شرح الحديث 111 من رياض الصالحين

 

[111] السابع عشر:

عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أَبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر جندب بن جُنادة _رضي الله عنه_:

عن النَّبيّ _صلى الله عليه وسلم_ فيما يروي عن اللهِ _تَبَاركَ وتعالى_:

أنَّهُ قَالَ:

«يَا عِبَادي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُلْمَ عَلَى نَفْسي وَجَعَلْتُهُ بيْنَكم مُحَرَّماً فَلا تَظَالَمُوا.

يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ ضَالّ إلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاستَهدُوني أهْدِكُمْ.

يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلا مَنْ أطْعَمْتُهُ فَاستَطعِمُوني أُطْعِمْكُمْ.

يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلا مَنْ كَسَوْتُهُ فاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ.

يَا عِبَادي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيلِ وَالنَّهارِ وَأَنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لَكُمْ.

يَا عِبَادي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفعِي فَتَنْفَعُوني. يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ [1]كَانُوا عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذلِكَ في مُلكي شيئاً.

يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذلِكَ من مُلكي شيئاً.

يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَألُوني فَأعْطَيتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْألَتَهُ مَا نَقَصَ ذلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلا كما يَنْقصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ.

يَا عِبَادي، إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيراً فَلْيَحْمَدِ الله وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ» .

قَالَ سعيد : كَانَ أَبُو إدريس إِذَا حَدَّثَ بهذا الحديث جَثا عَلَى رُكبتيه." رواه مسلم.

 

وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل _رحمه الله_، قَالَ: لَيْسَ لأهل الشام حديثٌ أشرفُ من هَذَا الحديث.

 

السابع عشر:

عن سعيد بن عبد العزيز،

 

سعيد بن عبد العزيز بن أبى يحيى التنوخى، أبو محمد الدمشقي (فقيه أهل الشام و مفتيهم بدمشق)، من كبار أتباع التابعين، توفي سنة 167 هـ، وهو ثقة. روى له:  بخ م د ت س ق

 

عن ربيعة بن يزيد،

 

ربيعة بن يزيد الدمشقى، أبو شعيب الإيادى ، القصير، من التابعين توفي سنة 121 أو 123 هـ، وهو ثقة. روى له: خ م د ت س ق

 

عن أَبي إدريس الخولاني،

 

عائذ الله بن عبد الله بن عمرو، أبو إدريس الخولاني، العَوْذِيُّ[2]، من كبار التابعين، توفي سنة 80 هـ، روى له: خ م د ت س ق

 

عن أبي ذر جندب بن جُنادة _رضي الله عنه_ :

 

ترجمة أبي ذر الغفاري _رضي الله عنه_ :

 

وفي "تاريخ الإسلام" – ت. بشار (2/ 218) للذهبي:

"أَبُو ذَرّ الغِفَاريّ، اسمه جُنْدُب بْن جُنَادَةَ على الصَّحيح (وقيل: جُنْدُب بْن سَكَن، وقيل: بُرَيْرُ بْن عبد الله، أو ابن جُنَادة). [المتوفى: 32 ه] :

أحد السّابقين الأوّلين، يقال: كان خامسًا في الإسلام، ثمّ انصرف إلى بلاد قومه، وأقام بها بأمر النّبيّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_،

ثمّ لمّا هاجر النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هاجر أَبُو ذر إلى المدينة.

وروي أنه كان آدم جسيمًا، كثّ اللّحْية.___

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَمْ يَشْهَدْ أَبُو ذَرٍّ بَدْرًا، وَإِنَّمَا أَلْحَقَهُ عُمَرُ مَعَ الْقُرَّاءِ، وَكَانَ يُوَازِي ابْنَ مَسْعُودٍ فِي الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ، وَكَانَ زَاهِدًا أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ." اهـ

 

وفي "مشاهير علماء الأمصار" (ص: 31) لابن حبان:

"وكان أبو ذر ممن هاجر إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ من بنى غفار إلى مكة، واختفى في استار الكعبة أياما كثيرة لا يخرج منها، الا لحاجة الانسان من غير أن يطعم أو يشرب شيئا، إلا ماءَ زمزم حتى رأى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بالليل، فآمن به. وهو أول من حياه بتحية الاسلام، ثم هاجر إلى المدينة، وشهد جوامع المشاهد. ومات بالربذة في خلافة عثمان بن عفان سنة ثنتين وثلاثين (32 هـ)." اهـ

 

عن النَّبيّ _صلى الله عليه وسلم_ فيما يروي عن اللهِ _تَبَاركَ وتعالى_ أنَّهُ قَالَ:

«يَا عِبَادي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُلْمَ عَلَى نَفْسي،

 

وفي "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (20/ 157_158) لابن عبد البر _رحمه الله_:

"وَأَصْلُ الظُّلْمِ: وَضْعُ الشَّيْءِ غَيْرَ مَوْضِعِهِ، وَأَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ. وَمَنْ أَضَرَّ___بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَوْ بِمَنْ لَهُ ذِمَّةٌ، فَقَدْ ظَلَمَهُ، وَالظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا ثَبَتَ في الأثر الصحيح." اهـ

 

قال النوويّ في "شرح صحيح مسلم" (16/ 32):

"معناه: تقدستُ عنه، وتعاليتُ. والظلم مستحيل في حق الله سبحانه وتعالى، كيف يجاوز _سبحانه_ حدًّا، وليس

فوقه من يطيعه؟ وكيف يتصرف في غير مُلك، والعالم كله في مُلكه وسلطانه؟

وأصل التحريم في اللغة المنع، فسمّي تقدّسه عن الظلم تحريمًا؛ لمشابهته للممنوع في أصل عدم الشيء." اهـ

 

وقال القرطبيّ _رَحِمَهُ اللهُ_ في "المفهم" (6/ 552):

"قوله _تعالى_: (إني حرمت الظلم على نفسي)؛

أي: لا ينبغي لي، ولا يجوز عليّ، كما قال _سبحانه وتعالى_: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92]، وقد اتفق العقلاء على أن الظلم على الله تعالى مُحَالٌ." اهـ

 

فتح القوي المتين في شرح الأربعين" (ص: 83) للعباد:

"الظلم: وضعُ الشيء في غيرِ موضعه، وقد حرَّمه الله على نفسه ومنَعها منه، مع قدرته عليه وعلى كلِّ شيء، فلا يقع منه الظلم أبداً؛ لكمال عدله سبحانه وتعالى،

قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]، وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس: 44]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]،

أي: لا يخاف نقصاً من حسناته ولا زيادة في سيّئاته، أو تحميله سيِّئات غيره، ونفيُ الظلم عن الله عزَّ وجلَّ في هذه الآيات متضمِّنٌ إثباتَ كمال عدله _سبحانه_،

قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/36): "وكونُه خَلَقَ أفعالَ العباد، وفيها الظلم، لا يقتضي وصفه بالظلم _سبحانه وتعالى_، كما أنَّه لا يُوصف بسائر القبائح التي يفعلها العباد، وهي خَلْقُهُ وتقدِيرُه، فإنَّه لا يُوصَف إلاَّ بأفعاله، لا يوصف بأفعال عباده، فإنَّ أفعالَ عباده مخلوقاته ومفعولاته، وهو لا يوصف بشيء منها، إنَّما يوصف بما قام به مِن صفاته وأفعاله، والله أعلم".

وقد حرَّم الله تعالى على عباده الظلم، فلا يظلمُ أحد نفسَه ولا يظلم غيرَه.

 

وَجَعَلْتُهُ بيْنَكم مُحَرَّماً فَلا تَظَالَمُوا

 

وفي "البحر المحيط الثجاج" (40/ 484) للإثيوبي:

"أصله: تتظالموا، حُذفت منه إحدى التاءين تخفيفًا، كما في قوله _تعالى_: {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]." اهـ

 

يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ ضَالّ إلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاستَهدُوني أهْدِكُمْ.

 

البحر المحيط الثجاج (40/ 484):

"(يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ)؛ أي: عن كلّ كمال وسعادة دينيّة، ودنيويّة." اهـ

 

قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/39 40):

"قد ظنَّ بعضُهم أنَّه معارض لحديث عياض بن حمار عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: خلقت عبادي حُنفاء وفي رواية: مسلمين فاجتالتهم الشياطين) ، وليس كذلك، فإنَّ الله خلق بني آدم وفطَرَهم على قبول الإسلام والميل إليه دون غيره، والتهيؤ لذلك والاستعداد له بالقوَّة، لكن لا بدَّ للعبد من تعليم الإسلام بالفعل، فإنَّه قبل التعليم جاهلٌ لا يعلم شيئاً، كما قال عزَّ وجلَّ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]،

وقال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]،

والمراد وَجَدَك غيرَ عالِم بما علَّمك من الكتاب والحكمة، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]،

فالإنسانُ يُولَد مفطوراً على قبول الحقِّ، فإن هداه الله، سبَّب له مَن يعلِّمه الهدى، فصار مهتدياً بالفعل، بعد أن كان مهتدياً بالقوة، وإن خذله الله قيَّض له مَن يعلِّمه ما يغيِّر فطرتَه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كلُّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه) [خ م]

وفي هذا الحديث الأمر بسؤال الله الهداية، وهي تشمل هداية الدلالة والإرشاد، وهداية التوفيق والتسديد، وحاجة العباد إلى الهداية أشدُّ من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وقد جاء في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، فهم يسألون الله عزَّ وجلَّ أن يُثبِّتَهم على الهداية الحاصلة، وأن يزيدهم هدى على هدى." اهـ

 

وقال القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ_ في "المفهم" (6/ 553 – 555):

قوله: (كلّكم ضالّ إلا من هديته)

قيل في معناه قولان:

أحدهما: أنهم لو تُركوا مع العادات، وما تقتضيه الطباع من الميل إلى الراحات، وإهمال النظر المؤدِّي إلى المعرفة لغلبت عليهم العادات، والطباع، فضلّوا عن الحقّ، فهذا هو الضلال المعنيّ.، لكن من أراد الله تعالى توفيقه، ألهمه إلى إعمال الفكر المؤدّي إلى معرفة الله _تعالى_، ومعرفة الرسول؛ وأعانه على الوصول إلى ذلك، وعلى العمل بمقتضاه،

وهذا هو الهُدَى الذي أمرنا الله تعالى بسؤاله.

وثانيهما: أن الضلال ها هنا يُعنَى به الحال التي كانوا عليها قبل إرسال الرُّسل من الشرك، والكفر، والجهالات، وغير ذلك، كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213]؛

أي: على حالة واحدة من الضلال والجهل، فأرسل الله الرسل؛ ليزيلوا عنهم ما كانوا عليه من الضلال، وُيبيّنوا لهم مرادَ الحقّ منهم في حالهم، ومآل أمرهم،

فمن نبّهه الحقّ سبحانه وتعالى، وبصّره، وأعانه فهو المهتدي، ومن لم يفعل الله به ذلك بقي على ذلك الضلال.

وعلى كل واحد من التأويلين، فلا معارضة بين قوله تعالى: (كلكم ضال، إلا من هديته)، وبين قوله: (كلّ مولود يولد على الفطرة)؛ لأنَّ هذا الضلال المقصود في هذا الحديث هو الطارئُ على الفطرة الأولى المغيِّرُ لها، الذي بيّنه

النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ بالتمثيل في بقية الخبر، حيث قال: (كما تُنتج البهيمة بهيمة جمعاء) [خ م]، وبقوله: (خلق الله الخلق على معرفته، فاجتالتهم الشياطين) [م].

وهذا الحديث حجَّة لأهل الحقّ على قولهم: إن الهدى والضلال خَلْقه، وفِعله، يختص بما شاء منهما من شاء مِنْ خَلْقه، وأن ذلك لا يقدر عليه، إلا هو، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدّثّر: 31]

وكما قال: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، وكما قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30].

وقد نطق الكتاب بما لا يبقى معه ريب لذي فهم سليم بقوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} [يونس: 25]،

فعمّ الدعوة، وخصّ بالهداية من سبقت له العناية.

وحاصل قوله: "كلكم ضالّ إلا من هديته ... إلخ" التنبيه على فقرنا، وعجزنا عن جلب منافعنا، ودفع مضارّنا بأنفسنا، إلا أن ييسّر الله ذلك لنا، بأن يخلق ذلك لنا، ويعيننا عليه، ويصرف عنا ما يضرّنا، وهو تنبيه على معنى

قوله: "لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم"، ومع ذلك، فقال في آخر الحديث: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه"؛ تنبيهًا على أن عدم

الاستقلال بإيجاد الأعمال، لا يناقض خطاب التكليف بها، إقدامًا عليها، وإحجامًا عنها، فنحن، ما كنا نعلم أنّا لا نستقلّ بأفعالنا نُحِسّ بوجدان الفرق بين الحركة الضرورية، والاختيارية، وتلك التفرقة راجعة إلى تمكّن محسوس، وتأتّ معتادٍ يوجد مع الاختيارية، ويُفقد مع الضرورية، وذلك هو المعبَّر عنه بالكسب، وهو مورد التكليف، فلا تناقض، ولا تعنيف." اهـ

 

يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلا مَنْ أطْعَمْتُهُ فَاستَطعِمُوني أُطْعِمْكُمْ.

 

وفي "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (40/ 490) للإثيوبي _رحمه الله_:

(فَاسْتَطْعِمُونِي)؛ أي: اطلبوا الطعامَ من جنابي، وتيسيرَ القُوْتَ والقوَّةَ مِنْ بَابِيْ." اهـ

 

يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلا مَنْ كَسَوْتُهُ فاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ.

 

وقال الطيبي _رحمه الله_ في "الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1838):

"الإطعام والكسوة لَمّا كانا معبِّرَين عن النفع التّامّ، والبسط في الرزق، وعدمهما عن التقتير والتضيّق، كما قال _تعالى_: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الزمر: 52]

 

فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين للنووي وابن رجب رحمهما الله (ص: 84)

في هاتَين الجملتين: بيانُ شدَّةِ افتقار العباد إلى ربِّهم، وحاجتِهم إليه في تحصيل أرزاقهم وكسوتهم، وأنَّ عليهم أن يسألوه _سبحانه وتعالى طعامهم وكسوتهم_.

 

يَا عِبَادي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيلِ وَالنَّهارِ وَأَنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لَكُمْ.

 

قال النوويّ _رَحِمَهُ اللهُ_ "شرح صحيح مسلم" (16/ 133 – 134):

"الرواية المشهورة: (تُخْطِئُوْنَ) بضم التاء، ورُوي بفتحها، وفتح الطاء.

يقال: خَطِئَ - يَخْطَأ: إذا فَعَل ما يأثم به، فهو خاطئ. ومنه قوله _تعالى_: {اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97]،

ويقال في الإثم أيضًا: أخطأ، فهما صحيحان." اهـ

 

وقال الفيومي _رحمه الله_ في "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" (1/ 174):

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "(خَطِئَ خِطْئًا) مِنْ بَابِ: (عَلِمَ). وَأَخْطَأَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لِمَنْ يُذْنِبُ عَلَى غَيْرِ عَمْدٍ."

وَقَالَ غَيْرُهُ: (خَطِئَ) فِي الدِّينِ. وَ(أَخْطَأَ): فِي كُلِّ شَيْءٍ عَامِدًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ عَامِدٍ.

وَقِيلَ: (خَطِئَ) إذَا تَعَمَّدَ مَا نُهِيَ عَنْهُ، فَهُوَ خَاطِئٌ. وَ(أَخْطَأَ): إذَا أَرَادَ الصَّوَابَ، فَصَارَ إلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَ الصَّوَابِ، وَفَعَلَهُ، قِيلَ: (قَصَدَهُ) أَوْ (تَعَمَّدَهُ). وَالْخِطْءُ: الذَّنْبُ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ. وَ(خَطَّأْتُهُ) بِالتَّثْقِيلِ: قُلْتُ لَهُ "أَخْطَأْت أَوْ جَعَلْتُهُ مُخْطِئًا."

وَ(أَخْطَأَهُ الْحَقُّ) إذَا بَعُدَ عَنْهُ. وَ(أَخْطَأَهُ___السَّهْمُ): تَجَاوَزَهُ، وَلَمْ يُصِبْهُ. وَتَخْفِيفُ الرُّبَاعِيِّ جَائِزٌ." اهـ

 

وفي "فتح القوي المتين في شرح الأربعين" (ص: 85) للعباد:

"أوجب الله عزَّ وجلَّ على العباد امتثال الأوامر واجتناب المنهيات. والعباد يحصل منهم التقصير في أداء ما وجب عليهم، والوقوع في شيء مِمَّا نُهوا عنه. وطريق السلامة من ذلك: رجوعهم إلى الله، وتوبتُهم من ذنوبهم، وسؤالُ الله عزَّ وجلَّ أن يغفرها لهم،

وفي الحديث: "كلُّ بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون" حديث حسن، أخرجه ابن ماجه (4251) وغيرُه." اهـ

 

يَا عِبَادي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفعِي فَتَنْفَعُوني.

 

قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/43):

"يعني: أنَّ العبادَ لا يقدرون أن يوصلوا نفعاً ولا ضرًّا؛ فإنَّ الله تعالى في نفسه غنيٌّ حميد، لا حاجة له بطاعات العباد، ولا يعود نفعها إليه، وإنَّما هم ينتفعون بها، ولا يتضرَّر بمعاصيهم، وإنَّما هم يتضرَّرون بها، قال الله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} ، وقال: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} ".

 

يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذلِكَ في مُلكي شيئاً.

 

وفي "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (40/ 492):

"(كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ)؛ أي: لو كنتم على غاية التقوى، بأن تكونوا جميعًا على تقوى

أتقى قلب رجل واحد منكم، قاله القاري." اهـ

 

 

يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذلِكَ من مُلكي شيئاً.

 

وفي "فتح القوي المتين في شرح الأربعين" (ص: 85) للعباد:

"في هاتين الجملتين: بيان كمالِ ملك الله عزَّ وجلَّ، وكمالِ غناه عن خلقه، وأنَّ العبادَ لو كانوا كلُّهم على أتقى ما يكون أو أفجر ما يكون، لَم يزد ذلك في ملكه شيئاً، ولم ينقص شيئاً، وأنَّ تقوى كلّ إنسان إنَّما تكون نافعةً لذلك المتَّقي، وفجورَ كلّ فاجر إنَّما يكون ضررُه عليه." اهـ

 

يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَألُوني فَأعْطَيتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْألَتَهُ مَا نَقَصَ ذلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلا كما يَنْقصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ.

 

وفي "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" (2/ 70) للبيضاوي: "قيد السؤال بالاجتماع, لأن تزاحم السؤال وازدحامهم مما يدهش المسؤول عنه ويبهته، ويعسر عليه إنجاح مآربهم، والإسعاف إلى مطالبهم." اهـ

 

وفي "فتح القوي المتين في شرح الأربعين" (ص: 86) للعباد:

"هذا يدلُّ على كمال غنى الله سبحانه وتعالى وافتقار عباده إليه، وأنَّ الجنَّ والإنسَ لو اجتمعوا أوَّلُهم وآخرُهم، وسأل كلٌّ ما يريد، وحقَّق الله لهم ذلك، لم ينقص ذلك مِمَّا عند الله، إلاَّ كما ينقص المِخيَط إذا أُدخل البحر. والمعنى: أنَّه لا يحصل نقصٌ أصلاً؛ لأنَّ ما يعلق بالمخيَط، وهو الإبرة من الماء لا يُعتبَر شيئاً، لا في الوزن ولا في رأي العين." اهـ

 

يَا عِبَادي، إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيراً فَلْيَحْمَدِ الله وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ» .

 

وفي "البحر المحيط الثجاج" (40/ 494):

"(ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا) التوفية إعطاء حقّ كلّ واحد على التمام، قال البيضاويّ؛ أي: هي جزاء أعمالكم، فأحفظها لكم، ثم أؤدّيها إليكم تامّة وافيةً، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرّ." اهـ

 

وفي "فتح القوي المتين في شرح الأربعين" (ص: 86) للعباد:

"الناسُ في هذه الحياة مكلَّفون بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وكلُّ ما يحصل منهم من عمل خيراً أو شرًّا فهو مُحصًى عليهم، وسيجدُ كلٌّ أمامه ما قدَّم، إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر،

قال الله عزَّ وجلَّ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8]،

فمَن قدَّم خيراً، وجد ثوابه أمامه، والثوابُ من فضل الله على العبد. وفعل الخير في الدنيا هو من توفيق الله عزَّ وجلَّ للعبد. فله الفضل أوَّلاً وآخراً،

ومَن وَجَدَ أمامه غير الخير، فإنَّما أُتي العبد من قبل نفسه ومعصيته لربِّه وجنايته على نفسه، فإذا وجد أمامه العذاب فلا يلومنَّ إلاَّ نفسه." اهـ

 

قَالَ سعيد: كَانَ أَبُو إدريس إِذَا حَدَّثَ بهذا الحديث جَثا عَلَى رُكبتيه." رواه مسلم.

 

وفي "البحر المحيط الثجاج" (40/ 495):

"وقوله: (قَالَ سَعِيدٌ) هو سعيد بن عبد العزيز الراوي عن ربيعة بن يزيد، والظاهر أنه أخذه عن ربيعة؛ لأنه لم يُدرك أبا إدريس، فإنه مات سنة ثمانين من الهجرة، ووُلد سعيد سنة تسعين من الهجرة، على ما نُقل عن أبي مسهر، فيكون ولادته بعد عشر سنين من موت أبي إدريس، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

 

وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل _رحمه الله_، قَالَ: )لَيْسَ لأهل الشام حديث أشرف من هَذَا الحديث(.

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه مسلم في "صحيحه" (4/ 1994/ 55) (رقم: 2577)، الترمذي في "سننه" – ت. شاكر (4/ 656) (رقم: 2495)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 1422) (رقم: 4257)

 

من فوائد الحديث :

 

وقال الشيخ عبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمد العباد البدر _حفظه الله_ في "فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين للنووي وابن رجب رحمهما الله" (ص: 86_87):

"مِمَّا يُستفاد من الحديث:

1 أنَّ من الأحاديث ما يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربِّه يشتمل على ضمائر التكلُّم ترجع إلى الله، ويُقال له الحديث القدسي.___

2 تحريم الله الظلم على نفسه وتنزيهه عنه، مع إثبات كمال ضدِّه وهو العدل.

3 تحريم الله الظلم على العباد لأنفسهم ولغيرهم.

4 شدَّة حاجة العباد إلى سؤال ربِّهم الهُدى والطعام والكسوة وغير ذلك من أمور دينهم ودنياهم.

5 أنَّ الله يحبُّ من عباده أن يسألوه كلَّ ما يحتاجون إليه من أمور الدنيا والدِّين.

6 كمال ملك الله عزَّ وجلَّ، وأنَّ العبادَ لا يبلغون نفعه وضرَّه، بل يعود نفعُهم وضرُّهم إلى أنفسهم.

7 أنَّ العباد لا يسلمون من الخطأ، وأنَّ عليهم التوبة من ذلك والاستغفار.

8 أنَّ التقوى والفجور يكونان في القلوب؛ لقوله: "على أتقى قلب رجل"، و"على أفجر قلب رجل".

9 أنَّ ملكَ الله لا تزيده طاعة المطيعين، ولا تنقصه معاصي العاصين.

10 كمال غنى الله وكمال ملكه، وأنَّه لو أعطى عبادَه أوَّلَهم وآخرَهم كلَّ ما سألوه لم ينقص من ملك الله عزَّ وجلَّ وخزائنه شيئاً.

11 حثُّ العباد على الطاعة، وتحذيرهم من المعصية، وأنَّ كلَّ ذلك محصى عليهم.

12 أنَّ من وفَّقه الله لطريق الخير ظفر بسعادة الدنيا والآخرة، والفضل لله للتوفيق لسلوك سبيل الهُدى، ولحصول الثواب على ذلك.

13 أنَّ مَن فرَّط وأساء العمل ظفر بالخسران، وندم حيث لا ينفع النَّدم.

 

وقال إسماعيل بن محمد بن ماحي السعدي الأنصاري (المتوفى: 1417هـ) _رحمه الله_ في "التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثا النووية" (ص: 54_55):

"يستفاد منه:

1 - تحريم الظلم، وذلك متفق عليه في كل ملة، لاتفاق سائر الملل على مراعاة حفظ النفس والأنساب والأعراض والعقول والأموال، والظلم يقع في هذه أو بعضها، وأعظم الظلم الشرك، قال تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم.

2 - وجوب الإقبال على المولى في جميع ما ينزل بالإنسان لافتقار سائر الخلق إليه وعجزهم عن جلب منافعهم ودفع مضارهم إلا بتيسيره. فيجب إفراده بأنواع العبادة: من السؤال والتضرع والاستعانة وغيرها، فإنه المتفرد بخلق العبد وبهدايته وبرزقه، وإحيائه وإماتته، ومغفرة ذنوبه.___

3 - كمال فعله تعالى لتنزيهه عن الظلم وكمال ملكه فلا يزاد بالطاعة ولا ينقص بالمعاصي. وكما غناه فإن خزائنه لا تنفد ولا تنقص بالعطاء. وكمال إحسانه إلى عباده فإنه يجب أن يسألوه جميع مصالحهم الدينية والدنيوية كما يسألونه الهداية والمغفرة، فله تعالى الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله.

4 - أن الأصل في التقوى والفجور هو القلوب، فإذا بر القلب وأتقى برت الجوارح، وإذا فجر القلب فجرت الجوارح.

5 - أن الخير كله من فضل الله تعالى على عباده من غير استحقاق. والشر كله من عند ابن آدم من إتباع هوى نفسه." اهـ

 

شرح الأربعين النووية للعثيمين (ص: 243)

من فوائد هذا الحديث:

 

1/ رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عزّ وجل، وهذا أعلى مراتب السند، لأن غاية السند: إما الرب عزّ وجل وهذا في الأحاديث القدسية، وإما النبي صلى الله عليه وسلم وهذا في الأحاديث المرفوعة، وإما عن الصحابة وهذا في الأحاديث الموقوفة، وإما عن التابعين ومن بعدهم وهذا في الأحاديث المقطوعة.

فإذا روينا أثراً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنسميه موقوفاً لأنه صحابي، وإذا روينا أثراً عن مجاهد - رحمه الله - فنسميه مقطوعاً لأنه تابعي.

2/ إن أحسن ما يقال في الحديث القدسي: إنه ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عزّ وجل، ونقتصر علىهذا ولانبحث هل هو من قول الله لفظاً ومعنى، أو من قول الله معنى ومن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذا فيه نوع من التكلّف وقد نهينا عن التكلّف، ونهينا عن التنطّع وعن التعمّق.

3/ إثبات القول لله عزّ وجل وهذا كثير في القرآن الكريم، وهو دليل على ما ذهب إليه أهل السنة من أن كلام الله يكون بصوت، إذ لا يطلق القول إلا على المسموع...

4/ أن الله تعالى قادر على الظلم لكنه حرّمه على نفسه لكمال عدله، وجه ذلك: أنه لو كان غير قادر عليه لم يثن على نفسه بتحريم الظلم لأنه غير قادر.

5/ أن من صفات الله ماهو منفي مثل الظلم، ولكن اعلم أنه لايوجد في صفات الله عزّ وجل نفي إلا لثبوت ضده، فنفي الظلم يعني ثبوت العدل الكامل الذي لانقص فيه.____

6/ أن لله عزّ وجل أن يحرم على نفسه ما شاء لأن الحكم إليه، فنحن لا نستطيع أن نحرم على الله لكن الله يحرم على نفسه ما شاء، كما أنه يوجب علىنفسه ما شاء. اقرأ قول الله تعالى: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (الأنعام: الآية12) وكتب عزّ وجل عنده: "إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي"___

7/ إطلاق النفس على الذات لقوله: "عَلَى نَفْسِيْ" والمراد بنفسه ذاته عزّ وجل، كما قال تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) (آل عمران: الآية28) وليس النفس صفة كسائر الصفات: كالسمع والعلم والقدرة، فالنفس يعني الذات، فقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) يعني ذاته، وقوله هنا: "عَلَى نَفْسِي" يعني على ذاتي، وكلمة النفس أصوب من كلمة ذات لكن شاع بين الناس إطلاق الذات دون إطلاق النفس، ولكن الأصل العربي: النفس.

8/ أن الله تعالى حرّم الظلم بيننا فقال: "وَجَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمَاً" وهذا يشمل ظلم___الإنسان نفسه وظلم غيره، لكن هو في المعنى الثاني أظهر لقوله: "فَلا تَظَالَمُوا" أي فلا يظلم بعضكم بعضاً، وإلا فمن المعلوم أن الظلم يكون للنفس ويكون للغير، قال الله تعالى: (وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) (هود: الآية101)___

9/ أن الإنسان ضال إلا من هدى الله، ويتفرع على هذه الفائدة: أن تسأل الله الهداية دائماً حتى لا تضلّ.

فإن قال قائل: هنا إشكال وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن كل مولود يولد على الفطرة، وهنا يقول: كلكم ضال؟

فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ" لكن قال: "أَبَوَاه يُهَوِّدَانِهِ، أَو يُنَصِّرَانِهِ، أَو يُمَجِّسَانِهِ" وهنا يخاطبُ عزّ وجل المكلّفين الذين قد تكون تغيرت فطرتهم إلى ما كان عليه آباؤهم، فهم ضلاَّلٌ حتى يهديهم الله عزّ وجل.

10/ الحثّ على طلب العلم، لقوله: "كُلُّكُم ضَالٌّ" ولاشكّ" أن طلب العلم من أفضل الأعمال، بل قد قال الإمام أحمد - رحمه الله -: العلم لايعدله شيء لمن صحت نيته لاسيما في هذا الزمن الذي كثر فيه الجهل، وكثر فيه الظن وأفتى من لايستحق أن يفتي، فطلب العلم في هذا الزمان متأكد.___

11/ أن لاتطلب الهداية إلا من الله لقوله: "فَاستَهدُونِي أَهدِكُم".

ولكن الهداية نوعان: هداية التوفيق وهذه لاتطلب إلا من الله، إذ لايستطيع أحد أن يهديك هداية التوفيق إلا الله عزّ وجل. وهداية الدلالة: وهذه تصحّ أن تطلبها من غير الله ممن عنده علم بأن تقول: يافلان أفتني في كذا، أي اهدني إلى الحق فيه.

هل نقول إن قوله: "فَاستَهدُونِي" يدل على أن المراد هداية التوفيق، أو نقول إنه يشمل الهدايتين، وهداية الدلالة تكون باتباع الوسائل التي جعلها الله عزّ وجل سبباً للعلم؟

الجواب: الثاني، أي العموم.

12/ أن العباد في الأصل جياع، لأنهم لايملكون أن يخلقوا ما تحيى به الأجساد كما في سورة الواقعة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ* إِنَّا لَمُغْرَمُونَ*بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ*أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُون* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) (الواقعة: 63-71) فالأصل أن الإنسان قاصر جائع إلا من أطعمه الله، ويتفرع على هذه الفائدة قوله: "فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ" أي اسألوني الطعام أطعمكم، وعليه فلا تلجأ في طلب الرزق إلا من الله عزّ وجل.

13/ وقوله: "اسْتَطْعِمُونِي" يشمل سؤال الله عزّ وجل الطعام، ويشمل السعي في الرزق وابتغاء فضل الله عزّ وجل كما قال تعالى في سورة الجمعة: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 10)

وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15) وإلا فمن المعلوم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا درهماً ولا خبزاً، بل لابد من السعي.____

14/ أن الأصل في الإنسان العري حتى يكسوه الله عزّ وجل، وسبق شرح أنه في الأصل العري الحسي، وقد يراد به المعنوي أيضاً، وذلك لأن الإنسان خرج من بطن أمه عارياً ولا يكسوه إلا الله عزّ وجل بما قدره من الأسباب.

15/ كرم الله عزّ وجل حيث يعرض على عباده بيان حالهم وافتقارهم إليه، ثم يدعوهم إلى دعائه عزّ وجل حتى يزيل عنهم ما فيهم من الفقر والحاجة.

16/ أن بني آدم خطاء، أي كثير الخطأ، كما قال الله عزّ وجل: (وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب: الآية72)

17/ أنه مهما كثرت الذنوب والخطايا فإن الله تعالى يغفرها، لكن يحتاج أن يستغفر الإنسان، ولهذا قال: "فَاسْتَغْفِرُوْنِيْ أَغْفِرْ لَكُمْ" وقد سبق في الشرح أن الاستغفار يكون على وجهين:

الوجه الأول: طلب المغفرة باللفظ بأن يقول: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله.

الوجه الثاني: طلب المغفرة بالأعمال الصالحة التي تكون سبباً لذلك كقوله: "مَنْ قَالَ: سُبحَانَ اَلله وَبِحَمْدِهِ في اليَوم مائَةَ مَرةَ غُفِرَت خَطَايَاه ُوَإِنْ كَانَت مِثْلُ زَبَدِ البَحْرِ"

18/ أن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً، وهذا لمن استغفر، لقوله عزّ وجل "فَاسْتَغْفِرُونِيْ" أما من لم يستغفر فإن الصغائر تكون مكفرة بالأعمال الصالحة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلَواتِ الخَمسُ وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ وَرَمَضَان إِلى رَمَضَان مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ" (2) ، وأما الكبائر فلابد لها من توبة خاصة، فلا تكفرها الأعمال الصالحة، أما الكفر فلابد له من توبة بالإجماع.

فالذنوب على ثلاثة أقسام:___


قسم لابد فيه من توبة بالإجماع وهو الكفر.

والثاني: ما تكفره الأعمال الصالحة وهو الصغائر.

والثالث: ما لابد له من توبة- على خلاف في ذلك- لكن الجمهور يقولون: إن الكبائر لابد لها من توبة." اهـ

 

شرح النووي على مسلم (16/ 132) :

"وَالظُّلْمُ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَيْفَ يُجَاوِزُ سُبْحَانَهُ حَدًّا وَلَيْسَ فَوْقَهُ مَنْ يُطِيعُهُ وَكَيْفَ يَتَصَرَّفُ فِي غَيْرِ مُلْكٍ وَالْعَالَمُ كُلُّهُ فِي مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ." اهـ

 

شرح النووي على مسلم (16/ 132_133) :

"قَوْلُهُ _تَعَالَى_ (كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ)

وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْمُهْتَدِيَ هُوَ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وبهدي اللَّهُ اهْتَدَى وَبِإِرَادَةِ اللَّهِ___تَعَالَى ذَلِكَ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا أَرَادَ هِدَايَةَ بَعْضِ عِبَادِهِ وَهُمُ الْمُهْتَدُونَ وَلَمْ يُرِدْ هِدَايَةَ الْآخَرِينَ وَلَوْ أَرَادَهَا لَاهْتَدَوْا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمُ الْفَاسِدِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرَادَ هداية الجميع جل الله أن يريد مالا يقع أو يقع مالا يُرِيدُ." اهـ

 

شرح النووي على مسلم (16/ 133)

قَوْلُهُ تَعَالَى (مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ)

مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُهُ نَقْصٌ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ النَّقْصُ الْمَحْدُودَ الْفَانِيَ وَعَطَاءُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ وَهُمَا صِفَتَانِ قَدِيمَتَانِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمَا نَقْصٌ فَضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْمِخْيَطِ فِي الْبَحْرِ لِأَنَّهُ غَايَةُ مَا يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْقِلَّةِ وَالْمَقْصُودُ التَّقْرِيبُ إِلَى الْإِفْهَامِ بِمَا شَاهَدُوهُ فَإِنَّ الْبَحْرَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَرْئِيَّاتِ عَيَانًا وَأَكْبَرِهَا وَالْإِبْرَةُ مِنْ أَصْغَرِ الْمَوْجُودَاتِ مَعَ أَنَّهَا صَقِيلَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَاءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ." اهـ[3]

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (40/ 500)

وفي الحديث دليل على أن الله يحب أن يسأله العباد جميع مصالح دينهم

ودنياهم، من الطعام، والشراب، والكسوة، وغير ذلك، كما يسألونه الهداية،

والمغفرة، وفي الحديث: "لِيَسْأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى شِسَمع نَعْله إذا

انقطع" (1).

وكان بعض السلف يسأل الله في صلاته كل حوائجه، حتى مِلْح عجينه،

وعَلَفَ شاتِه، وفي الإسرائيليات أن موسى عليه السلام قال: "يا رب إنه ليَعْرض لي

الحاجة من الدنيا، فأستحي أن أسألك، قال: سَلْني حتى ملح عجينك، وعلف

حمارك"، فإن كل ما يحتاج العبد إليه إذا سأله من الله، فقد أظهر حاجته فيه،

وافتقاره إلى الله، وذاك يحبه الله، وكان بعض السلف يستحي من الله أن يسأله

شيئًا من مصالح الدنيا، والاقتداء بالسُّنَّة أَولى.

 

الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 185_189) لابن هبيرة الشيباني :

* في هذا الحديث من الفقه أنه لا يسوغ لأحد أن يسأل الله تعالى أن يحكم له على خصمه إلا بالحق لقوله سبحانه: (إني حرمت الظلم على نفسي) فهو سبحانه لا يظلم عباده لنفسه، فكيف يظن ظان أنه يظلم عباده لغيره،

ولذلك قال (فلا تظالموا) والمعنى لا بد من اقتصاص للمظلوم من الظالم، ويصدق___هذا قول الله تعالى : {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]

ومعناه فيما أرى أنه ندب للمظلوم أن يجهر بذكر قصته باسم من ظلمه ليشيع ذلك بين الناس، فيكون شيوع ذلك عذرًا للقادر على الإيقاع بالظالم ليجمع في ذلك بين أن يعرف الناس أنه سبحانه لم يوقع بمن ظلم إلا انتصارًا منه لمن كان ظلمه، وليعلم العباد أن من وراء الظالمين طالبًا لا يرد بأسه، وهذا فهو كذلك، إلا أن من وراء هذا حالًا أخرى لولاها لم يكن يمهل ظالم في الأرض فواق ناقة، وتلك الحال أن الخلق كلهم عبيد الله سبحانه، وملك له، فإذا ظلم بعضهم بعضًا فالمظلوم لا يستحق على الظالم إلا أن يمكنه سيده، إذ من جنى على عبد جناية فالخصم فيها سيده، فالخلق كلهم لله تعالى، أروش جناياتهم حقوقه، فهو سبحانه إن أمهل فله ذلك، وإن اقتص فله ذلك.

* وقوله: (كلكم ضال إلا من هديته) في هذا من الفقه أن الشأن في الناس الضلال إلا من هدى الله تعالى، فيترتب على ذلك أن الإنسان إذا رأى عنده آثار هدى فليعلم أن ذلك من عند الله تعالى، وكلما ازداد هدًى تعين عليه أن يزداد شكرًا وحمدًا لله تعالى.

* وقوله: (فاستهدوني أهدكم) أي اطلبوا مني الهداية، أهدكم، والمعنى أهديكم إذا استهديتموني، فإذا استهديتني أيها العبد فهديتك عرفتك أنني أجبت الدعاء وأعطيتك ما سألت فتعرفت إليك بذلك، ولو قد هديتك من قبل أن تسأل لم يكن تعبدًا منك أن تقول: {إنما أوتيته على علم عندي}

*وقوله: (كلكم جائع إلا من أطعمته) يعني سبحانه وتعالى أنه خلق الخلق ذوي فقر إلى الطعام، وأن كل طاعم فإنه كان جائعًا حتى أطعمه الله تعالى بأنواع منها سوق الرزق، ومنها تصحيح الآلة المتناولة لذلك الرزق، فهو___سبحانه يسوق إليك الطعمة ويهيء آلات استطعامك لتناولها، ويلطف بك حتى يخلصك من أثقالها.

* وقوله: (استطعموني) أي اطلبوا الرزق مني ولا يستنكف حي ولا ذو كثرة أن يستطعمني، فإن ذلك يجهله وعمهه يظن أن ذلك الذي في يده من رزقي وقد رفعه إلى فيه، يطعمه إياه غيري.

* وفيه أيضًا للفقراء ما يؤدبهم وكأنه قال: لا تطلبوا الطعمة من غيري، فكل هؤلاء الذين تطلبون منهم أنا أطعمهم (فاستطعموني أطعمكم).

* وقوله: (كلكم عار إلا من كسوته) فيه من الفقه: أن الكسا من الله تعالى متنوعة فقد يكسو من عري جسدًا، وقد يكسو بالستر الجميل.

* وقوله: (فاستكسوني) أي : اطلبوا مني الكسوة الجميلة الطاهرة فإن من كساه الله تعالى لباس التقوى لم يقدر أحد أن ينزعه عنه.

* وقوله: (إنكم تخطئون بالليل والنهار) في هذا الكلام الشريف من التأنيب والتوبيخ ما يستحي منه كل مؤمن، وذلك أنه إذا لمح العبد الفطن أن الله تعالى خلق الليل ليطاع فيه سرًا، ويعبد بالإخلاص في خلوة من الناس، حيث تسلم الأعمال غالبًا من الرياء والنفاق، ومشاهدة الخلق، ولا يستحي المؤمن ألا ينفق الليل فيما خلق له من الطاعة حتى يخطئ فيه ويعصي الله تعالى في مطاويه. فأما النهار فإنه جعل مشهودًا من الناس يقتضي من كل فطن أن يطيع الله تعالى فيه، ولا يتظاهر بين الناس بالمخالفة، فيكون مجرئًا لغيره على مثل ذلك، فكيف يحسن بمؤمن أن يخطئ جهرًا يشهد به عليه خلق الله عز وجل في نهار يكشف الأغطية، ويبدي الوجوه والألوان، إلا أنه سبحانه وتعالى قال بعد ذلك كله: (وأنا أغفر الذنوب جميعًا) وذكر الذنوب بالألف واللام اللتين للتعريف، وإنما قال سبحانه جميعًا ها هنا قبل أمره إيانا باستغفاره حتى لا يقنط أحد من رحمة الله لعظيم ذنب احتقبه ولا لشديد وزر قد ارتكبه.

* وقوله: {لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني} في مثل هذا___المقام لو قال المؤمن إلهي، وسيدي، ومولاي كيف لي بأن ترضى عني؟ بماذا أتقرب يا من له كل شيء؟ ماذا يعمل من ليس له شيء؟ أنت الغني وحدك، لا يتصور النفع والضر إلا منك، والحمد كله والملك لك، لا آمن إليك إلا بسواق اختيارك في وموضع أثارك مني، ولا أدلي بمثل أن جملتي تشهد لك وتفاصيلي تسبح بحمدك فإن فتر لساني عن الشهادة بوحدانيتك والتسبيح لك فإن ذراتي وأجزائي كلها ناطقة بلسان حالها لك، لا إله إلا أنت سبحانك وتعاليت، فأنا بعض دلائلك، ومن جملة الشهود على ربوبيتك، فالانتفاع والاستضرار لائقان مناسبان لحالي وأما خالق النفع والضر فتعالى علوًا كبيرًا.

* وقوله: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا) في هذا ما يدل على أن تقوى المتقين رحمة من الله تعالى لهم، ولمن بعدهم ودونهم، وأنه لا يقدر المتقون أن يزيدوا في ملك الله شيئًا كما أنه لا يقدر الفجار أن ينقصوا من ملك الله تعالى شيئًا، ولكن تقوى المتقين وفجور الفاجرين سعادة وشقاوة.

* وقوله: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد) في هذا التنبيه للخلق على أن يعظموا المسألة، ويوسعوا الطلب، ولا يقتصر طالب ولا يختصر سائل، فإن ما عند الله لا ينقص.

* وقوله: (كما ينقص المخيط إذا دخل البحر) هذه إشارة إلى النعمة المخلوقة فهي تنقص كما ينقص المخيط من البحر إذا أدخل فيه، وإنما أراد بهذا تجزئة السؤال وتشجيعهم على إيساع الطلب حتى لا يظن منهم ظان أن ما عند الله تعالى يغيضه الإنفاق فيتوهم الجاهل أن طلابه وإن اتسع ربما يصادف غورا وقد تعالى الله عز وجل عن ذلك، فإن ما عند الله تعالى لا يغيض.

* وقوله: (إنما هي أعمالكم) ذكر سبحانه هذا بعد أن عدد ما عدده من نعمه وشرحه من فيض كرمه، ثم إنه سبحانه وتعالى بعد ذلك أوضح لنا أن أعمالنا هي التي تعرض علينا، فمن وجد منا خيرًا فليحمد الله تعالى على توفيقه، ومن___وجد غير ذلك، ولم يقل ها هنا ومن وجد شرًا بل قال غير ذلك، والخير كلمة مفاضلة لأن قولك زيد خير أي هو خير من خير.

* وقوله: {ومن وجد غير ذلك} أي وجد غير الخير أي غير الأفضل فلا يلومن إلا نفسه، فذكره بنون التوكيد، وإنما جاء للتأكيد ها هنا، يحذر من أن يخطر في قلب عامل أن اللوم في ذلك يستحقه غير نفسه؛ لأن الله تعالى أوضح فأعذر، وليس لأحد عليه حجة، حتى أن من قلة إنصاف الآدمي لربه أن يحسب طاعاته وعباداته لنفسه، ولا يسندها للتوفيق، كما يبرأ من معاصيه، ويسندها إلى الأقدار، فلو نظر إلى مغالطته في هذا، وهو أنه كان لا تصرف له كما يزعم، فهلا كان في الأمرين؟ أو إن كان له تصرف فلم يعزله عن أحد الحالين؟! ولكن الإنسان ظلوم!" اهـ

 

تطريز رياض الصالحين (ص: 97) للشيخ فيصل آل مبارك :

"هذا حديث جليل شريف، وهو من الأحاديث القدسية التي يرويها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله عز وجل.

وفي هذا الحديث: قبح الظلم وأن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم، ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم.

وأنَّ الله تعالى يحب أن يسأله العباد ويستغفروه.

وأنَّ ملكه لا يزيد بطاعة الخلق ولا ينقص بمعصيتهم.

وأن خزائنه لا تنفذ ولا تنقص.

وأن ما أصاب العبد من خير فمن فضل الله تعالى، وما أصابه من شر فمن نفسه وهواه.

وهو مشتمل على قواعد عظيمة في أصول الدين وفروعه وآدابه، وغير ذلك." اهـ

 

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (21/ 95):

"وهذا الحديث حجَّة لأهل الحق على قولهم : إن الهدى والضلال خلقه وفعله يختص بما شاء___منهما من شاء من خلقه ، وأن ذلك لا يقدر عليه إلأ هو،

كما قال تعالى : {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [المدثر: 31]

وكما قال : {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } [الأعراف: 43]،

وكما قال : {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]

وقد نطق الكتاب بما لا يبقى معه ريبٌ لذي فهم سليم بقوله :

{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]،

فعم الدعوة ، وخص بالهداية من سبقت له العناية." اهـ

 

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (21/ 97)

وقوله : (مَا نَقَصَ ذلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلا كما يَنْقصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ)

وهذا مثل قصد به التقريب للأفهام بما تشاهده، فإنَّ ماء البحر من أعظم المرئيات وأكبرها. وغمس الإبرة فيه لا يؤثر فيه ، فضرب ذلك مثلا لخزائن رحمة الله تعالى وفضله، فإنَّها لا تنحصر ولا تتناهى ، وأن ما أغطي منها من أول ر- خنق المخلوتات ، وما يغطي منها إلى يوم القيامة لا ينقص منها شيئا ، وهذا نحو وفض قوله ئ في الحديث الاخر



[1] وفي تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 70) للبيضاوي :

"الخطاب مع الثقلين خاصة, لاختصاص التكليف, وتعاقب التقوى والفجور بهم, ولذلك فصل المخاطبين بالإنس والجن, ويحتمل أن يكون عاما شاملا لذوي العلم كلهم من الملائكة والثقلين, ويكون ذكر الملائكة مطويا مدرجا في قوله: " وجنكم " لشمول الإحسان لهم, وتوجه هذا الخطاب نحوهم لا يتوقف على صدور الفجور منهم, ولا على إمكانه, لأنه كلام صادر على سبيل الفرض والتقدير." اهـ

[2] وفي "اللباب في تهذيب الأنساب" (2/ 363) لابن الأثير _رحمه الله_:

"العَوْذِيُّ (بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخرهَا ذال مُعْجمَة): هَذِه النِّسْبَة إِلَى عوذ بن سود بن الْحجر بن عمرَان بن عَمْرو مزيقياء بن عَامر مَاء السَّمَاء بطن من الأزد ينْسب إِلَيْهِ كثير." اهـ

[3] وفي إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 47_48) للقاضي عياض :

"غاية فى باب التمثيل فى هذا، ويقرب لك أفهام بما يشاهد؛ فإن ماء البحر من أعظم المرئيات عياناً وأكثرها. ودخول المخيط فيه، وهى الإبرة التي يخاط بها، وخروجها لا ينقص شيئاً؛ إذ لا يعلق بها من ماء البحر____شيء لصقالتها." اهـ

Komentar

Postingan populer dari blog ini

فضائل عشر ذي الحجة