شرح الحديث 217 (بَابُ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمُكَافَأَةَ، فَلْيَدْعُ لَهُ) من الأدب المفرد

 

111- بَابُ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمُكَافَأَةَ، فَلْيَدْعُ لَهُ

 

217 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ:

أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الْأَنْصَارُ بِالْأَجْرِ كُلِّهِ؟"

قَالَ: «لَا، مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ، وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ بِهِ»

[قال الشيخ الألباني: صحيح]

 

رواة الحديث:

 

* حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ (ثقة ثبت: ت. 223 هـ بـ البصرة):  

موسى بن إسماعيل المنقري مولاهم، أبو سلمة التبوذكي البصري (مشهور بكنيته و باسمه)، من صغار أتباع التابعين، روى له: خ م د ت س ق 

 

* قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ (ثقة عابد أثبت الناس فى ثابت، وتغير حفظه بأخرة: ت. 167 هـ)[1]:

حماد بن سلمة بن دينار البصري، أبو سلمة بن أبى صخرة (مولى ربيعة بن مالك بن حنظلة من بنى تميم، ويقال: مولى قريش)، من الوسطى من أتباع التابعين، روى له: خت م د ت س ق

 

* عَنْ ثَابِتٍ (ثقة عابد: ت. 127 هـ):

ثابت بن أسلم البُنَانِي، أبو محمد البصري، طبقة تلى الوسطى من التابعين، روى له: خ م د ت س ق 

 

* عَنْ أَنَسٍ (صحابي: ت. 93 هـ):

أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري النجارى ، أبو حمزة المدني، روى له: خ م د ت س ق

 

قال الذهبي _رحمه الله_ في "سير أعلام النبلاء" – ط. الرسالة (3/ 406):

"(مُسْنَدُهُ): أَلْفَانِ وَمائَتَانِ وَسِتَّةٌ وَثَمَانُوْنَ [2286]." اهـ

 

نص الحديث وشرحه:

 

عَنْ أَنَسٍ:

أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الْأَنْصَارُ بِالْأَجْرِ كُلِّهِ؟"

قَالَ: «لَا، مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ، وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ بِهِ»

 

 

وفي "السنن الكبرى" للنسائي (9/ 79):

عَنْ أَنَسٍ قَالَ:

قَالَتِ الْمُهَاجِرُونَ: "يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبْتِ الْأَنْصَارُ بِالْأَجْرِ كُلِّهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَحْسَنَ بَذْلًا لَكَثِيرٍ، وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةٍ فِي قَلِيلٍ مِنْهُمْ، وَلَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ؟"

قَالَ: «أَلَيْسَ تُثْنُونَ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَتَدْعُونَ اللهَ لَهُمْ؟»

قَالُوا: بَلَى قَالَ: «فَذَاكَ بِذَاكَ»

 

وفي "شعب الإيمان" للبيهقي (11/ 369):

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:

"إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي قَلِيلٍ، وَلَا أَحْسَنَ بَذْلًا مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ، وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَا، لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ، فَقَالَ: " أَمَّا مَا دَعَوْتُمْ لَهُمْ، وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ مُكَافَأَةٌ، أَوْ شِبْهُ الْمُكَافَأَةِ."

 

وفي "سنن الترمذي" – ت. شاكر (4/ 653):

عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:

لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ المَدِينَةَ، أَتَاهُ المُهَاجِرُونَ، فَقَالُوا:

"يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، لَقَدْ كَفَوْنَا المُؤْنَةَ، وَأَشْرَكُونَا فِي المَهْنَإِ حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ."

فَقَالَ النَّبِيُّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: «لَا مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ»

 

وفي "المفاتيح في شرح المصابيح" (3/ 522) للزيداني:

* قوله: (لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ

المهنأ: كلُّ ما يأتيك من المال من غير تعب؛

يعني: أشركونا في ثمار نخيلهم، ودفعوا عنا مؤنة السقي والإصلاح، سقوا النخيل وأصلحوها بأنفسهم، وأعطونا نصف التمر.

* قولهم: (حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله)؛

يعني: خشينا أن يعطيهم الله _تعالى_ ما حصل لنا من أجر الهجرة من مكة إلى المدينة، ومن أجر عباداتنا كلها، من كثرة إحسانهم إلينا.

* قوله: (لا، ما دعوتم الله لهم)؛ يعني: لا يكون أجركم كله لهم ما دمتم تدعون لهم بالخير، فإن دعاءكم لهم عوضٌ عما دفعوا إليكم من المال.

 

وقال علي بن سلطان القاري _رحمه الله_ في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (5/ 2012):

"(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ) أَيْ: حِينَ جَاءَهَا أَوَّلَ قُدُومِهِ، (أَتَاهُ الْمُهَاجِرُونَ) أَيْ: بَعْدَ مَا قَامَ الْأَنْصَارُ بِخِدْمَتِهِمْ وَإِعْطَائِهِمْ أَنْصَافَ دُورِهِمْ وَبَسَاتِينِهِمْ إِلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ طَلَّقَ أَحْسَنَ نِسَائِهِ لِيَتَزَوَّجَهَا بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]

(فَقَالُوا) أَيِ: الْمُهَاجِرُونَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ) أَيْ: مِنْ مَالٍ (وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ) أَيْ: مِنْ مَالٍ قَلِيلٍ (مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ) أَيْ: عِنْدِهِمْ وَفِيمَا بَيْنَهُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَحْسَنُوا إِلَيْنَا سَوَاءٌ كَانُوا كَثِيرِي الْمَالِ أَوْ فَقِيرِي الْحَالِ،

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:

الْجَارَانِ أَعْنِي قَوْلَهُ مِنْ قَلِيلٍ هُوَ الْمُفَضَّلُ وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْأَنْصَارُ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ إِلَيْهِ لِيَدُلَّ التَّنْكِيرُ عَلَى التَّفْخِيمِ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْ إِجْرَاءِ الْأَوْصَافِ التَّالِيَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ، لِأَنَّ التَّبْيِينَ بَعْدَ الْإِبْهَامِ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ وَأَبْلَغُ (لَقَدْ كَفَوْنَا) مِنَ الْكِفَايَةِ (الْمُؤْنَةَ) أَيْ: تَحَمَّلُوا عَنَّا مُؤْنَةَ الْخِدْمَةِ فِي عِمَارَةِ الدُّورِ وَالنَّخِيلِ وَغَيْرِهِمَا (وَأَشْرَكُونَا) أَيْ: مِثْلَ الْإِخْوَانِ (فِي الْمَهْنَأِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالنُّونِ وَهَمْزٍ فِي آخِرِهِ مَا يَقُومُ بِالْكِفَايَةِ فِي إِصْلَاحِ الْمَعِيشَةِ، وَقِيلَ: مَا يَأْتِيكَ بِلَا تَعَبٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْمَعْنَى أَشْرَكُونَا فِي ثِمَارِ نَخِيلِهِمْ وَكَفَوْنَا مُؤْنَةَ سَقْيِهَا وَإِصْلَاحِهَا وَأَعْطَوْنَا نِصْفَ ثِمَارِهِمْ، وَقَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُونَ بِهِ مَا أَشْرَكُوهُمْ فِيهِ مِنْ زُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ

(لَقَدْ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: حَتَّى لَقَدْ (خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا) أَيِ: الْأَنْصَارُ (بِالْأَجْرِ كُلِّهِ) أَيْ: بِأَنْ يُعْطِيَهُمُ اللَّهُ أَجْرَ هِجْرَتِنَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَجْرَ عِبَادَتِنَا كُلِّهَا مِنْ كَثْرَةِ إِحْسَانِهِمْ إِلَيْنَا

(قَالَ: لَا) أَيْ: يَذْهَبُونَ بِكُلِّ الْأَجْرِ فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَاسْعٌ فَلَكُمْ ثَوَابُ الْعِبَادَةِ وَلَهُمْ أَجْرُ الْمُسَاعَدَةِ (مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ) أَيْ: مَادُمْتُمْ تَدْعُونَ لَهُمْ بِخَيْرٍ فَإِنَّ دُعَاءَكُمْ يَقُومُ بِحَسَنَاتِهِمْ إِلَيْكُمْ، وَثَوَابُ حَسَنَاتِكُمْ رَاجِعٌ عَلَيْكُمْ

وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَعْنِي إِذَا حَمَلُوا الْمَشَقَّةَ وَالتَّعَبَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَشْرَكُونَا فِي الرَّاحَةِ وَالْمَهْنَأِ فَقَدْ أَحْرَزُوا الْمَثُوبَاتِ فَكَيْفَ نُجَازِيهِمْ؟ فَأَجَابَ: لَا، أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ فَإِنَّكُمْ إِذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ شُكْرًا لِصَنِيعِهِمْ وَدُمْتُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ جَازَيْتُمُوهُمْ." اهـ

 

وفي "شرح سنن أبي داود" للعباد (547/ 16) بترقيم الشاملة:

"(أن المهاجرين قالوا للنبي _صلى الله عليه وسلم_: "ذهبت الأنصار بالأجر كله." قال: "لا، ما دعوتم لهم، وأثنيتم عليهم")،

أي: أنكم بدعائكم لهم وثنائكم عليهم تحصلون الأجر؛ لأنكم عرفتم الفضل لأهل الفضل." اهـ

 

ففي الحديث بيان شرف المهاجرين والأنصار حيث كانوا حريصين على كل خير، وقد بيّنه اللهُ _تبارك وتعالى_ في قوله:

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 8، 9]

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (ص: 85) (رقم: 217)، وأبو داود في "سننه" (4/ 255) (رقم: 4812)، سنن الترمذي في "سننه" – ت. شاكر (4/ 653) (رقم: 2487)، والنسائي في "السنن الكبرى" (9/ 79) (رقم: 9938)، وأحمد في "المسند" – ط. عالم الكتب (3/ 200 و 3/ 204) (رقم: 13075 و 13122)، وابن أبي شيبة في "الأدب" (ص: 253) (رقم: 232)، وفي "المصنف" (5/ 321) (رقم: 26510)، وابن شَبَّةَ النميري في "تاريخ المدينة" (2/ 490)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3/ 389) (رقم: 1808)، وأبو يعلى الموصلي في "المسند" (6/ 410 و 6/ 415) (رقم: 3773 و 3780)، وأبو جعفر الطبري في "تهذيب الآثار" - مسند عمر (1/ 71) (رقم: 113)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (ص: 190) (رقم: 574)، وفي "فضيلة الشكر لله على نعمته" (ص: 65) (رقم: 90)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (7/ 209) (رقم: 7292)، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (2/ 72) (رقم: 2368)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 302) (رقم: 12034_12035)، وفي "شعب الإيمان" (11/ 369_370) (رقم: 8685_8686)، و"الآداب" (ص: 78) (رقم: 195)، وشُهْدة بِنْتُ أحمد أبي نصر الدِيْنَوَرِيُّ في "العمدة من الفوائد والآثار الصحاح في مشيخة شهدة" (ص: 120) (رقم: 59)، وأبو محمد ابن قدامة المقدسي في "المتحابين في الله" (ص: 53) (رقم: 53)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (5/ 290_292) (رقم: 1930_1934).

 

والحديث صحيح: صححه الألباني _رحمه الله_ في "صحيح الأدب المفرد" (ص: 99) (رقم: 159)، و"تخريج مشكاة المصابيح" (2/ 911) (رقم: 3026). وصححه أيضا عبد القادر الأرنؤوط _رحمه الله_ في "تخريج جامع الأصول" (2/ 560) (رقم: 1035)، والشيخ مقبل في "الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين" (1/ 99) (رقم: 113)

 

 

من فوائد الحديث:

 

1/ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: دليل عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ يُدْرِكُ بِقَوْلِهِ وَنِيَّتِهِ مَا يُدْرِكُ الْغَنِيُّ بِفُضُولِ مَالِهِ،

 

وقال أبو بكر الكلاباذي _رحمه الله_ في "بحر الفوائد" المسمى بـ"معاني الأخبار" (ص: 332):

"فِي هَذَا الْحَدِيثِ: دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ يُدْرِكُ بِقَوْلِهِ وَنِيَّتِهِ مَا يُدْرِكُ الْغَنِيُّ بِفُضُولِ مَالِهِ، فَإِنَّ الْأَنْصَارَ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَقَاسَمُوهُمْ أَمْوَالَهُمْ وَآثَرُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} الْآَيَةَ.

فَهُمْ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ، وَقَاسَمُوهُمْ إِيَّاهَا حَتَّى خَافَ الْمُهَاجِرُونَ أَنْ يَفْضُلُوهُمْ، وَيَفُوتُهُمْ مَا يُعْطَى الْأَنْصَارُ عَلَى نَفَقَاتِهِمْ وَبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ،

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ هُوَ الثَّوَابُ، وَاللَّهُ تَعَالَى وَاسِعٌ غَنِيٌّ لَا تَفْنَى خَزَائِنُهُ وَلَا يَنْقُصُ أَجْرُهُ،

وَإِنَّمَا مَعْنَى مَا قُلْنَا أَنَّهُمْ يَفْضُلُونَنَا بِأُجُورِ نَفَقَاتِهِمْ، فَيَكُونُ لَهُمْ ذَلِكَ دُونَنَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا» أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ كَمَا تَظُنُّونَ،

أَيْ: لَا يَفْضُلُونَكُمْ وَلَا يَفُوتُكُمْ، فَإِنَّ دُعَاءَكُمُ اللَّهَ لَهُمْ، وَثَنَاءَكُمْ عَلَيْهِمْ يَقُومُ مِنْكُمْ مَقَامَ نَفَقَاتِهِمْ مِنْهُمْ وَبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ، فَتُعْطَوْنَ عَلَى الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ مِنَ الْأَجْرِ مَا يُعْطَوْنَ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْعَطَاءِ.

 

2/ فِيهِ: دليل على وُجُوبِ مُكَافَأَةِ الْمُعْطِي وَمُجَازَاةِ الْمُحْسِنِ، وَمَعْرِفَةِ الْفَضْلِ لِلْمُنْعِمِ

 

وقال أبو بكر الكلاباذي _رحمه الله_ في "بحر الفوائد" المسمى بـ"معاني الأخبار" (ص: 332):

فِيهِ أَيْضًا: وُجُوبُ مُكَافَأَةِ الْمُعْطِي وَمُجَازَاةِ الْمُحْسِنِ، وَمَعْرِفَةِ الْفَضْلِ لِلْمُنْعِمِ، أَعْنِي فَضْلَ أَيْ أَفْضَالًا، لَا فَضْلَ الشَّرَفِ بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْمُنْفِقُ وَالْمُعْطِي وَالْمُحْسِنُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْضُلَهُ بِإِحْسَانِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ." اهـ

 

وقال أبو حاتم البستي في "صحيح ابن حبان" (8/ 198):

"ذِكْرُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ مِنَ الشُّكْرِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ." اهـ

 

وقال الخرائطي _رحمه الله_ في "فضيلة الشكر لله على نعمته" (ص: 61):

"مَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ مِنَ الشُّكْرِ لِلْمُنْعِمِ عَلَيْهِ." اهـ

 

3/ فيه: إشارة إلى أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن المهاجرين معهم الهجرة والنصرة، والأنصار معهم النصرة دون الهجرة

 

وقال شيخنا عبد المحسن العباد _حفظه الله_ في "شرح سنن أبي داود" (547/ 16) - بترقيم الشاملة:

"ومن المعلوم أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن المهاجرين معهم الهجرة والنصرة، والأنصار معهم النصرة دون الهجرة،

والله جمع للمهاجرين بينهما بقوله:

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]

فوصفهم بأنهم مهاجرون ووصفهم بأنهم أنصار، وهم إنما تركوا بلادهم لنصرة الرسول _صلى الله عليه وسلم_، والجهادِ معه، والدفاعِ والذبِ عنه _صلوات الله وسلامه وبركاته عليه_،

لكن الأنصار كانوا أهلَ الْبلَدِ، وعندهم الأموال، فكانوا ينفقون، وأولئك تركوا أموالهم وبلادهم، ولا شك أن من أنفق من ماله، فهو مأجور، وهذا خير له." اهـ

 

4/ فيه: أن تَرْكَ الْمُكَافَأَةِ مِنْ التَّطْفِيفِ

 

وقال ابن مفلح الحنبلي _رحمه الله_ في "الآداب الشرعية والمنح المرعية" (1/ 314):

"قَالَ مُثَنَّى بْنُ جَامِعٍ: إنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَذْكُرُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: (تَرْكُ الْمُكَافَأَةِ مِنْ التَّطْفِيفِ)، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَهْبٍ مِنْ السَّلَفِ.

قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٌ وَأَيَادٍ:

(مَا أَحْسَنَ أَنْ يُخْبِرَ بِفِعَالِهِ بِهِ، لِيَشْكُرَهُ النَّاسُ، وَيَدْعُونَ لَهُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

«مَنْ لَا يَشْكُرْ النَّاسَ لَا يَشْكُرْ اللَّهَ _عَزَّ وَجَلَّ_» [د ت]

وَاَللَّهُ _تَبَارَكَ وَتَعَالَى_ يُحِبُّ أَنْ يُشْكَرَ وَيُحْمَدَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَبَّ الشُّكْرَ).

 

[تعليق]

حديث أبي هريرة _رضي الله عنه_: أخرجه أبو داود في "سننه" (4/ 255) (رقم: 4811)، الترمذي في "سننه" – ت. شاكر (4/ 339) (رقم: 1954)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 572) (رقم: 973)

 

وفي "تحفة الأحوذي" (6/ 74) للمباركفوري:

"قَالَ الْقَاضِي:

(وَهَذَا إِمَّا لِأَنَّ شُكْرَهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَتِمُّ بِمُطَاوَعَتِهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَأَنَّ مِمَّا أُمِرَ بِهِ شُكْرُ النَّاسِ الَّذِينَ هُمْ وَسَائِطُ فِي إِيصَالِ نِعَمِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَمَنْ لَمْ يُطَاوِعْهُ فِيهِ، لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا شُكْرَ نِعَمِهِ، أَوْ لِأَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِشُكْرِ مَنْ أَسْدَى نِعْمَةً مِنَ النَّاسِ مَعَ مَا يَرَى مِنْ حِرْصِهِ عَلَى حُبِّ الثَّنَاءِ وَالشُّكْرِ عَلَى النَّعْمَاءِ وَتَأَذِّيهِ بِالْإِعْرَاضِ وَالْكُفْرَانِ كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَتَهَاوَنَ فِي شُكْرِ مَنْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الشُّكْرُ وَالْكُفْرَانُ)، انْتَهَى." اهـ

 

5/ فيه: بيان فضل الأنصار وشرفهم _رضي الله عنهم_

 

وقال ابن كثير _رحمه الله_ في تفسيره – ت. سلامة (8/ 69):

"مِنْ كَرَمهم وَشَرَفَ أَنْفُسِهِمْ، يُحبّون الْمُهَاجِرِينَ وَيُوَاسُونَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ." اهـ

 

[تعليق]:

ومصداق ذلك قول الله _تبارك وتعالى_:

{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]

 

من هذا الحديث النبوي الجليل، نستنبط عدة فوائد عظيمة، منها:

 

٦/ فضل الدعاء والثناء الطيب:

 

يظهر من ردّ النبي ﷺ أن الدعاء والثناء بالخير يعدّان مكافأة عظيمة للأفعال الحسنة، بل قد يبلغ بهما العبدُ أجرَ من يعجز عن مكافأته بعمل مادي.

 

قال ﷺ: «ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم»، مما يدل على أن الثناء الصادق والدعاء الصالح ليسا مجرد ألفاظ، بل عبادات جليلة تقابل بها الإحسان.

 

قال مجمد لقمان السلفي _رحمه الله_ في "رش البرد" (ص: ١٣٢):

"الدعاء والثناء والحسن خير وسيلة لإرجاع الثواب وإعادة الحسنات إلى الداعي." اهـ  

 

٧/ التأكيد على المعاني القلبية والنية الصالحة في المعاملة:

لم يشترط النبي ﷺ مقابلة البذل ببذل مادي، بل اكتفى بالدعاء والثناء، وهذا يبين أن النية والاعتراف بالفضل والشكر القلبي له وزن عظيم عند الله.

 

٨/ حثّ الناس على ردّ الجميل ولو بالقول:

المقولة: «ذاك بذاك» تُقرّر أن ردّ المعروف ولو بالكلام الحسن والدعاء، يعد مكافأة حقيقية، مما يفتح باب الرجاء لمن لا يملك القدرة على الردّ العملي للجميل.

 

٩/ بيان فضل الأنصار وسخائهم العظيم:

وصَف المهاجرون الأنصار بأحسن الناس بذلاً ومواساة، حتى خافوا أن يكونوا قد سبقوهم بكل الأجر. وهذا يدل على عظيم فضلهم وكرمهم، وهو مما يوافق قوله تعالى:

{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ... يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}.

 

١٠/ روح الشكر والامتنان المتبادل بين الصحابة:

هذه الأحاديث تظهر كون الصحابة أهل وفاء، لا ينسون الفضل، ويشعرون بالتقصير أمام من أحسن إليهم، مما يبين أخلاق الجيل الأول من هذه الأمة في ردّ المعروف ومراعاة الإحسان.

 

١١/ أن المكافأة ليست دائماً بشيء مادي:

 

بل إن الكلمة الطيبة والدعاء الصادق من أعظم ما يُكافَأ به المحسن، وفيه توسعة على المسلمين جميعًا في وسائل ردّ الجميل.

 

 

١٢/ الإنصاف في الحكم على الآخرين:

قول المهاجرين: «ما رأينا قومًا أحسن بذلاً» يدل على عدالة الصحابة وإنصافهم في مدح غيرهم والاعتراف بفضلهم، دون حسد أو تنكر.



[1] وقال ابن أبي حاتم _رحمه الله_ في "الجرح والتعديل" (3/ 141):

"سمعت أبى يقول: (حماد ابن سلمة في ثابت، وعلي بن زيد أحبُّ إلي من همام. وهو أضبط الناس وأعلمه بحديثهما بين خطأ الناس. وهو أعلم بحديث علي بن زيد من عبد الوارث)." اهـ

Komentar

Postingan populer dari blog ini

فضائل عشر ذي الحجة