شرح الحديث الثامن والثلاثين - من بهجة قلوب الأبرار

 

الحديث الثامن والثلاثون: من البيوع المنهي عنها

عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال :

"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الغَرر." رَوَاهُ مسلم

 

وفي "عون المعبود" (9/ 165):

" مَا لَا يُعْلَمُ عَاقِبَتُهُ مِنَ الْخَطَرِ الَّذِي لَا يُدْرَى أَيَكُونُ أَمْ لَا كَبَيْعِ الْآبِقِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالْغَائِبِ الْمَجْهُولِ،

وَمُجْمَلُهُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا أَوْ مَعْجُوزًا عَنْهُ مِمَّا انْطَوَى بِعَيْنِهِ من غر الثوب أي طيه أومن الْغِرَّةِ بِالْكَسْرِ أَيِ الْغَفْلَةِ أَوْ مِنَ الْغُرُورِ قاله القارىء." اهـ

 

وفي "عون المعبود" (9/ 165):

"قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَصْلُ الْغَرَرِ هُوَ مَا طُوِيَ عَنْكَ وَخَفِيَ عَلَيْكَ بَاطِنُهُ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ طَوَيْتَ الثَّوْبَ عَلَى غِرَّةٍ أَيْ كَسْرِهِ الْأَوَّلِ وَكُلُّ بَيْعٍ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَجْهُولًا غَيْرَ مَعْلُومٍ أَوْ مَعْجُوزًا عَنْهُ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَهُوَ غَرَرٌ وَإِنَّمَا نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ تَحْصِينًا لِلْأَمْوَالِ أَنْ تَضِيعَ وَقَطْعًا لِلْخُصُومَةِ بَيْنَ النَّاسِ." اهـ

 

لسان العرب (5/ 13)

والغَرَرُ الخَطَرُ. وَنَهَى رَسُولُ اللَّه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ بَيْعِ الغَرَرِ

 

لسان العرب (5/ 14)

وَهُوَ مِثْلُ بَيْعِ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ. والتَّغْرير: حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى الغَرَرِ، وَقَدْ غرَّرَ بِنَفْسِهِ تَغْرِيراً وتَغِرّة كَمَا يُقَالُ حَلَّل تَحْلِيلًا وتَحِلَّة وعَلّل تَعِليلًا وتَعِلّة،

وَقِيلَ: بَيْعُ الغَررِ المنهيُّ عَنْهُ مَا كَانَ لَهُ ظاهرٌ يَغُرُّ الْمُشْتَرِيَ وباطنٌ مَجْهُولٌ، يُقَالُ: إِياك وبيعَ الغَرَرِ؛

قَالَ: بَيْعُ الغَرَر أَن يَكُونَ عَلَى غَيْرِ عُهْدة وَلَا ثِقَة. قَالَ الأَزهري: وَيَدْخُلُ فِي بَيْعِ الغَرَرِ البُيوعُ الْمَجْهُولَةُ الَّتِي لَا يُحيط بكُنْهِها المتبايِعان حَتَّى تَكُونَ مَعْلُومَةً.

 

التعريفات (ص: 161)

الغرر: ما يكون مجهول العاقبة لا يدرى أيكون أم لا.

 

قال محمد عميم الإحسان المجددي البركتي في التعريفات الفقهية (ص: 48)

بيع الغَرَر: هو البيع الذي فيه خطر انفساخه بهلاك المبيع، والغرر- محركة-: التعريضُ للهلكة وما طوي عنك علمُه، وفي "المبسوط": "الغرر ما كان مستورَ العاقبة". وفي "المغرب": "الغرر" هو الخطر الذي لا يدري أيكون أم لا". قال النووي: "النهيُ عن بيع الغرر أصلٌ عظيمٌ من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائلُ كثيرةٌ، كبيع الآبق، والمعدوم، والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيعُ السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيعُ الحمل في البطن، وبيعُ بعض الصبرة منها، وبيعُ ثوبٍ من الأثواب، وشاة من شياه، ونظائر ذلك، فكل هذا بيعه باطل لأنه، غررٌ من غير حاجة".

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه (مسلم) [2/ 3803] (1513)، و (أبو داود) في "البيوع" (3376)، و (الترمذيّ) في "البيوع" (1230)، و (النسائئ) في "البيوع" (7/ 262) و"الكبرى" (4/ 17)، و (ابن ماجه) في "التجارات" (2194)، و (أحمد) في "مسنده" (2/ 250 و 376 و 436 و 439 و 496)، و (الدارميّ) في "سننه" (2441 و 2450)، و (ابن الجارود) في "المنتقى" (2194)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (4951 و 4977)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط" (1/ 100)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (3/ 258)، و (الدارقطنيّ) في "سننه" (3/ 15 و 16)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (5/ 338)، و (البغويّ) في "شرح السنّة" (2103)، والله تعالى أعلم.

 

وهذا كلام جامع لكل غَرر. والمراد بالغَرر: المخاطرة والجهالة. وذلك داخل في الميسر، فإن الميسر كما يدخل في المغالبات والرهان - إلا رهان سباق الخيل والإبل والسهام -، فكذلك يدخل في أمور المعاملات.

 

فكل بيع فيه خطر: هل يحصل المبيع، أو لا يحصل؟ -كبيع الآبق والشارد والمغصوب من غير غاصبه، أو غير القادر على أخذه، وكبيع ما في ذمم الناس -وخصوصاً المماطلين والمعسرين - فإنه داخل في الغرر.

 

وكذلك كل بيع فيه جهالة ظاهرة يتفاوت فيها المقصود؛ فإنها داخلة في بيع الغرر، كبيعه ما في بيته من المتاع، أو ما في دكانه، أو ما في هذا الموضع، وهو لا يدري به ولا يعلمه، أو بيع الحصاة التي هي مثال من أمثلة الغرر، كأن يقول: (ارم هذه الحصاة، فعلى أيّ متاعٍ وقعتْ، فهو عليك بكذا)، أو (ارمها في الأرض، فما بلغته من الْمَدَى، فهو لك بكذا)، أو بيع المنابذة أو الملامسة، أو بيع ما في بطون الأنعام، وما أشبه ذلك: فكل ذلك غرر واضح.

 

ومن حكمة الشارع: تحريم هذا النوع؛ لما فيه من المخاطرات، وإحداث العداوات التي قد يغبن فيها أحدهما الآخر غبناً فاحشاً مضراً.

 

ولهذا اشترط العلماء للبيع: العلم بالمبيع، والعلم بالثمن.

واشترطوا أيضاً: أن يكون العاقد جائز التصرف، بأن يكون بالغاً عاقلاً رشيداً؛ لأن العقد مع الصغير أو غير الرشيد لا بد أن يحصل به غبن مضر. وذلك من الغرر.____

 

وكذلك اشترطوا: العلم بالأجل، إذا كان الثمن أو بعضه، أو المبيع في السلم مؤجلاً؛ لأن جهالة الأجل تصيِّر العقد غرراً.

 

وكما يدخل في النهي عن بيع الغرر، الغررُ الذي يتفقان عليه. فمن باب أولى أن يدخل فيه التغرير، وتدليس أحدهما على الآخر شيئاً من أمور المعاملة: من معقود به، أو عليه، أو شيء من صفاته.

 

والغش كله داخل في التغرير، وأفراد الغش وتفاصيله، لا يمكن ضبطها. وهي معروفة بين الناس.

 

وحاصل بيع الغرر: يرجع إلى بيع المعدوم (كحبَل الحبَلة)، والسنين، أو بيع المعجوز عنه (كالآبق ونحوه)، أو بيع المجهول المطلق في ذاته، أو جنسه، أو صفاته." اهـ من بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ط الرشد (ص: 101_102)

 

__________

(1) أخرجه: مسلم في "صحيحه" رقم: 1513 بعد 4.

(2) انظر لهذا المبحث كتاب "الفروسيّة" لشيخ الإسلام ابن القيّم -رحمه الله-.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (26/ 618)

قال النوويّ - رحمه الله -: أما بيع الحصاة، ففيه ثلاث تأويلات:___

[أحدها]: أن يقول: بعتك من هذه الأثواب، ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، أو بعتك من هذه الأرض من هنا، الى ما انتهت إليه هذه الحصاة.

[والثاني]: أن يقول: بعتك على أنك بالخيار، إلى أن أرمي بهذه الحصاة.

[والثالث]: أن يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعًا، فيقول: إذا رميت هذا الثوب بالحصاة، فهو مبيع منك بكذا. انتهى.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ - رحمه الله -: اختُلف فيه على أقوال:

[أوّلها]: أن يبيعه من أرضه قدرَ ما انتهت إليه رَميَةُ الحصاة.

[وثانيها]: أيُّ ثوب وقعت عليه الحصاة، فهو المبيع.

[وثالثها]: أن يقبض على الحصى، فيقول: ما خرج كان لي بعدده دراهم، أو دنانير.

[ورابعها]: أيُّ زمن وقعت الحصاة من يده وجب البيع، فهذا إيقافُ لزوم على زمن مجهول، وهذه كلّها فاسدةٌ؛ لما تضمّنته من الخطر، والجهل، وأكل المال بالباطل. انتهى كلام القرطبيّ - رحمه الله -، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (26/ 620)

وقال القرطبيّ - رحمه الله -: هو البيع المشتمل على غَرَرٍ مقصود، كبيع الأجِنّة، والسمك في الماء، والطير في الهواء، وما أشبه ذلك، فأما الغرر اليسير الذي ليس بمقصود، فلم يتناوله هذا النهي؛ لإجماع المسلمين على جواز إجارة العبد، والدار مشاهرةً، ومساناةً، مع جواز الموت، وهدم الدار قبل ذلك، وعلى جواز إجارة الدخول في الْحَمّام، مع تفاوت الناس فيما يتناولون من الماء، وفي قدر الْمُقام فيه، وكذلك الشرب من السقاء، مع اختلاف أحوال الناس في قدر المشروب، وأيضًا، فإن كلَّ بيع لا بدّ فيه من نوع من الغرر،___لكنه لَمّا كان يسيرًا، غير مقصود، لم يلتفت الشرع إليه. ولَمّا انقسم الغرر على هذين الضربين، فما تبيّن أنه من الضرب الأول مُنع، وما كان من الضرب الثاني، أُجيز، وما أشكل أمره، اختُلف فيه، من أيّ القسمين هو، فيُلحقَ به. انتهى.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (26/ 621)

وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة - رحمه الله -: وأما الغرر، فالأصل في ذلك أن الله تعالى حرّم في كتابه أكل أموالنا بالباطل، وهذا يعمّ كلّ ما يؤكل بالباطل، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر، والغرر هو المجهول العاقبة، فمن أنواعه: بيع حَبَل الحَبَلة، وبيع الملاقيح، وبيع المضامين، وبيع الثمار قبل بدوّ صلاحها، وبيع الملامسة، والمنابذة، ونحو ذلك، من أنواعه، وصوره. والغرر ثلاثة أنواع: بيع المعدوم؛ كحبَل الحبَلة، وبيع المعجوز عن تسليمه؛ كالجمل الشارد، وبيع المجهول المطلق، أو المجهول الجنس، أو المجهول القدر.

 

من فوائد الحديث :

 

كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 553)

وَقد بَينا فِيمَا تقدم أَنهم كَانُوا يجْعَلُونَ عَلامَة إِيجَاب البيع رمي حَصَاة، فَنهى عَن هَذَا، وَجعل الْإِيجَاب وَالْقَبُول عَلامَة شَرْعِيَّة.

وَبيع الْغرَر مثل بيع اللَّبن فِي الضَّرع، فَإِنَّهُ رُبمَا لَا يكون فِيهِ لبن، أَو يكون قَلِيلا وَهُوَ يَظُنّهُ كثيرا.

 

فتح الباري لابن حجر (4/ 357)

قَالَ النَّوَوِيُّ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْبَيْعِ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَيُسْتَثْنَى مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا مَا يَدْخُلُ فِي الْمَبِيعِ تَبَعًا فَلَوْ أُفْرِدَ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ وَالثَّانِي مَا يُتَسَامَحُ بِمِثْلِهِ إِمَّا لِحَقَارَتِهِ أَوْ لِلْمَشَقَّةِ فِي تَمْيِيزِهِ وَتَعْيِينِهِ فَمِنَ الْأَوَّلِ بَيْعُ أَسَاسِ الدَّارِ وَالدَّابَّةِ الَّتِي فِي ضَرْعِهَا اللَّبَنُ وَالْحَامِلِ وَمِنَ الثَّانِي الْجُبَّةُ الْمَحْشُوَّةُ وَالشُّرْبُ مِنَ السِّقَاءِ قَالَ وَمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي كَوْنِهِ حَقِيرًا أَوْ يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ أَوْ تَعْيِينُهُ فَيَكُونُ الْغَرَرُ فِيهِ كَالْمَعْدُومِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَبِالْعَكْسِ وَقَالَ وَمِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنَ الِاسْتِجْرَارِ مِنَ الْأَسْوَاقِ بِالْأَوْرَاقِ مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ حَاضِرًا فَيَكُونُ مِنَ الْمُعَاطَاةِ وَلَمْ تُوجَدْ صِيغَةٌ يَصِحُّ بِهَا الْعَقْدُ وَرَوَى الطَّبَرِيّ عَن بن سِيرِينَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ لَا أَعْلَمُ بِبَيْعِ الْغرَر بَأْسا قَالَ بن بَطَّالٍ لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ وَإِلَّا فَكُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ وَأَنْ لَا يُوجَدَ لَمْ يَصِحَّ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يَصِحُّ غَالِبًا فَإِنْ كَانَ يَصِحُّ غَالِبًا كَالثَّمَرَةِ فِي أول بَدو صَلَاحهَا أَو كَانَ مستترا تَبَعًا كَالْحَمْلِ مَعَ الْحَامِلِ جَازَ لِقِلَّةِ الْغَرَرِ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ بن سِيرِينَ لَكِنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ بن الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ إِذَا كَانَ عِلْمُهُمَا فِيهِ وَاحِدًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى بَيْعَ الْغَرَرِ إِنْ سَلِمَ فِي الْمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

 

Komentar

Postingan populer dari blog ini

فضائل عشر ذي الحجة