شرح الحديث 68-69 من بلوغ المرام

 

68 - وَعَنْ عَائِشَةَ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا_:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ _صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، قَالَ:

"مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ، أَوْ قَلَسٌ، أَوْ مَذْيٌ، فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ".

أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ، وَغَيْرُهُ

 

نص الحديث وشرحه:

 

ففي "سنن ابن ماجه" (1/ 385) (رقم: 1221):

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ، فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ»

 

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى (ثقة حافظ جليل: ت. 258 هـ على الصحيح):

محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذهلي، أبو عبد الله النيسابوري الإمام الحافظ، أوساط الآخذين عن تبع الأتباع، روى له: خ د ت س ق

 

قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ (صدوق: ت. 227 هـ بـ بغداد):

الهيثم بن خارجة الخراساني، أبو أحمد ، و يقال أبو يحيى ، الْمَرُّوْذِيُّ، كبار الآخذين عن تبع الأتباع، روى له: خ س ق 

 

قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ (صدوق فى روايته عن أهل بلده، مخلط فى غيرهم: ت. 181 أو 182 هـ):

إسماعيل بن عياش بن سليم العَنْسِيُّ، أبو عُتْبة الحمصي، من الوسطى من أتباع التابعين، روى له:  ي د ت س ق  (ي: البخاري في جزء رفع اليدين)

 

عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ (ثقة فقيه فاضل و كان يدلس و يرسل: 150 هـ)[1]:

عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج القرشي الأموي مولاهم، أبو الوليد، المكي، من الذين عاصروا صغار التابعين،  روى له: خ م د ت س

 

عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ (ثقة فقيه: ت. 117 هـ):

عبد الله بن عبيد الله بن أبى مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان القرشي التيمي، أبو بكر الأحول المكي، من الوسطى من التابعين، روى له: خ م د ت س ق 

 

عَنْ عَائِشَةَ (57 هـ على الصحيح):

عائشة بنت أبى بكر الصديق التيميَّة، أم المؤمنين، أم عبد الله (وأمها: أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب)، روى له: خ م د ت س ق

 

عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ، فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ»

 

قال السندي في "الحاشية على سنن ابن ماجه" (1/ 368):

"قَوْلُهُ (أَوْ قَلَس) بِفَتْحَتَيْنِ، وَقِيلَ: سُكُونِ الثَّانِي: مَا خَرَجَ مِنَ الْجَوْفِ مِلْءُ الْفَمِ أَوْ دُونَهُ وَلَيْسَ بِالْقَيْء،ِ فَإِنْ عَادَ فَهُوَ الْقَيْءُ." اهـ

 

حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 368)

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَيْءَ وَالدَّمَ حَدَثٌ، وَأَنَّ الْمُحْدِثُ يَبْنِي،

وَمَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ بَحَثَ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ فَفِي الزَّوَائِدِ فِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحِجَازِيِّينَ وَرِوَايَتُهُ عَنْهُمْ ضَعِيفَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه ابن ماجه في "سننه" (1/ 385) (رقم: 1221)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (5/ 321) (رقم: 5429)، والدارقطني في "سننه" (1/ 280) (رقم: 563)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 222 و2/ 362) (رقم: 669 و 3382_3383)، وفي "معرفة السنن والآثار" (1/ 422) (رقم: 1174).

 

قال أبو بكر البيهقي _رحمه الله_ في "معرفة السنن والآثار" (1/ 422):

"هَكَذَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ.

وَرَوَاهُ مَرَّةً أُخْرَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ.

وَرَوَاهُ مَرَّةً ثَالِثَةً عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُرْسَلًا، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ." اهـ

 

وقال _رحمه الله_ في "السنن الكبرى" (1/ 222):

"قَالَ أَبُو أَحْمَدَ:

هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ عَيَّاشٍ مَرَّةً هَكَذَا وَمَرَّةً قَالَ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ.

وَأَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ، ثنا أَبُو أَحْمَدَ، ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ أَبِي عِصْمَةَ، ثنا أَبُو طَالِبٍ أَحْمَدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ:

سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، يَقُولُ:

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ مَا رَوَى عَنِ الشَّامِيِّينَ صَحِيحٌ، وَمَا رَوَى عَنْ أَهْلِ الْحِجَاز،ِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ).

قَالَ: وَسَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ)، الْحَدِيثَ،

فَقَالَ: (هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَيَّاشٍ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ أَبِيهِ، لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ عَائِشَةَ)." اهـ

 

وقال الدارقطني في "سننه" (1/ 283):

"كَذَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. وَتَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ!

وَأَصْحَابُ ابْنِ جُرَيْجٍ الْحُفَّاظُ عَنْهُ يَرْوُونَهُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ." اهـ

 

فالحديث ضعيف: ضعفه الألباني _رحمه الله_ في "ضعيف الجامع الصغير وزيادته" (ص: 783) (رقم: 5426)، و"ضعيف أبي داود" - الأم (1/ 68)

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 300)

مفردات الحديث:

1 - يَدُلُّ الحديث بظاهره على أنَّ من أصابه قيءٌ أو رعافٌ أو قلس أو مذي، وهو في الصلاة، فعليه أنْ يَنْصرِفَ عنها، ثمَّ يتوضَّأ، ثمَّ ليبن علي صلاته ويتمَّها، فهي لم تَبْطُلْ.

2 - شَرَطَ في ذلك أنه لا يتكلَّم؛ فمفهومه أنَّه لو تكلَّم، بَطَلَتْ صلاته، ولا يمكنه البناء عليها، بل يجبُ عليه إعادتها.

3 - أخَذَ بهذا -وهو جواز البناء على الصلاة-: الحنفية والزيدية ومالك وأحد قولي الشَّافعي، وذهب جمهور العلماء إلى بطلان الصلاة إذا حصل ناقضٌ للوضوء، وعدم جواز البناء عليها.

4 - الحديث ضعيف؛ فقد ضعَّفه الشَّافعي وأحمد والدَّارقطني وغيرهم، هذا لو سلم من المعارض، فكيف وهو معارضٌ بنصوصٍ صحيحة صريحة، منها ما رواه أبو داود (205) من حديث علي بن طلق قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا فسا أحدكم في الصلاة، فلينصرفْ وليتوضأ، وليعد الصلاة"، قال الترمذي (1164): هذا حديث حسن.

5 - وجه الشذوذ في الحديث هو جوازُ البناء على الصلاة في مثل هذه الحال، أمَّا المعدوداتُ في الحديث: فإنَّ بطلانَ الوضوء فيها موضعُ نزاعٍ قويِّ بين العلماء،

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 301_302):

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء في الخارج النَّجسِ من غير السبيلين غير البول والغائط؛ وذلك كالقيء والدم والصديد ونحوها، هل خروجُها ينقُض الوضوءَ أو لا؟:

* ذهب الإمامان مالك، والشَّافعي: إلى أنَّ خروج هذه الأمور وأمثالها لا ينقض الوضوء ولو كثر.

قال البغوي: هو قول أكثر الصحابة والتَّابعين.

قال النووي: لم يثبت قطّ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أوجَبَ الوضوء من ذلك.

قال الشيخ تقي الدِّين: الدم والقيء وغيرهما من النجاسات الخارجة من غير المخرج المعتاد لا تنقض الوضوءَ ولو كَثُرَتْ.

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ الدم والقيء ونحوهما لا ينقض الوضوء -قليلها وكثيرها-؛ لأنَّه لم يَرِدْ دليلٌ على نقض الوضوء بها والأصلُ بقاءُ الطهارة.

استدل هؤلاء بأدلَّة:

أحدها: البراءةُ الأصليَّة؛ فالأصل بقاء الطهارة ما لم يثبُتْ ضدُّها، ولم يثبت عندهم شيء.

الثاني: عدمُ صلاحية القياس هنا؛ لأنَّ علَّة الحكم ليست واحدة.

الثالث: يروون في ذلك آثارًا منها:

1 - صلاة عمر بن الخطاب وجُرْحُهُ يثْعَبُ دمًا.

2 - كان ابن عمر يعصر الدمَ من عينه، ويصلِّي ولم يتوضأ.

3 - قال الحسن البصري: ما زال المسلمون يصلُّون في جراحاتهم.

* وذهب الإمامان أبو حنيفة، وأحمد: إلى أنَّ خروج هذه الأمور وأمثالها ينقض إذا كان كثيرًا، ولا ينقض اليسير منه.

استدلُّوا على ذلك بما رواه أحمد (26989) والترمذي (87)، من___حديث أبي الدرداء؛ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قاء فتوضأ، قال الألباني: صحيح ورجاله ثقات.

وأجاب الأولون: بأنَّ الفعل لا يدل على الوجوب، وغايته إنَّما يدل على مشروعية التَّأسِّي به في ذلك.

قال شيخ الإسلام: استحبابُ الوضوء من الحجامة والقيء ونحوهما متوجِّه ظاهر، والله أعلم." اهـ

 

 

 

 

 

 

 

 

69 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_:

"أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ _صلى الله عليه وسلم_: "أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُوْمِ الْغَنَمِ؟"

قَالَ: (إِنْ شِئْتَ)،

قَالَ: "أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟"

قَالَ: (نَعَمْ)."

أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

 

ترجمة جابر بن سمرة بن جنادة السوائي:

 

وفي "الأعلام" للزركلي (2/ 104):

"جابِر السُّوائي (000 - 74 هـ = 000 - 693 م):

جابر بن سمرة بن جنادة السوائي: صحابي، كان حليف بني زهرة. له ولأبيه صحبة. نزل الكوفة وابتنى بها دارا وتوفي في ولاية بشر على العراق. روى له البخاري ومسلم وغيرهما 146 حديثا." اهـ

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (8/ 353)

قال ابن سعد: تُوُفّي في خلافة عبد الملك بن مروان، في ولاية بشر بن مروان، وقال خليفة: مات سنة (73)، وقيل عنه: سنة (76)، وقال ابن منجويه، وأبو القاسم البغويّ، وابن حبان: مات سنة (74)، قال الحافظ: وهو أشبه بالصواب؛ لأن بشر بن مروان وَليَ الكوفةَ سنة (74) ومات سنة (75)،

 

نص الحديث:

 

في "صحيح مسلم" (1/ 275):

عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟"

قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ»

قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ»

قَالَ: أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»

قَالَ: أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «لَا»

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه مسلم (1/ 275/ 97) (رقم: 360)، وابن ماجه (1/ 166) (رقم: 495)، و (الطيالسيّ) في "مسنده" (1/ 57)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (1/ 46 - 47)، و (أحمد) في "مسنده" (5/ 86 و 88 و 93 و 98 و 100 و 101 و 102 و 105 و 106 و 108)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه" (31)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (1124 و 1127)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار" (1/ 70)، و (الطبرانيّ) في "الكبير" (1867)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (754)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (794 و 795)، والله تعالى أعلم.

 

خلاف العلماء:

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 306_307):

* خلاف العلماء:

* ذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة، ومالك، والشَّافعي، وأتباعهم: إلى عدم الوضوء من أكل لحم الجزور.

قال النووي: احتجَّ أصحابنا بأنباء ضعيفة، في مقابل هذين الحديثين، وكأن الحديثين لم يصحَّا عند الإمامِ الشافعي؛ ولذا قال: إنْ صحَّ الحديث في لحوم الإبل، قُلْتُ به.

وقال النووي في موضعٍ آخر: لعلَّهم لم يسمعوا نصوصه، أو لم يعرفوا العلَّة.

* وذهب الإمام أحمد، وأتباعه: إلى نقض الوضوء من أكل لحم الإبل، وهو قول إسحاق بن راهويه.

قال الخطابي: ذهب إلى هذا عامَّةُ أصحاب الحديث.

وقال ابن خزيمة: لم نر خلافًا بين علماء الحديث.

وأشار البيهقي إلى ترجيحه، واختياره، والذبِّ عنه.

وقال الشَّافعي: إنْ صحَّ الحديث في لحوم الإبل، قلت به.

قال البيهقي: قد صحَّ فيه حديثان.

وقال النووي في المجموع: القولُ القديم: إنَّه ينقض، وهو الأقوى من حيثُ الدليلُ، وهو الذي أعتقد رجحانه.

ودليل النقض هذا الحديثان الصحيحان:

أحدهما: حديث البراء بن عازب: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئِل أنتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ؟ قال: نعم، قال: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: لا" رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.

الثاني: حديث جابر بن سمرة أنَّ رجلًا سأل النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إنْ شِئْتَ، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم" أخرجه مسلم.____

واختار البيهقي هذا القولَ، والنوويُّ، والشيخ تقي الدِّين، وابن القيم، والشوكاني، وعلماء الدعوة السلفية النجدية، ورجال الحديث الذين يقدِّمون الآثار على الآراء.

* فائدة:

أصحابُ القياس الفاسد قالوا: إنَّ الوضوء من لحوم الإبل على خلاف القياس؛ لأنَّها لحمٌ، واللحم لا يُتَؤَضَّأُ منه.

أمَّا صاحبُ الشريعة -صلى الله عليه وسلم-: ففرَّق بين لحم الإبل، ولحم الغنم ونحوها؛ كما فرَّق بينهما في:

1 - المعاطن: حيث أجازَ الصلاةَ في معاطن الغنم، ومنع الصلاة في معاطن الإبل.

2 - أصحابُ الإبل أصحابُ فَخْرٍ وخيلاء، وأصحابُ الغنمِ ذَوُو سكينةٍ وهدوء.

ذلك أنَّ الإبل فيها قوَّة شيطانية، والغذاء له تأثيرٌ على المتغذِّي؛ ولذا حرَّم أَكْلَ كلِّ ذي نابٍ من السِّباع، وكل ذي مخلبٍ من الطير؛ لأنَّها جارحة؛ فالاغتذاءُ بلحومها يجعَلُ في خُلُقِ الإنسان من العدوان ما يَضُرُّ بدينه، فنُهِيَ عن ذلك، والثورةُ الشيطانية إنَّما يطفئها الماءُ، فكان الوضوءُ من لحومها على وفق القياسِ الصحيح، والله أعلم.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (8/ 359):

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حقّقه النوويّ رحمه الله مخالفًا لمذهبه من وجوب الوضوء من أكل لحم الإبل هو الحقّ، ولقد أنصف رحمه الله، ودافع عن السنّة، وترك الدفاع عن المذهب، خلاف ما يسلكه عامّة مقلدي المذاهب من تأويلهم الأحاديث الصحيحة إذا خالفت مذهبهم.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (8/ 359)

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حقّقه النوويّ رحمه الله مخالفًا لمذهبه من وجوب الوضوء من أكل لحم الإبل هو الحقّ، ولقد أنصف رحمه الله، ودافع عن السنّة، وترك الدفاع عن المذهب، خلاف ما يسلكه عامّة مقلدي المذاهب من تأويلهم الأحاديث الصحيحة إذا خالفت مذهبهم.

 

من فوائد الحديث:

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (8/ 354)

والحديث نصّ على أن الأكل من لحم الإبل ناقض للوضوء على كلّ حال، نيّئًا كان أو مطبوخًا

 

وقال الإثيوبي في "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (8/ 356_357):

في فوائده:

1 - (منها): بيان وجوب الوضوء من أكل لحم الإبل، وإباحته من أكل لحم الغنم، والمراد به الوضوء الشرعيّ، لا اللغويّ على الصحيح.

قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراجه الحديث، ما نصّه: في سؤال السائل عن الوضوء من لحوم الإبل، وعن الصلاة في أعطانهما، وتفريق النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بين الجوابين أرى البيان أنه أراد الوضوء المفروض للصلاة، دون غسل اليدين، ولو كان ذلك غسل اليدين من الغَمَر (1) لاستوى فيه لحوم الإبل والغنم جميعًا، وقد كان ترك الوضوء مما مسّته النار، وبقي المسلمون عليه مدّة، ثم نُسخ ذلك، وبقي لحوم الإبل مستثنًى من جملة ما أُبيح بعد الحظر الذي تقدّم ذكرنا له. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله (2)، وهو حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

2 - (ومنها): بيان جواز الصلاة في مرابض الغنم مطلقًا، خلافًا لمن قال: إن الإذن بالصلاة فيها كان قبل أن تبنى المساجد، وفيه نظر؛ إذ لا دليل على ذلك.

3 - (ومنها): بيان طهارة أبوال الغنم وأبعارها؛ لأن مرابض الغنم لا تخلو عن ذلك، وقد أذن الشارع بالصلاة فيها مطلقًا، ليس فيه تخصيص موضع دون موضع، ولا تقييد بحائل يقي من الأبوال، وهذا هو الحقّ، خلافًا للحنفيّة، والشافعيّة.

قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: إباحة الصلاة في مرابض الغنم دليلٌ لمالك على طهارة فضلة ما يؤكل لحمه؛ لأن مرابضها مواضع رُبُوضها وإقامتها، ولا يخلو عن أبوالها وأرواثها، وأما نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في معاطن الإبل، فليس لنجاسة فضلاتها، بل لأمر آخر، إما لنتن معاطنها، أو لأنها لا تخلو غالبًا عن نجاسة من يستتر بها عند قضاء الحاجة، أو لئلا يتعرّض لنفارها في صلاته، أو لما جاء أنها خُلقت من الشياطين، وهذه كلّها مما ينبغي للمصلّي أن يتجنّبها، ومع هذه الاحتمالات لا يصلح هذا الحديث للاستدلال به على نجاسة فَضَلاتها، وقد أباح النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للْعُرَنيين شُرب ألبانها وأبوالها، ولا يُلتَفتُ إلى قول من قال: إن ذلك لموضع الضرورة؛ لأنا لا نسلّمها؛ إذ الأدوية في ذلك للمرض الذي أصابهم كثيرةٌ، ولو كان ذلك للضرورة لاستكشف عن حال الضرورة، ولسأل عن أدوية أخرى حتى يتحقّق عدمها، ولو كانت نجاسةً لكان التداوي بها ممنوعًا أيضًا بالأصالة كالخمر، أَلَا تراه لَمّا سئل - صلى الله عليه وسلم - عن التداوي بالخمر؟ قال: "إنها ليست بدواء، ولكنها داء"، رواه مسلم، ولم يلتفت إلى الحاجة النادرة التي يباح فيه، كإزالة الْغَصَص بجرعة منها عند عدم مائع آخر.

وحاصله أن إخراج الأمور عن أصولها، وإلحاقها بالنوادر، لا يلتفت إليه؛ لأنه خلاف الأصل. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (1) وهو بحثٌ جيّد، والله تعالى أعلم.

4 - (ومنها): بيان النهي عن الصلاة في مبارك الإبل، وهو للتحريم على الأصحّ، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 303)

* ما يؤخذ من الحديث:

1 - إباحةُ الوضوء بعد أَكْلِ لحومِ الغنم ولا يجبُ؛ لأنَّ لَحْمَها غيرُ ناقضٍ للوضوء.

2 - أن أكل لحوم الإبل ينقُضُ الوضوء، ويوجبه عند فِعْلِ الصلاة، ونحوها ممَّا يشترط له الطهارة.

3 - المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّ النَّاقض من أجزاء الإبل هو الهَبْرُ فقط؛___

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 304)

لأنَّهم خصُّوا اللحم بالهَبْرِ دون بقيَّة أجزائها، فهم يَرَوْنَ أنَّ القلب، والكبد، والكرش، والسنام، ونحو ذلك من أجزائها، لا يتناوله النَّص.

قال في المغني: والوجه الثاني: ينقض؛ لأنَّه مِنْ جملة الجزور، وإطلاقُ اللحم في الحيوان يراد به جملته؛ لأنَّه أكثر ما فيه، وكذلك لما حرَّم الله تعالى لحم الخنزير، كان تحريمًا لجملته.

قال في المبدع: الوجه الثاني: ينقض؛ فإطلاق لفظ اللحم يتناوله.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيحُ أنَّ جميع أجزاء الإبل، كالكَرِشِ، والقلب داخلٌ في حكمها ولفظها ومعناها، والتفريق بين أجزائها ليس له دليل ولا تعليل. ولا يدخل في ذلك الحليبُ، واللبن، والدهن؛ لأنَّه ليس لحمًا، ولا يشمل مسمَّاه.

4 - لا يوجد في الشريعة الإسلامية حيوان تُبَعَّضُ الأحكامُ في أجزائه، بعضها حلال، وبعضها حرام، وإنَّما الحيوانُ: إمَّا حرامٌ كلُّه كالخنزير، وإمَّا حلالٌ كله كبهيمة الأنعام.

وهذا التبعض يوجد في شريعة اليهود؛ فهم الذين حرَّمُ الله عليهم من الحيوانِ الطاهِرَ الحلال، فأباحَ لهم البَقَرَ والغنم، وحرَّم عليهم بعض شحومها.

أما هذه الملَّة السمحة: فإنَّ الله لم يعنتها، ولم يشدِّد عليها، فالحيوان إمَّا خبيث فكله حرام، وإمَّا طيب فكله حلال.

5 - الأصل في وجوب الوضوء من لحم الإبل: حديثان صحيحان:

* هما: حديث جابر بن سمرة وحديث البراء بن عازب، وكلاهما في صحيح مسلم، ولكن العلماء تلمسوا معرفة السر والحكمة، فكان أقرب ما وصَلُوا إليه هو أنَّ الإبلَ فيها قوَّةٌ شيطانية، أشار إليها النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إنَّها من الجِنِّ" [رواه___


 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 305)

أحمد (20034)] فأكلها يورث قوَّةً شيطانية تزولُ بالوضوء، والله أعلم.

ويؤيِّد ذلك: أنَ رعاة الإبل عندهم كِبْرٌ وَزَهْوٌ وترفّع، اكتسبوا هذه الطباع من طول بقائهم عندها، ومعاشرتهم لها، بخلاف أصحاب الغنم: فعليهم السكينةُ والهدوءُ ولِينُ القلب، ولعلَّ هذا هو السِّرُّ في أنَّه ما من نَبِيِّ إلاَّ وقد رعى الغنم.

6 - قوله: "إنْ شِئْتَ" يفيد: عدم وجوب الوضوء من أكل لحم الغنم.

7 - لدينا حديثان:

أحدهما: حديث الباب: "أتوضا من لحوم الغنم؟ قال: إنْ شئت" [رواه مسلم (360)].

الثاني: ما رواه مسلم (253) عن عائشة وأبي هريرة؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "توضؤوا ممَّا مسَّت النَّار".

ففي هذين الحديثين عمومٌ وخصوص، فالأوَّل عامٌّ في المطبوخ من لحم الغنم، والثاني عامٌّ في الشيء المطبوخ.

والفاصل في ذلك: ما رواه أبو داود (192)، والنسائي (185)، عن جابر قال: "آخِرُ الأمرَيْن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تَرْكُ الوضوءِ ممَّا مسَّت النَّار".

وما جاء في البخاري (210) ومسلم (355) "أنَّ النبَّيَّ -صلى الله عليه وسلم- أكَلَ من كتف شاة وصلى، ولم يتوضأ".

فيكون حديثُ الباب من نواسخ حديثِ الوضوء ممَّا مسَّت النَّار.

8 - ألبانُ الإبل فيها روايتان عن الإمام أحمد في نقضها الوضوء، والرواية الرَّاجحةُ في المذهب: أنَّ الألبان لا تنقض، وهو الصحيح؛ فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر العُرَنِيِّينَ بالوضوء من ألبان الإبل، وقد أمرهم بشُرْبها، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، أمَّا قياسها على اللحم بجامع التغذِّي بها كاللحم: فإنَّ هذه العلَّة لم ينصَّ عليها، وإنَّما ظنَّها بعضُ العلماء ظنًّا.

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 264)

ففي هذا الحديث فوائد كثيرة منها: حرص الصحابة - رضي الله عنهم- على تعلم العلم؛ ولهذا لا يدعون صغيرة ولا كبيرة يحتاجون إليها في الدين إلا سألوا عنها، ومن تتبع الأسئلة الواردة من الصحابة على النبي - عليه الصلاة والسلام- تبين له أن قول بعض الجهال: إن الصحابة - رضي الله عنهم- لم يتعمقوا في العلم ولا في السؤال عنه قول باطل؛ لكنهم لم يتعمقوا تعمق المتأخرين الذين يضربون الأمثال، ويصورون الصور البعيدة الوقوع، بل الممتنعة الوقوع، الصحابة - رضي الله عنهم- يأتون الأمور بظاهرها ولا يتعمقون، لكنهم موفقون للعلم الصحيح.

ومن فوائد هذا الحديث: أن لحم الغنم لا يجب الوضوء منه سواء كان نيئا أو مطبوخا/ وجه الدلالة: الإطلاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل، والسائل لم يستفصل، فمن أكل لحم غنم نيئا كان أو مطبوخا لم يجب عليه الوضوء. فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال: "توضئوا مما مست النار"؟

قلنا: "بلى"، لكن هذا الحديث ورد ما يدل على أنه ليس بواجب، أعني: الوضوء مما مست النار لقول جابر - أظنه جابرا-: "كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار". وهذا الترك لبيان الجواز، وعليه فيكون قوله: "إن شئت" عاما للحم المطبوخ واللحم النيئ.

ومن فوائد هذا الحديث: إثبات المشيئة للعبد، وأن العبد له مشيئة تامة لقوله: "إن شئت"، وفي هذا رد على طائفة مبتدعة مخالفة للمعقول والمنقول والمحسوس ألا وهي الجبرية الذين___

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 265)

يقولون: إن الإنسان ليس له مشيئة، وإنما يعمل اضطرارا لا اختيارا، ولما قيل لهم: إن هذا يستلزم أن يكون الله تعالى ظالما إذا عاقبه على معصية لم يردها، قالوا: إن هذا ظلم لو كان الفاعل يتصرف في غير ملكه، أما إذا كان يتصرف ف ملكه فليس بظلم، وهذا لا شك أن قول باطل؛ لأن الله - سبحانه وتعالى- قال عن نفسه: {ولا يظلم ربك أحدا} [الكهف: 49]. وقال في الحديث القدسي: "إني حرمت الظلم على نفسي". وفي هذا دليل على إمكانه لو شاء لظلم لكنه عز وجل لا يظلم، فدل ذلك على أن قولهم هذا باطل، وأن الإنسان له مشيئة.

ولكننا ننكر قولا آخر مضادا له ألا وهو قول القدرية الذين يقولون: إن الإنسان مستقل ب'رادته ومشيئته؛ لأننا نعلم أن إرادة العبد ومشيئته من إرادة الله عز وجل أي: تابعة لإرادة الله وليست مستقلة، والإنسان يريد الشيء ويعزم عليه ويؤكده ويأتيه مانع من الله عز وجل إما بصرف الهمة، وإما بوجود مانع خارجي لا يستطيع معه أن يفعل، فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله.

وفائدة القول بأننا نقول أنها تابعة لمشيئة الله: أننا نعلم أن العبد متى شاء شيئا فقد شاءه الله عز وجل، فإذا وقع تحقق دون ذلك، أما مجرد مشيئة العبد فالعبد قد يشاء، ومشيئة هذه لا شك أنها من مشيئة الله لكن قد يقع وقد لا يقع؛ لأنه قد تحصل موانع تمنع الإنسان من فعل ما أراد، وفي هذا أيضا دليل على أن الشيء يكون جائزا شرعا فلا يسمى الفاعل مبتدعا، ولكنه لا يطلب من الإنسان، الرسول - عليه الصلاة والسلام- قال له: "إن شئت".

وهذا الذي قلته أنا له دليل، بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلا على سرية، فجعل يقرأ لأصحابه ويختم بـ {قل هو الله أحد}، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه. فدل ذلك على أن مثل هذا الفعل لا يسمى بدعة في دين الله ولا يأثم به الإنسان، لكن هل نقول: إنه سنة، وأنه ينبغي للإنسان إذا قرأ في الصلاة أن يختم بـ {قل هو الله أحد}؟ لا نقول هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولم يأمر به الأمة، غاية ما هنالك أنه أقر هذا الرجل على هذا الفعل فيكون مباحا.

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (8/ 362)

في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة في مبارك الإبل:

قال صاحب "المرعاة" رحمه الله: في الحديث دليلٌ على تحريم الصلاة في مبارك الإبل، وإليه ذهب مالك، وأحمد، وابن حزم، وهو الحقّ.

وذهب الجمهور إلى حمل النهي على الكراهة مع عدم النجاسة، وعلى التحريم مع وجودها، وهذا إنما يتمّ على القول بأن علّة النهي هي النجاسة،___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (8/ 363)

وذلك متوقّف على نجاسة أبوال الإبل وأزبالها، والحقّ طهارة أبوال مأكول اللحم وأزباله، ولو سلّمنا النجاسة فيه لم يصحّ جعلها علّةً؛ لأن العلّة لو كانت النجاسة لما افترق الحال بين أعطانها وبين مرابض الغنم؛ إذ لا قائل بالفرق.

وقيل: علّة النهي ما فيها من النفور، وبهذا علّل أصحاب مالك والشافعيّ، وعلى هذا فيفرّق بين كون الإبل في مباركها وبين غَيبتها.

وفيه أن النهي عن الصلاة فيها مطلقٌ، سواءٌ كانت الإبل فيها، أو لم تكن.

وقيل: علّة النهي أن يُجاء بها إلى مباركها بعد شروعه في الصلاة فيقطعها، أو يستمرّ فيها مع شغل خاطره، وفيه أيضًا ما تقدّم.

وقيل: لأن الراعي يبول بينها، وفيه أن هذا ظن وتخمين لم يقُم عليه دليلٌ، فلا يُلتَفَت إليه.

وقيل: علّة النهي شدّة نتنها.

وقيل: الحكمة في النهي كونها خُلقت من الشياطين، ويدلّ عليه حديث عبد الله بن مغفّل - رضي الله عنه - عند أحمد، والنسائيّ، وحديث البراء عند أبي داود، وحديث أبي هريرة عند ابن ماجه.

قال الإمام الشوكانيّ - بعد بيان اختلافهم في تعليل النهي بنحو ما ذكرنا -: إذا عَرَفت هذا الاختلاف في العلّة تبيّن لك أن الحقّ الوقوف على مقتضى النهي، وهو التحريم، كما ذهب إليه أحمد والظاهريّة. انتهى.

ولا يُعارضه حديث الصلاة إلى الراحلة بجعلها سُترةً في الصلاة؛ لأن ذلك كان في السفر حالة الضرورة، ولأن النهي مقصور على مواضع بروكها وعَطَنها، وفرقٌ بين الصلاة في العَطَن، وبين جعلها سُترةً في الصلاة في حال شَدّ الرحل عليها. انتهى كلام صاحب "المرعاة" رحمه اللهُ، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر الأقوال، وأدلّتها أن أرجحها هو القول بتحريم الصلاة في مبارك الإبل؛ عملًا بظاهر النصّ الصحيح الخالي عن المعارض؛ فتبصر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

 

 



[1]  ومن علل سند الحديث: عَنْعَنَةُ ابن جُريجٍ، وهو مدلس، إلا أنه ورد التصريح منه في رواية البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 222) (رقم: 669): عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ...

Komentar

Postingan populer dari blog ini

الحديث 12 من رياض الصالحين