شرح الحديث 142 (الترهيب من المراء والجدال والمخاصمة والمحاججة والقهر والغلبة، والترغيب في تركه للمُحِقِّ والمبطل) من صحيح الترغيب

 

142 - (5) [صحيح] وعن عائشة _رضي الله عنها_، قالت:

قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

"إنّ أبغضَ الرجالِ إلى الله الألدُّ الخصِم".

رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

 

(الألدُّ) بتشديد الدال المهملة: هو الشديد الخصومة.

(الخصِم) بكسر الصاد المهملة: هو الذي يحج من يخاصمه.

 

ترجمة عائشة بنت أبي بكر -رضي الله عنهما-:

 

( خ م د ت س ق ) : عائشة بنت أبى بكر الصديق عبد الله بن عثمان أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة القرشية التيمية، أم المؤمنين ، تكنى: أم عبد الله ،

 

و أمها: أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة ابن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة ،

و قيل غير ذلك فى نسبها ، و أجمعوا أنها من بنى غنم بن مالك بن كنانة .

 

تزوجها رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بمكة قبل الهجرة بسنتين فى قول

أبى عبيدة ، و هى بنت ست سنين،

 

و بنى بها بالمدينة، بعد منصرفه من وقعة بدر فى شوال سنة اثنتين (2 هـ) من الهجرة، و هى بنت تسع سنين (9).

 

ثناء على عائشة

 

عن أبى موسى الأشعري:

"ما أشكل علينا أصحاب محمد _صلى الله عليه وسلم_ حديث قط فسألنا عائشة عنه، إلا وجدنا عندها منه علما .

 

عن قبيصة بن ذؤيب قال :

"فكنت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن نجالس أبا هريرة، وكان عروة بن الزبير يغلبنا بدخوله على عائشة،

وكانت عائشة أعْلَمَ الناسِ، يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_."

 

عن مسروق: "رأيت مشيخة أصحابِ محمدٍ الأكابرَ يسألونها عن الفرائض."

 

و قال الشعبى:

"كان مسروق إذا حدث عن عائشة، قال: حدثتنى الصادقة بنت الصديق، حبيبةُ حبيبِ اللهِ، الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فَوْقِ سَبْع سَمَاوَاتٍ.

 

وقال هشام بن عروة، عن أبيه:

"ما رأيت أحدا أعلم بفقه و لا بطلب و لا بشعر من عائشة." اهـ

 

وقال عطاء بن أبى رباح:

"كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، و أحسن الناس رأيا فى العامة." اهـ

 

و قال الزهرى:

"لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبى _صلى الله عليه وسلم_، وعِلْمِ جميْعِ النساءِ، لكان علم عائشة أفضل."

 

و قال أبو عثمان النهدى، عن عمرو بن العاص: قلتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أى الناس أحب إليك؟" قال: "عائشة." قلت: "فمن الرجال؟" قال: "أبوها."

 

وفى الصحيح عن أبى موسى الأشعرى، عن النبى _صلى الله عليه وسلم_ قال:

"فضل عائشة على النساءِ، كفضل الثريد على سائر الطعام."

 

و مناقبها و فضائلها كثيرة جدا رضى الله عنها و أرضاها .

 

العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام لابن العطار (1/ 102_103)

واختصَّت عائشةُ بفضائل لم يشركْها أحدٌ من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها:

الأولى: أنه - صلى الله عليه وسلم - تزوجها بِكْرًا دون غيرها.

الثانية: أنها خُيِّرَتْ فاختارتِ اللهَ ورسولَه على الفور، وكُنَّ تبعًا لها في ذلك.

الثالثةُ: نزول آية التَّيَمُّم بسبب عِقْدِها حين حبسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّاس، وقال أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرِ: ما هيَ بأولِ بركتِكم يا آلَ أبي بكر.

الرَّابعةُ: نزولُ براءتها من السَّماء.

الخامسة: جَعْلُها قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة.

السادسةُ: تَتَبُّعُ الناس بهداياهم يومَها؛ لما علموا من حبِّه - صلى الله عليه وسلم - لها.

السابعة: اختيارُه - صلى الله عليه وسلم - أن يُمَرَّضَ في بيتها.

الثامنةُ: وفاته - صلى الله عليه وسلم - بين سَحْرِها ونحرِها.

التاسعة: وفاته في يومها.

العاشرةُ: وفاته - صلى الله عليه وسلم - في بيتها.

الحاديةَ عشرةَ: دفنُه - صلى الله عليه وسلم - في بيتِها.

الثانية عشرة: [بيتها] بقعة هي أفضلُ بقاع الأرض مطلقًا، وهي مدفنه - صلى الله عليه وسلم -، وادعى القاضي عياض الإجماع عليه.

الثالثةَ عشرةَ: أنها رأتْ جبريلَ - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحيةَ الكلبيِّ، وسلَّم عليها.

الرَّابعةَ عشرةَ: كانت أحبَّ نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه.

الخامسةَ عشر: اجتماعُ ريقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريقِها في آخر أنفاسه.

السَّادسةَ عشرةَ: كانت أكثرَهن علمًا.

السَّابعةَ عشرةَ: كانت أفصحَهن لسانًا.____

الثامنةَ عشرةَ: لم ينزلِ الوحيُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في لِحاف امرأةِ غيرها.

التَّاسعةَ عشرةَ: أن جبريلَ جاء إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بصورتها قبل أن يتزوَّجها.

العشرون: لم ينكح النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أبواها مُهاجران بلا خلاف سواها.

الحاديةُ والعشرون: كان أبوها أحبَّ الرجال إليه، وأعزهم عليه - صلى الله عليه وسلم -.

الثَّانيةُ والعشرونَ: كان لها يومان وليلتان في القَسْم دونهن لمَّا وهبتْها سَوْدَةُ بنتُ زمعةَ يومَها وليلتَها.

الثالثةُ والعشرون: أنَّها كانت تغضب، فيترضَّاها - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت ذلك لغيرها.

الرَّابعةُ والعشرون: لم ينزلْ بها أمر إلا جعل الله لها منه مخرجا، وللمسلمين بركة.

الخامسةُ والعشرون: لم يَرْوِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ حديثًا أكثرَ منها.

السَّادسةُ والعشرون: أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يتتبع رضاها في المباحات؛ كضرب الجواري إليها، وجعل ذقنها على عاتقه، ووقوفه لتنظر إلى الحَبَشَةِ يلعبون." اهـ

 

وفاة عائشة :

 

قال سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة : توفيت عائشة سنة سبع و خمسين .

وصلى عليها أبو هريرة .

 

و أَمَرَتْ أن تدفن ليلا ، فدفنت بعد الوتر بالبقيع ، و صلى عليها أبو هريرة و نزل فى قبرها خمسة : عبد الله بن الزبير ، و عروة بن الزبير ، و القاسم بن محمد بن أبى بكر ، و أخوه عبد الله بن محمد بن أبى بكر ، و عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر .

 

و توفى النبى صلى الله عليه وسلم و هى بنت ثمانى عشرة سنة (18) . وعمرها 64 سنة.

كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 357)

قَالَ ابْن قُتَيْبَة: (رجل أَلد، بَين اللدد، وَقوم لد)،

قَالَ الزّجاج: (واشتقاقه من لديدي الْعُنُق: وهما صفحتا الْعُنُق. وتأويله: أَن خَصمه من أَي وَجه أَخذ عَن يَمِين أَو شمال من أَبْوَاب الْخُصُومَة غَلبه فِي ذَلِك)." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (1/ 183):

"قَوْله (الألد الْخصم): هُوَ الدَّائِم الْخُصُومَة. وَالِاسْم: اللدد مَأْخُوذ من لديدي الْوَادي وهما جانباه." اهـ

 

فتح الباري لابن حجر (5/ 106)

الْأَلَدُّ الشَّدِيدُ اللَّدَدِ أَيِ الْجِدَالِ مُشْتَقٌّ مِنَ اللَّدِيدَيْنِ وَهُمَا صَفْحَتَا الْعُنُقِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ من أَي جَانب أَخذ فِي الْخُصُومَةِ قَوِيَ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي مَعْنَاهُ

 

فتح الباري لابن حجر (8/ 188):

"قَوْلُهُ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ أَيِ الشَّدِيدُ اللَّدَدِ الْكَثِيرُ الْخُصُومَةِ." اهـ

 

وقال المظهر الزيداني _رحمه الله_ في " المفاتيح في شرح المصابيح" (4/ 322):

"قوله: (الأَلَدُّ الخَصِمُ)،

(الأَلَدُّ) مبالغة؛ أي: أشدُّ مخاصمةً، الأَلَدُّ مضافٌ، والخَصِمُ مضافٌ إليه، وهو مصدر، وتقديره: الذي لدَّتْ مخاصمتُه؛ أي: اشتدَّتْ." اهـ

 

تخريج الحديث:

 

أخرجه البخاري في "صحيحه" (3/ 131 و6/ 28 و 9/ 73) (رقم: 2457 و 4523 و 7188)، صحيح مسلم (4/ 2054/ 5) (رقم: 2668)، سنن الترمذي ت شاكر (5/ 214) (رقم: 2976)، سنن النسائي (8/ 247) (رقم: 5423)، السنن الكبرى للنسائي (5/ 422 و 10/ 30) (رقم: 5944 و 10969)، الجامع لابن وهب ت مصطفى أبو الخير (ص: 546) (رقم: 441)، مسند الحميدي (1/ 297) (رقم: 275)، تفسير عبد الرزاق (1/ 329 و 2/ 365) (رقم: 240 و 1791)، مسند إسحاق بن راهويه (3/ 653_654) (رقم: 1242_1244)، مسند أحمد - عالم الكتب (6/ 55 و 6/ 63 و 6/ 205) (رقم: 24277 و 24343 و 25704)، الصمت لابن أبي الدنيا (ص: 114 و 265) (رقم: 157 و 571)، ذم الغيبة والنميمة لابن أبي الدنيا (ص: 10) (رقم: 19)، التاريخ الكبير = تاريخ ابن أبي خيثمة - السفر الثالث (1/ 329) (رقم: 1214)، مسند البزار = البحر الزخار (18/ 214) (رقم: 213)، مستخرج أبي عوانة – ط. الجامعة الإسلامية (20/ 300_301) (رقم: 11697_11699)، صحيح ابن حبان - مخرجا (12/ 508) (رقم: 5697)، الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 483_484 و 2/ 492) (رقم: 520_523 و 536)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 142) (رقم: 209)، أمالي ابن سمعون الواعظ (ص: 284) (رقم: 316)، السنن الكبرى للبيهقي (10/ 185) (رقم: 20297)، شعب الإيمان (11/ 15) (رقم: 8071 و 8072)، معرفة السنن والآثار (14/ 487) (رقم: 20869)، الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 466) (رقم: 1051)، تاريخ بغداد ت بشار (3/ 186) (رقم: 557)، الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/ 561)، الترغيب والترهيب لقوام السنة (1/ 533) (رقم: 975)، وأبو طاهر السِّلَفي في "معجم السفر" (ص: 388) (رقم: 1316).

 

والحديث صحيح: صححه الألباني _رحمه الله_ في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (7/ 1698) (رقم: 3970)، و"تخريج مشكاة المصابيح" (2/ 1111) (رقم: 3762)، صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 69) (رقم: 39)، التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (8/ 213) (رقم: 5667)، صحيح الترغيب والترهيب (1/ 170) (رقم: 142)

 

من فوائد الحديث:

 

شرح النووي على مسلم (16/ 219)

وَالْمَذْمُومُ هُوَ الْخُصُومَةُ بِالْبَاطِلِ فِي رَفْعِ حق او اثبات بَاطِلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

 

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (39/ 367)

فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف _رحمه الله تعالى_، وهو بيان ذمّ شدّة الخصومة. والمراد به: الخصومةُ فِي دفْعِ الحقّ، أو إثباتِ الباطلِ، كما سبق فِي كلام النوويّ _رحمه الله تعالى_.

وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي "المفهم" (6/ 690):

هَذَا الخصم المبغوض عند الله تعالى هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشُّبَهِ الموهمة،

وأشد ذلك الخصومة فِي أصول الدين، كخصومة أكثر المتكلمين، المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتابُ الله، وسنةُ رسولِهِ _صلى الله عليه وسلم_، وسلفُ أمته إلى طُرُق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية.

مدار أكثرها عَلَى مباحثٍ سُوْفِسْطَائِيَّةٍ، أو مناقشات لفظية، تَرِد بسببها عَلَى الآخذ فيها شُبَهٌ، ربما يَعجَز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم، لا أعلمهم،

فكم منْ عالم بفساد الشبهةِ لا يقوى عَلَى حَلِّها، وكم منْ مُنفصلٍ عنها لا يدركَ حقيقةَ عِلْمِها،

ثم إن هؤلاء المتِكلّمين قد ارتكبوا أنواعا منْ المحال، لا يرتضيها الْبُلْهُ، ولا الأطفال، لَمّا بحثوا عن تَحيُّز الجواهر، والألوان، والأحوال ... إلى آخر كلامه الذي نقلته برمّته فيما سبق منْ هَذَا الشرح فِي "كتاب الإيمان"، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

 

شرح صحيح البخارى لابن بطال (8/ 259)

قال المهلب: لما كان اللدد حاملاً على المطل بالحقوق والتعريج بها عن وجوهها، واللىّ بها عن مستحقيها وظلم أهلها؛ استحق فاعل ذلك بغضة الله وأليم عقابه.

 

وقال المغربي في "البدر التمام شرح بلوغ المرام" (10/ 342):

"الحديث فيه دلالة على تحريم كثرة الخصومة." اهـ

 

التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 38):

"واعلم أن الخصومة المذمومة: الخصومة بغير حق أو بحق لكنه لا يقتصر على قدر الحاجة، بل يُظهر الزيادةَ في الخصومة أو يَمْزُجُ بطلب حقه كلماتٍ مؤذيةً، أو يجادل بغير علم، كالذي يخاصم بغير علم.

وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من جادل في خصومة بغير علم لم يزل في سخط الله" [ضعيف: أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الغيبة والنميمة" (ص: 10) (رقم: 15)]." اهـ

 

قلت: وقد صح من حديث ابن عمر _رضي الله عنهما_، قال: سمعتُ رسولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:

"مَنْ حالتْ شفاعَتُه دونَ حدٍّ من حدودِ الله، فقد ضادَّ الله عزَّ وجلَّ، ومَنْ خاصمَ في باطِلٍ، وهو يعلَمُ؛ لَمْ يَزَلْ في سَخَطِ الله حتى يَنْزِعَ، ومَنْ قال في مؤمنٍ ما ليسَ فيه؛ أسْكَنَه الله رَدْغَةَ الخَبالِ، حتى يَخْرُجَ مِمَّا قال".

رواه أبو داود -واللفظ له-، والطبراني بإسناد جيد نحوه. وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2/ 545) (رقم: 2248)

 

فيض القدير (5/ 5):

"قال داود لابنه: (يا بني إياك والمراء فإن نفعه قليل وهو يهيج العداوة بين الإخوان)،

قال بعضهم: (ما رأيت شيئا أذهبَ للدين، ولا أنقصَ للمُروءةِ، ولا أضيعَ للذة ولا أشغلَ للقلْبِ من المخاصمة).

فإن قيل: لا بد من الخصومة لاستيفاء الحقوق!

فالجواب ما قال الغزالي:

أن الذم المتأكد إنما هو خاص بباطل أو بغير علم، كوكلاء القاضي.

وقال بعض العارفين: (إذا رأيت الرجل لجوجا مرائيا معجبا برأيه فقد تمت خسارته)." اهـ

 

التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 144):

"قال لقمان لابنه: (يا بني إياك والمراء فإن نفعه قليل وهو يهيج العداوة بين الإخوان)،

قال بعضهم: (ما رأيت شيئاً أذهب للدين ولا أنقص للمروءة ولا أضيع للذة ولا أشغل للقلب من المراء)،

فإن قيل: لا بد من الخصومة لاستيفاء الحقوق،

فالجواب ما قاله الغزالي: (إن الذنب المتأكد إنما هو لمن خاصم بباطل أو بغير علم)." اهـ

 

حجة الله البالغة (2/ 261)

وَمِنْهَا الاعتياد بالمجادلة وَرفع الْقَضِيَّة، فإن ذَلِك لَا يَخْلُو من إِفْسَاد ذَات الْبَين لقَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِن أبْغض الرِّجَال إِلَى الله الألد الْخصم)." اهـ

 

وقال عبد الله البسام _رحمه الله_ في "توضيح الأحكام من بلوغ المرام" (7/ 476_477):

"ما يؤخذ من الحديث:

1 - الألد: هو الخصم الشديد الخصومة، وشديد التأبي، قال تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} [البقرة]، وقال: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)} [مريم].

فاللدود: الشديد الخصومة، يبغضه الله تعالى؛ لأنَّ مثل هذا لا يريد بلجاجه طلب الحق، والوصول إلى الصواب، وإنما يريد أن يظهر على مجادله ومخاصمه، ولو بالباطل، وقد أخرج الترمذي (1994)، من حديث ابن عباس أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "كفى بك إثمًا أن لا تزال مخاصمًا".

2 - قال الغزالي: إنَّ الذم إنما هو لمن خاصم بباطل وبغير علم، كالذي يتوكل في الخصومة قبل أن يعرف الحق في أي جانب؛ وكالذي لا يقتصر على قدر الحاجة؛ بل يظهر الكذب لإيذاء خصمه.

3 - أما الذي يحاجُّ عن حق له هو مظلوم فيه بطرق الحجاج الشرعي، وأصولِ___المرافعات المشروعة، فلا بأس بها، ولا تدخل في باب الخصومة المذمومة.

4 - ومثل ذلك الذي يجادل لإظهار دين الله تعالى، وإعلاء كلمته، والظهور على أعداء الإسلام بدحض حججهم، ورد شبههم، وإبطال ضلالهم؛ فهذا محمود مثاب صاحبه، وهو ممن جاهد بلسانه، ودافع ببيانه؛ وقد قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان]، وقال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

والآيات والأحاديث في الباب كثيرة، والله الموفق." اهـ

 

وقال العثيمين _رحمه الله_ في "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" – ط. المكتبة الإسلامية (6/ 417):

"ففي هذا الحديث فوائد:

أولاً: إثبات البغض لله عز وجل،

وأن بغض الله تعالي يتفاوت لقوله: "أبغض"، وقد مر علينا أن البغضاء ثابتة لله تعالى بالكتاب والسنة، ومنه: {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: 3].

ومنها: أن الأعمال السيئة تتفاوت بالقبح لقوله: "أبغض" كما أن الأعمال الصالحة تتفاوت في الحسن والمحبة.

ومن فوائد الحديث: أن اللدود الخصم مكروه عند الله، وهذا يقتضي أن يكون الاتصاف بهذه الصفة حراماً.

فإن قال قائل: إذا كان هذا يحاج لإثبات الحق وإبطال الباطل؟

قلنا: هذا محبوب عند الله، وليس هذا ممن يتصف بهذه الصفة. لأنه ليس ألد خصم، ولكنة يريد الوصول الى الحق.

 

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 128)

سِيَاقُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهْيِ عَنْ مُنَاظَرَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَجِدَالِهِمْ وَالْمُكَالَمَةِ مَعَهُمْ وَالِاسْتِمَاعِ إِلَى أَقْوَالِهِمُ الْمُحْدَثَةِ وَآرَائِهِمُ الْخَبِيثَةِ

 

وقال الشاطبي _رحمه الله_ في "الموافقات" (5/ 387_392):

وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ لِكَرَاهِيَةِ السُّؤَالِ مَوَاضِعَ، نَذْكُرُ مِنْهَا عَشَرَةَ مَوَاضِعَ:

أَحَدُهَا: السُّؤَالُ عَمَّا لَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ؛ كسؤال عبد الله بن حذافة: "مَن___أَبِي." [خ م]

وَرُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ _عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ_ سُئِلَ:

مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو رَقِيقًا كَالْخَيْطِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْمُو حَتَّى يَصِيرَ بَدْرًا، ثُمَّ يَنْقُصُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ كَمَا كَانَ؟"

فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189]، الْآيَةَ، إِلَى قَوْلِهِ:

{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] ؛

فَإِنَّمَا أُجِيبَ بِمَا فِيهِ مِنْ مَنَافِعِ الدِّينِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَسْأَلَ بَعْدَ مَا بَلَغَ مِنَ الْعِلْمِ حَاجَتَهُ؛ كَمَا سَأَلَ الرجل عَنِ الْحَجِّ: أَكُلَّ عَامٍ؟ [م س]

مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آلِ عِمْرَانَ: 97] قَاضٍ بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ لِلْأَبَدِ لِإِطْلَاقِهِ،

وَمِثْلُهُ سُؤَالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ قَوْلِهِ:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [الْبَقَرَةِ: 67] .

وَالثَّالِثُ: السُّؤَالُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَيْهِ فِي الْوَقْتِ، وَكَأَنَّ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ خَاصٌّ بِمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ حُكْمٌ،

وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ"،

وَقَوْلُهُ: "وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ لا عن نسيان؛ فلا تبحثوا عنها".___

وَالرَّابِعُ: أَنْ يَسْأَلَ عَنْ صِعَابِ الْمَسَائِلِ وَشِرَارِهَا؛ كَمَا جَاءَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ.

وَالْخَامِسُ: أَنْ يَسْأَلَ عَنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَبُّدَاتِ الَّتِي لَا يُعْقَلُ لَهَا مَعْنًى، أَوِ السَّائِلُ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ السُّؤَالُ كَمَا فِي حَدِيثِ قَضَاءِ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ [خ م]

وَالسَّادِسُ: أَنْ يَبْلُغَ بِالسُّؤَالِ إِلَى حَدِّ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَمُّقِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] ،

وَلَمَّا سَأَلَ الرَّجُلُ5: "يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ! هَلْ تَرِدُ حَوْضُكَ السِّبَاعُ؟ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ! لَا تُخْبِرْنَا؛ فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ وَتَرِدُ علينا.". الحديث. [عب]___

وَالسَّابِعُ: أَنْ يَظْهَرَ مِنَ السُّؤَالِ مُعَارَضَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالرَّأْيِ،

وَلِذَلِكَ قَالَ سَعِيدٌ: "أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟ " [ما هق]،

وَقِيلَ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: "الرَّجُلُ يَكُونُ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ؛ أَيُجَادِلُ عَنْهَا؟ قَالَ: "لَا، وَلَكِنْ يُخْبِرُ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ قُبِلَتْ مِنْهُ، وَإِلَّا سَكَتَ". [جامع بيان العلم وفضله (2/ 936) (رقم: 1784)]

وَالثَّامِنُ: السُّؤَالُ عَنِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 7] .

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: (مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا للخصومات؛ أسرع___التَّنَقُّلَ). [مي]

وَمِنْ ذَلِكَ سُؤَالُ مَنْ سَأَلَ مَالِكًا عَنِ الِاسْتِوَاءِ، فَقَالَ: (الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدَعَةٌ). [أخرجه عثمان بن سعيد الدرامي، في "الرد على الجهمية" (رقم 104)]

وَالتَّاسِعُ: السُّؤَالُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ،

وَقَدْ سُئِلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ قِتَالِ أَهْلِ صِفِّينَ؛ فَقَالَ: "تِلْكَ دِمَاءٌ كَفَّ اللَّهِ عَنْهَا يَدَيَّ؛ فَلَا أحب أن يطلخ بها لساني". [أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 934) (رقم: 1778)]___

وَالْعَاشِرُ: سُؤَالُ التَّعَنُّتِ1 وَالْإِفْحَامِ وَطَلَبِ الْغَلَبَةِ فِي الْخِصَامِ، وَفِي الْقُرْآنِ فِي ذَمِّ نَحْوِ هَذَا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [الْبَقَرَةِ: 204] .

وَقَالَ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزُّخْرُفِ: 58] .

وَفِي الْحَدِيثِ: "أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلى الله الألد الخصم".

هذه جملة مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُكره السُّؤَالُ فِيهَا، يُقَاسُ عَلَيْهَا مَا سِوَاهَا، وَلَيْسَ النَّهْيُ فِيهَا وَاحِدًا، بَلْ فِيهَا مَا تَشْتَدُّ كَرَاهِيَتُهُ، وَمِنْهَا مَا يَخِفُّ، وَمِنْهَا مَا يَحْرُمُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ، وَعَلَى جُمْلَةٍ3 مِنْهَا يَقَعُ النَّهْيُ عَنِ الْجِدَالِ فِي الدِّينِ." اهـ

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (41/ 594_598):

"في فوائده:

1 - (منها): بيان ذمّ شدّة الخصومة، والمراد به: الخصومة في دفع الحقّ،

أو إثبات الباطل، كما سبق في كلام النوويّ رحمه اللهُ، وهو الذي جاءت النصوص

في ذمّه، فقد أخرج أحمد، والترمذيّ، وصححه، وابن ماجه عن أبي أمامة - رضي الله عنه -

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ضلّ قوم بعد هُدًى كانوا عليه، إلا أوتوا___الجدل"، ثم تلا تلك الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]

2 - (ومنها): ما قاله القرطبيّ _رحمه اللهُ_:

"هذا الخصم المبغوض عند الله تعالى هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق، وردّه بالأوجه الفاسدة، والشُّبَهِ الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كخصومة أكثر المتكلمين، المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله تعالى، وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسَلَف أمته إلى طُرُق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية،

مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية، أو مناقشات لفظية، تَرِد بسببها على الآخذ فيها شُبَهٌ، ربما يَعجَز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها،

وأحسنهم انفصالًا عنها أجدلهم، لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حَلِّها، وكم من منفصل عنها لا يُدرك حقيقة علمها، ثم إن هؤلاء المتكلّمين قد ارتكبوا أنواعًا من المحال، لا يرتضيها الْبُلْهُ، ولا الأطفال، لَمّا بحثوا عن تَحَيُّز الجواهر، والألوان، والأحوال،

ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عنه السلف الصالح، ولم يوجد عنهم بحثٌ واضح، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى، وتعديدها، واتحادها في نفسها، وهل هي الذات أو غيرها؟ ،

وفي الكلام، هل هو متحد، أو منقسم؟ ،

وعلى الثاني: هل ينقسم بالنوع، أو الوصف؟ ، وكيف تعلَّق في الأزل بالمأمور، مع كونه حادثًا؟ ، ثم إذا انعدم المأمور، فهل يبقى ذلك التعلق؟

وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلًا، هو نفس الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة، التي لم يأمر الشارع بالبحث عنها، وسكت عنها الصحابة - رضي الله عنهم -، ومن سلك سبيلهم،

بل نهوا عن الخوض فيها؛ لِعِلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تُعلم كيفيته بالعقل، لكون العقول لها حدّ تقف عنده، وهو العجز عن التكييف، لا يتعدّاه، ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات، وكيفية الصفات،

ولذلك قال العليم الخبير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]،

ومن توقف في هذا، فليعلم أنه إذا كان حُجِب عن كيفية نفسه، مع وجودها، وعن كيفية إدراك ما يُدرك به، فهو عن إدراك غيره أعجز.____

وغاية علم العلماء، وإدراك عقول الفضلاء: أن يقطعوا بوجود فاعلٍ لهذه المصنوعات، منزّهٍ عن الشبيه، مقدَّسٍ عن النظير، متصف بصفات الكمال.

ثم متى ثبت النقل، وأخبرنا الصادقون عنه بشيء من أوصافه، وأسمائه، قَبِلْنَاهُ، واعتقدناه، وما لم يتعرّضوا له، سكتنا عنه، وتركنا الخوض فيه،

وهذه طريقة السلف، وما سواها مَهَاوٍ، وتَلَف، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين، ما قد ورد في ذلك عن الأئمة المتقدمين.

فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز _رحمه الله تعالى_:

(من جعل دِينه غَرَضًا للخصومات، أكثر الشغل، والدِّين قد فُرغ منه، ليس بأمر يؤتكف على النظر فيه).

وقال مالك بن أنس _رحمه الله تعالى_: (ليس هذا الجدال من الدين في شيء)،

وقال: (كان يقال: لا تُمَكِّنْ زائغَ القلبِ من أُذُنِكَ، فإنك لا تدري ما يَعلق من ذلك).

وقال الشافعي _رحمه الله تعالى_:

(لأن يُبتلَى العبد بكلّ ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في علم الكلام، وإذا سمعت من يقول: "الاسم هو المسمّى، أو غير المسمّى"، فاشهد أنه من أهل الكلام، ولا دِين له.

قال: (وحكمي في أهل الكلام أن يُضربُوا بالجريد، ويُطاف بهم في العشائر، والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسُّنَّة، وأخذ في الكلام).

وقال الإمام أحمد بن حنبل _رحمه الله تعالى_:

(لا يُفلح صاحب الكلام أبدًا، علماء الكلام زنادقة).

وقال ابن عقيل: (قال بعض أصحابنا: أنا أقطع أن الصحابة - رضي الله عنهم -

ماتوا، وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضِيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت طريقة المتكلّمين أَولى من طريقة أبي بكر، وعمر، فبئسما رأيته).

قال: (وقد أفضى هذا الكلام بأهله إلى الشكوك، وبكثير منهم إلى الإلحاد، وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات، وسبب ذلك: إعراضهم عن نصوص الشارع، وتطلّبهم حقائق الأمور من غيره، وليس في قوة العقل ما يدرك ما في نصوص الشارع من الحِكَم التي استأثر بها، ولو لم يكن في الجدال، إلا أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.

قد أخبر أنه الضلال، كما قال فيما خرّجه الترمذيّ: "ما ضلّ قوم بعد هُدى

كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"، وقال: إنه صحيح.

قال:

(وقد رجع كثير من أئمة المتكلّمين عن الكلام، بعد انقضاء أعمار مديدة، وآماد بعيدة، لَمّا لَطَف الله تعالى بهم، وأظهر لهم آياته، وباطن برهانه،___فمنهم: إمام المتكلّمين أبو المعالي إمام الحرمين (ت 478 هـ)،

فقد حكى عنه الثقات أنه قال: لقد خلّيت أهل الإسلام، وعلومهم، وركبت البحر الأعظم، وغُصت في كل شيء، نَهَى عنه أهل العلم رغبةً في طلب الحق، وهربًا من

التقليد، والآن فقد رجعت عن الكلّ إلى كلمة الحقّ، عليكم بدين العجائز، وأختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، والويل لابن الْجُوَينيّ.

وقال لأصحابه عند موته: (يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنه يبلغ بي ما بلغتُ، ما تشاغلت به).

وقال أحمد بن سنان: (كان الوليد بن أبان الكرابيسىّ خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: "تعلمون أحدًا أعلم مني؟" قالوا: "لا"، قال: "فتَتَّهِموني؟" قالوا: "لا"، قال: "فإني أوصيكم، أفتقبلون؟" قالوا: نعم، قال: "عليكم بما عليه أصحاب الحديث، فإني رأيت الحقّ معهم."

وقال أبو الوفاء بن عَقِيل: (لقد بالغت في الأصول طول عمري، ثم عُدتُ القهقرى

إلى مذهب المكتب).

 وهذا الشهرستاني، صاحب "نهاية الإقدام في علم الكلام" وَصَف حاله فيما وصل إليه من علم الكلام، وما ناله، فتمثّل بما قاله:

لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا ... وَصَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ

فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرِ ... عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارعٍ سِنَّ نَادِمِ

ثم قال: (عليكم بدِين العجائز، فإنه أسنى الجوائز)

قال القرطبىّ:

ولو لم يكن في الكلام شيء يُذمُّ به إلا مسألتان، هما من مبادئه، لكان حقيقًا بالذمّ، وجديرًا بالذِّكر:

[إحداهما]: قول طائفة منهم: إن أول الواجبات الشك في الله تعالى؛ إذ هو اللازم عن وجوب النظر، أو القصد إلى النظر، وإليه أشار الإمام بقوله:

ركبت البحر.

[والثانية]: قول جماعة منهم: إن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرّقوها، والأبحاث التي حرّروها، فلا يصح إيمانه، وهو كافر،

فيلزمهم على هذا تكفير أكثر المسلمين، من السلف الماضين، وأئمة المسلمين، وأن من يبدأ بتكفيره: أباه، وأسلافه، حتى لقد أورد على بعضهم أن هذا يلزم منه تكفير أبيك، وأسلافك، وجيرانك، فقال: لا تُشَنِّع علىَّ بكثرة أهل النار.

قال:

وقد رَدّ بعض من لم يقل بهاتين المسألتين من المتكلّمين ما على من قال بهما،___بطريق من النظر والاستدلال؛ بناء منهم على أن هاتين المسألتين نظريّتان،

وهذا خطأ فاحشٌ، فالكلّ يُخَطَّئون:

الطائفة الأولى: بأصل القول بالمسألتين. والثانية: بتسليم أن فسادها ليس بضروريّ، ومن شكّ في تكفير من قال: إن الشكّ في الله تعالى واجب، وأن معظم الصحابة، والمسلمين كفّار، فهو كافر شرعًا، أو مُختلّ العقل وضعًا، إذ كلّ واحدة منهما معلومة الفساد بالضرورة الشرعيّة الحاصلة بالأخبار المتواترة القطعيّة، وإن لم يكن كذلك، فلا ضروريّ يُصار إليه في الشرعيّات، ولا العقليّات، عصمنا الله تعالى من بِدَع المبتدعين، وسلك بنا طرُق السلف الماضين، وإنما طوّلت في هذه المسألة الأنفاس من هذه البدع في الناس، ولأنه قد اغترّ كثيرٌ من الجهال بزخرف تلك الأقوال، وقد بذلت ما وجب عليّ من النصيحة، والله تعالى يتولّى إصلاح القلوب

الجريحة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه اللهُ ["المفهم" 6/ 690 - 694، ببعض تغيير من "الفتح"].

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد القرطبيّ رحمه اللهُ في هذا التحقيق، فإنه

بحث نفيسٌ أنيس، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه]: قيل: إن سبب نزول قوله تعالى:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} [البقرة: 204]

هو الأخنس بن شَرِيق، وكان رجلًا حلو المنطق، إذا لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ألان له القول، وادَّعَى أنه يحبه، وأنه مسلم، ويُشهد الله على ما في قلبه؛ أي: يحلف، ويقول: الله شاهد على ما في قلبي من محبتك، ومن الإسلام،

فقال الله في حقه: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}؛ أي: شديد الجدال، والخصومة، والعداوة للمسلمين، والألد أفعل التفضيل، من اللدد، وهو شدة الخصومة، والخصام المخاصمة، وإضافة الألد بمعنى "في"، أو يُجعل الخصام ألدّ على المبالغة، وقيل: الخصام جمع خصم، كصعب وصعاب، بمعنى: هو أشدّ الخصوم خصومة، قاله في "العمدة" ["عمدة القاري" 18/ 114]، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}." اهـ

 

Komentar

Postingan populer dari blog ini

فضائل عشر ذي الحجة