الصبي الثدي من فمه، فإنه آثر
قول الحق على الرضاع المستلذ، فقال: اللهم اجعلني مثل هذه، ولو قبالت لا تبل ولدي
بمثل ما ابتليت هذه لم ينكر ذلك إن شاء الله، إنما قالت: لا تجعل ولدي مثل هذه،
وكان هذا شأنًا عظيمًا منهما في الخلق، وهو أنه لا يسوغ قبول قول الفجار____
والفساق في
العوامل مع كونه قد يجوز أن يكون بعضه كما يقال؛ ولكن الله عز وجل حرم علينا أن
نقبله أو نعمل به، فأنطق الله المولود في أمر بديع، شاع وسار حتى ذكر رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -، فصار ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا عند كل
مؤمن مقام مشاهدة الطفل، وهو يقول ذلك، واستغنى بذلك عن أن يتكلم مولود في
الإسلام، بمثل هذه الحادثتين، فقد أخبر بهذا الصادق - صلى الله عليه وسلم -."
اهـ كلام ابن هبيرة _رحمه الله_
[1] قال ابن الأثير _رحمه الله_ في "اللباب في تهذيب
الأنساب" (2/ 95):
"السَّامِي (بِفَتْح
السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْألف وَفِي آخرهَا الْمِيم): هَذِه النِّسْبَة
إِلَى سامة بن لؤَي بن غَالب وَالْمَشْهُور بهَا
جمَاعَة مِنْهُم:
* أَبُو عَمْرو عرْعرة بن
البرند بن النُّعْمَان السَّامِي بَصرِي يروي عَن
شُعْبَة بن الْحجَّاج وَغَيره روى عَنهُ ابْن الْمَدِينِيّ،
* وَأَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم
بن مُحَمَّد بن عرْعرة السَّامِي بَصرِي روى عَن معَاذ بن معَاذ روى عَنهُ أَبُو
يعلى الْموصِلِي وَالْحسن بن سُفْيَان وَغَيرهمَا وَهُوَ ثِقَة مَاتَ فِي شهر
رَمَضَان سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ." اهـ
قال عبد الرحمن بن أبي بكر،
جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ) _رحمه الله_ في "لب اللباب في
تحريرالأنساب" (ص: 131) تعقبا على كلام ابن الأثير: "السامي: إلى سامة
بن لؤي بن غالب قلت: وإلى سام قرية بدمشق ومحلة سامة بالبصرة." اهـ
[2] أخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" (2/ 184 و 2/ 187)
(رقم: 890 و 896)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (6/ 544) (رقم: 33715)، وفي
"مسنده" (2/ 134) (رقم: 626)، وأحمد في "مسنده" – ط. عالم
الكتب (4/ 426 و 4/ 427) (رقم: 19824 و 19832)، البزار في "مسنده" =
"البحر الزخار" (9/ 11) (رقم: 3511)، والطبراني في "المعجم
الكبير" (3/ 208) (رقم: 3150)، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين"
(3/ 500) (رقم: 5870)، وغيرهم عن عمران بن حصين. وورد الحديث عن عدة من الصحابة
_رضي الله عنهم_.
والحديث صحيح: صححه الألباني في
"سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/ 348_356) (رقم: 179_182)
[3] قلت: لكن بإذن الله _تعالى_ وإرادته!
[4] وقال أحمد بن محمد الأزدي الحَجْرِي الْمِصْرِيُّ المعروف
بـ"أبي جعفر الطحاوي" (المتوفى: 321هـ) _رحمه الله_ في "شرح مشكل
الآثار" (4/ 167) (رقم: 1512):
"فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ:
أَنَّ جُرَيْجًا عُوقِبَ بِتَرْكِ إجَابَةِ أُمِّهِ لَمَّا دَعَتْهُ، وَهُوَ
يُصَلِّي وَتَمَادِيهِ فِي صَلَاتِهِ بِأَنْ عُوقِبَ بِمَا عُوقِبَ بِهِ مِنْ
أَجْلِ ذَلِكَ. فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ إجَابَتَهُ أُمَّهُ وَالْعَوْدَ إلَى
صَلَاتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ مِنَ التَّمَادِي فِي صَلَاتِهِ
وَتَرْكِهِ إجَابَتَهُ أُمَّهُ وَاللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ
التَّوْفِيقَ." اهـ
[5] أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (10/ 282_284) (رقم:
7496): عن يَزِيدُ بْنُ حَوْشَبٍ الْفِهْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ - وَفِي رِوَايَةِ
الصَّفَّارِ قَالَ-: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَوْ كَانَ جُرَيْجٌ الرَّاهِبُ فَقِيهًا عَالِمًا لَعَلِمَ أَنَّ إِجَابَتَهُ
أُمَّهُ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ."
وأخرجه ابن منده في "معرفة
الصحابة" (ص: 416)، أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (2/ 880 و 5/
2817) (2283 و 6672)، تاريخ بغداد ت بشار (14/ 524) (رقم: 4329).
وهو حديث ضعيف: ضعفه
الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (4/ 103)
(رقم: 1599)، لأجل الحكم بن الريان اليشكري.
وقال الألباني في "سلسلة الأحاديث
الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (4/ 103):
"قلت: ومن الغريب أن كتب الجرح
والتعديل لم تتعرض للحكم هذا بذكر، حتى كتاب " الجرح والتعديل " لابن
أبي حاتم، ومثله يزيد بن حوشب، وكذلك أبو هـ، فإنهم لا يعرفون إلا في هذا الحديث،
ولهذا قال المناوي: " قال البيهقي: هذا إسناد مجهول. اهـ
وقال الذهبي في " الصحابة
": هو مجهول. اهـ. وفيه محمد بن يونس القرشي الكديمي، قال ابن عدي: متهم
بالوضع ". قلت: لم ينفرد به، بل تابعه اثنان كما تقدم نقله عن الخطيب، فالعلة
من شيخه، أوشيخ الليث المجهولين. والله أعلم." اهـ
[6] وفي "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن
الحجاج" (32/ 538) للإثيوبي:
"الحديث بهذا اللفظ ضعيف،
وقد أخرجه النسائيّ في "المجتبى" 6/ 11 بسنده عن معاوية بن جاهمة
السلميّ، أن جاهمة جاء إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله،
أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال: "هل لك من أم؟ " قال: نعم، قال:
"فالزمها، فإن الجنة تحت رجليها". انتهى، وهو حديث حسن."
قلت: أخرجه النسائي في
"سننه" (6/ 11) (رقم: 3104)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 929) (رقم: 2781). وصححه الألباني في
"تحقيق حقوق النساء في الإسلام" (ص: 195)، وحسنه الأرنؤوط في
"تخريج مسند أحمد" – ط. الرسالة (24/ 299) (رقم: 15538).
Komentar
Posting Komentar