شرح الحديث 218 (بَابُ مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ) من الأدب المفرد
112 - بَابُ مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ 218
- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ
مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«لَا
يَشْكُرُ اللَّهُ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ» [قال الشيخ الألباني: صحيح] |
رواة الحديث:
* حَدَّثَنَا
مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ (ثقة ثبت: ت. 223 هـ بـ البصرة):
موسى بن إسماعيل المنقري
مولاهم، أبو سلمة التبوذكي البصري (مشهور بكنيته و باسمه)، من صغار أتباع التابعين،
روى له: خ م د ت س ق
قَالَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ
مُسْلِمٍ (ثقة: ت. 167 هـ):
الربيع بن مسلم القرشيُّ الْجُمَحِيّ،
أبو بكر البصري (جد عبد الرحمن بن بكر بن الربيع بن مسلم)، من كبار أتباع التابعين،
روى له: بخ م د ت س
قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
زِيَادٍ (ثقة ثبت ربما أرسل: بعد 120):
محمد بن زياد القرشي الجمحيُّ مولاهم، أبو الحارث
المدني (سكن البصرة)، من الوسطى من التابعين، روى له: خ
م د ت س ق
قال الذهبي في "تاريخ الإسلام" – ت. بشار
(3/ 492): "مَاتَ بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ." اهـ
* عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ت.
57 هـ):
عبد الرحمن بن صخر أبو هريرة الدوسي اليماني (حافظ الصحابة، وله 5370 حديثا)، روى له: خ م د ت س ق
نص الحديث وشرحه:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
عَنِ النَّبِيِّ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_
قَالَ:
«لَا يَشْكُرُ اللَّهُ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ»
وقال
الخطابي في "معالم السنن" (4/ 113):
"هذا
الكلام يتأول على وجهين:
أحدهما: أن من كان طبعه وعادته كفرانَ نعمةِ الناس، وتركَ الشكر لمعروفهم، كان من عادته
كفرانُ نعمة الله، وترك الشكر له _سبحانه_.
والوجه الاخر: أن الله _سبحانه_ لا يقبل شكر العبد
على إحسانه إليه، إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس، ويكفر معروفهم لاتصال أحد
الأمرين بالآخر." اهـ
وفي
"سنن الترمذي" – ت. شاكر (4/ 339):
عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا
يَشْكُرُ اللَّهَ»
قال
الحافظ الناجي _رحمه الله_ في "عجالة الإملاء" – ط. المعارف (2/ 790)
(رقم: 471):
"قوله
بعد حديث أبي هريرة: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)،
إنه
روي برفع اسم الله والناس، وبنصبهما، وبرفع الله ونصب الناس، وبعكسه أربع روايات."
اهـ
وفي
"عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد في إعراب الحديث" (العدد 67 - 68/
115) للسيوطي:
"قال
أبو البقاء: "الرفع في (يشكر) في الموضعين لا يجوز غيره لأنّه خبر وليس بنهي
ولا شرط. و (مَنْ) بمعنى الذي". انتهى."
اهـ
انظر: "إعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث"
(ص: 28) لأبي البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري البغدادي محب الدين
(المتوفى: 616هـ)، ط. مؤسسة المختار، بتحقيق عبد الحميد هنداوي
وفي
"تفسير القرطبي" (1/ 398):
"قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ:
الشُّكْرُ:
الثَّنَاءُ عَلَى الْمُحْسِنِ بِمَا أَوْلَاكَهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ يُقَالُ:
شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ وَبِاللَّامِ أَفْصَحُ. وَالشُّكْرَانُ: خِلَافُ
الْكُفْرَانِ." اهـ
وقال
ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (2/ 493):
"والشُّكْرُ
مِثْلُ الحَمْد، إلاَّ أنَّ الحمدَ أعمُّ مِنْهُ، فَإِنَّكَ تَحْمَد الإنسانَ
عَلَى صِفاَته الْجَمِيلَةِ، وَعَلَى مَعْرُوفه، وَلَا تَشْكُرُهُ إلاَّ عَلَى
مَعْرُوفه دُون صِفاَتِه.
والشُّكْرُ:
مُقابَلةُ النِّعمَة بالقَول والفِعل والنيَّة، فيُثْنِى عَلَى المُنْعم بلِسانه،
ويُذِيب نَفْسه فِي طاعتِه، ويَعْتَقِد أَنَّهُ مُولِيها، وَهُوَ مِنْ (شَكِرَتِ
الْإِبِلُ تَشْكَرُ): إِذَا أَصَابَتْ مَرْعى فسَمِنَت عَلَيْهِ." اهـ
تخريج الحديث:
أخرجه
البخاري في "الأدب المفرد" (ص: 85) (رقم: 218)، وأبو داود في
"سننه" (4/ 255) (رقم: 4811)، والترمذي في "سننه" – ت. شاكر
(4/ 339) (رقم: 1954)، وأحمد في "مسند" – ط. عالم الكتب (2/ 258 و 2/
295 و 2/ 303 و 2/ 388 و 2/ 461 و 2/ 492) (رقم: 7504 و 7939 و 8019 و 9034 و 9944
و 10377)، وأبو داود الطيالسي في "مسنده" (4/ 232) (رقم: 2613)، والبزار
في "مسنده" = "البحر الزخار" (17/ 65) (رقم: 9587)، وابن أبي
الدنيا في "اصطناع المعروف" (ص: 106) (رقم: 130)، و"قضاء الحوائج"
(ص: 68) (رقم: 72)، وابن جرير الطبري في "تهذيب الآثار" - مسند عمر (1/
72) (رقم: 114)، والخرائطي في "فضيلة الشكر لله على نعمته" (ص: 61)
(رقم: 80)، وابن الأشناني في "جزء القاضي الأشناني" (ص: 324) (رقم: 8)، وابن
حبان في "صحيحه" (8/ 198) (رقم: 3407)، وفي "الثقات" (9/ 23)
(رقم: 14977)، و"روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" (ص: 263)، وأبو الشيخ
الأصبهاني في "أمثال الحديث" (ص: 147) (رقم: 110)، وأبو عبد الله ابن
منده في "الفوائد" (ص: 63) (رقم: 42)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء
وطبقات الأصفياء" (7/ 165 و 8/ 389 و 9/ 22)، وابن بشران في "الأمالي"
- الجزء الأول (ص: 124) (رقم: 264)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (2/ 35)
(رقم: 829)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 302) (رقم: 12032)، و"شعب
الإيمان" (11/ 375) (رقم: 8696)، و"الآداب" (ص: 78) (رقم: 194)، والخطيب
البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1/ 247) (رقم: 499)،
والبغوي في "شرح السنة" (13/ 187) (رقم: 3610).
والحديث صحيح: صححه الألباني _رحمه الله_ في "صحيح
موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان" (2/ 293) (رقم: 1740)، و"سلسلة
الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (1/ 776) (رقم: 416)، و"صحيح
الأدب المفرد" (ص: 99) (رقم: 160)، و"صحيح الجامع الصغير وزيادته"
(2/ 1122 و 2/ 1276) (رقم: 6601 و 7719)، و"التعليقات الحسان على صحيح ابن
حبان" (5/ 284) (رقم: 3398)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 572)
(رقم: 973)، و"تخريج مشكاة المصابيح" (2/ 911) (رقم: 3025).
وصححه
الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في "الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين" (2/
351) (رقم: 1330)
من فوائد الحديث:
1/ الترغيب في شكر المعروف ومكافأة فاعله والدعاء له
وقال
المنذري في "الترغيب والترهيب" – ت. عمارة (2/ 76)
(الترغيب
في شكر المعروف ومكافأة فاعله والدعاء له)
وقال
ابن حبان _رحمه الله_ في "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" (ص: 263)
ذكر
الحث على المجازاة على الصنائع
2/ وجوب الشكر على من أسدي إليه معروفٌ
وقال
ابن حبان _رحمه الله_ في "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" (ص: 263)
الواجب
على من أسدي إليه معروفا أن يشكره بأفضل منه أو مثله لأن الإفضال على المعروف في
الشكر لا يقوم مقام ابتدائه، وإن قل.
فمن
لم يجد فليثن عَلَيْهِ، فإن الثناء عند العدم يقوم مقام الشكر للمعروف. وما استغنى
أحد عَن شكر أحد." اهـ
3/ ستر المعروف من كفران النعم
وقال
الماوردي _رحمه الله_ في "أدب الدنيا والدين" (ص: 208_209):
"وَأَمَّا
مَنْ سَتَرَ مَعْرُوفَ الْمُنْعِمِ، وَلَمْ يَشْكُرْهُ عَلَى مَا أَوْلَاهُ مِنْ
نِعَمِهِ، فَقَدْ كَفَرَ النِّعْمَةَ وَجَحَدَ الصَّنِيعَةَ.
وَإِنَّ
مِنْ أَذَمِّ الْخَلَائِقِ، وَأَسْوَأِ الطَّرَائِقِ، مَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ
قُبْحَ الرَّدِّ وَسُوءَ الْمَنْعِ. فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ
قَالَ: «لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ» .
وَقَالَ
بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: مَنْ لَمْ يَشْكُرْ لِمُنْعِمِهِ اسْتَحَقَّ قَطْعَ
النِّعْمَةِ.
وَقَالَ
بَعْضُ الْفُصَحَاءِ: مَنْ كَفَرَ نِعْمَةَ الْمُفِيدِ اسْتَوْجَبَ حِرْمَانَ
الْمَزِيدِ.
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَنْ أَنْكَرَ الصَّنِيعَةَ اسْتَوْجَبَ قُبْحَ
الْقَطِيعَةِ.
وَأَنْشَدَنِي
بَعْضُ الْأُدَبَاءِ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ
اللَّهُ وَجْهَهُ -:___
مَنْ
جَاوَزَ النِّعْمَةَ بِالشُّكْرِ ... لَمْ يَخْشَ عَلَى النِّعْمَةِ مُغْتَالَهَا
لَوْ
شَكَرُوا النِّعْمَةَ زَادَتْهُمْ ... مَقَالَةُ اللَّهِ الَّتِي قَالَهَا
لَئِنْ
شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ... لَكِنَّمَا كُفْرُهُمْ غَالَهَا
وَالْكُفْرُ
بِالنِّعْمَةِ يَدْعُو إلَى ... زَوَالِهَا وَالشُّكْرُ أَبْقَى لَهَا
وَهَذَا
آخِرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ
الْجَامِعَةِ." اهـ
وقال
الإثيوبي في "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج"
(31/ 356):
"قال
ابن إسحاق: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)}؛ أي: فلا تكن جبارًا، ولا
متكبرًا، ولا فَحَّاشًا، ولا فَظًّا على الضعفاء من عباد الله.
وقال
قتادة: يعني: رُدَّ المسكين برحمة ولين.
{وَأَمَّا
بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}؛ أي: وكما كنت عائلًا فقيرًا فأغناك الله،
فحدِّث بنعمة الله عليك، كما جاء في الدعاء المأثور النبوي: "واجعلنا شاكرين
لنعمتك، مثنين بها، قابليها، وأتمّها علينا".
وأخرج ابن جرير عن أبي نضرة قال: كان المسلمون
يرون أن مِنْ شكر النِّعم أن يحدّث بها.
4/ شُكْر الله تَعَالَى إِنَّمَا يَتِمُّ بِمُطَاوَعَتِهِ وَامْتِثَالِ
أَمْرِهِ
قال
المباركفوري _رحمه الله_ في "تحفة الأحوذي" (6/ 74):
"قَالَ
الْقَاضِي:
(وَهَذَا
إِمَّا لِأَنَّ شُكْرَهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَتِمُّ بِمُطَاوَعَتِهِ وَامْتِثَالِ
أَمْرِهِ وَأَنَّ مِمَّا أُمِرَ بِهِ شُكْرُ النَّاسِ الَّذِينَ هُمْ وَسَائِطُ
فِي إِيصَالِ نِعَمِ اللَّهِ إِلَيْهِ.
فَمَنْ
لَمْ يُطَاوِعْهُ فِيهِ، لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا شُكْرَ نِعَمِهِ أَوْ لِأَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِشُكْرِ مَنْ أَسْدَى
نِعْمَةً مِنَ النَّاسِ مَعَ مَا يَرَى مِنْ حِرْصِهِ عَلَى حُبِّ الثَّنَاءِ
وَالشُّكْرِ عَلَى النَّعْمَاءِ وَتَأَذِّيهِ بِالْإِعْرَاضِ وَالْكُفْرَانِ كَانَ
أَوْلَى بِأَنْ يَتَهَاوَنَ فِي شُكْرِ مَنْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الشُّكْرُ
وَالْكُفْرَانُ) انْتَهَى." اهـ
5/ في هذا الحديث دليلٌ على أنَّ العَبْدَ يُعَذَّبُ على الجحد للفَضْلِ
والإحسان وشُكْرِ المُنْعِمِ
وقال
ابن بطال في "شرح صحيح البخارى" (1/ 89):
"وشكر
نعمة الزوج هو من باب شكر نعمة الله، لأن كل نعمة فضل بها العشير أهله، فهى من
نعمة الله أجراها على يديه." اهـ
وقال
ابن العربي في "المسالك في شرح موطأ مالك" (3/ 294_295):
"وكُفْرُ
نِعْمَةِ الزَّوج هو من باب كُفْرِ نعمة الله _عَزَّ وَجَلَّ_؛ لأنّ كلَّ نعمةٍ
تصل إليها أو يصل بها العَشِير زوجَهُ، فمن نِعْمَةِ الله أَجْرَاها الله على
يَدَيْهِ، وهو معنى قوله: "يَكفُرْنَ الإحسَانَ"، أراد كفرهنّ حقَّ
الزَّوج ونعمة الله الّذي ينعم بها عليها، فهي تُعَذَّبُ على ذلك في النَّار.
وقد
جاء في الحديث من طرق صحاح، عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ أنّه قال:
"لا ينظر اللهُ إلى امرأةٍ لا تعرفُ حقَّ زوجِهَا، ولا تشكره، وهي لا تستغني
عنه".___
قال علماؤنا: في هذا الحديث دليلٌ على أنَّ العَبْدَ
يُعَذَّبُ على الجحد للفَضْلِ والإحسان وشُكْرِ المُنْعِمِ.
وقد
قيل: إنّ شُكْرَ المُنْعِمِ فريضةٌ." اهـ
6/ وَمَنْ ضَيَّعَ شُكْرَ الْعِبَادِ الَّذِي هُوَ أَيْسَرُ
الشُّكْرَيْنِ، كَانَ بِشُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ أَعْظَمُهُمَا
قَدْرًا، وَأَعْسَرُهُمَا مَرَامًا أَضْيَعَ،
وقال
الكلاباذي في "بحر الفوائد" = "معاني الأخبار" (ص: 170):
"نِعَمُ
اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ لَا تُحْصَى، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]،
فَمِنْ
نِعَمِهِ مَا تَفَرَّدَ مِنْهَا، وَمِنْهَا مَا جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنْعمِ
عَلَيْهِ وَسَائِطَ، وَأَسْبَابًا، وَأَوْجَبَهُ حَقَّ الْوَسَايِطِ، وَتَعْظِيمَ
الْأَسْبَابِ:
* فَأَوَّلُ ذَلِكَ: الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ
عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى
الْإِيمَانَ بِهِمْ، وَالطَّاعَةَ لَهُمْ، وَلِرَسُولِهِ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ، فَهُمُ الْوَسَايِطُ فِيمَا بَيْنَ
اللَّهِ، وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَالسُّفَرَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْبَلَاغِ
عَنْهُ، وَإِيجَابِ الْأوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي، وَالْهِدَايَةِ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى، لَيْسَ إِلَى الرُّسُلِ غَيْرُ الْبَلَاغِ وَالْبَيَانِ،
كَمَا
قَالَ: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]،
وَقَالَ:
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الْلَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
[القصص: 56]
ثُمَّ
قَالَ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]،
أَيْ:
إِنَّكَ لَتَدْعُو إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ،
* وَأَوْجَبَ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ بِقَوْلِهِ:
{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]،
إِذْ
جَعَلَهُمَا سَبَبَ الْإِيجَادِ لِلْوَلَدِ،
* وَأَوْجَبَ حَقَّ الْعُلَمَاءِ، أَوْ
جَعَلَهُمْ سَبَبًا لَمَّا عَلَّمَهُمْ، وَالْمُعَلِّمُ
فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيُعَلِّمُكُمْ
مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151]،
وَقَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 2]،
* وَأَوْجَبَ حَقَّ السُّلْطَانِ إِذْ
جَعَلَهُمْ سَبَبًا لِلْأَمْنِ فِي بِلَادِهِ، وَالْحُكَّامَ بَيْنَ عِبَادِهِ،
فَقَالَ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}
[النساء: 59]،
قِيلَ:
هُمُ الْأُمَرَاءُ، وَقِيلَ: هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَلِكُلٍّ حَقٌّ وَاجِبٌ،
وَفَرْضٌ لَازِمٌ___،
* فَكَذَلِكَ إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ _تَعَالَى_ عَلَيْكَ بِوَاسِطَةِ
عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ فِي نَفْعٍ لَكَ أَوْ دَفْعٍ عَنْكَ،
أَوْجَبَ عَلَيْكَ شُكْرَهُ، وَالْمُنْعِمُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ
تَعَالَى،
قَالَ
اللَّهُ _تَعَالَى_: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]،
فَوَجَبَ
عَلَيْهِ الشُّكْرُ لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ، وَوَجَبَ
عَلَيْكَ شُكْرُ مَنْ جَعَلَهُ سَبَبًا لِنِعْمَةِ النَّفْعِ وَالدَّفْعِ،
كَالشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى،
أَوَّلُهُ
رُؤْيَةُ النِّعْمَةِ بِالْقَلْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ _رَحِمَهُ اللَّهُ_: (الشُّكْرُ انْكِشَافُ الْغِطَاءِ
عَنِ الْقَلْبِ لِشُهُودِ النِّعْمَةِ، وَالْكَثِيرُ انْكِشَافُ الشَّفَتَيْنِ
عَنِ الْأَسْنَانِ لِوُجُودِ الْفَرَجِ)،
فَالشُّكْرُ: رُؤْيَةُ
الْقَلْبِ النِّعْمَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ
بِاللِّسَانِ، وَالطَّاعَةُ لَهُ بِالْأَرْكَانِ، ثُمَّ الِاعْتِرَافُ بِرُؤْيَةِ
التَّقْصِيرِ عَنْ بُلُوغِ شُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ نِعْمَةٌ مِنْهُ يَجِبُ
الشُّكْرُ عَلَيْهَا، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ الْحَيْرَةُ مِنْكَ، وَشُهُودُ حَاصِلِ
الشُّكْرِ عَلَيْكَ.
قَالَ
بَعْضُ الْكِبَارِ:
[البحر
الطويل]
سَأَشْكُرُ
لَا أَنِّي أُجَازِيكَ مُنْعِمًا ... بِشُكْرِي وَلَكِنْ كَيْ يُقَالَ لَهُ:
شُكْرُ
وَأَذْكُرُ
أَيَّامًا لَدَيَّ أَضَعْتُهَا ... وَآَخِرُ مَا يَبْقَى عَلَى الشَّاكِرِ
الذِّكْرُ
وَقَالَ
بَعْضُ الْكِبَارِ فِي مُنَاجَاتِهِ: (اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ عَجْزِي عَنْ
شُكْرِكَ، فَاشْكُرْ نَفْسَكَ عَنِّي).
فَغَايَةُ الشُّكْرِ: رُؤْيَةُ
الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِالشُّكْرِ بَعْدَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي أَسْبَابِ
الشُّهُودِ، وَالْقِيَامِ بِالْوَفَاءِ، وَالِاسْتِهْتَارِ بِالثَّنَاءِ، وَشُكْرِ
مَنْ جَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَى يَدَيْهِ بِالْمُكَافَأَةِ لَهُ، وَالثَّنَاءِ
عَلَيْهِ.
وَمَعْنَى الثَّنَاءِ: نَشْرُ الْجَمِيلِ
عَنْهُ، وَحُسْنُ الدُّعَاءِ لَهُ.
فَمَنْ
قَدَرَ، كَافَأَ، وَمَنْ عَجَزَ دَعَا. وَالْمُكَافَأَةُ:
مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالدُّعَاءُ: عِنْدَ
الْعَجْزِ أَيْسَرُ الشُّكْرَيْنِ: شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَشُكْرُ الْعِبَادِ.
وَمَنْ
ضَيَّعَ شُكْرَ الْعِبَادِ الَّذِي هُوَ أَيْسَرُ الشُّكْرَيْنِ، كَانَ بِشُكْرِ
اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ أَعْظَمُهُمَا قَدْرًا، وَأَعْسَرُهُمَا مَرَامًا
أَضْيَعَ،
فَكَأَنَّهُ
قَالَ: (لَا يَكُونُ قَائِمًا بِشُكْرِ اللَّهِ مَعَ عِظَمِ شَأْنِهِ، مَنْ لَمْ
يَقُمْ بِشُكْرِ النَّاسِ مَعَ حَقِّهِ مُجْمَلِهِ).
وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ عَلَى التَّنْبِيهِ عَلَى رُؤْيَةِ الْعَجْزِ عَنِ
الْقِيَامِ بِشُكْرِ اللَّهِ _سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى_ فِيمَا أَنْعَمَ لِمَعَانٍ:___
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْرُوفَ الَّذِي
يَصْطَنِعُهُ النَّاسُ، وَإِنْ كَثُرَ، فَمَعْدُودٌ مُتَنَاهٍ، وَنِعَمُ اللَّهِ
تَعَالَى لَا تُحْصَى عَدًّا، وَلَا تَتَنَاهَى حَدًّا،
وَالْإِنْسَانُ
وَإِنْ كَافَأَ الْمُصْطَنِعُ إِلَيْهِ، فَلِلْمُصْطَنِعُ فَضِيلَةُ السَّبْقِ،
وَلَمْ يُدْرِكْهُ الْمُكَافِئُ أَبَدًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَشْكُرُ اللَّهَ
تَعَالَى، أَيْ: لَا يَقْدِرُ عَلَى شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نِعَمِهِ الَّتِي
لَا تُحْصَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شُكْرِ النَّاسِ فِي الْمَعْرُوفِ
الْمَحْدُودِ، الْمَعْدُودِ، الْمُحْصَى." اهـ
7/ تحريم
كفران النعم
وقال
ابن العطار في "العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام" (2/ 711):
"تحريم
كفران النعم، سواء كانت من مفضول أو فاضل." اهـ
8/ تَعْظِيمِ الْوَاسِطَةِ، مَعَ أَنَّ الْمُنْعِمَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ
اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ.
وقال
ملا علي القاري في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (4/ 1573):
"وَكُلُّهَا
تَرْجِعُ إِلَى تَعْظِيمِ الْوَاسِطَةِ، مَعَ أَنَّ الْمُنْعِمَ الْحَقِيقِيَّ
هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ.
وَالْمَشْهُورُ
فِي حَدِّ الشُّكْرِ بِأَنَّهُ: صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ نِعَمِهِ إِلَى مَا
خُلِقَ لِأَجْلِهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ،
وَقَالَ
بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:
13] أَيْ: قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي مَنْ يَشْهَدُ أَنَّ النِّعْمَةَ مِنِّي، لِأَنَّ
حَقِيقَةَ الشُّكْرِ الْغَيْبَةُ عَنْ شُهُودِ النِّعْمَةِ بِشُهُودِ الْمُنْعِمِ،
وَلَا دَخْلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِمَبْحَثِ تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ
عَلَى الْفَقِيرِ الصَّابِرِ عِنْدَ كَثِيرِينَ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ
عَلَى خِلَافِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَوْلِيَاءُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.
وقال
الصنعاني في "التحبير لإيضاح معاني التيسير" (2/ 551_552):
"من
ترك شكر من أحسن إليه، فإنه قد ترك شكر الله، وذلك؛ لأن الله قد أمره بشكر من أحسن
إليه، فإذا لم يشكره فلم يمتثل أمر الله،
ومن
لم يمتثل أمره تعالى فقد ترك شكر الله، إذ من شكره امتثال أمره ويحتمل أن يراد أن
من ترك شكر من أحسن إليه من العباد ترك شكر الله؛ لأنه بشكره العباد شكر لله حيث
سخرهم___للإحسان إليه." اهـ
وقال
الأمير الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير" (10/ 429):
إن
الله أمر بشكر المحسن فمن لم يشكره فقد ترك امتثال أمر الله ومن ترك امتثال أمره
لم يشكره." اهـ
وقال
شيخنا العباد في "شرح سنن أبي داود" (547/ 13) - بترقيم الشاملة:
"الإنسان
يشكر المعروف الذي يسدي إليه، ومعلوم أن كل خير فهو من الله سبحانه وتعالى: {وَمَا
بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18]،
فكل
خير حصل للإنسان فالله تعالى هو المتفضل به، ومن الخير الذي يتفضل الله به على من
يشاء من عباده أن يسوق إليه إنساناً يسخره له ويلين قلبه له بحيث يحسن إليه، وهذا
الإحسان هو في الحقيقة من الله عز وجل؛ لأن الله تعالى هو الذي وفق من أراد أن
يحسن إليه للإحسان إليه، فهو سبحانه وتعالى متفضل بكل شيء،
ولكن
كما أن العبد فاعل باختياره، وأنه يحمد على ما يحصل منه من الخير، وكذلك يذم على
ما يحصل منه من الشر،
فإنه
إذا حصل منه الإحسان فإنه يحمد على إحسانه وعلى معروفه، ويشكر على ذلك، والشكر لله
عز وجل أولاً وآخراً؛ لأنه هو المتفضل بكل شيء،
فهو
يتفضل بالخير بسبب أحد من الناس، أو بدون أن يكون هناك سبب من أحد من الناس، فالكل
بفضل الله عز وجل، والكل بإحسانه وجوده وكرمه سبحانه وتعالى،
فعلى
الإنسان أن يشكر الله عز وجل على كل النعم الظاهرة والباطنة؛ لأنها كلها من الله
تقديراً وتوفيقاً، ومن ساق الله تعالى الخير على يديه لإنسان فإنه يشكره ويثني
عليه ويدعو له، سواء كان هذا المعروف يتعلق بأمر دنيوي أو بأمر ديني." اهـ
وقال
شيخنا العباد في "شرح سنن أبي داود" (547/ 13) - بترقيم الشاملة:
"فعلى
الإنسان أن يشكر النعم التي حصلت له بسبب المخلوق الذي جعله الله سبباً في وصولها
إليه، ويشكر النعم التي تحصل من الله عز وجل بغير سبب، فيحمد الله ويشكره على كل
حال." اهـ
Komentar
Posting Komentar