شرح الحديث 56 (باب المسح على الخفين) - من بلوغ المرام

 

56 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ _رضي الله عنه_، قَالَ:

"جَعَلَ النَّبِيُّ _صلى الله عليه وسلم_ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ." يَعْنِي: فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

 

ترجمة علي بن أبي طالب _رضي الله عنه_:

 

الأعلام للزركلي (4/ 295)

علي بن أبي طالِب (23 ق هـ - 40 هـ = 600 - 661 م)

علي بن أبي طالب (2) بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، أبو الحسن: أمير المؤمنين، رابع الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المبشرين، وابن عم النبي وصهره، وأحد الشجعان الأبطال، ومن أكابر الخطباء والعلماء بالقضاء، وأول الناس___

إسلاما بعد خديجة. ولد بمكة، وربي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه.

وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد.

ولما آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه قال له: أنت أخي، وولي الخلافة بعد مقتل عثمان ابن عفان (سنة 35 هـ)،

فقام بعض أكابر الصحابة يطلبون القبض على قتلة عثمان وقتلهم وتوقي عليّ الفتنة، فتريث،

فغضبت عائشة وقام معها جمع كبير، في مقدمتهم طلحة والزبير، وقاتلوا عليا، فكانت وقعة الجمل (سنة 36 هـ وظفر عليّ بعد أن بلغت قتلى الفريقين عشرة آلاف،

ثم كانت وقعة صفين (سنة 37 هـ وخلاصة خبرها أن عليا عزل معاوية من ولاية الشام، يوم ولي الخلافة، فعصاه معاوية، فاقتتلا مئة وعشرة أيام، قتل فيها من الفريقين سبعون ألفا، وانتهت بتحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاصي فاتفقا سرا على خلع عليّ ومعاوية، وأعلن أبو موسى ذلك، وخالفه عمرو فأقر معاوية،

فافترق المسلمون ثلاثة أقسام: الأول بايع لمعاوية وهم أهل الشام، والثاني حافظ على بيعته لعليّ وهم أهل الكوفة، والثالث اعتزلهما ونقم على على رضاه بالتحكيم،

وكانت وقعة النهروان (سنة 38 هـ) بين علي وأباة التحكيم، وكانوا قد كفروا عليا ودعوه إلى التوبة واجتمعوا جمهرة، فقاتلهم فقتلوا كلهم وكانوا ألفا وثمانمائة، فيهم جماعة من خيار الصحابة،

وأقام عليّ بالكوفة (دار خلافته) إلى أن قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي غيلة في مؤامرة 17 رمضان المشهورة، واختلف في مكان قبره." اهـ

 

نص الحديث وشرحه:

 

صحيح مسلم (1/ 232)

85 - (276) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتْ: عَلَيْكَ بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَسَلْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: «جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ» قَالَ: وَكَانَ سُفْيَانُ، إِذَا ذَكَرَ عَمْرًا، أَثْنَى عَلَيْهِ

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 126)

في اختلاف أهل العلم في توقيت مدّة المسح:

اختلفوا في المدة التي للمسافر والمقيم أن يمسح فيها على الخفين على مذاهب:

(الأول): ذهبت طائفة إلى أنه يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن على خفيه، وللمقيم يوم وليلة، هكذا قال عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبو زيد الأنصاريّ، وشُريح، وعطاء بن أبي رَبَاح، وبه قال سفيان الثوريّ، وأصحاب الرأي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وهو آخر قولي الشافعيّ، وكان قوله الأول كقول مالك.___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 127)

وقد اختلفت الأخبار عن ابن عمر، والحسن البصريّ في هذا الباب، فرُوي عن كل واحد منهما قولان: أحدهما كالقول الأول، والقول الآخر كالقول الثاني، وكان مالك بن أنس لا يؤقت في المسح على الخفين وقتًا، لم يَخْتَلف قوله في ذلك، وإنما اختلفت الروايات عنه في المسح في الحضر، وقد أخبر ابنُ بكير مذهبه الأول والآخر، قال ابن بكير: كان مالك يقول بالمسح على الخفين إلى العام الذي قال فيه غير ذلك، قيل له: وما قال؟ قال: كان يقول: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة عشر سنين، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فلم يبلغنا أن أحدًا منهم يمسح على الخفين بالمدينة.

وحُكِي عن الليث بن سعد أنه كان يَرَى المسح، ويقول: يمسح المقيم والمسافر ما بدا له. قال ابن المنذر رحمه الله: وأكثر من بلغني عنه من أصحاب مالك يرون أن يمسح المقيم والمسافر كما يشاء.

وسئل الأوزاعي عن غَازٍ صَلَّى في خفيه أكثر من خمس عشرة صلاةً لثلاث ليال وأيامهن لم ينزع خفيه؟ قال: مضت صلاته، وقد حُكي عن ربيعة أنه قال: لم أسمع في المسح على الخفين وقتًا.

قال ابن المنذر رحمه الله: وقد احتج بعض من هذا مذهبه بحديث رُوِي عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أنه قال: خرجت من الشام إلى المدينة، فخرجت يوم الجمعة، ودخلت المدينة يوم الجمعة، فدخلت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال: متى أولجت خفيك في رجليك؟ قلت: يوم الجمعة، قال: وهل نزعتهما؟ قلت: لا، قال: أصبت السنة، ومنهم مَن رَوَى أنه قال: أصبت، ولم يقل السنة.

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: امسح على الخفين ما لم تخلعهما.

(الثالث): قال سعيد بن جبير: المسح على الخفين من غدوة إلى الليل، وعن الشعبي أنه قال: لا أستتم خمس صلوات يمسح عليهما.

قال ابن المنذر بعد ذكره هذه الأقوال: وبالقول الأول أقول؛ إذ ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أَذِن أن يمسح المقيم يومًا والمسافر ثلاثًا، ثم أخرج بسنده عن عمرو بن ميمون الأوديّ، عن أبي عبد الله الْجَدَليّ، عن خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - قال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسح على الخفين ثلاثة أيام للمسافر،___

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 128)

ويومًا للمقيم، ولو مَضَى السائل في مسألته لجعله خمسًا، وقد رَوَى هذا الحديث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عليّ بن أبي طالب، وصفوان بن عَسّال، وأبو بكرة، وعوف بن مالك، وأبو هريرة، وغيرهم. انتهى ["الأوسط" 1/ 434 - 439].

قال الجامع _عفا الله عنه_: عندي أن ما قاله الجمهور من أن المسح موقّت للمقيم بيوم وليلة، وللمسافر بثلاثة أيام ولياليهنّ هو الحقّ؛ لثبوته بأحاديث صحيحة:

[فمنها]: حديث عليّ - رضي الله عنه المذكور في الباب بلفظ: "جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهنّ للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم"، فإنه نصّ صريح في التوقيت.

[ومنها]: حديث صفوان بن عسّال - رضي الله عنه - قال: "رخّص لنا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا كنّا مسافرين أن لا ننزِعَ خفافنا ثلاثة أيام ولياليهنّ"، وهو حديث صحيح أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه.

[ومنها]: حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن المسح على الخفّين؟ فقال: "للمسافر ثلاثة أيام ولياليهنّ، وللمقيم يوم وليلةٌ"، وهو حديث حسن.

[ومنها]: حديث خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الخفين: "للمسافر ثلاث، وللمقيم يوم"، وهو حديث صحيح، رواه أبو داود، والترمذيّ، وغيرهما.

[ومنها]: حديث عوف بن مالك الأشجعيّ - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر في غزوة تبوك بالمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهنّ للمسافر، وللمقيم يوم وليلة"، قال الترمذيّ: قال البخاريّ: هذا الحديث حسنٌ، وغير ذلك من الأحاديث.

والحاصل أن القول بتوقيت المسح هو المذهب الحقّ؛ لصحّة الأدلة عليه، وأما ما احتجّ به القائلون بعدم التوقيت، فأدلّة ضعيفة، لا تعارض أدلّة الجمهور، وقد استوفيت الكلام عليها في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد علمًا جَمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه مسلم في "صحيحه" (1/ 232/ 85) (276)، سنن النسائي (1/ 84) (رقم: 128_129)، السنن الكبرى للنسائي (1/ 124) (رقم: 130)، سنن ابن ماجه (1/ 183) (رقم: 552)، مسند أبي داود الطيالسي (1/ 91) (رقم: 93)، مصنف عبد الرزاق الصنعاني (1/ 202_203) (رقم: 788_789)، الأمالي في آثار الصحابة لعبد الرزاق الصنعاني (ص: 71) (رقم: 92)، مسند الحميدي (1/ 175) (رقم: 46)، مسند ابن الجعد (ص: 371) (رقم: 2556)، مصنف ابن أبي شيبة (1/ 162 و 1/ 165) (رقم: 1866 و 1892)، مسند إسحاق بن راهويه (3/ 899) (رقم: 1583)، مسند أحمد – ط. عالم الكتب (1/ 96) (رقم: 748)، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (2/ 702) (رقم: 1199)، مسند أبي يعلى الموصلي (1/ 229 و 1/ 423) (رقم: 264 و560)، معجم أبي يعلى الموصلي (ص: 39) (رقم: 5)، صحيح ابن خزيمة (1/ 97_98) (رقم: 194_195)، الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (1/ 426 و1/ 430 و1/ 436) (رقم: 435 و440 و 459)، صحيح ابن حبان - مخرجا (4/ 151 و 4/ 157 و 4/ 160) (رقم: 1322 و 1327 و 1331)، وغيرهم.

 

والحديث صحيح: صححه الألباني في "تخريج مشكاة المصابيح" (1/ 160) (رقم: 517).

 

من فوائد الحديث:

 

وقال الإثيوبي _رحمه الله_ في "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (7/ 125_126):

"في فوائده:

1 - (منها): بيان مشروعيّة المسح على الخفّين، والردّ على من أنكر ذلك، وهم أهل الزيغ والضلال.___


2 - (ومنها): بيان مدّة المسح على الخفّين بأنه يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهنّ للمسافر.

3 - (ومنها): أن فيه الردّ على مالك، حيث لم ير للمقيم مسحًا، ولم يقيّد للمسافر بمدّة.

4 - (ومنها): بيان ما كان عليه السلف من الحرص على سؤال أهل العلم عن أحكام دينهم.

5 - (ومنها): جواز استفتاء النساء مع وجود الرجال، إذا كنّ عالمات.

6 - (ومنها): ما كان عليه السلف من الورع في الفتوى، فإنهم لا يجترؤون، بل إذا وجدوا من هو أعلم منهم دلُّوا عليه السائل؛ نصيحةً له؛ عملًا بمقتضى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الدين النصيحة".

7 - (ومنها): بيان ما كان عليه عليّ - رضي الله عنه - من حفظ سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي تحتاج الأمة إليها.

8 - (ومنها): ما كانت عليه عائشة - رضي الله عنها - من الورع والدين، حيث اعترفت بفضل عليّ - رضي الله عنه -، ووفور علمه، وأرشدت السائل إلى الاستفادة منه - رضي الله عنهما -، وعن جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمعين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

 

شرح النووي على مسلم (3/ 176):

وَأَمَّا أَحْكَامُهُ:

* فَفِيهِ الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ وَالدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُوَقَّتٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي السَّفَرِ وَبِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي الْحَضَرِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ.

وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ يَمْسَحُ بِلَا تَوْقِيتٍ، وَهُوَ قَوْلٌ قديم ضعيف عن الشافعي، واحتجوا بحديث بن أَبِي عِمَارَةَ - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - فِي تَرْكِ التَّوْقِيتِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ.

وَأَوْجُهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ ظَاهِرَةٌ، وَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَقُولُ بِهِ، يُقَالُ: (الْأَصْلُ: مَنْعُ الْمَسْحِ فِيمَا زَادَ).

* وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَكَثِيرِينَ: أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ الْحَدَثِ بَعْدَ لُبْسِ الْخُفِّ، لَا مِنْ حِينِ اللُّبْسِ، وَلَا مِنْ حِينِ الْمَسْحِ.

* ثُمَّ إِنَّ الْحَدَثَ عَامٌّ مخصوص بحديث صفوان بن عسَّالٍ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_، قَالَ: (أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَوْ سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أيام وليالهن، إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ). [ت][1]

قَالَ أَصْحَابُنَا فَإِذَا أَجْنَبَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ. فَلَوِ اغْتَسَلَ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ فِي الْخُفِّ، ارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُ، وَجَازَتْ صَلَاتُهُ.

فَلَوْ أَحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ خَلْعِهِ وَلُبْسِهِ عَلَى طَهَارَةٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَنَجَّسَتْ رِجْلُهُ فِي الْخُفِّ، فَغَسَلَهَا فِيهِ، فَإِنَّ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

* وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْأَدَبِ:

مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُحَدِّثِ وَلِلْمُعَلِّمِ وَالْمُفْتِي إِذَا طُلِبَ مِنْهُ مَا يَعْلَمُهُ عِنْدَ أَجَلَّ مِنْهُ أَنْ يُرْشِدَ إِلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، قَالَ: (اسْأَلْ عَنْهُ فُلَانًا)." اهـ

 

[تعليق]:

وفي "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" (3/ 238):

قال النووي في المجموع (ج 1/ ص 486)، ماحاصله:

* "مذهبنا ومذهب أبي حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوري، وجمهور العلماء، وهو أصح الروايتين عن أحمد، وداود:

أن ابتداء المدة من أول حدث بعد لُبْس الخف.

فلو أحدث، ولم يمسح حتى مضى من بعد الحدث يومٌ وليلةٌ، أو ثلاثةٌ إن كان مسافرا، انقضت المدة، ولم يجز المسح بعد ذلك حتى يستأنف لُبْسَهَا على طهارة. وما لم يحدث، لا تحسب المدة.

فلو بقي بعد اللبس يوما على طهارة اللبس، ثم أحدث استباح بعد الحدث يوما وليلة إن كان حاضرا، وثلاثةَ أيامٍ وليالِيْهَا، إن كان مسافرًا.

* وقال الأوزاعي، وأبو ثور:

ابتداءُ المدة من حِيْنِ يمسح بعد الحدث، وهو رواية عن أحمد، وداود، وهو المختار الراجح دليلا، واختاره ابن المنذر،

وحكي نحوه عن عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_،

* وحكى الماوردي، والشاشي عن الحسن البصري: أن ابتداءها من اللبس.

واحتج القائلون من حين المسح بقوله - صلى الله عليه وسلم - "يمسح المسافر ثلاثة أيام"، وهي أحاديث صحاح، كما سبق، وهذا تصريح بأنه ثلاثة ولا يكون ذلك إلا إذا كانت المدة من المسح.

واحتج القائلون: من أول الحدث بعد اللبس برواية رواها الحافظ القاسم بن زكريا الْمُطَرِّزِيُّ في حديث صفوان (من الحدث إلى الحدث)، وهي زيادة غريبة ليست ثابتة.

قال الجامع _عفا الله عنه_:

هذا الذي رجحه النووي -رحمه الله- مع مخالفته لمذهبه هو عين التحقيق من هذا الإمام المحقق الجليل، حيث دار مع الدليل أينما دار، وما تجمد على المذهب.

وهذا هو الذي يجب على___المسلم أن يلتزمه، ويتمسك به، وهو الذي كان عليه السلف الصالحون من الصحابة، والتابعين، كانوا إذا وقع بينهم اختلاف في أي مسألة ردوه إلى كتاب الله، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يأخذون ما وافق النص، ولا يعدلون عنه،

قال الله _تعالى_:

{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59].

فنصيحتي لمقلدي المذاهب أن يقارنوا أقوال الأئمة بالنصوص الصحيحة، فيأخذوا ما اتفق معها، ولا يتجمدوا على قول إمامهم، ولا يتعصبوا له، بل التحمس يكون للحق، وهذه هي وصية الأئمة كلهم لأتباعهم كما هو مشهور في تراجمهم رحمهم الله تعالى. والله أعلم." اهـ

 

وفي "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" - للألباني (ص: 49_52):

"وأما الإمام الشافعي رحمه الله، فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب__وأتباعه أكثر عملا بها وأسعد، فمنها:

1 - (ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي) . (تاريخ دمشق لابن عساكر 15 / 1 / 3)

2 - (أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد) . (الفلاني ص 68) [إيقاظ الهمم]

3 - (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت) . (وفي رواية (فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد) . (النووي في المجموع 1 / 63)

4 - (إذا صح الحديث فهو مذهبي) . (النووي 1 / 63)___

5 - (أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفيا أو بصريا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا) . (الخطيب في الاحتجاج بالشافعي 8 / 1)

6 - (كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل___بخلاف ما قلتُ، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي) . (أبو نعيم في الحلية 9 / 107)

7 - (إذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب) . (ابن عساكر بسند صحيح 15 / 10 / 1)

8 - (كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني) . (ابن عساكر بسند صحيح 15 / 9 / 2)

9 - (كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني) . (ابن أبي حاتم 93 - 94)." اهـ

 

صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - الألباني (ص: 46_48):

"فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله وقد روي عنه أصحابه أقوالا شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها:

1 - (إذا صح الحديث فهو مذهبي) . (ابن عابدين في " الحاشية " 1 / 63)

2 - (لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه) . (ابن عابدين في " حاشيته على البحر الرائق " 6 / 293)___

وفي رواية: (حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي)

زاد في رواية: (فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا)

وفي أخرى: (ويحك يا يعقوب (هو أبو يوسف) لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد)

3 - (إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي) . (الفلاني في الإيقاظ ص 50)." اهـ

 

صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - الألباني (ص: 48)

وأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقال:

1 - (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه) . (ابن عبد البر في الجامع 2 / 32)___

2 - (ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا ويؤخذ من قوله، ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم) . (ابن عبد البر في الجامع 2 / 91)

3 - قال ابن وهب: سمعت مالكا سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خف الناس فقلت له: عندنا في ذلك سنةٌ، فقال: (وما هي)

قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه).

فقال: (إن هذا الحديث حسَنٌ، وما سمعت به قط، إلا الساعةَ).

ثم سمعته بعد ذلك يُسأل فيأمر بتخليل الأصابع. (مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ص 31 - 32)." اهـ

 

صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - الألباني (ص: 52)

وأما الإمام أحمد، فهو أكثر الأئمةِ جَمْعًا للسنةِ وتمسكًا بها حتى (كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي)، ولذلك قال:___

صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - الألباني (ص: 53)

1 - (لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا) . (ابن القيم في إعلام الموقعين 2 / 302)

وفي رواية: (لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير)

وقال مرة: (الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين مخير) . (أبو داود في مسائل الإمام أحمد ص 276 - 277)

2 - (رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار) . (ابن عبد البر في الجامع 2 / 149)

3 - (من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة) . (ابن الجوزي في المناقب (ص 182)

تلك هي أقوال الأئمة رضي الله تعالى عنهم في الأمر بالتمسك بالحديث والنهي عن تقليدهم دون بصيرة وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلا ولا تأويلا وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض أقوال الأئمة لا يكون مباينا لمذهبهم ولا خارجا عن طريقتهم بل هو متبع لهم جميعا ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالتفها لقولهم بل هو بذلك عاص لهم ومخالف لأقوالهم المتقدمة والله تعالى يقول: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما___

صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - الألباني (ص: 54)

وقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى:

(فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإنَّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي أيِّ مُعَظَّمٍ قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ. )." اهـ

 

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (3/ 237_238):

في فوائد هذا الحديث:

من فوائده: مشروعية المسح على الخفين، وتحديد وقته، وكونه ثلاثا للمسافر، ويوما وليلة للمقيم، وسؤال أهل العلم فيما يجهله من أمور الدين، وإرشاد العالم السائل إلى من هو أعلم بالفتوى منه لأن ذلك من النصيحة، لحديث مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدين النصحية ثلاثا".

المسألة الخامسة: أنه تقدم في الباب السابق تحقيق الخلاف في توقيت المسح وعدمه. وأن الجمهور على التوقيت، وهو الحق.

قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: وثبت التوقيت عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وحذيفة والمغيرة، وأبي زيد الأنصاري: هؤلاء من الصحابة. وروي عن

جماعة من التابعين: منهم شريح القاضي، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز.

وقال أبو عمر بن عبد البر: وأكثر التابعين والفقهاء على ذلك، وهو الأحوط عندي؛ لأن المسح ثبت بالتواتر، واتفق عليه أهل السنة والجماعة، واطمأنت النفس إلى اتفاقهم، فلما قال أكثرهم: لا يجوز

المسح للمقيم أكثر من خمس صلوات يوم وليلة، ولا يجوز للمسافر أكثر من خمس عشرة صلاة ثلاثة أيام ولياليها، فالواجب لحى العالم أن يؤدي صلاته بيقين، واليقين الغسل حتى يُجمعُوا على المسح، ولم

يجمعوا فوق الثلاث للمسافر، ولا فوق اليوم للمقيم اهـ التمهيد ج 11 ص 153.

وقال الشوكاني بعد ما ذكر ما تقدم من الأقوال: فالحق توقيت المسح بالثلاث للمسافر، واليوم والليلة للمقيم. اهـ نيل ج 1 ص 276.

قال الجامع عفا الله عنه: والحاصل أن الراجح هو ما عليه الجمهور___لقوة الدليل، كما أسلفت في الباب السابق. والله أعلم." اهـ

 

توضيح الأحكام من بلوغ المرام (1/ 269_270):

* ما يؤخذ من الحديث:

1 - مدَّة مسح المقيم: يومٌ وليلةٌ، ويكون -على الرَّاجح من قولي العلماء- من ابتداء المسح بعد الحدث، إلى مثل وقته من اليوم الثاني.

2 - مدَّه مسح المسافر: ثلاثة أيام ولياليهنَّ، وهو من ابتداء المسح بعد الحدث إلى مثل وقته من اليوم الرَّابع.

3 - مثل الخفين في المدَّة: العمامةُ، وخُمُرُ النِّساء، عند من يقول بجواز المسح عليها؛ ففيها خلاف، والرَّاجح: جواز ذلك.___

4 - في الحديث دليلٌ على حكمةِ الشرع، وتنزيل الأمور منازلها، واعتبارِ الأحوال؛ فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فرَّق -هنا- بين المسافر والمقيم، فجعل للمسافر مُدَّةً أطول من مدَّة المقيم، مراعاةً بحال المسافر ومشقَّته، واحتياجه إلى زيادة المدَّة، بخلاف المقيم المستقر المرتاح، والله حكيمٌ عليم.

5 - فيه بيانُ يُسْرِ الشريعة وسماحَتِها، ومراعاتِها لأحوالِ النَّاسِ في قوتهم وضعفهم وحاجتهم." اهـ



[1]  أخرجه الترمذي في "سننه" (1/ 159 5/ 545_546) (رقم: 96 و 3535 و 3536)، والنسائي في "سننه" (1/ 83 و1/ 98) (رقم: 126_127 و 158_159)، وابن ماجه في "سننه" (1/ 161) (رقم: 478)، وأحمد في "مسنده" – ط. عالم الكتب (4/ 239 و 4/ 240) (رقم: 18091 و18269)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 13 و 1/ 97 و1/ 98) (رقم: 17 و 193 و 196)، وغيرهم.

والحديث حسن: حسّنه الألباني _رحمه الله_ في "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" (1/ 140) (رقم: 104)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 145) (رقم : 85).

Komentar

Postingan populer dari blog ini

فضائل عشر ذي الحجة