أثر البيئة في توجيه الشيخ علميا
عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم
الإسلامي (1/ 128): "وبيتهم في الغالب ملتقى طلاب العلم
وخُوَّاصِ الفقهاءِ، سيما الوافدين باعتباره بيت القاضى، ولا بد أن يتخلل اجتماعاتهم ولقاءاتهم مناقشاتٌ ومباحِثُ
علميةٌ، يحضرها محمد بن عبد الوهاب والقضايا التي كان أبوه ينظر فيها، فإن قربه يمكنه من معرفة مجرياتها1، وهو قد أنعم الله
عليه بالإدراك العميق والحفظ القويِ والذكاءِ
الممتازِ والرغبة والطموح، والجد في اكتساب معالي الغايات وإن كانت بعيدة، فما له لا يدرك الحظ الوافر والبلغة العظيمة من العلم
النافع والميراث النبوي الكريم؟ لقد أتم الله عليه نعمته ورزقه إدراك بعض الأرب من العلم،
في بلده وأخذ ما عند علماء نجد ووصلوه بسندهم، ولكن همته العالية وطموحه الوثاب، كان يحفزه على البحث
الدائب والدراسة المتواصلة، والتفكير النافع والمناقشة البناءة مع العلماء
والطلبة وغيرهم، فلا يقنع بما اقتنع به سابِقُوْهُ، ويقتنع به معاصروه. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: "وقد أخبر شيخنا رحمه الله تعالى أنه كان في ابتداء
طلبه العلم، وتحصيله في فن الفقه وغيره، لم يتبين له
الضلال الذي كان الناس عليه من عبادة غيرِ اللهِ، من جن أو غائب، أو
طاغوت، أو شجر أو حجر أو غير ذلك. ثم إن الله جعل له نَهْمَةً في مطالعة التفسير والحديث، وتبين له من معاني الآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة أن
هذا الذي وقع فيه الناسُ من الشركِ أنه الشرك الذي بعث الله رسله، وأنزل كتبه
بالنهي عنه، وأنه الشرك الذي لا يغفره الله لمن لم يتب منه، فبحث في هذا الأمر مع أهله وغيرهم من طلبة العلم، فاستنار
قلبه بتوحيد الله الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه"2. __________ 1 انظر: الدكتور العثيمين، الشيخ محمد عبد
الوهاب ... ص 26، 27. 2 الدرر السنية 1/218. وانظر: ابن بشر، عنوان المجد 1/ 6. |
عقيدة
محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي (1/ 129): أثر البيئة في توجيه الشيخ علميا: لقد
أبصر الشيخ البيئة من حوله بواقعها والناس في حياتهم ودينهم على الغالب في تناقض
وتصادم مع ما نشأ عليه من علْمٍ وما عرفه من الحق على يد أبيه ومن خلال مطالعته
لكتب المحققين من علماء السلف الصالح، فما
يتعلمه من أبيه ومن ميراث العلماء في وادٍ، والحياة الواقعةُ والعملُ الجارِيْ
من الناس على العموم والغالب في وادٍ آخِرَ، بل في مصادمة ومناقضة مع حياته
العلمية الخاصة التي ورَثَها من متصل إسناد
العدول وحملة العلم النبوي من لدن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إليه اتصالا متينا، لا يتطرق إليه انقطاع ولا انفصام، ذلك
أن البيئة في نجد على الخصوص كما هي في سائر البلاد الأخرى على العموم- بيئةٌ
جاهليةٌ، بيئةُ خُرافةٍ وبدعةٍ، امتزجت بالنفوس، فأصبحت جزءا من عقيدتها، إن لم
تكن هي عقيدتها. وقد
بينا ذلك في المبحث السابق بفضل الله تعالى2. ولا___شك
أن بيئةً هذه عقيدتُها مناقضةٌ لعقيدة السلفِ الصالح، مناقضةً للإسلام، الذي
يتربى عليه الشيخ في مَحْضَنٍ خاصٍّ من المحاضن التي يحفظ الله بها دِيْنَهُ،
ويقيم على الناس بها حجَّتَه استمرارا لرسالة خاتم أنبيائه ورسله محمد بن عبد
الله _صلى الله عليه وسلم_. __________ 1
الدرر السنية 1/218. وانظر: ابن بشر، عنوان المجد 1/ 6. 2
انظر: ص 21-48 من هذا المبحث. |
عقيدة
محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي (1/ 130): "ولا بد أن يخرج الشيخ إلى هذه البيئة، ويعاملها بمقتضى سنة
الله في خلقه، الذي خلق الموت والحياة ليبلو الناسَ أيهم أحسن عملا وهو العزيز
الغفور، والشيخ
بين أمرين: إما أن يستسلمَ للبيئة ويصبحَ مثل
الآخرين، فتكون نفسُه وقلبه وروحُه ميدانًا للمتناقضات، وصراعها، واختلاط البدعة
والوهم بعقيدته السليمة ودينه القيم وحياته الطيبة، وتصبح الجاهليةُ سائدةً في
نفسِهِ، كالأكثر الغالب من الناس. وإما أن يصمم على محاربةِ الخرافة
المنتثرة والبدعة الشائعة، والجاهليةِ الجاثمة الثقيلة، وما
أثقلها من كابوس جاثم، إنها حياة أغلبية المجتمع من حوله، التي تضْغَطُ بقوة على من يحيا بالإسلام
ونوره. ولكن
قد اختار الشيخ _رحمه الله وجزاه خيرا_: أن يقوم لله قومة انصدعت لها جبال
الجاهلية، وتقطعت بها غيوم الباطل وشبهاته، فعزم
على تنحية البدع من الحياة التي حوله وإيقاظ النائمين، وتنبيه الغافلين، والعمل
على نشر الإسلام والنور من الكتاب والسنة وسيرة الصالحين. |
عقيدة
محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي (1/ 131): توجه الشيخ للرحلة في طلب العلم: قال
ابن بشر: "فلما
تحقق الشيخ معرفة التوحيد ونواقضه، وما كان وقع فيه كثير من الناس من هذه البدع
المضلة، صار ينكر هذه الأشياءَ، واستحسن الناسُ ما يقول، لكن لم ينهوا عما فعل
الجاهلون، ولم يزيلوا ما أحدث المبتدعون" ا. هـ [ابن بشر، عنوان المجد 1/6،7 وانظر الرسائل والمسائل النجدية للشيخ
عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب 3/ 339، 340] هنا
توجه الشيخ للرحلة في طلب العلم للتسلح بسلاح ماض قاطع، فإن إنكار الشيخ لهذه
الأمور الشائعةِ جعَلَتْهُ في مواجهةٍ للمعارضة من علماء السوء وتلبيساتِهم
وشبهاتِهِمْ، وتأليبِ العامةِ علَيْهِ، وتُهْمَتِهِمْ إيَّاهُ بالانحراف والجهل.
فكان
كل ذلك يزيد تفكيرَه،
وحِرْصَه على تحصيلِ العلم وإِدراكِ الحق. فلا بد أن يرحَلَ في طلب العلم،
وتحقيقِ ما شرح الله له صدره من حقيقة هذا الدين القيم على أيدي حملته العدول
الذين لن تخلُوَ مِنْهُمْ الأرضُ، ولن ينقطع منهم زمانٌ إلى قيام الساعة. فليرحل
إلى مظانهم في أقطار البلاد الإسلامية حيث إنهم لا يُحْصَرُوْنَ في مكانٍ دون
آخرَ، ولا زمانٍ دون زمان. فإِن للعلماء بقايا، وفي الزوايا خبايا، وحجةُ اللهِ
قائمةٌ، وذِكْرُهُ محفوظٌ، وميراث رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ مضبوط في
الكتب والصدور، يحمله من كل خَلَفٍ عُدُوْلُه، ويتوارثه جيلٌ بعد جيل، __________ 1 ابن بشر، عنوان المجد 1/6،7 وانظر الرسائل والمسائل النجدية
للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب 3/ 339،
340. |
عقيدة
محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي (1/ 132): ورب
مُبلغٍ أوعى من سامع، ورب حاملِ فقْهٍ إلى من هو أفقهُ منه. ليرحل الشيخ في طلب
العلم والتسلح بسلاحه. فإن الطريق إلى الله، لا بد له من أعداء قاعدين عليه، أهْلِ
فصاحةٍ وعلمٍ وحُجَجٍ، فالواجب
على المسلم أن يتعلم من دين الله ما يصير له سلاحا، يقاتل به هؤلاء الشياطين
الذين يصدون عن سبيل الله، ويقطعون الطريق إليه، كما يقول الشيخ.1 [انظر: كشف الشبهات تقديم علي الصالحي ص 20] لذلك
قرر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يرتحل من بلدِه "العيينةِ" يطلب
العلمَ والنصرةَ وإِعدادَ العُدّةِ من النورِ والحكمةِ، (ولعله يجد من يساعده
على ما عرف من دين الإسلام) 2. [الرساثل والمسائل
النجدية، للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن جـ 3/ 340] وقال
الشيخ: "كنت
عند الشيخ ابن سيف يوما، فقال لي: (تريْدُ أن أُرِيَك سِلاحا أعددته للمجمعة؟)، قلت: "نعم." فأدخلني منزلا عنده
فيه كتبٌ كثيرة، وقال: (هذا الذي أعددنا لها)."3. [ابن بشر، عنوان المجد 1/7] __________ 1 انظر: كشف الشبهات تقديم علي الصالحي ص 20. 2 الرساثل والمسائل النجدية، للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن
حسن جـ 3/ 340. 3 ابن بشر، عنوان المجد 1/7. |
رحلاته العلمية: (خط سيرها، والأماكن التي رحل إليها، وزمانها -
وشيوخه - وتحصيله- ونتيجة ذلك) قال
المؤرخ ابن بشر عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله_: "فلما
رأى أنه لا يغني القول، ولم يتلق الرؤساءُ الحقَّ بالقبول، تجهز من بلد___(العيينة)
إلى حج بيت الله الحرام-. فلما قضى حجه، سار إلى المدينة _على ساكنها أفضل
الصلاة والسلام_."1. [انظر الرسائل والمسائل
النجدية للشبخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج
3/ 339، 340] يفيدُ
كلامُ ابْنِ بِشْرٍ هذا: أن الشيخ بدأ رحلاته العلمية من العيينة إلى الحجاز،
فحج بيتَ الله الحرامَ أولا، ثم سار إلى المدينة ثانيا. وعلى
ما يظهر من كلام ابن غنام وكلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: أن
الشيخ كان قد حج قبل هذه الحجة التي ذكرها ابن بشر بداية رحلة الشيخ في طلب
العلم، قال
ابن غنام ينسب عن والد الشيخ أنه يقول عنه: "وقد
تحققت أنه بلغ الاحتلام قبل إكمال اثنتي عشرة سنة على الإتمام ... وزوَّجْتُه
بعد البلوغ في ذلك العام، ثم طلب مني الحجَّ إلى بيت الله الحرام، فأجبته
بالإسعاف لذلك المرام، فحج وقضى ركن الإسلامِ، وأدى المناسك على التمام، ثم
قصد مدينته _عليه الصلاة والسلام_، وأقام فيها شهرين، ثم رجع بعد ذلك فائزا بأجر
الزيارة والمناسك"2. [روضة ابن غنام 1/26] __________ 1انظر الرسائل والمسائل النجدية للشبخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن
بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج 3/ 339، 340. 2 روضة ابن غنام 1/26. |
ثم
ذكر ابن غنام أن الشيخ بعد رجوعه من المدينة إلى العيينة، أخذ في القراءة على
والده في الفقه، على مذهب الإمام أحمد، ثم
بعد ذلك رحل يطلب العلم إلى ما يليه من الأقطار، وزاحم فيه العلماء الكبار،
فوطىء___الحجازَ والبصرة لذلك مرارا، وأتى الأحساء لتلك الأوطار"1. [المصدر السابق نفس الموضع] ويقول
الشيخ عبد اللطيف أيضا: "وبعد
بلوغ الشيخ سنَّ الاحتلام، قدَّمه والده في الصلاة، ورآه أهلا للائتمام، ثم طلب
الحج إلى بيت الله الحرام، فأجابه والده إلى ذلك المقصد والمرام، وبادر إلى قضاء
فريضة الإسلام وأداء المناسك على التمام، ثم
قصد المدينة المنورة _على ساكنها أفضل الصلاة والسلام_، وأقام بها قريبا من
شهرين، ثم رجع إلى وطنه قرير العين، واشتغل بالقراءة فى الفقه على مذهب الإمام
أحمد _رحمه الله_، ثم بعد ذلك رحَل يطلب العلم"2. [الرسائل والمسائل النجدية 3/ 379، 0 38] فيتضح
من كلام ابن غنام والشيخ عبد اللطيف أن حجته الأولى كان يدفعه إليها واجبُ أداء
ركنِ الإسلام وفريضتِه، لما توفرت شروطها ببلوغ الشيخ، ألا وهي حج بيت الله
الحرام، __________ 1 المصدر السابق نفس الموضع. 2 الرسائل والمسائل النجدية 3/ 379، 0 38. |
أما
هذه الحجة التي ذكرها ابن بشر بداية رحلاته العلمية فواضح أنها كانت بعد أن قرر
مغادرةَ العيينةِ لطلب العلم، وبنحو ما حررته، يقول مسعود الندوي ما نصه:
"وكان قد تشرف بحج بيت الله الحرام، وكانت مركزية الحجاز قد أثرت في نفسه.
وحينما فكر في طلب العلم قصد الحجاز" إلى أن قال: "حج بيت الله
الحرام، وزار المسجد النبوي مرة ثانية، ثم حضر مجالس العلماء، وانقطع لطلب
العلم"1. [محمد بن عبد الوهاب، مصلح
مظلوم ومفترى عليه، تأليف مسعود الندوي، ص 38] وقال
الدكتور العثيمين: "الواضح مما ذكره كل من ابن غنام وابن بشر أن الحجاز
كانت أولى الجهات التي سافر إليها محمد بن عبد الوهاب في سلسلة رحلاته
العلمية"2. [الشيخ محمد بن عبد
الوهاب، حياته وفكره، للدكتور عبد الله الصالح العثيمين ص 30] وقال
أيضا: "كانت
ذكريات حجة الشيخ الأولى لا تزال عالقة في ذهنه، وكان ما شاهده في الحرمين كافيا
لإقناعه بأن تكون خطوته الأولى في أسفاره العلمية إلى الحجاز، وقد بدأ هذه
الخطوة بالسفر إلى مكة المكرمة، حيث حج مرة ثانية"3. [المصدر السابق، نفس الموضع] __________ 1 محمد بن عبد الوهاب، مصلح مظلوم ومفترى عليه، تأليف مسعود
الندوي، ص 38. 2 الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حياته وفكره، للدكتور عبد الله
الصالح العثيمين ص 30. 3 المصدر السابق، نفس الموضع. |
ولا
مانع من أن يكون الشيخ قد تلقى عن بعض المشائخ في المدينة في حجته الأولى وإن لم
يكن قد أطال الإقامة فيها كما فعل في المرة الثانية، بل
إننا لنجد ذلك في كتابات الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ في العدد الأول
والثاني والثالث من "مجلة راية الإسلام"، ففيها أن الشيخ رحل إلى مكة
وحج، ثم إلى المدينة وتلقى فيها على بعض المشائخ، ثم عاد إلى العيينة، ثم رحل
إلى مكة وأقام بها، وتلقى فيها عن بعض___المشائخ، ثم إلى المدينة وأطال المكث
فيها، ورأى ما أفزعه من الأعمال المنافية للشرع عند حجرة النبي صلى الله عليه
وسلم، ثم رحل إلى البصرة1. والشيخ
- على ما يَرْوي ابن بشر من رحلته العلمية - خرج من المدينة- بعد أن أقام فيها
ماشاء الله يطلب العلم- إلى نجد، ومن نجد تجهز إلى البصرة يريد الشام فلما وصل
البصرة جلس فيها يقرأ عند عالم من أهل المجموعة- قرية من قرى البصرة- في مدرسة
فيها2. ويذكر
حفيد الشيخ وتلميذه الشيخ عبد الرحمن بن حسن في معرض رده على ابن منصور الذي
يفتخر برحلته إلى البصرة والزبير ليقول: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يتخرج
على أشياخ في العلم؛ قال الشيخ عبد الرحمن: إن الشيخ أيضا سافر إلى البصرة غير
مرة كل مرة يقيم بين من كان بها من العلماء، فما الذي يخص ابن منصور بأخذ العلم
منها دونه إذا كان الكل قد سافر إليها3. ويقول
عبد الرحمن بن حسن: "ثم إن شيخنا رحمه الله تعالى بعد رحلته إلى البصرة،
رحل إلى الأَحساء ثم رجع من الأحساء إلى البصرة"4. __________ 1 انظر: مجلة راية الإسلام، العدد الأول، ص 34. 2 عنوان المجد 1/ 7، 8. 3 الدرر السنية 9/ 215. 4 الدرر السنية 9/ 216. |
Komentar
Posting Komentar