شرح الحديث 64 (باب نواقض الوضوء) من بلوغ المرام

 

 

64 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-:

"أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ.

 

ترجمة عائشة بنت أبي بكر -رضي الله عنهما-:

 

( خ م د ت س ق ) : عائشة بنت أبى بكر الصديق عبد الله بن عثمان أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة القرشية التيمية، أم المؤمنين ، تكنى: أم عبد الله ،

 

و أمها: أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة ابن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة ،

و قيل غير ذلك فى نسبها ، و أجمعوا أنها من بنى غنم بن مالك بن كنانة .

 

تزوجها رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بمكة قبل الهجرة بسنتين فى قول

أبى عبيدة ، و هى بنت ست سنين،

 

و بنى بها بالمدينة، بعد منصرفه من وقعة بدر فى شوال سنة اثنتين (2 هـ) من الهجرة، و هى بنت تسع سنين (9).

 

ثناء على عائشة

 

عن أبى موسى الأشعري:

"ما أشكل علينا أصحاب محمد _صلى الله عليه وسلم_ حديث قط فسألنا عائشة عنه، إلا وجدنا عندها منه علما .

 

عن قبيصة بن ذؤيب قال :

"فكنت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن نجالس أبا هريرة، وكان عروة بن الزبير يغلبنا بدخوله على عائشة،

وكانت عائشة أعْلَمَ الناسِ، يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_."

 

عن مسروق: "رأيت مشيخة أصحابِ محمدٍ الأكابرَ يسألونها عن الفرائض."

 

و قال الشعبى:

"كان مسروق إذا حدث عن عائشة، قال: حدثتنى الصادقة بنت الصديق، حبيبةُ حبيبِ اللهِ، الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فَوْقِ سَبْع سَمَاوَاتٍ.

 

وقال هشام بن عروة، عن أبيه:

"ما رأيت أحدا أعلم بفقه و لا بطلب و لا بشعر من عائشة." اهـ

 

وقال عطاء بن أبى رباح:

"كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، و أحسن الناس رأيا فى العامة." اهـ

 

و قال الزهرى:

"لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبى _صلى الله عليه وسلم_، وعِلْمِ جميْعِ النساءِ، لكان علم عائشة أفضل."

 

و قال أبو عثمان النهدى، عن عمرو بن العاص: قلتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أى الناس أحب إليك؟" قال: "عائشة." قلت: "فمن الرجال؟" قال: "أبوها."

 

وفى الصحيح عن أبى موسى الأشعرى، عن النبى _صلى الله عليه وسلم_ قال:

"فضل عائشة على النساءِ، كفضل الثريد على سائر الطعام."

 

و مناقبها و فضائلها كثيرة جدا رضى الله عنها و أرضاها .

 

العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام لابن العطار (1/ 102_103)

واختصَّت عائشةُ بفضائل لم يشركْها أحدٌ من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها:

الأولى: أنه - صلى الله عليه وسلم - تزوجها بِكْرًا دون غيرها.

الثانية: أنها خُيِّرَتْ فاختارتِ اللهَ ورسولَه على الفور، وكُنَّ تبعًا لها في ذلك.

الثالثةُ: نزول آية التَّيَمُّم بسبب عِقْدِها حين حبسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّاس، وقال أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرِ: ما هيَ بأولِ بركتِكم يا آلَ أبي بكر.

الرَّابعةُ: نزولُ براءتها من السَّماء.

الخامسة: جَعْلُها قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة.

السادسةُ: تَتَبُّعُ الناس بهداياهم يومَها؛ لما علموا من حبِّه - صلى الله عليه وسلم - لها.

السابعة: اختيارُه - صلى الله عليه وسلم - أن يُمَرَّضَ في بيتها.

الثامنةُ: وفاته - صلى الله عليه وسلم - بين سَحْرِها ونحرِها.

التاسعة: وفاته في يومها.

العاشرةُ: وفاته - صلى الله عليه وسلم - في بيتها.

الحاديةَ عشرةَ: دفنُه - صلى الله عليه وسلم - في بيتِها.

الثانية عشرة: [بيتها] بقعة هي أفضلُ بقاع الأرض مطلقًا، وهي مدفنه - صلى الله عليه وسلم -، وادعى القاضي عياض الإجماع عليه.

الثالثةَ عشرةَ: أنها رأتْ جبريلَ - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحيةَ الكلبيِّ، وسلَّم عليها.

الرَّابعةَ عشرةَ: كانت أحبَّ نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه.

الخامسةَ عشر: اجتماعُ ريقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريقِها في آخر أنفاسه.

السَّادسةَ عشرةَ: كانت أكثرَهن علمًا.

السَّابعةَ عشرةَ: كانت أفصحَهن لسانًا.____

الثامنةَ عشرةَ: لم ينزلِ الوحيُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في لِحاف امرأةِ غيرها.

التَّاسعةَ عشرةَ: أن جبريلَ جاء إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بصورتها قبل أن يتزوَّجها.

العشرون: لم ينكح النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أبواها مُهاجران بلا خلاف سواها.

الحاديةُ والعشرون: كان أبوها أحبَّ الرجال إليه، وأعزهم عليه - صلى الله عليه وسلم -.

الثَّانيةُ والعشرونَ: كان لها يومان وليلتان في القَسْم دونهن لمَّا وهبتْها سَوْدَةُ بنتُ زمعةَ يومَها وليلتَها.

الثالثةُ والعشرون: أنَّها كانت تغضب، فيترضَّاها - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت ذلك لغيرها.

الرَّابعةُ والعشرون: لم ينزلْ بها أمر إلا جعل الله لها منه مخرجا، وللمسلمين بركة.

الخامسةُ والعشرون: لم يَرْوِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ حديثًا أكثرَ منها.

السَّادسةُ والعشرون: أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يتتبع رضاها في المباحات؛ كضرب الجواري إليها، وجعل ذقنها على عاتقه، ووقوفه لتنظر إلى الحَبَشَةِ يلعبون." اهـ

 

وفاة عائشة :

 

قال سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة : توفيت عائشة سنة سبع و خمسين .

وصلى عليها أبو هريرة .

 

و أَمَرَتْ أن تدفن ليلا ، فدفنت بعد الوتر بالبقيع ، و صلى عليها أبو هريرة و نزل فى قبرها خمسة : عبد الله بن الزبير ، و عروة بن الزبير ، و القاسم بن محمد بن أبى بكر ، و أخوه عبد الله بن محمد بن أبى بكر ، و عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر .

 

و توفى النبى صلى الله عليه وسلم و هى بنت ثمانى عشرة سنة (18) . وعمرها 64 سنة.

روى لها الجماعة . اهـ 


نص الحديث وشرحه:

 

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-:

"أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ, ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ.

 

اختلف أهل العلم في نقض الوضوء بمس المرأة على ثلاثة أقوال:

القول الأول:

أن لمس المرأة ينقض الوضوء بكل حال، سواء كان اللمس بشهوة أم لا، وسواء قصد ذلك أم حصل سهواً أو اتفاقاً.

وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله. واستدل بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]

والأصل في معنى (اللمس): أنه اللمس باليد.

 

وقد جاء في الأحاديث استعمال اللمس بمعنى لمس اليد، كما في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لماعز رضي الله عنه: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ لَمَسْتَ رواه أحمد في المسند (2130).

 

وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالْيَدُ زِنَاهَا اللَّمْسُ رواه أحمد (8392) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (8204).

 

ولكن هذه الأحاديث تدل على أن المس أو اللمس يطلق ويراد به ما دون الجماع، وهذا لا نزاع فيه،

وإنما النزاع هل الملامسة في الآية يراد بها الجماع أو ما دونه ؟ وهذه الأحاديث لا تدل على شيء من هذا.

 

وهذا القول هو أضعف الأقوال في هذه المسألة، قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في الاختيارات (ص18):

"إذا مس المرأة لغير شهوة فهذا مما علم بالضرورة أن الشارع لم يوجب منه وضوءاً ولا يستحب الوضوء منه." انتهى

 

القول الثاني:

أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً سواء كان بشهوة أم بغير شهوة. وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله.

وقد دل على هذا القول عدة أدلة:

 

1/ أن الأصل بقاء الطهارة وعدم نقضها حتى يأتي دليل صحيح يدل على أن هذا الشيء ناقض للوضوء، ولا يوجد هذا الدليل هنا،

وأما الآية فسيأتي أن المراد بها الجماع، وليس مطلق الملامسة.

2/ عن عائشة رضي الله عنها قالت:

(كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا) رواه البخاري (382) وفي رواية للنسائي (166) بإسناد صحيح: (حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ مَسَّنِي بِرِجْلِهِ) صححه الألباني في سنن النسائي.

3/ وعنها رضي الله عنها قالت:

فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ رواه مسلم (486)، وفي رواية للبيهقي بإسناد صحيح: (فَجَعَلْتُ أَطْلُبُهُ بِيَدِي فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ سَاجِدٌ..) وهي عند النسائي أيضاً (169).

 

وظاهر هذه الأحاديث بلا شك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مس عائشة رضي الله عنها وهو يصلي، ولو كان مس المرأة ناقضاً للوضوء لبطل الوضوء والصلاة.

 

وأجاب الشافعية عن هذه الأحاديث جواباً ضعيفاً، فقالوا: لعله كان من فوق حائل !! قال الشوكاني: وهذا التأويل فيه تكلُّف ومخالفة للظاهر.

 

4/ وعنها رضي الله عنها:

(أن النبي _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ قَبَّلَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) رواه أبو داود (179) وصححه ابن جرير وابن عبد البر والزيلعي، والألباني في صحيح أبي داود.

 

وضعفه كثيرون منهم سفيان الثوري ويحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل والدارقطني والبيهقي والنووي.

إلا أن الحديث صحيح بلا شك، ورد من عدة طرق عن عائشة _رضي الله عنها_، كل منها لا يخلو من مقال، إلا أنها يشد يعضها بعضا كما بينه الألباني والأرنؤوط في تخريجهما للحديث، ولله الحمد والمنة.

 

فحديث عائشة هذا ظاهر جداً في الدلالة على هذا القول، وإن لم يصح فإنه يغني عنه الأحاديث الصحيحة السابقة، مع التمسك بالأصل وهو صحة الطهارة، وعدم الدليل على نقض الوضوء بمس المرأة.

 

القول الثالث:

التفصيل:

* إن كان المسّ بشهوة، نَقض،

* وإن كان بغير شهوة لم ينقض.

وهذا مذهب المالكية والحنابلة. وهؤلاء حاولوا الجمع بين النصوص، الآية: أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء وهي دالة على نقض الوضوء بمس المرأة عندهم، والأحاديث التي استدل بها من رأى عدم النقض.

وهذا المسلك صحيح لو كانت الآية دالة على نقض الوضوء بمطلق المس – كما ذهبوا إليه – ولكن الصحيح في معنى الآية: أن المراد بها الجماع، كذا فسرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، واختاره ابن جرير، وتفسيره رضي الله عنه مقدم على تفسيره غيره، لدعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له: اللهم فقّهه في الدين وعلمّه التأويل رواه أحمد وأصله في البخاري، وصححه الألباني في تحقيق الطحاوية. وانظر: “محاسن التأويل” للقاسمي (5/172).

 

وقد ورد في القرآن الكريم التعبير عن الجماع بالمس في غير ما آية:

قال تعالى: لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً البقرة/236.

وقال تعالى: وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ البقرة/237.

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا الأحزاب/49.

ثم الآية عند التأمل تدل على هذا القول (أن المراد بالملامسة فيها الجماع)، وبيان ذلك:

” أن الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ المائدة/6، فهذه طهارة بالماء أصليّة صغرى. ثم قال: وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فقوله: فَتَيَمَّمُواْ  هذا البدل، وقوله: أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ هذا بيان سبب الصغرى، قوله: أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء هذا بيان سبب الكبرى.

 

ولو حملناه على المس الذي هو الجسُّ باليد، كانت الآية الكريمة ذكر الله فيها سببين للطهارة الصغرى، وسكت الله عن سبب الطهارة الكبرى، مع أنه قال: وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وهذا خلاف البلاغة القرآنية.

 

وعليه، فتكون الآية دالة على أن المراد بقوله: أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء أي: ” جامعتم ” ليكون الله تعالى ذكر السببين الموجبين للطهارة ” انتهى من الشرح الممتع ” (1/240) وانظر: “بدائع الصنائع” (1/132) “الفقه المالكي” (1/89) “المجموع” (2/21).

 

وأرجح هذه الأقوال هو القول الثاني: أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً سواء كان بشهوة أم بدون شهوة. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (12/222) واختاره من المعاصرين الشيخ ابن باز (10/134) والشيخ ابن عثيمين (1/286) وعلماء اللجنة الدائمة (5/266).

 

الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (1/ 129)

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيُقَالُ إِنَّ حَبِيبَ بْنَ أَبِي ثَابِتٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ شَيْئًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِلْمُلَامَسَةِ نَظَائِرُ فِي الْكِتَابِ مِنْ ذَلِكَ الْمُبَاشَرَةُ وَاللَّمْسُ وَالْمَسُّ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] الْآيَةَ وَقَالَ: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] وَقَالَ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] فَذَكَرَ جَلَّ ذِكْرُهُ الْمَسِيسَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَاللَّمْسَ وَالْمَسَّ وَالْمُلَامَسَةَ وَالْمُمَاسَّةَ. وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ مَسَّهَا بِيَدِهِ أَوْ قَبَّلَهَا بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ وَلَمْ يَخْلُ بِهَا فَطَلَّقَهَا أَنَّ لَهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ إِنْ كَانَ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا وَالْمُتْعَةَ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، فَدَلَّ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ إِنَّمَا أَرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْجِمَاعَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَكَمْنَا اللَّمْسَ بِحُكْمِ الْمَسِّ إِذَا كَانَا فِي الْمَعْنَى وَاحِدًا. [ص:130]

قَالَ أَبُو بَكْرٍ:

وَقَدْ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ حُفِظَ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنْ لَا وُضُوءَ عَلَى الرَّجُلِ إِذَا قَبَّلَ أُمَّهُ أَوِ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ إِكْرَامًا لَهُنَّ وَبِرًّا عِنْدَ قَدُومٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَسَّ بَعْضُ بَدَنِهِ بَعْضَ بَدَنِهَا عِنْدَ مُنَاوَلَةِ شَيْءٍ إِنْ نَاوَلَهَا إِلَّا مَا ذُكِرَ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ بَعْضَ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَكَى عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ:

* أَحَدُهُمَا: إِيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْهُ،

* وَالْآخَرُ: كَقَوْلِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ أَجِدْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كُتُبِهِ الْمِصْرِيَّةِ الَّتِي قَرَأْنَاهَا عَلَى الرَّبِيعِ، وَلَسْتُ أَدْرِي أَيَثْبُتُ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَمْ لَا، لِأَنَّ الَّذِي حَكَاهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ،

وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ لَكَانَ قَوْلُهُ الَّذِي يُوَافِقُ فِيهِ الْمَدَنِيَّ وَالْكُوفِيَّ وَسَائِرَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْلَى بِهِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ." اهـ

 

تخريج الحديث:

 

سنن أبي داود (1/ 46) (رقم: 179)، سنن الترمذي ت شاكر (1/ 133) (رقم: 86)، سنن ابن ماجه (1/ 168) (رقم: 502)، مصنف ابن أبي شيبة (1/ 48) (رقم: 485)، مسند إسحاق بن راهويه (2/ 99) (رقم: 566)، مسند أحمد - عالم الكتب (6/ 210) (رقم: 25766)، والأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (1/ 128) (رقم: 15)، سنن الدارقطني (1/ 251) (رقم: 495)، السنن الكبرى للبيهقي (1/ 200) (رقم: 611)،  وفي معرفة السنن والآثار (1/ 376) (رقم: 970)، شرح السنة للبغوي (1/ 345) (رقم: 168) عن حبيب عن عروة عن عائشة _رضي الله عنها_.

 

والحديث صحيح بشواهد: صححه الأرنؤوط _رحمه الله_ في "تخريج مسند أحمد" – ط. الرسالة (42/ 497) (رقم: 25766)

 

وصححه – أيضا – الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 105) (رقم: 323)

 

وقال الألباني في "صحيح أبي داود" - الأم (1/ 324) (رقم: 172):

وبالجملة؛ فهذا الحديث صحيح لا شك فيه؛ ولو لم يكن له من الأسانيد إلا

هذا لكفى حجة؛ فكيف وله طرق أخرى كما سبق؟! وله طرق أخرى وشواهد؛

فراجعها في "نصب الراية"." اهـ

 

وقال الإثيوبي _رحمه الله_ في "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" (4/ 32):

"حديث عائشة رضي الله عنها هذا حديث صحيح." اهـ

 

من فوائد الحديث:

 

وقال الشيخ الإثيوبي _رحمه الله_ في "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" (4/ 33):

"في فوائده:

يستفاد من الحديث:

* عدم انتقاض الوضوء بلمس المرأة،

* وفيه ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -من كريم الأخلاق، حيث إنه كان يلاطف أزواجه، ويعاشرهن بالمعروف." اهـ

 

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (4/ 46):

وقد ذكر الإمام النووي رحمه الله ما احتج به أصحاب الأقوال الباقية من الأدلة في المجموع ج 2 ص 33.

وتركت ذكرها هنا لعدم جدواها، لأنها محجوجة بالأحاديث الدالة على عدم النقض مطلقا، فالراجح المعول عليه هو القول الأول وهو عدم النقض. والله أعلم.

 

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (1/ 254_255):

"المؤلف رحمه الله أتى بهذا الحديث ليسدل به على أن مس المرأة وتقبيل المرأة لا ينقض الوضوء، والحقيقة أنه لا حاجة لأن تأتي بدليل على ذلك؛ لأن الأصل عدم النقض، فلا حاجة إلى أن نأتي بدليل على أنه لا ينقض إذ إن من ادعى أن مس المرأة لشهوة، أو لتقبيل أو غير ذلك ينقض الوضوء فعليه الدليل؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان،

وهذا القول - أعني: كون مس المرأة لشهوة لا ينقض الوضوء- هو القول الراجح الذي لا تدل الأدلة على غيره،

وقال بعض العلماء: إن مس المرأة مطلقا ينقض الوضوء، سواء كان لشهوة أو لغير شهوة، وتوسط بعض العلماء فقال: إن كان لشهوة نقض الوضوء، وإن كان لغير شهوة لم ينقض الوضوء،

وأظن أن هناك قولا بأنه إن مس من تحل له فإنه لا ينتقض وضوؤه، وإن مس من تحرم عليه فإنه ينتقض وضوؤه، ولعل هذا القول راعى قائله أن مس من لم تحمل له محرم فينبغي أن يتوضأ؛ لأن الوضوء إذا كان كما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم فإن الإنسان يغفر له ما تقدم من ذنبه.

فإذا قال قائل: ما دليل من قال: لا ينقض الوضوء؟

فالجواب: أن دليله عدم الدليل؛ لأن الأصل بقاء الوضوء حيث تم على وجه شرعي، فلا يمكن أن ينقض إلا بدليل شرعي،

وحينئذ يكون دليل هؤلاء هو الأصل أي البقاء على الأصل، وعدم الدليل على النقل،

أما دليل من قال: إنه ينقض الوضوء مطلقا فاستدلوا بقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة: 6].

وفي قراءة: {أو لمستم النساء}، والأصل أن اللمس يكون باليد والآية ليس فيها قيد أن يكون بشهوة فتكون دالة على أن مس المرأة مطلقا ينقض الوضوء،

وأما من قال: إنه لا ينقض إلا بشهوة فاستدل بالآية إلا أنه قال: إن حمل الآية على معنى مناسب للنقض أولى من الإطلاق، والمعنى المناسب للنقض هو الشهوة؛ لأن مسها بشهوة مظنة حصول الحدث، إما إنزال أو إمذاء، فعلق الحكم بما يكون فيه مظنة الحدث وهو الشهوة، ولكن القول الصحيح كما أقوله الآن: إنه لا ينقض الوضوء مطلقا، ولو بشهوة ما لم يحدث بشيء يخرج منه،

وأما الجواب عن الآية الكريمة: فإن الملامسة فيها يراد بها الجماع بلا شك؛ وبهذا فسرها عبد الله بن عباس رضي الله عنه ترجمان القرآن الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه التأويل ويفقهه في الدين.

ويدل على أن هذا___هو المتعين التقسيم الذي في الآية، فالله عز وجل ذكر طهارتين موجبين للطهارة، فالطهارتان: المائية والترابية، والموجبان للطهارة: الحدث الأصغر، والحدث الأكبر.

{يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} هذه طهارة مائية في الحدث الأصغر {وإن كنتم جنبا فاطهروا} هذه طهارة مائية في الحدث الأكبر {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة: 6].

قال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} {فتيمموا}، لكن قوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط}، "أو" هنا بمعنى "الواو" يعني: وجاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء، جاء أحد منكم من الغائط هذا موجب للطهارة الصغرى، {أو لمستم النساء} هذا موجب للطهارة الكبرى، لو قلنا: "لامستم النساء"، يعني: انتقض الوضوء بمس المرأة لكان الذي ذكر في الآية موجبا واحدا مكررا، وحذف منها موجب آخر لابد من ذكره حتى تكون الآية دالة على الحدث الأصغر والأكبر، ثم نقول: والدليل الآخر أن الله تعالى يعبر عن الجماع بالمس كقوله - تبارك وتعالى-: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة: 236].

وقوله: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة: 237]. أي: تجامعوهن؛ فتبين بهذا أن المراد بالملامسة الجماع، ذكرنا أن قوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} بمعنى: وجاء فهل هناك شاهد بأن "أو" تأتي بمعنى "الواو"؟

Komentar

Postingan populer dari blog ini

فضائل عشر ذي الحجة