شرح الحديث الرابع والثلاثين - من أربعين حديثا في التربية والمنهج

 

الحديث الرابع والثلاثون

 

عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه :

أن رجلا خطب عند النبي ﷺ، فقال:

"من يطع الله ورسوله، فقد رشد، ومن يعصهما، فقد غوى.

فقال رسول الله ﷺ: "بئس الخطيبُ أنْتَ! قُلْ: (ومن بعص الله ورسوله)." أخرجه مسلم

 

 

ترجمة عَدِيُّ بْنُ حَاتِمِ بْنِ عَبْدِ اَللّٰهِ بْنِ سَعْدٍ اَلطَّائِيُّ:

 

أَبُو طَرِيفٍ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمِ بْنِ عَبْدِ اَللّٰهِ بْنِ سَعْدٍ اَلطَّائِيُّ اَلْقَحْطَانِيُّ (52 ق هـ - 68 هـ / 572 -687 م):

هو ابْنُ حاتِمٍ الطائيِّ الذي يُضرَب به المَثَل في الجود والكرم، فكان أبوه من أجود العرب وأكرمهم.

تولى عَدِيٌّ رِياسةَ قومِهِ قبيلةِ طيِّئ بعد وفاة أبيه في أرض الجَبَلَينِ: أَجَإٍ وسَلْمَىٰ، وهي مِنْطَقة حائل حالياً.

كان نصرانيًّا، ثم أسلم سنةَ 9 هـ، وهو من صَحابة النبي محمد _صلى الله عليه وسلم_، قال ابن حجر "وشهد فتح العراق، ثم سكن الكوفة".

 

نسبه ونشأته:

هو عَدِيُّ بْنُ حَاتِمِ بْنِ عَبْدِ اَللّٰهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ اَلْحَشْرَجِ بْنِ اِمْرِئِ اَلْقَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أَخْزَمَ بْنِ أَبِي أَخْزَمَ (وَاِسْمُهُ هَزُومَةُ) بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ جَرْوَلَ بْنِ ثُعَلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ اَلْغَوْثِ بْنِ طَيِّئٍ. يُكَنَّىٰ بِـ(أَبِي طَرِيفٍ، وَأَبِي وَهْبٍ).

 

بناءً على أنّ عمره حين وفاته 120 سنة، تكون ولادته ما بين سنة 51 - 54 قبل الهجرة النبويّة.

 

نشأ عَدِيّ بن حاتِم منذ طفولته في الجاهليّة وسطَ بيتٍ يشخص فيه والدُه المعروف بالكرم؛ فقد كان أحد الثلاثة الذين ضُرب بهم المثَل في الجود زمن الجاهليّة.

تزوّج حاتم امرأة تُدعى (النَّوار)، كانت تلومه على كرمه، فتزوّج ماويّة بنت عفزر من بنات ملوك اليمن، وكانت تحبّ الكرمَ وتوقِّرُ الكرماءَ، فأنجبت له عَدِيّاً، وقد ورث عَدِيٌّ تلك الخصالَ الحميدة عن أبيه.

 

صفته:

كان عديّ بن حاتم الطائي رجلاً جسيماً، أعور، ولم يكن العَوَر خِلقةً فيه، بل طرأ عليه أثناءَ حروبه إلى جانبِ علي بن أبي طالب، فشهد وقعة الجمل وفيها ذهبت إحدى عينيه،

وشهد وقعة صِفِّين، فذهبت فيها الأُخرى ،ويبدو أنّ ذهاب العين لم يكن كاملاً، لأن عديّاً اشترك في معركة النهروان وعاصر ما بعدها من الأحداث، لكنّ العرب يعبّرون عن انقلاب الجفن وما شابهه من العيوب التي تُصيب العين) ولا تذهب بالبصر كلّه بـ العور.

 

قصة إسلامه:

كان عدي بن حاتم يدين بالركوسيّة، وهو دين مندثر بين اليهودية والمسيحية. أما قبيلته يدينون بالمسيحية حين ظهور الإسلام.

 

يقال بأن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أرسل لهم علي بن أبي طالب لغزوهم، وكان عدي في بلاد الشام في ذلك الوقت،

فتم الغزو وأخذوا أسرى، وكان من بين الأسيرات سَفَّانة بنت حاتم الطائي أخت عدي، فدار بينها وبين الرسول حواراً أوضحت فيه أنها سيدةٌ في قومها وأنها ابنة حاتم الطائي، ففكَّ أَسْرَهَا.

 

كان عدي بن حاتم من ألدّ أعداء الإسلام، لأنه هدد زعامته لقبيلته طيء، إلا أنه وبعد إسلام أخته سَفَّانة، وفد على الرسول في سنة 7 هـ - 628م،

وكانت وفادته لاستكشاف أمر هذا الرسول الجديد، ولم يكن في نيته أن يُسلم، ولما وصل المدينة، قابل النبي محمد _صلى الله عليه وسلم_ في مسجده، ولاحظ أنه لا يدعى بالملك أو الزعيم،

فعرف أن الرسول لا يسعى للملك أو الزعامة. فأخذه إلى بيته وهناك حادثه في أمر الإسلام وكان مما قال له:

«لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجة المسلمين وفقرهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم، حتى لا يوجد من يأخذه،

ولعله يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من قلة المسلمين وكثرة عدوهم، فوالله لتوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف إلا الله،

ولعله يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، فهم ضعاف، وايم الله لتوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم، وإن كنوز كسرى قد صارت إليهم».

 

أسلم عدي بعدها، وعاش حتى سنة 68 هـ - 688م، وشارك في حرب الصحابة، بعد مقتل عثمان بن عفان، وكان إلى جانب علي بن أبي طالب.

 

وقائع وأدوار

كان لعديّ بن حاتم أدوار مهمّة وركائز عديدة ساهمت في تغيير وجه الأحداث، منها:

* ثباته هو وقومه وقبيلته طيّء على الإسلام ولم يرتدّوا بعد وفاة النبيّ في بعض من ارتدّ.

* شهدَ فتحَ العراق ووقعة القادسيّة ووقعة مِهران، ويوم الجِسر.. وكان له فيه بلاءٌ حَسَن.

* وثوبه على الوليد بن عُقْبة حين شرب الخمر وأساء السيرة، فشارك في عزله عن ولاية الكوفة.

* كان من المسارعين لبيعة أمير المؤمنين عليّ والمناصرين له والمؤازرين، وكان له الباع الأطول في تحشيد القوات من طيّء وتسييرها لأمير المؤمنين علي .

* في معركة الجمَل أناط به أمير المؤمنين عليّ مواقع مهمّة، فجعله ومحمد بن أبي بكر على القلب، محمّداً على الخيل وعديّاً على رجّالتها. كما جعله في موقع آخر على خيل قُضاعة ورجّالتها، ثمّ اشترك في عَقر الجمَل هو والحمُاة حتّى عَرقَبوه.

* في صِفّين، أمّره أمير المؤمنين عليّ على طيّء. حتّى إذا كان التوادع إلى أن ينسلخ المحرّم، أرسل أمير المؤمنين عليّ عديّاً في جماعة ليدعوَ معاوية إلى الطاعة. فقام عديّ مقاماً مشكوراً أثنى فيه على أمير المؤمنين عليٍّ .

* ثمّ قاد الجيش العلويّ وجحافلَه ضدّ الجيش الأُموي بقيادة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد يوم 8 صفر سنة 37 هجريّة، وقد حشّد معاوية أشدّاءَ رِجاله، فكان النصر حليف عديّ، وفرّ عبد الرحمن وتوارى في العَجاج وعاد إلى معاوية مقهوراً.

وفات عدي بن حاتم:

تراوح المؤرّخون في تحديد وفاة عديّ بن حاتم في الكوفة بين أربع سنين: من 66 ـ 69 هجريّة،

وبعضهم لم يحدّد السنة وإنّما اكتفى بأنّه تُوفّي في أيّام المختار الثقفي، علماً أنّ المختار كانت حكومته على الكوفة ثمانية عشر شهراً: من ربيع الأوّل سنة 66 إلى النصف من شهر رمضان سنة 67 هجرية.


تخريج الحديث:

 

أخرجه مسلم في "صحيحه" (2/ 594/ 48) (رقم: 870)، وأبو داود في "سننه" (1/ 288 و 4/ 295) (رقم: 1099 و 4981)، والنسائي سنن (6/ 90) (رقم: 3279)، و"السنن الكبرى" (5/ 229) (رقم: 5505)، وأحمد في "المسند" – ط. عالم الكتب (4/ 256 و 4/ 379) (رقم: 18247 و 19382)، والشافعي في "المسند" - ترتيب السندي (1/ 147) (رقم: 428)، وأبو داود الطيالسي في "المسند" (2/ 363) (رقم: 1119)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (6/ 74) (رقم: 29574)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (8/ 371) (رقم: 3318)، وأبو عوانة في "المستخرج" – ط. الجامعة الإسلامية (7/ 237) (رقم: 2769_2770)، وابن حبان في "صحيحه" (7/ 37) (رقم: 2798)، المعجم الكبير للطبراني (17/ 98) (رقم: 234_235)، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (1/ 426) (رقم: 1065)، وأبو نعيم الأصبهاني في "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (8/ 311)، وفي "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (2/ 457) (رقم: 1956)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 138 و 3/ 306) (رقم: 402 و 5809)، و"معرفة السنن والآثار" (4/ 371) (رقم: 6496_6497)، والبغوي في "شرح السنة" (12/ 360) (رقم: 8891).

 

والحديث صحيح: صححه الألباني في صحيح أبي داود - الأم (4/ 262) (رقم: 1007)

 

النووي في "شرح صحيح مسلم" (6/ 159):

"قَالَ الْقَاضِي وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ:

إِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ لِتَشْرِيكِهِ فِي الضَّمِيرِ الْمُقْتَضِي لِلتَّسْوِيَةِ، وَأَمَرَهُ بِالْعَطْفِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى بِتَقْدِيمِ اسْمِهِ،

كَمَا قَالَ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:

(لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: "مَا شَاءَ اللَّهُ، وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: (مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ).

وَالصَّوَابُ أَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ أَنَّ الْخُطَبَ شَأْنُهَا الْبَسْطُ وَالْإِيضَاحُ وَاجْتِنَابُ الْإِشَارَاتِ وَالرُّمُوزِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ":

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ ___كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ، أَعَادَهَا ثَلَاثًا لِيُفْهَمَ)،

وَأَمَّا قَوْلُ الْأُولَيَيْنِ، فَيُضَعَّفُ بِأَشْيَاءَ:

* مِنْهَا: أَنَّ مِثْلَ هَذَا الضَّمِيرِ قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_:

كَقَوْلِهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: (أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا)، وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ.

وَإِنَّمَا ثَنَّى الضَّمِيرَ ها هنا لِأَنَّهُ لَيْسَ خُطْبَةَ وَعْظٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيمُ حُكْمٍ، فَكُلَّمَا قَلَّ لَفْظُهُ، كَانَ أَقْرَبَ إِلَى حِفْظِهِ بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْوَعْظِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ حِفْظَهُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ الِاتِّعَاظُ بِهَا.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا: مَا ثَبَتَ فِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ" باسناد صحيح عن بن مَسْعُودٍ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_، قَالَ:

"عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةَ الْحَاجَةِ:

(الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ، فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ، فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا)، وَاللَّهُ أعلم." اهـ

 

وقال الإثيوبي _رحمه الله_ في "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (17/ 319):

"قال الجامع _عفا الله تعالى عنه_:

هذا الذي قاله الشيخ عزّ الدين رحمه الله يعكُر عليه حديث أبي داود الذي قبله، حيث علّم -صلى الله عليه وسلم- غيره أن يقولوا: "ومن يعصهما"، فدلّ على أنه ليس مخصوصًا به، فالأولى عندي ما رجّحه النوويّ، من أن سبب النهي كون الْخُطَب محل بسط وإيضاح، لا إشارة وإيجاز، فتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

وقال البسام في "توضيح الأحكام من بلوغ المرام" (1/ 175):

"أمَّا قوله -صلى الله عليه وسلم- للخطيب الذي قال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال: بئس الخطيب أنت" رواه مسلم (870)؛ فقد حملوا هذا على أنَّ الخُطَبَ ينبغي فيها البسط والإطناب؛ ليحصل التبليغ الكامل." اهـ

 

وقال محمود السبكي في "المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود" (6/ 264_265):

فهم منه___اعتقاد التسوية بين الله وبين رسوله فيكون إنكاره صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم خاصًا بذلك الخطيب. أو كان هناك من يعتقد التسوية بينهما فذمه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تنبيها عل فساد اعتقاد ذلك "ولا ينافيه" ما تقدم من جمعه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم بينه وبين ربه في ضمير واحد "لعلمه" صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم بأن مجلسه كات خاليًا ممن يعتقد المساواة المذكورة (وقال) الشيخ عزّ الدين من خصائصه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أنه كان يجوز له الجمع في الضمير بينه وبين ربه تعالى وذلك ممتنع على غيره وإنما يمتنع من غيره دونه لأن غيره إذا جمع أو هم إطلاقه التسوية بخلافه هو فإن منصبه لا يتطرّق عليه إيهام ذلك ذكره السيوطي (ولكن) الخصوصية لا تثبت إلا بدليل ولا دليل هنا (وقال النووي) الصواب أن سبب النهي أن الخطب شأنها البسط والإيضاح وأجتناب الإشارات والرموز اهـ

ولكن ينافيه ما تقدم من جمعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بينه وبين ربه في خطبه في ضمير واحد

 

وقال أحمد بن عبد العزيز بن مُقْرِن القُصَيِّر في الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم (ص: 416_417):

الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - هو ما ذهب إليه أبو جعفر الطحاوي، ومن تبعه: أَنَّ ما جاء في الآية - من جمع اللهِ تعالى الملائكةَ مع نفسه في ضمير واحد - جائز للبشر فعله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: "بئس الخطيب أنت" لهذا المعنى، وإنما قاله لأَنَّ الخطيب وقف على: "ومن يعصهما" وسكت سكتة، فأوهم إدخال العاصي في الرشد.

وأما الحديث فأصح رواياته الرواية التي وقف فيها الخطيب على قوله: "ومن يعصهما"، وليس في هذه الرواية أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في آخر الحديث: "قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوِيَ"، ونصُّ هذه الرواية كاملة: "أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا. فَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ، أَوْ اذْهَبْ، بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ".

وهذه الرواية هي الأصح، لأمور:

الأول: أَنَّها جاءت من طريق يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، ولم يختلف النقاد في تقديم يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، على وكيعٍ، في سفيان.___

قال البخاري: "أعلم الناس بالثوري يحيى بن سعيد، لأَنَّه عرف صحيح حديثه من تدليسه". اهـ

وقال صالح بن الإمام أحمد: قلت لأبي: "أيما أثبت عندك، عبد الرحمن بن مهدي، أو وكيع؟ قال: عبد الرحمن أقل سقطاً من وكيع في سفيان، قد خالفه وكيع في ستين حديثاً من حديث سفيان، وكان عبد الرحمن يجيء بها على ألفاظها، وكان لعبد الرحمن توقٍ حسن". اهـ (2)

وقال أبو حاتم الرازي: "عبد الرحمن بن مهدي أثبت من يحيى بن سعيد، وأتقن من وكيع، وكان عرض حديثه على سفيان الثوري". اهـ (3)

وقال: "سئل أحمد عن يحيى، وعبد الرحمن، ووكيع؟ فقال: كان عبد الرحمن أكثرهم حديثاً". اهـ (4)

الثاني: أَنَّ زيادة "قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوِيَ"، لم تأتِ إلا من طريق وكيع، عن سفيان، ومن طريق إبراهيم بن طهمان، عن عبد العزيز بن رفيع، وخالفهما بقية الرواة وهم الأكثر فلم يذكروا هذه الزيادة.

الثالث: أَنَّ زيادة "فقد غوى" بعد قول الخطيب: "ومن يعصهما" وإنْ كانت رُويت من طرق أخرى إلا أَنَّ رواية يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي أولى؛ لأَنَّهما أحفظ عن سفيان، ولأَنَّ سفيان أحفظ من بقية الرواة عن عبد العزيز بن رفيع، والله تعالى أعلم.

 

فالخلاصة:

أن استنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم الوقف على المستبشع، لدليل واضح على قباحته، والمستبشع هنا الجمع بين حالتين متناقضتين لنتيجة واحدة وهي الرشاد، فقد سوّى المتحدث بين الطائع والعاصي.

وإذا كان هذا يكره في كلام البشر، فأولى أن يكره أشدّ كراهة في كلام الله سبحانه.

 

ثم قال المؤلف الشيخ عبد العزيز بن محمد السدحان _حفظه الله_ في "أربعين حديثا في التربية والمنهج" (ص: ٧٤):

"قوله: (أن رجلا خطب عند النبي _صلى الله عليه وسلم_...)

* فيه: جواز تكلم المفضولِ بحضرة الفاضل، والمتعلمِ بحضرة المعلِّم إذا أذِن له.

 

قوله: (بئس...)

 

* فيه: المبادرة إلى تنبيه المتكلم، وبخاصة إذا كان كلامه بمسمع جمع من الناس، لأن خطأه يتعدى إلى من يسمعه وبلَغه

* وفيه: أن على من أراد الكلام في مجامع الناس أن يجتنب غموض الألفاظ وما يعسُر فهمه على السامعين.

* وفيه: أن على الخطيب قبول ما يرشد إليه من أهل العلم

* وفيه: أن على من يرتقي المنابر أن يُعْنَى بشأن الخطبة، فيبذل جهده في إعدادها حتى ينفع نفْسَهُ وسامِعَهُ ومَنْ بَلَغَ." اهـ

 

من فوائد الحديث:

 

قال الشيخ محمد بن علي بن آدم الإثيوبي _رحمه الله_ في "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (17/ 317):

"في فوائده:

1 - (منها)؛ بيان مشروعيّة الخطبة؛ للحاجة.

2 - (ومنها): بيان ما يُكره للخطيب أن يقوله في خُطبته، وذلك أنه لا يجمع بين الله ورسوله في ضمير واحد،

وسيأتي ما قاله أهل العلم في سبب إنكاره -صلى الله عليه وسلم- على الخطيب قوله في المسألة التالية- إن شاء الله تعالى-.

3 - (ومنها): بيان جواز الخطبة أمام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بإذنه، وأن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [الحجرات: 1] محمول على التقدّم بغير إذنه، والله تعالى أعلم.

4 - (ومنها): مشروعيّة إنكار المنكر لمن كان أهلًا للإنكار، وذلك بأن يَعْرِف كونه منكرًا، ويَقدر على إزالته بحسب مراتب الإزالة المبيّنة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من رأى منكم منكرًا، فليُغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه-، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

Komentar

Postingan populer dari blog ini

فضائل عشر ذي الحجة