شرح الحديث 30 من "الأربعين حديثا في التربية والمنهج للشيخ عبد العزيز بن محمد السدحان _حفظه الله_
الحديث الثلاثون: قال
رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا،
وَحَفِظَهَا، ثمَّ أَدَّاهَا إلى من لم يَسْمَعُهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ،
وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ
مُسْلِمٍ: *
إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، *
والنصح لأئمة المسلمين، *
وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ ". _____________ أخرجه أحمد (4/ 80 و 82)، والحاكم (١٦٢/١) من حديث جبير بن مطعم. * وأخرجه أحمد (5/ 183)، والبيهقي في
«الشعب» (۲/ ۲۷۳) رقم (١٧٣٦) من
حديث زيد بن ثابت معه * وأخرجه الترمذي (٢٦٥٨) من حديث ابن
مسعود . * وأخرجه أحمد (٢٢٥/٣)، والطبراني في الأوسط (۱۷۰/۹) من حديث أنس بن مالك * وأخرجه الحاكم (١٦٤/١) من حديث النعمان
بن بشير . * وأخرجه الطبراني في الكبير» (۸۲/۲۰)، و«الأوسط (٣٧/٧، ٥٦/٨) من حديث معاذ بن جبل . * وأخرجه الطبراني أيضا في الأوسط (٢٧٢/٥) من حديث جابر بن عبد الله _رضي الله عنه_. * وأخرجه
أيضًا في «الصغير» (ص (۱۸۹) من حديث أَبُي قِرْصَافَةَ جَنْدَرَةَ
بْنِ خَيْشَنَةِ الليثي. * وأخرجه أيضًا في مسند الشاميين» (٢/ ٢٦٠) من حديث أبي سعيد الخدري |
ترجمة جبير بن مطعم _رضي الله
عنه_:
وفي "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" (1/ 232) (رقم:
311):
"جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي
القرشي النوفلي،
يكنى أبا مُحَمَّد، وقيل أبا عدي، أمه أم جميل بنت
سعيد، من بني عامر ابن لؤي.
قَالَ مصعب الزبيري: كان جبير
بن مطعم من حلماء قريش وساداتهم، وكان يؤخذ عنه النسب.
وقال ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة: كان جبير بن مطعم من أنسب قريش لقريش وللعرب قاطبة، وكان يقول: إنما
أخذت النسب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. وكان أبو بكر من أنسب العرب.
أسلم جبير بن مطعم فيما يقولون يوم الفتح. وقيل عام خيبر،
وكان إذ أتى النَّبِيّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ فِي فداء أسارى بدر
كافرًا.
روى جماعة من أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب عن محمد بن جبير
بن مطعم عن أبيه قال:
"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأكلمه في أسارى بدر،
فوافقته وهو يصلي بأصحابه المغرب أو العشاء، فسمعته وهو يقرأ، وقد خرج صوته من
المسجد:
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ
دَافِعٍ (8)} [الطور: 7، 8]،
قال: "فكأنما صدع قلبي."
وبعض أصحاب الزهري يقول عنه في هذا الخبر: فسمعتُه يقرأ:___
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ
(35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)} [الطور:
35، 36]
فكاد قلبي يطير، فلما فرغ من صلاته كلمته في أسارى بدر
فقال: لو كان الشيخ أبوك حيًا، فأتانا فيهم شَفَّعْنَاهُ.
وقال بعضهم فيه: (لو أن أباك كان حيًا، أو لو أن المطعم بن
عدي كان حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى، لأطلقتهم له)
قال: وكانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يدٌ، وكان من أشراف قريش.
وإنما كان هذا القول من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عليه
وَسَلَّمَ في المطعم بن عدي، لأنه الذي كان أجار رسولَ الله _صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ حين قدم من الطائف من دعاء ثقيف، وكان أحد الذين قاموا في شأن
الصحيفة التي كَتَبَتْهَا قريشٌ على بني هاشم.
وكانت وفاة المطعم بن عدي في
صفر سنة ثنتين من الهجرة قبل بدر بنحو سبعة أشهر،
ومات جبير بن مطعم بالمدينة سنة سبع وخمسين. وقيل: سنة تسع وخمسين في خلافةِ معاويةَ،
وذكره بعضهم في المؤلفة قلوبهم، وفيمن حسن إسلامه منهم.
ويقال: (إن أول من لبس طيلسانًا بالمدينة جبير بن مطعم). اهـ
وفي "الأعلام" للزركلي (2/ 112):
"وعده الجاحظ من كبار النسَّابين. وفي "الإصابة":
كان أنسب قرشيّ لقريش والعرب قاطبة. له 60 حديثا." اهـ
وفي "سير أعلام النبلاء" – ط. الرسالة (3/ 95 و
99) (رقم: 18):
"جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمِ بنِ عَدِيِّ بنِ نَوْفَلٍ
النَّوْفَلِيُّ * (ع) ابْنِ عَبْدِ مَنَافٍ بنِ قُصَيٍّ، شَيْخُ قُرَيْشٍ فِي
زَمَانِهِ، أَبُو مُحَمَّدٍ - وَيُقَالُ: أَبُو عَدِيٍّ -
القُرَشِيُّ، النَّوْفَلِيُّ، ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
مِنْ الطُّلَقَاءِ الَّذِيْنَ حَسُنَ إِسْلاَمُهُم، وَقَدْ
قَدِمَ المَدِيْنَةَ فِي فِدَاءِ الأُسَارَى مِنْ قَوْمِهِ.
وَكَانَ مَوْصُوْفاً بِالحِلْمِ، وَنُبْلِ الرَّأْيِ
كَأَبِيْهِ.
وَكَانَ أَبُوْهُ هُوَ الَّذِي قَامَ فِي نَقْضِ صَحِيْفَةِ
القَطِيْعَةِ.
وَكَانَ يَحْنُو عَلَى أَهْلِ الشِّعْبِ، وَيَصِلُهُم فِي السِّرِّ.
وَلذَلِكَ يَقُوْلُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ: (لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيّاً،
وَكلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُم لَهُ
وَهُوَ الَّذِي أَجَارَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِيْنَ رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ حَتَّى طَافَ بِعُمْرَةٍ.
ثُمَّ كَانَ جُبَيْرٌ شَرِيْفاً، مُطَاعاً، وَلَهُ
رِوَايَةُ أَحَادِيْثَ....___
قَالَ الهَيْثَمُ بنُ عَدِيٍّ، وَخَلِيْفَةُ، وَغَيْرُهُمَا:
تُوُفِّيَ جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِيْنَ.
وَقَالَ المَدَائِنِيُّ: سَنَة ثَمَانٍ وَخَمْسِيْنَ.
نص الحديث وشرحه:
(نضر): يُروى بتخفيف الضاد المعجمة وتشديدها، أي نعمه من
النضارة، وهي في الأصل حسن الوجه، والبريق، وإنما أراد حسن خلقه وقدره النهاية»
(٧١/٥)
النهاية في غريب الحديث
والأثر (5/ 63) لابن الأثير الجزري :
النَّصِيحَةُ: كَلِمَةٌ
يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةٍ، هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ
لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، وَلَيْسَ يُمكنُ أَنْ
يُعَبَّر هَذَا الْمَعْنَى بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَجْمَع مَعْنَاهُ غَيْرهَا.
وَأَصْلُ النُّصْحِ فِي اللُّغَةِ: الخُلوص. يُقَالُ:
نَصَحْتُهُ، ونَصَحْتُ لَهُ.
* وَمَعْنَى نَصِيحَةُ اللَّه: صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ فِي
وَحْدَانِيَّتِهِ، وإخلاصُ النِيَّة فِي عبادتِه.
* والنَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّه: هُوَ التَّصْدِيقُ بِهِ والعمَلُ
بِمَا فِيهِ.
* ونَصِيحَةُ رَسُولِهِ: التَّصْدِيقُ بنُبُوَّته ورسالتِه، والانْقياد
لِمَا أمَر بِهِ ونَهَى عَنْهُ.
* ونَصِيحَةُ الْأَئِمَّةِ: أَنْ يُطِيعَهم فِي الْحَقِّ، وَلَا يَرى
الخروجَ عَلَيْهِمْ إِذَا جارُوا.
* ونَصِيحَةُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ: إرشادُهم إِلَى مصالِحِهم.
وقال ابن الجوزي _رحمه
الله_ في "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (4/ 219):
الْمَعْنى أَن النَّصِيحَة
أفضل الدّين وأكمله، كَمَا يُقَال: المَال الْإِبِل، وَمعنى النَّصِيحَة إِرَادَة
الْحَظ للمنصوح.
وَفِي اشتقاق النَّصِيحَة قَولَانِ:
* أَحدهمَا: أَنه من
قَوْلهم: (نصح الرجل ثَوْبه): إِذا خاطه، وَكَأن الناصح جمع الصّلاح للمنصوح جمع
الناصح ثَوْبه بالخياطة.
* وَالثَّانِي: أَنه من
قَوْلهم: (نصحت الْعَسَل): إِذا صفيته من الشمع، فَشبه خلوص النصح من شوب الْغِشّ
والخيانة بخلوص الْعَسَل من كدره.
وَاعْلَم أَن النَّصِيحَة لله _عز وَجل_: المناضلة عَن دينه والمدافعة عَن الْإِشْرَاك بِهِ وَإِن
كَانَ غَنِيا عَن ذَلِك، لَكِن نَفعه عَائِد على العَبْد،
وَكَذَلِكَ النصح لكتابه: الذب عَنهُ والمحافظة على تِلَاوَته،
والنصيحة لرَسُوله: إِقَامَة سنته وَالدُّعَاء إِلَى دَعوته،
والنصيحة لأئمة الْمُسلمين: طاعتهم، وَالْجهَاد مَعَهم، والمحافظة على بيعتهم، وإهداء النصائح
إِلَيْهِم دون المدائح الَّتِي تغر.
والنصيحة لعامة الْمُسلمين: إِرَادَة الْخَيْر لَهُم، وَيدخل فِي
ذَلِك تعليمهم وتعريفهم اللَّازِم، وهدايتهم إِلَى الْحق." اهـ
تخريج الحديث:
أخرجه أحمد في "المسند" – ط. عالم
الكتب (4/ 80 و 4/ 82) (رقم: 16738 و 16754)، وابن ماجه في "سننه" (2/
1015) (رقم: 3056)، والدارمي في "سننه" (1/ 301_302) (رقم: 233_234)، والبزار
في "المسند" = البحر الزخار (8/ 342_343) (رقم: 3416_3417)، وأبو يعلى
الموصلي في "المسند" (13/ 408) (رقم: 7413)، وتَمَّامٌ الرازي في "الفوائد"
(2/ 175) (رقم: 1462)، وأبو عمرو ابن حكيم المديني الأصبهاني في "حديث نضر
الله امرأ" (ص: 29) (رقم: 14)، والطبراني في "المعجم الكبير" (2/
126_127) (رقم: 1541_1544)، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (1/ 162_163)
(رقم: 294_296)، وابْنُ بشران في "الأمالي" - الجزء الأول (ص: 381)
(رقم: 874): عن جبير بن مطعم _رضي الله عنه_.
والحديث صحيح: صححه
الألباني _حفظه الله_ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 1145) (رقم: 6766)،
و"صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 148) (رقم: 92).
قوله: (سمع مقالتي) * فيه: التثبت من صحة ما ينسب إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_. |
وقوله: (فوعاها، وحفظها) * فيه: التثبت من المراد بكلام النبي من خلال النظر في كلام الراسخين من أهل
العلم. * وفيه: أن الانتفاع بالعلم وتحصيل الأجر لا يكون إلا بالعمل بما علم، لأن من
لازم الثناء على من وعى العلم، وحفظه: أن يكون عاملاً به، بخلاف التكثر من سماع
العلم واقتناء الكتب بلا عمَلٍ، وأسوأ من ذلك من خالف ما سمع من الحق. قال الإمام البربهاري _رحمه الله تعالى_ [شرح السنة
للبربهاري (ص (۱۰۲)]: "واعلم رحمك الله أن العلم ليس بكثرة الرواية
والكتب، وإنما العالم من اتبع العلم والسن وإن كان قليل العلم والكتب، ومن خالف الكتاب
والسنة فهو صاحب بدعة وإن كان كثير العلم والكتب." |
وقوله: (ثم أدَّاها إلى من لم
يسمعها) * فيه فضيلة تبليغ العلم، وبخاصة لمن يجهله. وقوله: (قرب حامل فقه غير فقيه) * فيه: أن مجرد حفظ النصوص لا يُخوّل لمن حفظ أن يفتي الناس. وقوله : (فرب حامل فقه إلى من هو
أفقه منه) * فيه: التأكيد على ما سبق، وأن الحافظ لا يلزم أن يكون فقيها. وقوله: (إخلاص العمل لله) * فيه: عظيم منزلة الإخلاص وقوله: «النصح الأئمة المسلمين» فيه: عظيم منزلة
النصيحة، كما في قوله: «الدين النصيحة». قال الإمام الذهبي _رحمه الله تعالى_ [سير أعلام النبلاء
ط الرسالة (11/ 500)]: فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الكَلِمَةَ الجَامِعَةَ، وَهِيَ
قَوْلُه: (الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ)، فَمَنْ لَمْ يَنْصَحْ للهِ وَلِلأَئِمَّةِ
وَلِلعَامَّةِ، كَانَ نَاقِصَ الدِّيْنِ. وَأَنْتَ لَوْ دُعِيتَ: "يَا نَاقِصَ الدِّيْنِ"،
لَغَضِبْتَ، فَقُلْ لِي: مَتَى نَصَحْتَ لِهَؤُلاَءِ؟ كَلاَّ وَاللهِ،
بَلْ لَيْتَكَ تَسكُتُ، وَلاَ تَنطِقُ، أَوْ لاَ تُحَسِّنُ لإِمَامِكَ
البَاطِلَ، وَتُجَرِّئُهُ عَلَى الظُّلمِ وَتَغُشُّه، فَمِنْ أَجلِ ذَلِكَ سَقَطتَ مِنْ عَيْنِهِ، وَمِن
أَعْيُنِ المُؤْمِنِيْنَ، فَبِاللهِ قُلْ لِي: مَتَى يُفْلِحُ مَنْ كَانَ يَسُرُّهُ
مَا يَضُرُّهُ؟ وَمَتَى يُفْلِحُ مَنْ لَمْ يُرَاقِبْ مَوْلاَهُ؟ وَمَتَى يُفْلِحُ مَنْ دَنَا رَحِيْلُهُ، وَانْقَرَضَ
جِيْلُهُ، وَسَاءَ فِعْلُهُ وَقِيْلُهُ؟ فَمَا شَاءَ اللهَ كَانَ، وَمَا نَرْجُو صَلاَحَ أَهْلِ
الزَّمَانِ، لَكِنْ لاَ نَدَعُ الدُّعَاءَ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَلْطُفَ، وَأَنْ
يُصْلِحَنَا، آمِيْن." اهـ * وفيه: أن أولى الناس بالنصح لهم: هم أئمة المسلمين، لأن في صلاحهم صلاحا
لغيرهم. |
وقوله: (ولزوم جماعتهم) * فيه: حث الإسلام على الاجتماع، وذم الافتراق. * وفيه: أن الخارج على جماعة المسلمين وإمامِهم معدودٌ من دعاة الفرقة
والاختلاف * وفيه: أن الخروج وشق عصا الطاعة مخالف لمنهج النصح. |
وقوله: (ثلاث لا يقل عليهن قلب
امري مسلم)، الخ. * فيه: التلازم بين هذه الثلاث وأن فيها صلاح الدين والدنيا. فالإخلاص: فيه صلاح الدين. والنصح للأئمة، ولزوم الجماعة:
فيه صلاح الدنيا. * وفيه: أن أعظم الإصلاح ما كان أثرُه متعدِيًا
على مجتمع المسلمين، وذلك بلزوم تلك الخصال الثلاث، وأن
أعظم الفساد ما كان أثره متعديا على مجتمع المسلمين، وذلك بمخالفة تلك الخصال
الثلاث ______________ (1) قال ابن الأثير _رحمه الله_: "هو من الإغلال، وهو
الخيانة في كل شيء. ويُروى: (يَغِلُّ) - بفتح الياء - من الغِلِّ: وهو الحقد والشحناء، أي لا يدخله حقد
يُزيله عن الحق. وروي (يَغِلُ) - بالتخفيف - من
الوغول: الدخول في الشر. والمعنى: أن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها، طهر قلبه من الخيانة
والدخل والشر." اهـ من "النهاية في غريب الحديث" (3/ 381) |
من فوائد الحديث :
قال الشيخ فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد
المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376هـ) _رحمه الله_ في "تطريز رياض
الصالحين" (ص: 760):
"وفيه: فضيلة للضابط الحافظ ألفاظ
السنَّة." اهـ
وقال أبو سليمان الخطابي _رحمه الله_ في "معالم
السنن" (4/ 187):
"وفي قوله: «رب
حامل فقه إلى من هو أفقه منه» دليلٌ على كراهة اختصار الحديث لمن ليس
بالمتناهي في الفقه، لأنه إذا فعل ذلك، فقد قطع طريق الاستنباط والاستدلال لمعاني
الكلام من طريق التفهم،
وفي ضمنه : وجوب
التفقه والحث على استنباط معاني الحديث واستخراج المكنون من سره." اهـ
وقال أبو العبَّاس أحمَدُ
بنُ عُمَرَ بنِ إبراهيمَ المالكي الأنصاريُّ القرطبي (المتوفى
سنة 656 هـ) _رحمه الله_ في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (15/
129_130):
"وقوله : (( فلعل بعض من يبلغه يكون
أوعى له ممن سمعه )) ؛ حجة على جواز أخذ العلم
والحديث عمَّن لا يفقه ما ينقل ؛ إذا أدَّاه كما سمعه.
وهذا كما قال _صلى الله عليه وسلم_ فيما خرَّجه
الترمذي :
(( نضَّر الله امرأً سمع منَّا حديثًا فبلَّغه غيره
كما سمعه ، فربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه ، وربَّ حامل فقه ليس بفقيه ))____
فأمَّا نقل الحديث بالمعنى : فمن
جوَّزه إنَّما جوَّزه من الفقيه العالم بمواقع الألفاظ . ومن أهل العلم من منع ذلك
مطلقًا . وقد تقدَّم ذلك .
وفيه حجَّة : على أن المتأخر قد يفهم من الكتاب
والسُّنة ما لم يخطر للمتقدم ؛ فإن الفهم فضل الله يؤتيه من يشاء . لكن هذا يندر
ويقل." اهـ
وقال الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي الأندلسي (المتوفى: 463هـ) _رحمه الله_ في "التمهيد
لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (21/ 277):
"فَأَمَّا قَوْلُهُ
(ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ)
فَمَعْنَاهُ : لَا يَكُونُ الْقَلْبُ عَلَيْهِنَّ
وَمَعَهُنَّ غَلِيلًا أَبَدًا يَعْنِي لَا يَقْوَى فِيهِ مَرَضٌ وَلَا نِفَاقٌ :
إِذَا أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ، وَلَزِمَ الْجَمَاعَةَ، وَنَاصَحَ أُولِي
الْأَمْرِ." اهـ
وقال القاضي عبد
الله بن عمر البيضاوي (ت 685هـ) _رحمه الله_ في
"تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" (1/ 157):
"وقوله: (ثلاث لا يغل عليهن) إلى آخره...
لما ذكر ما يحرض على تعلم السنن ونشرها , قفاه برد
ما عسى يعرض مانعا - وهو الغل - من ثلاثة أوجه:
أحدها:
أن تَعَلُّمَ الشرائعِ ونقْلَها ينبغي أن يكون خالصا لوجه الله، مبرأ عن شوائب
المطامع والأغراض الدنيوية , وما كان كذلك لا يتأثر عن الحقد والحسد , وغيرهما مما
يتعلق بأمور الدنيا ,ولا يليق بأمر الآخرة.
وثانيها:
أن أداء السنن إلى المسلمين نصيحة لهم , وهي من___وظائف الأنبياء , فمن تعرض لذلك
وقام به , كان خليفة لمن يبلغ عنه , وكما لا يليق بالأنبياء أن يهملوا أعاديهم
ويعرضوا عنهم , ولا ينصحوا لهم , لا يحسن من حامل الأخبار وناقل السنن أن يمنحها
صديقه، ويمنع عدوه.
وثالثها:
أن التناقل والتحاور ونشر الأحاديث إنما يكون في أغلب الأمر بين الجماعات , فحث
على لزومها , ومنع عن التأبي عنها لحقد وضغينة تكون بينه وبين حاضريها = تبيان ما
فيها من الفائدة العظمى , وهو إحاطة دعائهم من ورائهم , فيحرسهم عن مكائد الشيطان
وتسويله." اهـ
وقال الحسين بن محمود بن الحسن، مظهر الدين الزَّيْدَانيُّ الكوفي الضَّريرُ
الشِّيرازيُّ الحَنَفيُّ المشهورُ بالمُظْهِري (المتوفى: 727 هـ) _رحمه الله_ في
"المفاتيح في شرح المصابيح" (1/ 325):
"وإنما قال رسول الله - عليه السلام -:
"ثلاث لا يغل عليهن" عقيب قوله: "نضر الله امرأ"؛ لأنه أمر
الأمة بأداءِ ما سمعوا من الأحاديث، ثم قال: أداء الحديث، وتعليم الناس من إخلاص
العمل لله، ومن نصيحة المسلمين، ومن لزوم جماعتهم، وهذه الأشياء مما لا يجوز لأحد
أن يترك واحدًا منها." اهـ
وقال علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين
الملا الهروي القاري (المتوفى: 1014هـ) _رحمه الله_ في "مرقاة المفاتيح شرح
مشكاة المصابيح" (1/ 306):
"إِنَّ هَذِهِ الْخِلَالَ يُسْتَصْلَحُ
بِهَا الْقُلُوبُ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا طَهُرَ قَلْبُهُ مِنَ الْغِلِّ
وَالْفَسَادِ." اهـ
وقال علي بن (سلطان) القاري _رحمه الله_ في "مرقاة
المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (1/ 307):
"مَنْ تَمَسَّكَ بِهِنَّ طَهَّرَ
اللَّهُ قَلْبَهُ مِنَ الْحِقْدِ وَالْخِيَانَةِ." اهـ
وقال ابن عبد البر _رحمه الله_ في "التمهيد
لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (21/ 277_278):
"وَأَمَّا قَوْلُهُ
(فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ) أَوْ (هِيَ مِنْ وَرَائِهِمْ
مُحِيطَةٌ)
فَمَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَنَّ
أَهْلَ الْجَمَاعَةِ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ إذا مات____إِمَامُهُمْ،
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِمَامٌ، فَأَقَامَ أَهْلُ ذَلِكَ الْمِصْرِّ الَّذِي هُوَ
حَضْرَةُ الْإِمَامِ وَمَوْضِعُهُ إِمَامًا لِأَنْفُسِهِمْ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ
وَرَضُوهُ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ خَلْفَهُمْ وَأَمَامَهُمْ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْآفَاقِ يَلْزَمُهُمُ الدُّخُولُ فِي طَاعَةِ ذَلِكَ
الْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُعْلِنًا بِالْفِسْقِ وَالْفَسَادِ
مَعْرُوفًا بِذَلِكَ لِأَنَّهَا دَعْوَةٌ مُحِيطَةٌ بِهِمْ يَجِبُ إِجَابَتُهَا
وَلَا يَسَعُ أَحَدًا التَّخَلُّفُ عَنْهَا لِمَا فِي إِقَامَةِ إِمَامَيْنِ مِنِ
اخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْن." اهـ
وقال فضل الله بن حسن بن حسين بن يوسف أبو عبد
الله، شهاب الدين التُّورِبِشْتِي (المتوفى: 661
هـ) _رحمه الله_ في "الميسر في شرح مصابيح السنة" (1/ 108):
"وفيه: (فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)...
* دعاء الجماعة لأنفسهم قد أحاطته بهم؛
فيحرسهم ويحوطهم؛ فلا يكاد الشيطان ينتهز منهم فرصة بطريق الحقد، أو تسويل
الخيانة، كانتهازه من غيرهم.
* وفي قوله: (أحاطت بهم):
تنبيه منه على أن من خرج من جماعتهم لم ينله
بركة دعائهم؛ لأنه خارج عما أحاطت بهم من ورائهم، وقد قال بعض العلماء لا نصيب لمن
غير ويدل في دعاء الجماعة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (السلام
علينا وعلى عباد الله الصالحين)." اهـ
وقال الشيخ محمد بن علي بن آدم بن موسى الإثيوبي
_رحمه الله_ في "مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن
الإمام ابن ماجه" (4/ 378_379):
"في فوائده:
1 - (منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان
فضل من بلّغ علمًا، وهو واضح.
2 - (ومنها): أن فيه الإخبار بأن رواة
الأحاديث في وجوههم نضرة بسبب دعوة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لهم بذلك.
3 - (ومنها): أن الشرط في رواية الحديث كونه
حافظًا له، لا كونه فقيهًا، عالمًا بمعناه.
4 - (ومنها): بيان تفاوت العلماء في الأفهام،
فإنه ربما يكون الشيخ أقلّ علمًا وفهمًا____من تلميذه.
5 - (ومنها): بيان فائدة تبليغ الحديث، وذلك
أن السامع ربما لا يستطيع أن يستنبط منه العلوم، فإذا بلغه من هو أفهم له منه
استنبط منه فوائد كثيرة، تنتفع بها الأمة. ومنها :
الحثّ على هذه الأشياء المذكورة في الحديث، وأنه ينبغي للمسلم أن يتحلّى بها،
* فمنها : إخلاص العمل، وهو الركن الأساسيّ لقبوله، فإنه إذا لم يوجد كان
العمل هباء منثورًا،
* ومنها :
مناصحة ولاة الأمور، فإن فيه مصالح عظيمة؛ إذ يستلزم ذلك مناصحة كل الأمة؛ لكونهم
القادة، فإذ لم ينصلح لهم فقد أساء إليهم وإلى الرعيّة جميعًا، ويؤخذ من هذا أن
الرئيس الأعلى للأمة هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنصيحته مطلوبة بالدرجة
الأولى؛ إذ نصيحته تتضمن نصيحة أمته جميعًا، فمن نصيحته نشر سنته بين الأمة،
والذبّ عنها، وقمع البدعة، ومقاطعة أهلها.
6 - (ومنها): أن فيه بيان فضل لزوم الجماعة؛
إذ فيه الانتظام في سلكهم، ونيل بركتهم؛ إذ دعواتهم تحيط بهم، فمن خرج عنهم خرج عن
السُّورِ المحيط بهم، وصار عُرْضة للشيطان؛ لأنه ذئب الإنسان، فيحبّ المنفرد عن
الجماعة، كما يحب الذئب الشاة القاصية من الغنم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه
المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله_ في "مجموع
الفتاوى" (1/ 11):
"وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي
الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ يُعَظِّمُونَ نَقَلَةَ الْحَدِيثِ حَتَّى قَالَ
الشَّافِعِيُّ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_:
"إذَا رَأَيْت رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ،
فَكَأَنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ_."
وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا؛ لِأَنَّهُمْ
فِي مَقَامِ الصَّحَابَةِ مِنْ تَبْلِيغِ حَدِيثِ النَّبِيِّ _صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: "أَهْلُ
الْحَدِيثِ حَفِظُوا، فَلَهُمْ عَلَيْنَا الْفَضْلُ؛ لِأَنَّهُمْ حَفِظُوا لَنَا."
اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله_ في "مجموع
الفتاوى" (35/ 7) :
"أَيْ : قَلْبُ الْمُسْلِمِ لَا يُغِلُّ
عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي
قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا
بِهِ شَيْئًا. وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا
وَأَنْ تناصحوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ} [م]
وقال محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) _رحمه الله_ في "مفتاح
دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (1/ 71_72):
"وَلَو لم يكن فِي فضل الْعلم، إلا
هَذَا وَحده، لكفى بِهِ شرفا، فَإِن النَّبِي دَعَا لمن سمع كَلَامه، ووعاه،
وَحفظه، وبلغه. وَهَذِه هِيَ مَرَاتِب الْعلم.
أولها وَثَانِيها : سَمَاعه، وعقله.
فَإِذا سَمعه وعاه بِقَلْبِه أَي عقله، وَاسْتقر
فِي قلبه كَمَا يسْتَقرّ الشَّيْء الَّذِي يوعى فِي وعائه وَلَا يخرج
مِنْهُ....___
فَمن قَامَ بِهَذِهِ الْمَرَاتِب الاربع دخل تَحت
هَذِه الدعْوَة النَّبَوِيَّة المتضمنة لجمال الظَّاهِر وَالْبَاطِن فَإِن النضرة
هِيَ الْبَهْجَة وَالْحسن الَّذِي يكساه الْوَجْه من آثَار الايمان وابتهاج
الْبَاطِن بِهِ وَفَرح الْقلب وسروره والتذاذه بِهِ فتظهر هَذِه الْبَهْجَة
وَالسُّرُور والفرحة نضارة على الْوَجْه وَلِهَذَا يجمع لَهُ سُبْحَانَهُ بَين
الْبَهْجَة وَالسُّرُور والنضرة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فوقاهم الله شَرّ ذَلِك
الْيَوْم ولقاهم نَضرة وسرورا فالنضرة فِي وُجُوههم وَالسُّرُور فِي
قُلُوبهم." اهـ
Komentar
Posting Komentar