شرح الْوَجْه السَّابِع والاربعين من كتابه مفتاح دار السعادة

  

وقال ابن قيم الجوزية _رحمه الله_ في "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (1/ 63_68):

الْوَجْه السَّابِع والاربعون:

مَا رَوَاهُ أبو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء _رضى الله عَنهُ_، قَالَ:

سَمِعت رَسُول الله يَقُول:

(من سلك طَرِيقا يَبْتَغِي فِيهِ علما سلك الله بِهِ طَرِيقا إلى الْجنَّة، وَإِن الْمَلَائِكَة لتَضَع أجنحتها رضَا لطَالب الْعلم، وإن الْعَالم ليَسْتَغْفِر لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الارض حَتَّى الْحيتَان فِي المَاء. وَفضل الْعَالم على العابد كفضل الْقَمَر على سَائِر الْكَوَاكِب، إن الْعلمَاء وَرَثَة الانبياء، إن الانبياء لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما، إِنَّمَا ورَّثوا الْعلم، فَمن أخذه، أخذ بحظٍّ وافرٍ)،

 

أخرجه سنن أبي داود (3/ 317) (رقم: 3641)، سنن الترمذي ت شاكر (5/ 48) (رقم: 2682)، سنن ابن ماجه (1/ 81) (رقم: 223).

 

والحديث حسنٌ لغيره: حسّنه الألباني _رحمه الله_ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 138) (رقم: 70)، و"صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 1079) (رقم: 6297)، و"تخريج مشكاة المصابيح" (1/ 74) (رقم: 212)

 

قَالَ أَبُو حَاتِمٍ ابن حبان البستي _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_ في "صحيحه" (1/ 291):

"فِي هَذَا الْحَدِيثِ: بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ لَهُمُ الْفَضْلُ الَّذِي ذَكَرْنَا: هُمُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ عِلْمَ النَّبِيِّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْعُلُومِ.

أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: (الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ)،

وَالْأَنْبِيَاءُ لَمْ يُوَرِّثُوا إِلَّا الْعِلْمَ وعلمُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّتُه فَمَنْ تعرَّى عَنْ مَعْرِفَتِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ." اهـ

 

وَقد رَوَاهُ الْوَلِيد بن مُسلم عَن خَالِد بن يزِيد عَن عُثْمَان بْن أيمن عَن أبي الدَّرْدَاء، قَالَ:

سَمِعت رَسُول الله يَقُول:

(من غَدا لعلم يتعلمه فتَح الله لَهُ بِهِ طَرِيقا إلى الْجنَّة، وفرشت لَهُ الْمَلَائِكَة أكنافها، وصلَّتْ عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وحيتانُ الْبَحْر. وللعالم من الْفضل على العابد كفضل الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر على سَائِر الْكَوَاكِب، وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الانبياء إن الانبياء لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما، إِنَّمَا ورّثوا الْعلم، فَمن أخذ بِالْعلمِ أخذ بحظ وافر، وَمَوْتُ الْعَالم مُصِيبَة لَا تجبر، وثلمةٌ تسد وَنجمٌ طُمِسَ. وَمَوْتُ قَبيلَةٍ أيسرُ مِنْ موْتِ عَالِمٍ)، وَهَذَا حَدِيث حسن.

 

حديث أبي الدرداء _رضي الله عنه_: أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3/ 223) (رقم: 1576)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 170) (رقم: 179)، وابن شاهين في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 144)  (ص: 73) (رقم: 215)،

والحديث ضعيف جدا: صرح بذلك الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة" (10/ 394) (رقم: 4838)، و"ضعيف الترغيب والترهيب" (1/ 53) (رقم: 73).

ففيه: خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ. قال الحافظ في "تقريب التهذيب" (ص: 191) (رقم: 1688): "خالد ابن يزيد ابن عبد الرحمن ابن أبي مالك، وقد ينسب إلى جد أبيه أبو هاشم الدمشقي ضعيف مع كونه كان فقيها وقد اتهمه ابن معين." اهـ

 

وَالطَّرِيق الَّتِي يسلكها إلى الْجنَّة جَزَاءٌ على سلوكه فِي الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعلم الْمُوصلةَ إلى رضَا ربِّه، وَوضْعِ الْمَلَائِكَة أجنحَتَهَا لَهُ تَوَاضُعًا لَهُ، وتوقيرًا وإكرامًا لما يحملهُ من مِيرَاث النُّبُوَّة ويطلبه.

 

وَهُوَ يدل على الْمحبَّة والتعظيم، فَمِنْ محبَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وتعظيمِه، تضع أجنحتها لَهُ، لِأَنَّهُ طَالب لما بِهِ حَيَاةُ الْعَالم ونجاتُه.

 

فَفِيهِ شبه من الْمَلَائِكَة. وَبَينه وَبينهمْ تناسبٌ فإن الْمَلَائِكَة أنصح خلق الله وأنفعهم لبني آدم، وعَلى أيديهم حصل لَهُم كلُّ سَعَادَةٍ وَعلمٍ وَهدى.

 

وَمِنْ نفْعِهم لبني آدم ونُصْحِهِمْ: أنهم يَسْتَغْفِرُونَ لمسيئهم ويُثْنُوْنَ على مؤمنِيْهِمْ ويُعِيْنُوْنَهُمْ على أعدائِهم من الشَّيَاطِينِ ويَحْرِصُوْنَ على مصَالح العَبْد أضعاف حرصه على مصلحَةِ نَفسِه، بل يُرِيدُونَ لَهُ من خَيْرِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ مَا لَا يُريدهُ العَبْدُ، وَلَا يخْطُرُ بِبَالِهِ، كَمَا قَالَ بعض التَّابِعين:

(وجدنَا الْمَلَائِكَة أنْصَحَ خلْقِ اللهِ لِعِبَادِهِ، وَوجدنَا الشَّيَاطِينَ أَغَشَّ الْخلقِ للعبادِ).

 

وَقَالَ _تَعَالَى_:

{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} [غافر: 7_9]

 

فَأَيُّ نُصْحٍ للعباد مِثْلُ هَذَا، إلا نُصْحَ الأنبياء، فَإِذا طَلَبَ العَبْدُ الْعِلْمَ، فقد سعى فِي أعظم مَا يَنْصَحُ بِهِ عِبَادَ اللهِ،

 

فَلذَلِك تحبه الْمَلَائِكَة وتُعَظِّمُهُ حَتَّى تضع أجنحتها لَهُ رضًا ومحبةً وتعظيمًا.

 

وَقَالَ أبو حَاتِم الرَّازِيُّ:

سَمِعت ابْن أبي أُوَيْسٍ، يَقُول: سَمِعت مَالك بن أنس، يَقُول:

"معنى قَول رَسُول الله: (تضع أجنحتَها)، يَعْنِي: تَبْسُطُهَا بِالدُّعَاءِ لطَالب الْعلم بَدَلا من الأيدي."

 

قال أَبُو مُوسَى المديني الأصبهاني (المتوفى: 581 هـ) _رحمه الله_ في "المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث" (1/ 363_364):

"وذَكَر أبو الحُسَيْن ابنُ فَارِس صاحِبُ "كِتابِ المُجْمَل" في أَمالِيه، عن عليِّ بنِ إبراهيم القَطَّان. قال: سَمِعتُ أَبا حَاتِم الرَّازِي يقول: سَمِعتُ ابنَ أَبِي أُوَيْس يقول: سَمِعتُ مالِكاً يَقولُ:

مَعْنَى قَولِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -:

(تَضَع، يَعنِي المَلائِكَةُ أَجْنِحَتَها، تَبسُطُها بالدُّعِاء لِطالِبِ العِلْم بَدَلاً من الأَيْدِي)، ويُؤَيِّد هَذَا القَولَ مَا فِي__الحَدِيثِ الآخر: مِن "أنَّه تُصَلِّي عليه المَلائِكَة": أي تَدْعُو له وتَسْتغْفِر." اهـ

 

وَقَالَ أحْمَد بن مَرْوَان الْمَالِكِي فِي "كتاب المجالسة" لَهُ:

حَدثنَا زَكَرِيَّا بن عبد الرَّحْمَن الْبَصْرِيّ، قَالَ: سَمِعت أحْمَد بن شُعَيْب يَقُول:

"كُنَّا عِنْد بعض الْمُحدثين بِالْبَصْرَةِ، فحدثنا بِحَدِيث النَّبِي:

(إن الْمَلَائِكَة لتَضَع أجنحتها لطَالب الْعلم)،

وَفِي الْمجْلس مَعنا رجلٌ من الْمُعْتَزلَة، فَجعل يستهزئ بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ: "وَالله، لأَطْرُقَنَّ غَدًا نَعْلِيْ بِمَسَامِيْر، فَأَطَأُ بِهَا أَجْنِحَةَ الْمَلَائِكَة."

فَفَعَلَ، وَمَشَى فِي النَّعْلَيْنِ، فجَفَّتْ رِجْلَاهُ جَمِيعًا، وَوَقَعَتْ فِيْهِمَا الأكلة."

 

أخرجه أبو بكر أحمد بن مروان الدِّيْنَوَرِيُّ المالكي (المتوفى: 333 هـ) في  "المجالسة وجواهر العلم" (5/ 294) (رقم: 2154)

 

وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ: سَمِعت أَبَا يحيى زَكَرِيَّا بن يحيى السَّاجِي، قَالَ:

"كُنَّا نمشي فِي بعض أَزِقَّةِ الْبَصْرَة إِلَى بَاب بعض الْمُحدثين، فأسْرَعْنَا الْمَشْيَ، وَكَانَ مَعنا رجلٌ ماجِنٌ مِنْهُم فِي دِيْنِهِ، فَقَالَ:

(ارْفَعُوا أَرْجُلَكُمْ عَنْ أَجْنِحَةَ الْمَلَائِكَة، لا تَكْسِرُوْها كالمستهزيءِ)،

فَمَا زَالَ من مَوْضِعِهِ حَتَّى جَفَّتْ رِجْلَاهُ، وَسقط."

 

أخرجه الخطيب البغدادي في "الرحلة في طلب الحديث" (ص: 85) (رقم: 8):

أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ الْوَاعِظُ بِأَصْبَهَانَ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ الطَّبَرَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا يَحْيَى زَكَرِيَّا بْنَ يَحْيَى السَّاجِيَّ قَالَ:

كُنَّا نَمْشِي فِي أَزِقَّةِ الْبَصْرَةِ إِلَى بَابِ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ فَأَسْرَعْنَا الْمَشْيَ، وَكَانَ مَعَنَا رَجُلٌ مَاجِنٌّ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ، فَقَالَ:

(ارْفَعُوا أَرْجُلَكُمْ عَنْ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ لَا تَكْسِرُوهَا)، كَالْمُسْتَهْزِئِ،

فَمَا زَالَ مِنْ مَوْضِعِهِ حَتَّى جَفَّتْ رِجْلَاهُ وَسَقَطَ." اهـ

 

وقال ابن العماد العَكري الحنبلي، أبو الفلاح (المتوفى: 1089هـ) _رحمه الله_ في "شذرات الذهب في أخبار من ذهب" (7/ 551)

قال ابن خلّكان: بلغنا من جماعة يوثق بهم وصلوا إلى دمشق من أهل بصرى أن عندهم قرية يقال لها: "دير أبي سلامة."

كان بها رجل من العَرْبَانِ فيه استهزاء زائد وجهل. فجرى يوما ذكر السّواك وما فيه من الفضيلة، فقال: (والله ما أستاك إلّا من المخرج)،

فأخذ سواكا وتركه في دبره، فآلمه تلك الليلة، ثم مضى عليه تسعة أشهر وهو يشكو من ألم البطن والمخرج،

ثم أصابه مثل طلق الحامل ووضع حيوانا على هيئة الجرذون، ورأسه مثل رأس السمكة، وله أربع أنياب بارزة وذنب طويل مثل شبر وأربع أصابع، وله دبر مثل دبر الأرنب،

ولما وضعه صاح ذلك الحيوان ثلاث صيحات، فقامت ابنة ذلك الرجل، فشجّت رأسه فمات، وعاش ذلك الرجل بعده يومين ومات، وهو يقول: (هذا الحيوان قتلني، وقطّع أمعائي)،

وشاهد ذلك الحيوانَ جماعةٌ من تلك النّاحية وخطيب المكان." اهـ

 

وفي "سير أعلام النبلاء" – ط. الرسالة (2/ 618_619):

قَالَ الحَافِظُ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا المَعْمَرِ المُبَارَكَ بنَ أَحْمَدَ، سَمِعْتُ أَبَا القَاسِمِ يُوْسُفَ بنَ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيَّ الفَقِيْهَ، سَمِعْتُ الفَقِيْهَ أَبَا إِسْحَاقَ الفَيْرُوْزَابَادِيَّ، سَمِعْتُ القَاضِي أَبَا الطَّيِّبِ يَقُوْلُ:

كُنَّا فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ بِجَامِعِ المَنْصُوْرِ، فَجَاءَ شَابٌّ خُرَاسَانِيٌّ، فَسَأَلَ عَنْ مَسْأَلَةِ المُصَرَّاةِ، فَطَالَبَ بِالدَّلِيْلِ، حَتَّى اسْتَدَلَّ بِحَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الوَارِدِ فِيْهَا،___

فَقَالَ - وَكَانَ حَنَفِيّاً -: أَبُو هُرَيْرَةَ غَيْرُ مَقْبُوْلِ الحَدِيْثِ.

فَمَا اسْتَتَمَّ كَلاَمَهُ حَتَّى سَقَطَ عَلَيْهِ حَيَّةٌ عَظِيْمَةٌ مِنْ سَقْفِ الجَامِعِ، فَوَثَبَ النَّاسُ مِنْ أَجْلِهَا، وَهَرَبَ الشَّابُّ مِنْهَا وَهِيَ تَتْبَعُهُ.

فَقِيْلَ لَهُ: تُبْ تُبْ.

فَقَالَ: تُبْتُ.

فَغَابَتِ الحَيَّةُ، فَلَمْ يُرَ لَهَا أَثَرٌ."اهـ

 

وَفِي "السّنَن" وَ"الْمَسَانِيد" من حَدِيث صَفْوَان بْن عَسَّال قَالَ:

قلت: "يَا رَسُول الله، إِنِّي جِئْت أطلب الْعلم."

قَالَ: "(مرْحَبًا بطالب الْعلم، إِن طَالب الْعلم لتحف بِهِ الْمَلَائِكَة وتظله بأجنحتها فيركب بَعضهم بَعْضًا حَتَّى تبلغ السَّمَاء الدنيامن حبهم لما يطْلب)

 

وَذكر حَدِيث الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، قَالَ: أبوْ عبدِ اللهِ الْحَاكِم: "إسناده صَحِيح."

وَقَالَ ابْن عبد الْبر: "هُوَ حَدِيث صَحِيح حسن ثَابت مَحْفُوظ مَرْفُوع، وَمِثْلُهُ لَا يُقَال بِالرَّأْيِ.

 

فَفِي هَذَا الحَدِيث: حف الْمَلَائِكَة لَهُ بأجنحتها إلى السَّمَاء.

وَفِي الأول: وَضْعُهَا أجنحَتَها لَهُ.

فالوضع: تواضعٌ وتوقيرٌ وتبجيلٌ.

والحف بالاجنحة: حفظٌ وحمايةٌ وصيانةٌ،

فتضمن الحديثان تَعْظِيمَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وحُبَّها إياه، وحِياطتَه وَحِفْظَهُ، فَلَو لم يكن لطَالب الْعلم إِلَّا هَذَا الْحَظ الجزيل لكفى بِهِ شرفا وفضلا

 

حديث صفوان: أخرجه المعجم الكبير للطبراني (8/ 54) (رقم: 7347)، ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (2/ 13)، وابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" (8/ 42)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ 1501) (رقم: 3818)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 155) (رقم: 162)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (60/ 369)، والبغوي في "معجم الصحابة" (3/ 340) (رقم: 1280)،

صحيح: صححه الألباني _رحمه الله_ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 139) (رقم: 71)، و"سلسلة الأحاديث الصحيحة" (7/ 1176) (رقم: 3397).

 

وَقَوله: (إن الْعَالِمَ ليَسْتَغْفِر لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الارض حَتَّى الْحيتَانُ فِي المَاء)

 

فَإِنَّهُ لما كَانَ الْعَالم سَببًا فِي حُصُول الْعلم الَّذِي بِهِ نجاةُ النُّفُوس من أَنْوَاع المهلكات، وَكَانَ سَعْيُه مقصورا على هَذَا، وَكَانَت نجاةُ الْعباد على يَدَيْهِ، جُوْزِيَ مِنْ جِنْس عمَلِه، وَجُعِلَ مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض ساعِيًا فِي نجاته من أسباب الهلكات باستغفارهم لَهُ.

 

وَإِذا كَانَت الْمَلَائِكَةُ تستغفر للؤمنين، فَكيف لَا تستغفر لخاصتهم وخلاصتهم؟!

 

وَقد قيل: (إن من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الارض المستغفرين___للْعَالم عَامٌّ فِي الْحَيَوَانَات: ناطِقِها وبهيمِهَا، طيرِها وَغَيرِه).

ويؤكد هَذَا قَوْلُه: (...حَتَّى الْحيتَان فِي المَاء، وَحَتَّى النملة فِي جحرها)،

 

فَقيل: سَبَب هَذَا الاسْتِغْفَار أنَّ الْعَالم يُعَلِّمُ الْخلْقَ مُرَاعَاةَ هَذِه الْحَيَوَانَات، ويعرّفهم مَا يحل مِنْهَا وَمَا يحرم، ويعرّفهم كَيْفيَّة تنَاولِهَا واستخدامِها، ورُكُوْبِهَا وَالِانْتِفَاعِ بهَا وَكَيْفِيَّةِ ذَبْحِهَا على أحسن الْوُجُوهِ، وأرفقِها بِالْحَيَوَانِ. والعالم أشفق النَّاس على الْحَيَوَان، وأقومهم بِبَيَان مَا خُلِقَ لَهُ.

 

وَبِالْجُمْلَةِ: فالرحمة والاحسان الَّتِي خُلِقَ بهما وَلَهُمَا الْحَيَوَانُ، وَكُتِبَ لَهما حظُّهما مِنْهُ، إِنَّمَا يعرف بِالْعلمِ.

 

فالعالم معرّفٌ لذَلِك، فَاسْتحقَّ أن تستغفر لَهُ الْبَهَائِمُ، وَالله أعلم.

 

وَقَوله: (وَفضل الْعَالم على العابد كفضل الْقَمَر على سَائِر الْكَوَاكِب) تَشْبِيهٌ مُطَابق لحَال الْقَمَر وَالْكَوَاكِب.

 

فإن الْقَمَر يضيء الآفاق ويمتد نُوْرُه فِي اقطار الْعَالم، وَهَذِه حَال الْعَالم.

وَأما الْكَوْكَب، فنوره لَا يُجَاوز نَفسه اَوْ مَا قرب مِنْهُ، وَهَذِه حَال العابد الَّذِي يضيء نورُ عِبَادَته عَلَيْهِ دون غَيره، وإن جَاوز نورُ عِبَادَته غَيْرَهُ، فَإِنَّمَا يُجَاوِزُهُ غيْرَ بعيد، كَمَا يُجَاوز ضوء الْكَوْكَب لَهُ مُجَاوزَة يسيرَة.

 

وَمن هَذَا الاثر الْمَرْوِيّ:

إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يَقُول اللهُ للعابد: (ادخُل الْجنَّة فَإِنَّمَا كَانَت منفعتك لنَفسك)،

وَيُقَال للْعَالم: (اشفَعْ، تُشَفَّعْ، فَإِنَّمَا كَانَتْ منفعتُكَ للنَّاس).

 

وروى ابْن جريج عَن عطاء عن ابْن عَبَّاس _رضى الله عَنْهُمَا_:

"إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُؤْتى بالعابد والفقيه، فَيُقَال للعابد: (ادخْل الْجنَّة)، وَيُقَال للفقيه: (اشفَعْ، تُشَفَّعُ).

 

وَفِي التَّشْبِيه الْمَذْكُور لطيفةٌ أُخْرى، وَهُوَ: أن الْجَهْل كالليل فِي ظلمته وجنسه. وَالْعُلَمَاء والعباد بِمَنْزِلَة الْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ الطالعةِ فِي تِلْكَ الظلمَة.

 

وَفضل نورِ الْعَالم فِيْهَا على نوْرِ العابدِ، كفضل نور الْقَمَر على الْكَوَاكِب.

 

وأيضا: فالدين قوامه وزينته وإضاءته بعلمائه وعباده، فَإِذا ذهب علماؤه وعباده، ذهب الدّين كَمَا أن السَّمَاء إضاءتُهَا وَزينتُهَا بقمرها وكواكبها، فَإِذا خسف قمرها وانتشرت كواكبُها، أَتَاهَا ما تُوْعَدُ.

 

وَفضل عُلَمَاء الدّين على الْعباد، كفضل مَا بَين الْقَمَر وَالْكَوَاكِبِ.

 

فَإِن قيل: كَيفَ وَقع تَشْبِيه الْعَالم بالقمر دون الشَّمْس، وَهِي أعظم نورا؟

 

قيل: فِيهِ فَائِدَتَانِ:

* إحداهما: أن نور الْقَمَر لما كَانَ مستفادا من غَيره، كَانَ تَشْبِيه الْعَالم الَّذِي نوره مُسْتَفَاد من شمسِ الرسَالَةِ بالقمر أولى من تشبيهه بالشمس.

* الثَّانِيَة: أن الشَّمْس لَا يخْتَلف حَالهَا فِي نورها وَلَا يلْحقهَا محاق وَلَا تفَاوت فِي الاضاءةِ. وأما الْقَمَرُ، فَإِنَّهُ يقِلُّ نورُهُ، وَيكثر، ويمتليء، وَينْقُص، كَمَا أنَّ الْعلمَاء فِي الْعلم على مَرَاتِبهمْ من كثرته وقِلَّتِه.

 

فيفضل كلٌ مِنْهُم فِي عِلْمِهِ بِحَسب كثرتِه وقلتِهِ وظهورِهِ وخفائِهِ، كَمَا يكون الْقَمَر كَذَلِك. فعَالِمٌ كالبدر لَيْلَة تمامه وَآخر دونه بليلة وثانية وثالثة وَمَا بعْدهَا إِلَى آخر مراتبه، وهم دَرَجَاتٌ عِنْد اللهِ.

 

فَإِن قيل: تَشْبِيهُ الْعلمَاءِ بالنجوم أَمرٌ مَعْلُوم كَقَوْلِه: (أصحابي كَالنُّجُومِ)،

وَلِهَذَا هِيَ فِي تَعْبِير الرُّؤْيَا عبارَةٌ عَن الْعلمَاء، فَكيف وَقع تشبيههم هُنَا بالقمر؟!

 

قيل: أما تَشْبِيهُ الْعلمَاءِ بالنجوم، فَإِن النُّجُوم يهتدى بهَا فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر. وَكَذَلِكَ الْعلمَاء والنجوم زِينَة للسماء___، فَكَذَلِك الْعلمَاء زِينَة للآرض وَهِي رجوم للشياطين حائلةٌ بَينهم وَبَين استراق السّمع، لِئَلَّا يلبسوا بِمَا يسترقونه من الْوَحْي الْوَارِد إلى الرُّسُل من الله على أيدي مَلَائكَته.

 

وَكَذَلِكَ الْعلمَاء رجومٌ لشياطين الإنس وَالْجِنّ الَّذِي يُوحيْ بَعضهم إلى بعضٍ زخرف القَوْل غرُورًا.

 

فَالْعُلَمَاء رجومٌ لهَذَا الصِّنْف من الشَّيَاطِين، ولو لا هم لطُمِستْ معالمُ الدّين بتلبيس المضلين، وَلَكِن الله _سُبْحَانَهُ_ أقامهم حُرَّاسًا، وَحفظةً لدينِهِ ورجومًا لاعدائه واعداء رسلِه.

 

فَهَذَا وَجه تشبيههم بالنجوم وَأما تشبههم بالقمر، فَذَلِك كَانَ فِي مقَام تَفْضِيلهمْ على أهل الْعِبَادَة الْمُجَرَّدَة وموازنة مَا بَينهمَا من الْفضل.

 

وَالْمعْنَى أنهم يفضلون الْعباد، الَّذين لَيْسُوا بعلماء، كَمَا يفضل الْقَمَر سَائِر الْكَوَاكِب. فَكلٌّ من التشبيهين لَائِق بموضعه، وَالْحَمْد لله.

 

وَقَوله: (إن الْعلمَاء وَرَثَةٌ الانبياءِ)،

 

هَذَا من أعظم المناقب لأهل الْعلم، فَإِن الأنبياء خيرُ خلقِ اللهِ، فورثتهم خيرُ الْخلقِ بعدهمْ. وَلما كَانَ كلُّ موروثٍ ينْتَقل مِيرَاثُه إلى ورثته،

إذْ هم الَّذين يقومُونَ مقَامه من بعده، وَلم يكن بعد الرُّسُل من يقوم مقامهم فِي تَبْلِيغ مَا أرسلوا بِهِ، إلا الْعلمَاء، كَانُوا أَحَقَّ النَّاسِ بميراثهم.

 

وَفِي هَذَا: تَنْبِيه على أنهم أقْربُ النَّاس إليهم، فَإِن الْمِيرَاث إِنَّا يكون لاقرب النَّاس إلى الْمَوْرُوث

 

وَهَذَا كَمَا أنه ثَابت فِي مِيرَاث الدِّينَار وَالدِّرْهَم، فَكَذَلِك هُوَ فِي مِيرَاث النُّبُوَّة، وَالله يخْتَص برحمته من يَشَاء.

 

وَفِيه أيضا: إرشادٌ وأمْرٌ للْأمة بطاعتهم واحترامهم وتعزيزهم وتوفيرهم وإجلالهم، فَإِنَّهُم وَرَثَة من هَذِه بعض حُقُوقهم على الْأمة وخلفاؤهم فيهم

 

وَفِيه: تَنْبِيه على أن محبتهم من الدّينِ، وبُغْضَهُمْ منَافٍ للدّينِ كَمَا هُوَ ثَابت لموروثهم. وَكَذَلِكَ معاداتهم ومحاربتهم معاداة ومحاربة لله، كَمَا هُوَ فِي موروثهم.

 

قَالَ على _كرم الله وَجهه ورضى عَنهُ_:

(محبَّة الْعلمَاء دين يدان بِهِ)

 

وَقَالَ فِيمَا يرْوى عَن ربه _عز وَجل_:

(من عادى لي وليًّا، فقد بارزني بالمحاربة) [خ]،

وورثة الأنبياء سَادَات أولياءِ للهِ _عز وَجل_.

 

* وَفِيه: تَنْبِيه للْعُلَمَاء على سلوك هدى الأنبياءِ وطريقتِهم فِي التَّبْلِيغ من الصَّبْر وَالِاحْتِمَال ومقابلة إساءة النَّاس إليهم بالاحسان والرفقِ بهم واستجلابِهِمْ إلى الله بأحسن الطّرق، وبذلِ مَا يُمكن من النَّصِيحَة لَهُم، فَإِنَّهُ بذلك يحصل لَهُ نصِيبُهم من هَذَا الْمِيرَاث الْعَظِيمِ قدرُه، الْجَلِيل خطَرُه.

 

* وَفِيه أيضا: تَنْبِيه لاهل الْعلم على تربية الامة كَمَا يربى الْوَالِد وَلَده فيُرَبُّوْنَهُمْ بالتدريج والترقي من صغَار الْعلم إِلَى كباره وتحميلِهم مِنْهُ مَا يُطِيقُونَ كَمَا يفعل الأب بولده الطِّفْل فِي إيصال الْغذَاء إليه،

فَإِن أرواح الْبشر بِالنِّسْبَةِ إلى الانبياء وَالرسل كالأطفال بِالنِّسْبَةِ الى آبَائِهِم، بل دون هَذِه النِّسْبَة بِكَثِير،

وَلِهَذَا كل روح لم تُرَبِّهَا الرُّسُلُ، لم تُفْلِحْ، وَلمْ تَصْلُحُ لِصِالِحِهِ، كَمَا قيل:

وَمن لَا يربيه الرَّسُول ويسقه ... لبانا لَهُ قد در من ثدي قدسه

فَذَاك لَقِيط مَاله نِسْبَة الولا ... وَلَا يتَعَدَّى طور أبناء جنسه

 

أثر علي _رضي الله عنه_: أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/80)، والخطيبُ البغدادي في الفقيه والمتفقه (1/182 - 183 رقم 176)،

Dikatakan:

Dan siapa yang tidak dididik oleh Rasul dan diberi minuman... dari susu yang mengalir dari payudara kesuciannya,

Maka dia adalah anak yang tidak jelas asal usulnya, tanpa ikatan nasab yang sah... dan tidak akan melebihi batas dari anak-anak sejenisnya.

 

Syair ini mengandung makna bahwa pendidikan dan pengasuhan yang benar harus didapatkan melalui petunjuk yang benar, yang diwakili oleh Rasul.

Tanpa itu, seseorang tidak dapat dianggap memiliki kedudukan yang sah atau mencapai kemuliaan yang sejati.

 

وَقَوله: (إن الانبياء لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما إِنَّمَا ورثوا الْعلم)

 

هَذَا من كَمَال الانبياء وَعظم___نصحهمْ للأمم وَتَمام نعْمَة الله عَلَيْهِم وعَلى أممهم أن أزاح جَمِيع الْعِلَل وحَسَمَ جَمِيعَ الْموَاد الَّتِي تُوْهِمُ بعضَ النُّفُوس أنّ الانبياء من جنس الْمُلُوك الَّذين يُرِيدُونَ الدُّنْيَا وملْكَها، فحماهم الله _سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى_ من ذَلِك أتمَّ الحمايةِ،

ثمَّ لما كَانَ الْغَالِب على النَّاس أن أحدهم يُرِيد الدُّنْيَا لوَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَيسْعَى ويَتْعَب وَيَحْرِم نَفسَه لوَلَده، سدَّ هَذِه الذريعةَ عَن أنبيائِه وَرُسُلِهِ، وَقَطَع هَذَا الْوَهْمَ الَّذِي عساه أن يخالِطَ كثيرا من النُّفُوس الَّتِي تَقول: (فَلَعَلَّهُ إنْ لَمْ يطْلبْ الدُّنْيَا لنَفسِهِ، فَهُوَ يحصِّلها لوَلَده)، فَقَالَ: (نَحن - معاشر الانبياء -، لَا نُوَرِّثُ، مَا تركنَا هُوَ صَدَقَةٌ)، فَلم تورث الأنبياء دِينَارا وَلَا درهمًا، وَإِنَّمَا ورثوا الْعلم.

 

وأمَّا قَوْلُهُ _تَعَالَى_: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]،

فَهُوَ مِيرَاث الْعلم والنبوة، لَا غَيْرَ! وَهَذَا بِاتِّفَاق أهل الْعلم من الْمُفَسّرين وَغَيرِهم، وَهَذَا، لَان دَاوُد _عَلَيْهِ السَّلَام_ كَانَ لَهُ أوْلاد كَثِيرَةٌ سوى سُلَيْمَانَ.

 

فَلَو كَانَ الْمَوْرُوث هُوَ المَالُ، لم يكن سُلَيْمَان مُخْتَصًّا بِهِ،

وأيضًا فَإِن كَلَام الله يصان عَن الإخبار بِمثل هَذَا، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة أن يُقَال: (مَاتَ فلَان، وَوَرِثَهُ ابْنُه)،

 

وَمن الْمَعْلُوم: أنّ كل أحدٍ يَرِثهُ ابْنُه، وَلَيْسَ فِي الإخبار بِمثل هَذَا فَائِدَةٌ،

وأيضا فَإِن مَا قبْل الآيةِ وَمَا بعْدهَا يبيّن أن المُرَاد بِهَذِهِ الوِراثة وراثةُ الْعلم والنبوةِ، لَا وراثةُ المَال.

 

قَالَ _تَعَالَى_:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 15، 16]

 

وَإِنَّمَا سيق هَذَا لبَيَان فضل سُلَيْمَان وَمَا خصّه الله بِهِ من كرامته وميراثِه مَا كَانَ لأبيه من أعلى الْمَوَاهِبِ، وَهُوَ الْعلم والنبوة {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16]،

 

وَكَذَلِكَ قَول زَكَرِيَّا _عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام_:

{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)} [مريم: 5، 6]

 

فَهَذَا مِيرَاثُ الْعلم والنبوةِ والدعوةِ إلى الله، وَإِلَّا فَلَا يظنّ نبيٌّ كريم أنه يخَاف عَصَبَته أن يَرِثُوْهُ مَالَه، فَيسْأَل الله الْعَظِيم ولدًا يمنعهُم مِيرَاثَه، وَيكون أحَقَّ بِهِ مِنْهُم، وَقد نزّه الله أنبياءَه وَرُسُله عَن هَذَا وَأَمْثَالِه، فبعدا لمنْ حرَّف كتابَ الله، وَرَدَّ على رَسُولِه كَلَامَه، وَنسَب الأنبياءَ إلى مَا هم بُرَآءُ مُنَزَّهون عَنهُ، وَالْحَمْد لله على توفيقه وهدايته.

 

وَيُذكر عَن أبي هُرَيْرَة _رضى الله عَنهُ_: أنه مرّ بِالسوقِ، فَوَجَدَهُمْ فِي تجاراتهم وبيوعاتهم، فَقَالَ: (أنتم هَهُنَا فِيمَا أنتم فِيهِ، وميراثُ رَسُول الله يقسم فِي مَسْجده)، فَقَامُوا سِرَاعًا إلى الْمَسْجِد، فَلم يَجدوا فِيهِ إلا الْقُرْآنَ وَالذكر ومجالسَ الْعلم،

فَقَالُوا: "أيْنَ مَا قلت، يَا أَبَا هُرَيْرَة؟"

فَقَالَ: (هَذَا مِيرَاث مُحَمَّدٍ يقسم بَين ورثته، وَلَيْسَ بمواريثكم ودنياكم)، اَوْ كَمَا قَالَ.

 

أثر أبي هريرة _رضي الله عنه_: أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2/ 114) (رقم: 1429)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 144) (رقم: 83)

 

وَقَوله: (فَمن أخذه أخذ بحظ وافرٍ)

 

أعظمُ الحظوظِ وأجداها ما نفع العَبْدَ ودام نَفعُه لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا إلا حَظُّه من الْعلم وَالدّين. فَهُوَ الْحَظ الدَّائِم النافع الَّذِي إِذا انْقَطَعت الحظوظُ لأربابها، فَهُوَ مَوْصُول لَهُ أبد الآبدين،

 

وَذَلِكَ لأنه مَوْصُول بالحي الَّذِي لَا يَمُوت، فَلذَلِك لا ينقطع وَلَا يفوت. وَسَائِرُ الحظوظِ تُعْدَمُ وتتلاشى بتلاشي متعلقاتها، كَمَا قَالَ _تَعَالَى_:

{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان: 23]،

 

فَإِن الْغَايَة لما كَانَت مُنْقَطِعَة زائلة تَبِعَتْهَا أعمالُهُمْ، فَانْقَطَعت___، لَا يجبرها إلا خلَف غَيْرُه لَهُ.

 

وأيضا فَإِن الْعلمَاء هم الَّذين يسوسون الْعباد والبلاد والممالكَ، فموتهم فَسَادٌ لنظام الْعَالم، وَلِهَذَا لَا يزَال الله يغْرِس فِي هَذَا الدّينِ مِنْهُم خالفا عَن سالف يحفظ بهم دينه وَكتابه وعبادَه.

 

وَتَأمل إِذا كَانَ فِي الْوُجُود رجلٌ قد فاق الْعَالم فِي الْغِنَى وَالْكَرمِ، وحاجتُهم إلى مَا عِنْده شَدِيدَةٌ، وَهُوَ محسن إليهم بِكُل مُمكن، ثمَّ مَاتَ وانقطعت عَنْهُم تِلْكَ الْمَادَّةُ،

 

فموت الْعَالِمِ أعظمُ مُصِيبَةً من موت مثل هَذَا بِكَثِير، وَمثلُ هَذَا يَمُوت بِمَوْتِهِ أُمَم وخلائق كَمَا قيل:

تعلم مَا الرزية فقْد مَال ... وَلَا شَاةٌ تَمُوت وَلَا بعير

وَلَكِن الرزية فقْدُ حر ... يَمُوت بِمَوْتِهِ بشر كثير

 

وَقَالَ آخر:

فَمَا كَانَ قيس هُلْكُه هُلْكُ وَاحِدٍ ... وَلكنه بُنيانُ قومٍ تَهَدَّمَا

 

Komentar

Postingan populer dari blog ini

فضائل عشر ذي الحجة