شرح الحديث 100 (باب المجاهدة) من رياض الصالحين
[100] السادس: عن أبي هريرة _رضي الله عنه_
قَالَ : قَالَ
رَسُول الله _صلى الله عليه وسلم_ : «المُؤْمِنُ
القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعيفِ، وَفي كُلٍّ
خَيرٌ. احْرِصْ
عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعْجَزْ. وَإنْ
أَصَابَكَ شَيءٌ فَلا تَقُلْ: (لَوْ أنّي فَعَلْتُ، كَانَ كَذَا وَكَذَا)، وَلَكِنْ
قُلْ: (قَدَرُ اللهِ، وَمَا شَاءَ، فَعلَ)؛ فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ
الشَّيطَانِ» . رواه مسلم. |
ترجمة
أبي هريرة الدوسي:
اختلف فِي
اسمه واسم أبيه اختلافا كثيرا، فقيل: اسمه عبد الرحمن بْن
صخر بن ذي الشري بْن طريف بْن عيان
بْن أَبي صعب بْن هنية بْن سعد ابن ثعلبة بْن سليم بْن فهم بْن غنم بْن دوس بْن
عدثان بن عَبد الله بن زهران بن كعب بن الْحَارِثِ بْن كعب بْن عَبد اللَّهِ بن
مالك ابن نصر بْن الأزد.
وفي "تهذيب
الكمال في أسماء الرجال" (34/ 366_367) للمزي:
"ويُقال:
كَانَ اسمه فِي الجاهلية عبد شمس، وكنيته: أبو الأسود...وروي عَنْهُ أنه قال: (إنما كنيت بأبي هُرَيْرة،
أني وجدت أولادَ هرةٍ وحشيّةٍ، فحملتها فِي كمي، فقيل: ما هَذِهِ؟ فقلت: هرة،
قِيلَ فأنت أَبُو هُرَيْرة)." اهـ
وذكر أَبُو
القاسم الطبراني أن اسم أمه ميمونة بنت صبيح." اهـ
وفي تهذيب
الكمال في أسماء الرجال (34/ 377):
"وَقَال
عَمْرو بْن علي: نزل المدينة، وكان مقدمه وإسلامه عام خيبر، وكانت خيبر فِي المحرم
سنة سبع."اهـ
وفي تهذيب
الكمال في أسماء الرجال (34/ 378):
قال سفيان بْن
عُيَيْنَة، عن هشام بْن عروة: مات أَبُو هُرَيْرة، وعائشة سنة سبع وخمسين.
وَقَال أَبُو
الحسن المدائني، وعلي ابن المديني، ويحيى بْن بكير، وخليفة بْن خياط، وعَمْرو بْن
علي: مات أَبُو هُرَيْرة سنة سبع وخمسين.
وفي تاريخ
الإسلام ت بشار (2/ 561) للذهبي :
"قَالَ
الْبُخَارِيُّ : رَوَى عَنْهُ: ثمان مائة رَجُلٌ أَوْ أكثر.
قلت: روي لَهُ
نَحْو من خمسة آلاف حديث وثلاث مائة وسبعين حديثًا (5370). في الصحيحين منها: ثلاث
مائة وخمسة وعشرون حديثًا (325)، وانفرد الْبُخَارِيُّ أيضًا لَهُ بثلاثة وتسعين
(93)، ومسلم بمائة وتسعين (190)." اهـ
نص
الحديث وشرحه:
السادس: عن
أبي هريرة _رضي الله عنه_ قَالَ :
قَالَ رَسُول
الله _صلى الله عليه وسلم_ :
«المُؤْمِنُ
القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ
وفي تطريز رياض الصالحين (ص: 90) لفيصل آل مبارك
النجدي :
"المؤمنُ القوي، هو من يقوم بالأوامر
ويترك النواهي بقوة ونشاط، ويصبر على مخالطة الناس ودعوتهم، ويصبر على
أذاهم." اهـ
وفي "الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد
بن حنبل الشيباني" (19/ 184) للساعاتي مبينا لمعنى (المؤمن القوي) :
"أي: الذي منحه الله صحةً في بدنِهِ، وقوةً في ايمانه." اهـ
وفي "شرح صحيح مسلم" (16/ 215) للنووي:
"وَالْمُرَادُ
بِـ"الْقُوَّةِ" هُنَا: عَزِيمَةُ النَّفْسِ وَالْقَرِيحَةُ فِي أُمُورِ
الْآخِرَةِ،
فَيَكُونُ
صَاحِبُ هَذَا الْوَصْفِ أَكْثَرَ إِقْدَامًا
عَلَى الْعَدُوِّ فِي الْجِهَادِ وَأَسْرَعَ خُرُوجًا
إِلَيْهِ وَذَهَابًا فِي طَلَبِهِ، وَأَشَدَّ عَزِيمَةً
فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرِ عَلَى
الْأَذَى فِي كُلِّ ذَلِكَ وَاحْتِمَالِ الْمَشَاقِّ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَرْغَبَ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْأَذْكَارِ
وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَأَنْشَطَ طَلَبًا
لَهَا وَمُحَافَظَةً عَلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ." اهـ
وفي "البحر
المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (41/ 548) للإثيوبي:
"وقال
القرطبيّ -رحمه الله-: قوله: "المؤمن القويّ خيرٌ إلخ "؛ أي: القويّ البدن،
والنفس، الماضي العزيمةِ، الذي يَصلح للقيام بوظائف العبادات، من الصوم، والحج،
والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على ما يُصيبه في ذلك، وغير
ذلك مما يقوم به الدِّين، وتنهض به كلمة المسلمين،
فهذا هو
الأفضل، والأكمل، وأما من لم يكن كذلك من المؤمنين، ففيه خيرٌ من حيث كونه مؤمنًا،
قائمًا بالصلوات، مكثّرًا لسواد المسلمين، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -:
"وفي كل خيرٌ"، لكنه قد فاته الحظ الأكبر، والمقام الأفخر. انتهى ["المفهم"
6/ 682].
وقال الطيبيّ
-رحمه الله-: قيل: أراد بالمؤمن القويّ: الذي قوي في إيمانه، وصَلُب في إيقانه
بحيث لا يرى الأسباب، ووَثِق بمسبِّب الأسباب، والمؤمن الضعيف
بخلافه، وهو أدنى مراتب الإيمان. قال: ويمكن أن يُذهَب إلى اللفّ والنشر،
فيكون قوله: "احرص على ما ينفعك" بيانًا للقويّ، وقوله: "ولا تعجز"
بيانًا للضعيف. انتهى ["الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3334]
قال الجامع
عفا الله تعالى عنه: قوله: "لا يرى الأسباب" إن أراد أنه لا
يعتمد على
الأسباب، فمسلَّم، وإن أراد أنه لا يأخذ بالأسباب أصلًا، فهذا لا
مدح فيه؛ لأنه
خلاف هدي النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ
بالأسباب، ويحثّ عليها، وهو سيّد المتوكلين.
وبالجملة
فالواجب على العبد أن يأخذ بالأسباب، ولا يعتمد عليها، بل يعتمد على الله -سبحانه
وتعالى-، والله تعالى أعلم.
وقال القاري
-رحمه الله-: قيل: المراد بالمؤمن القويّ: الصابر على مخالطة الناس، وتحمّل
أذيّتهم، وتعليمهم الخير، وإرشادهم إلى الهدى، ويؤيّده ما أخرجه أحمد وغيره، عن
ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا: "المؤمن الذي يُخالط الناس، ويصبر على
أذاهم أفضل عن المؤمن الذي لا يُخالط الناس، ولا يصبر على
أذاهم" [حديث
صحيح، رواه أحمد في "المسند" رقم (5022 و 23159).]
مِنَ
المُؤْمِنِ الضَّعيفِ، وَفي كُلٍّ خَيرٌ.
الفتح الرباني
لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (19/ 184) مبينا معنى (المؤمن الضعيف):
"أي: ضعيْفُ
الجسم، ولكنه قوِيُّ الإيمان.
فالأول:
أفضل
باعتبار أنَّ نفعه متعَدٍّ، لأنه يمكنه الجهادُ، وكلُّ ما يطلبه الشرْعُ من الأمور
التي تحتاج إلى قوة الجسم،
والثاني:
نفْعُهُ
قاصرٌ على نفسِهِ. وفي كلٍّ خيْرٌ باعتبار قوة
الايمان."
احْرِصْ عَلَى
مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعْجَزْ.
وَإنْ
أَصَابَكَ شَيءٌ، فَلا تَقُلْ: (لَوْ أنّي فَعَلْتُ، كَانَ كَذَا وَكَذَا)،
وَلَكِنْ
قُلْ: (قَدَرُ اللهِ، وَمَا شَاءَ فَعلَ)؛
فإنَّ لَوْ
تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيطَانِ» . رواه مسلم.
وفي "تحفة
الذاكرين بعدة الحصن الحصين" (ص: 300) للشوكاني:
"وَالْقدَرُ:
بِفَتْح الدَّال: عبارَةٌ عَمَّا قَضَى الله، وَحكَمَ بِهِ عَلَى عِبَادهِ."
اهـ
البحر المحيط
الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (41/ 550)
(فَلَا
تَقُلْ: لَوْ) شرطيّة، وجوا بها "كان كذا وكذا"، (أَنِّي فَعَلْتُ)
مفعوله محذوف؛ أي: كذا وكذا، (كَانَ)؛ أي: لصار (كَذَا وَكَذَا)؛ أي: لا تقل هذا القول متأسّفًا على ما فات، فإن هذا القول
غير سديد، ومع هذا غير مفيد، فقد قال تعالى جل شأنه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا
مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]،
وقد قال: {لِكَيْلَا
تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:
"ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك".
وقال الطيبيّ
-رحمه الله-: أي: لو كان الأمر لي، وكنت مستبدًّا بالفعل والترك كان كذا وكذا،
وفيه تأسّف على الفائت، ومنازعة للقدر، وإيهام بأن ما يفعله باستبداده، ومقتضى
رأيه خير مما ساقه القدر إليه، من حيث إن "لو" تدلّ على انتفاء الشيء
لانتفاء غيره فيما مضى، ولذلك استكرهه، وجعله يفتح عمل الشيطان. انتهى
البحر المحيط
الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (41/ 551):
"(قَدَرُ
اللهِ): يَحْتَمِل أن يكون اسمًا بمعنى التقدير، مضافًا إلى الجلالة، وهو خبز لمحذوف؛ أي: هذا الأمر الذي أصابني قَدَرُ الله
تعالى؛ أي: تقدير منه _سبحانه وتعالى_، أو هو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: قَدَرُ الله
تعالى أصابني.
وَيحْتَمل
أن
يكون فعلًا ماضيًا بتشديد الدال، وتخفيفها، ورفع
الجلالة على الفاعليّة؛ أي: قدّر الله عليّ هذا
الأمرَ، وقع ذلك بمقتضى قضائه، وعلى وفِق قَدَره.
ويؤيّد هذا
الوجه ليتناسب مع قوله: "وما شاء فعل".
(وَمَا شَاءَ)
وفي نسخة: "وما شاء الله"، (فَعَلَ) بحذف العائد؛ أي: فعله، فإنه فعّال
لِمَا يريد، ولا رادّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه.
تخريج
الحديث :
أخرجه مسلم في
"صحيحه" (4/ 2052) (رقم : 2664)، وابن ماجه في "سننه" (رقم : 79
و 4168)، والحميدي في "مسنده" (2/ 267) (رقم : 1147)، وأحمد في "مسنده"
(رقم : 8791 و 8829).
من
فوائد الحديث :
تطريز رياض
الصالحين (ص: 91) لفيصل بن عبد العزيز النجدي :
"وفي الحديث: الأمر بفعل الأسباب
والاستعانة بالله.
وفيه: التسليم
لأمر الله، والرضا بقدر الله." اهـ
المفهم لما أشكل من تلخيص
كتاب مسلم (15/ 83):
"فالواجب عند وقوع
المقدور: التسليم لأمر الله، وترك الاعتراض على الله، والاعراض عن الالتفات إلى ما
فات.
فيجوز النطق بـ(لو) عند
السلامة من تلك الآفات . والله أعلم ." اهـ
وقال ابن هبيرة الشيباني
_رحمه الله_ في "الإفصاح عن معاني الصحاح" (8/ 44):
"في هذا الحديث: ما
يدل على أن من المؤمنين القوي، والضعيف؛ فإن في كل خيرا؛ إلا أن المؤمن القويَّ أحبُّ إلى الله من المؤمن
الضعيف، وذلك لأن المؤمن القوي ينفع نفسه وينفع غيره؛ وربما تعدت منفعته إلى أهله
وقومه وأمة دهره.
والمؤمن الضعيف قد يقتصر
بنفعه على نفسه، وأخاف على ضعفه أيضا أن يضعف على حفظ نفسه؛ ولأن المؤمن القوي
يعرضه أن يكسر حزب الشيطان بقوله إذا قال، وبفعله إذا فعل.
والمؤمن الضعيف أخاف عليه
في مواطن يضعف فيها؛ فيكون كاسرا لحزب الحق.
والقوة في الإيمان: أن يعمل المؤمن بعزائم الشرع في مواطنها، وأن لا يجبن على الأخذ برخص
الشرع في مواطنها، وأن لا يترك المسلمين من يده حفاظا لدينهم، ومهتما بهم، ذَكَرِهِمْ
وأُنْثَاهُمْ، عالمهم وجاهلهم، مهتما بتدبير العامة، عالما بأسرار الخاصة، إن كان
ذا أمر، وإلا قال لكل ذي لب إنه يصلح أن يكون ذا إمرة.
وأما المؤمن الضعيف فعلى ضد ذلك قانعا بأن يسلم بنفسه.
فأما قوله : (ولا تعجز) فإنه لا يحسن بالمؤمن أن
يعجز؛ وقد بقي في الأمر مطلع لاحتيال.
وقوله: (إذا أصابك شيء) يعين إذا احتلت ولم تفد
فقد أعذرت ولا يترك___الاحتياط؛ لأن تارك الاحتياط لا يربح إلا الحسرة.
وفيه ما يدل على أنه يستحب للإنسان أن لا يكثر من قول: (لو) فإنها تفتح عمل
الشيطان، ولكن ليتعض منها بذكر (قدر الله عز وجل ومشيئته)، ونعم العِوَضُ ذلك."
اهـ
المفاتيح في شرح المصابيح
(5/ 309) للزيداني:
"مَن صبر على مجالسة
الناس، وتحمُّل أذيتهم، وتعليمهم الخير، وإرشادهم إلى الهدى، فهو أحب إلى الله من
المؤمن الذي يفر من الناس، ولا ينفع إلا نفسَه." اهـ
دليل الفالحين لطرق رياض
الصالحين (2/ 317) لابن علان:
"ففيه: التنبيه على
الدواء عند وقوع المقدور، وذلك بالتسليم لأمر الله والرضا بقدرالله، والإعراض عن
الالتفات لما مضى وفات بألا يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، لأن ذلك يئول به إلى
الخسران، من توهم أن التدبير يعارض سوابق المقادير، وهذا عمل الشيطان." اهـ
وقال البسام في توضيح الأحكام
من بلوغ المرام (7/ 492_496):
* ما يؤخذ من الحديث :
1 - فيه استحباب القوة في
الأعمال؛ لأنَّه يحصل فيها من الفائدة والثمرة ما لا يحصل من الضعف؛ فإنَّ الضعيف
لا ينتج عنه إلاَّ ضَعْفٌ وقلَّة؛ قال الله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص]، وقال تعالى: {خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63]، وقال تعالى: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ
بِقُوَّةٍ} [مريم: 12].
2 - قال شيخ الإسلام في
السياسة الشرعية: القوة في كل ولاية بحسبها؛ فالقوَّة___في إمارة الحرب: ترجع إلى
شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والقوةُ في الحُكم بين الناس: ترجع إلى العلم
بالعدل الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.___
أمور دينه وأمور دنياه، وهو
محتاج إلى معرفة الأحوال والأمور والوسائل التي تبلغه إلى مقصوده، وتوصله إلى
مطلوبه، ومن أقوى الوسائل إلى ذلك وأنفع السبل: العلوم النافعة؛ فإنَّها الصراط
المستقيم إلى خير الدنيا والآخرة.
6 - قوله: "واستعن
بالله":
قال ابن القيم في مدارج
السالكين؛ الاستعانة: طلب العون من الله تعالى، وإذا التزم العبد بمعبودية ربه،
أعانه الله تعالى عليها؛ فكان التزامه بها سببًا لنيل الإيمان، فكلما كان العبد
أتم عبودية لربه، كانت الإعانة من الله له أعظم، وأنفعُ الدعاء طلب العون من الله
على مرضاته، وأفضلُ المواهب إسعافه بهذا المطلوب، وجميع الأدعية المأثورة مدارها
على هذا، وعلى دفع ما يضاده، وعلى تكميله وتيسير أسبابه.
قال شيخ الإسلام: تأمَّلْتُ
أنفع الدعاء، فإذا هو سؤاِل العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في: {إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}، والعبد مع استعانته بربه، فهو محتاج إلى
عمل الأسباب النافعة، والطرق الموصلة.
قال بعضهم: إنَّ كل عمل
يعمله الإنسان تتوقف ثمرته ونجاحه على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإلهية أن
تكون مؤدية إليه، وقد مكَّن الله تعالى الإنسان بما أعطاه من العلم والعون من دفع
بعض الموانع، وكسب بعض الأسباب، وحجب عنه البعض الآخر، فيجب علينا أن نقوم بما في
استطاعتنا من ذلك، ونبذل الجهد في إتقان أعمالنا بكل ما نستطيع من حول وقوَّة.
ونفوِّض الأمر فيما وراء
كسبنا إلى القادر على كل شيء، ونلجأ إليه تعالى وحده، ونطلب منه المعونة المتمِّمة
للعمل، والموصِّلة لثمرته منه
واجتماع القدرة والقوة
والأمانة في الناس قليل، فإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشدَّ، قُدِّم
الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها، فأما استخراجها فلابد فيه من قوَّة وأمانة،
فيولَّى عليها قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته.
ومن ذلك السَّعي في إصلاح
الأحوال حتى يكمل في الناس ما لابد لهم منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها؛
فإنَّ ما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجب.
3 - أما الحديث هنا،
فالمراد في أعمال الآخرة التي يحصل منها إقدامٌ على الجهاد، وصلابة في الأمر
بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وصبرٌ على الأذى، وتحمُّلٌ للمشاق في أمر الله،
والقيام بحقوقه من الطاعات.
4 - أما الضَّعيف: فهو
بالعكس من ذلك؛ فلا يحصل منه كمال المطلوب إلاَّ أنَّ وجود الإيمان معه لا يحرمه
من الخير؛ فإنَّ الإيمان أساس الخير والبركة، ولابد له من فائدة مهما كانت.
5 - قوله: "احرص على
ما ينفعك" في أمر الدين والدنيا، وأهم المنافع والمطالب هو ما يطلب من طاعة
الله تعالى التي فيها السعادة الأبدية؛ فهذه هي المنفعة الكبيرة، والمطلب العظيم،
الذي لمثله فليعمل العاملون، وفي الحصول عليه فليتنافس المتنافسون؛ فهذا هو النفع
العظيم، والكسب الكبير.
والعبد محتاج إلى الأمور
الدنيوية؛ كما هو محتاج إلى أموره الدينية، ومأمور بأن يسلك الطرق الموصلة،
والوسائل القوية التي تبلغه حاجته في____سبحانه وتعالى دون سواه؛ إذ لا يقدر على
ما وراء الأسباب الممنوحة لكل بشر إلاَّ مسبِّب الأسباب، ورب العباد.
7 - وقوله: "ولا
تعجز" العجز يكون بأمرين:
الأول: هو ترك العمل وإهمال
القيام بالأسباب الموصِّلة إلى المطلوب، والوسائل المبلغة إلى المقصود، والركون
إلى الكسل والعجز.
الثاني: عدم الاستعانة
بالله تعالى، والاتكال عليه بالإعانة على المهام والمقاصد، وصرف همه وحده
بالاعتماد على حوله وقوَّته وسعيه؛ فإنَّ حرص العبد بغير الاستعانة بالله تعالى لا
ينفعه، ولا يجديه شيئًا.
ونواميس الله تعالى الكونية
لا تفضِّل أحدًا دون أحد، فمن أخذ بها، وصل إلى مقصوده، ولكنْ هناك أمورٌ وراء
الأسباب والنواميس لا يقدر عليها إلاَّ هو، ولا تطلب إلاَّ منه تعالى.
8 - ومن العجز: أن يدعو
العبدُ الله تعالى ويطلب منه تعالى قضاء حاجاته، وتسهيل مهماته، فلا يرى الإجابة
الظاهرة، فيكسل، ويعجز عن مواصلة الدعاء.
قال ابن القيم في الجواب
الكافي: ومن الآفات التي تمنع ترتيب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد ويستبطيء،
ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذَر بذرًا، أو غرس غرسًا، فجعل يتعاهد ويسقيه، فلما
استبطأ كماله وإدراكه، تركه وأهمله.
وفي صحيح البخاري (6340)
ومسلم (2735) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي".
9 - قوله: "وإن
أصابك شيء ... إلخ".
يبيِّن -صلى الله عليه
وسلم- بهذه الجملة: أنَّ الإنسان إذا بذل الجهد، واستفرغ طاقته ووسعه،____ثم جاء الأمر
بخلاف مطلوبه، بأن فاته مطلوبه، أو حصل له ضرر لم يتوقعه: فعليه بالإيمان بالقضاء،
وأن لا يقول: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا؛ فإنَّ "لو" تفتح عمل
الشيطان، فتُحْدِث للإنسان الأسف، والحزن على الأمور التي فاتته، وتوجب له عدم
الصبر بما قدَّره الله عليه، وتجعل عنده "لو" احتمالاً أنَّه لو فعل
ذلك، لم يصبه ما وقع عليه.
10 - أما استعمال
"لو" في تمنِّي الخير، أو في بيان العلم النافع، فإنَّها محمودة؛ لأنَّ
الوسائل لها أحكام المقاصد، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لو استقبلتُ من
أمري ما استدبرتُ، ما سُقت الهَدْي، ولأحللتُ معكم" [رواه البخاري (505)
ومسلم (218)]." اهـ
وقال العثيمين في "شرح
رياض الصالحين" (2/ 78):
"الأفعال تنقسم إلى
ثلاثة أقسام: قسم ينفع الإنسان، وقسم يضره، وقسم لا ينفع ولا يضر."
وقال العثيمين في "شرح
رياض الصالحين" (2/ 79):
"وهذا حديث عظيم
ينبغي للإنسان أن يجعله نبراساً له في عمله الديني والدنيوي، لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : (احرص على ما ينفعك)،
وهذه الكلمة كلمة جامعة
عامة، (على ما ينفعك) أي على كل شيء ينفعك سواء في الدين أو في الدنيا، فإذا
تعارضت منفعة الدين ومنفعة الدنيا فقدم منفعة الدين؛ لأن الدين إذا صلح صلحت
الدنيا، أما الدنيا إذا صلحت مع فساد الدين فإنها تفسد."
وفي "البحر المحيط
الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" (41/ 555) للإثيوبي:
"(المسألة الثالثة):
في فوائده:
1 - (منها): بيان وجوب
الإيمان بالقدر.
2 - (ومنها): بيان فضل
المؤمن القويّ على غير القويّ؛ لأنه ينفع نفسه،
وينفع المؤمنين.
3 - (ومنها): بيان فضل
الإيمان، وإن كان صاحبه ضعيفًا.
4 - (ومنها): الحثّ على
الحرص على تحصيل ما ينفع المؤمن من خير
الدنيا والآخرة، وعدم
التواني في طلب ذلك.
5 - (ومنها): الحثّ على
الاستعانة بالله -سبحانه وتعالى- في تحقيق ما يريده؛ لأن
مجرّد الحرص لا يُجدي شيئًا
إلا بعون من الله تعالى على حصوله، بل يكون
حرصه وبالًا عليه، ولقد
أحسن من قال، وأجاد في المقال أمن الطويل، :
إِذَا كَانَ عَوْنُ اللَّهِ
لِلْمَرْءِ مُسْعِفًا ... تَهَيَّا لَهُ فِي كُلِّ أَمْرٍ مُرَادُهُ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ
مِنَ اللَّهِ لِلْفَتَى ... فَأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ
6 - (ومنها): ذمّ العجز،
والتواني في طلب المنافع.
7 - (ومنها): أنه إذا وقع
بعد حرصه على طلب ما ينفعه خلاف مطلوبه،
لا ينبغي له التأسّف، وقول:
"لو أني فعلتُ كذا كان كذا" تسخّطًا لقدر الله
تعالى، بل الواجب أن يستسلم
لقضائه وقدره، ولا يتسخّط؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- أعلمُ
بمصالح عباده، فربما يكون
عكس ما حرص عليه خيرًا إما في الدنيا، وإما في
الآخرة، قال الله -عز وجل-:
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا
شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ
لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216].
وقال: {فَعَسَى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]،
بل الواجب عليه حينئذ أن
يقول: "قدّر الله، وما شاء فعل".
والحاصل: أن نزول المكروه
الدنيوي على العبد المؤمن خير له؛ لأنه
إنما أصابه بما كسب من
المخالفات، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]، ثم إن هذا
الذي أصابه إما أن يكون
تكفيرًا لِمَا اقترفه من السيئات، وهذا مطلب عظيم،
وإما أن يكون رفعًا
لدرجاته، وهذا أعلى وأغلى، والله تعالى أعلم.
8 - (ومنها): أن قول العبد:
"لو فعلت كذا" يفتح عليه باب الشيطان؛ إذ___يحمله على تسخّط ما قدّر
الله تعالى عليه، والتبرّم منه، وعدم الرضا بالقضاء،
وسوء الظنّ بربه -سبحانه
وتعالى-، وكلها من نزغات الشيطان، فلا ينبغي للعبد أن يفتح
بابها؛ إذ يخسر دنياه
وآخرته، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من عباده الذين قال
فيهم: {إِنَّ عِبَادِي
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الآية [الحجر: 42]، وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ
لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} [النحل: 99]، والله
تعالى
أعلم.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا
الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}." اهـ
وفي "مشارق الأنوار
الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه" (2/ 483) لمحمد
بن علي بن آدم الأثيوبي:
"في فوائده :
1 - (منها): ما ترجم له
المصنّف رحمه الله، وهو بيان وجوب الإيمان بالقدر.
2 - (ومنها): بيان فضل
المؤمن القويّ على غير القويّ؛ لأنه ينفع نفسه، وينفع المؤمنين.
3 - (ومنها): بيان فضل
الإيمان، وإن كان صاحبه ضعيفًا.
4 - (ومنها): الحثّ على
الحرص على تحصيل ما ينفع المؤمن من خير الدنيا والآخرة، وعدم التواني في طلب ذلك.
5 - (ومنها): الحثّ على
الاستعانة بالله سبحانه وتعالى في تحقيق ما يريده؛ لأن مجرّد الحرص لا يُجدي شيئًا
إلا بعون من الله تعالى على حصوله، بل يكون حرصه وبالًا عليه، ولقد____أحسن من
قال، وأجاد في المقال [من الطويل]:
إِذَا كَانَ عَوْنُ الله
لِلْمَرْءِ مُسْعِفَا ... تَهَيَّا لَهُ في كُلِّ أَمْرٍ مُرَادُهُ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ
مِنَ الله لِلْفَتَى ... فَأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ
6 - (ومنها): ذمّ العجز،
والتواني في طلب المنافع.
7 - (ومنها): أنه إذا وقع
بعد حرصه على طلب ما ينفعه خلاف مطلوبه، لا ينبغي له التأسّف، وقولُ "لو أني
فعلتُ كذا كان كذا" تسخّطًا لقدر الله تعالى، بل الواجب أن يستسلم لقضائه
وقدره، ولا يتسخّط؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عباده، فربما يكون عكس ما
حرص عليه خيرًا إما في الدنيا، وإما في الآخرة، قال الله عز وجل: {وَعَسَى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ
شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، بل
الواجب عليه حينئذ أن يقول: "قدّر الله، وما شاء فعل".
8 - (ومنها): أن قول
العبد "لو فعلت كذا" يفتح عليه باب الشيطان؛ إذ يحمله على تسخّط ما قدر
الله تعالى عليه، والتبرّم منه، وعدم الرضا بالقضاء، وسوء الظنّ بربه سبحانه
وتعالى، وكلها من نزغات الشيطان، فلا ينبغي للعبد أن يفتح بابها؛ إذ يخسر دنياه
وآخرته، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده الذين قال فيهم: {إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الآية [الحجر: 42] وقال: {إِنَّهُ
لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
[النحل: 99]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل."
اهـ
فتح ذي الجلال والإكرام
بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (6/ 432_436) :
"هذا الحديث:
فيه: حث على مكارم الأخلاق،
أولاً : قوله (لو تفتح عمل
الشيطان) أي : فإن قول الإنسان "لو" في الأمر المقدر تفتح عمل الشيطان،
فما هو عمل الشيطان؟ عمل الشيطان ما يحدثه في قلب الإنسان من الندم والحسرة، وهي
لا تفيد؛ لأن ما وقع لا يمكن رفعه.
ففي هذا الحديث فوائد:
منها: أن الأيمان يتفاوت، يؤخذ ذلك من قوله: "المؤمن القوي خير وأحب، إلى الله من
المؤمن الضعيف"، فإن قال الإنسان: بماذا يتفاوت الإيمان؟ قلنا: يتفاوت بأسباب
متعددة؛ أولاً: يتفاوت باليقين، فبعض الناس يكون إيمانه إيمان يقين كأنما يرى
الجنة___والنار واليوم الآخر،
بل قد قال الرسول صلى الله
عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه"، وهذا أعلى ما يكون من درجات
اليقين هذا من الأسباب، وهل لهذا - أي: زيادة اليقين - دليل على أنه ربما يزداد
وينقص؟ نقول: نعم فيه دليل من القرآن : {وإذ قال إبرهيم رب أرني كيف تحيى الموتي
قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى} [البقرة: 260]
أي : ليزداد ثباتاً، وله
دليل من الواقع أيضاً، فمثلاً: إذا أتاك رجل ثقة بحبر تثق بخبزه لصدقه وأمانته
وإدراكه الأمور على ما هي عليه أتاك بخبر صار عندك إيمان، أتاك رجل آخر بنفس الخبر
فيزداد الأيمان، وكلما كثرت طرق الخبر ازداد الإنسان قوة، كذلك أيضاً يقوى الإيمان
بكثرة اللجوء إلي الله عز وجل، بمعنى: أن يكون قلبك دائماً متعلقا بالله، إن ذكرت
الله تذكره في قلبك قبل ان تذكره بلسانك، إن تركت شيئاً لله تذكر الله تعالى بقلبك
قبل أن تتركه، وهكذا يكون قلبك دائماً مع الله، حتى في لبس الثوب، تذكر أن الله هو
الذي أنعم به عليك ويسره لك، وكذلك الأكل والشرب والنكاح والمسكن، كل ذلك اذكر
الله عز وجل يزداد بذلك اليقين، مما يزيد اليقين: العمل الصالح. لقوله تعالى:
{والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتهم تقواهم} [محمد: 17]. وكلما كثر العمل الصالح
ازداد الإيمان قوة، ولهذا يقال: إن الأعمال الصالحة بمنزلة الماء للشجرة كلما
أكثرت من سقيها ازدادت نمواً وحياة.
ومن فوائد الحديث: إثبات تفاضل الناس حسب قوة إيمانهم، يؤخذ ذلك من قوله:
"خير"، هذا عائد على المؤمن.
ومن فوائد الحديث: إثبات محبة الله عز وجل لقوله: "أحب إلى الله"
ومن فوائده أيضاً: أن محبة الله تعالى تتفاوت بحسب أعمال العبد؛ لأن الله علق زيادة
المحبة بقوة الإيمان.
ومن فوائد الحديث: حسن التعبير في حطاب النبي صلى الله عليه وسلم كما هو في كلام الله
لقوله: "وفي كل خير".
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن يفاضل بين شخصين وفي كل منهما خير أن
يذكر الخير في الجميع حتى لا تهبط قيمة الأخر من قلوب الناس.
ومن فوائد الحديث: إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرص على ما ينفع؛ لقوله :
"احرص على ما
ينفعك" وهو لما قلنا في الشرح شامل لما ينفع في الدين أو في الدنيا.
ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان أن يحرص على ما لا نفع فيه، يؤخذ ذلك من قوله:
"على ما ينفعك" يعنى: وأما ما لا ينفعك فلا تحرص عليه، ولكن هل يجوز ذلك
أن تمارسه أولاً؟ ينظر، فإن كان شيئاً محرماً فإنه لا يجوز، وان كان لغواً فإن
الأولى حفظ النفس واللسان عنة.____
ومن فوائد الحديث: وجوب الاستعانة بالله عز وجل مع فعل الأسباب، أين السبب؟ قوله :
"احرص على ما ينفعك"، الاستعانة "واستعن بالله".
ومن فوائده: أن فعل الأسباب مقدم على التوكل والاستعانة؛ لأنه قال
"احرص" "واستعن".
فإن قال قائل: لا نسلم لهذه
الفائدة؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب.
قلنا: نعم هي لا تقتفي
لكنها لا تنافي الترتيب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: {إن
الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158]. قال حين دنا من الصفا: "أبدأ
بما بدأ الله به"، قررنا أن الفعل يتقدم على الاستعانة لئلا يكون الإنسان
متواكلاً لا متكلاً، يعني: لو قدم الاستعانة بالله على شيء لم يفعله فإنه لا
يستقيم ولكن يقال: الأولى أن تكون الاستعانة مقارنة للفعل، بمعنى: أنه من حين أن
يقوم بالفعل ينوي الاستعانة بالله لئلا يعجب بنفسه في أول الفعل، فالاستعانة - إذن
- إما أن تسبق أو تتأخر أو تقارن، فأيهما المطلوب؟ المقارنة.
ومن فوائد الحديث: أنك إذا حرصت على ما ينفعك فلا تستعن يغير الله، نعم يقال: إنك إذا
استعنت بغير الله فغيه تفصيل: إن كان لا تمكن الاستعانة به كما لو كان ميتاً أو
غائباً فهذا لا يجوز، وهو من الشرك، وأن كان تمكن الاستعانة به فهذا دخل في قوله:
"احرص على ما ينفعك"، فيكون من السبب، والاستعانة إنما هي لله عز وجل.
ومن فوائد الحديث: النهي عن الكسل والخمول، وهو يستلزم الثبات والاستمرار، يؤخذ من
قوله: "لا تعجز" أي: لا تفتر عن العمل، وتترك العمل بل اثبت واستمر،
ولهذا قال الله عز وجل: {يأيها الذين امنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله
كثيراً لعلم تفلحون} [الأنفال: 45].
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا فعل ما يلزمه من الأسباب النافعة واستعان بالله ثم
صار الأمر على خلاف ما أراد، فهنا يجب عليه التفويض المطلق، وإلا فالواجب أن يفعل
السبب، فمثلاً: لو إن أناساً يقاتلون عدواً ونفدت أجهزة القتال معهم أو تكسرت
فهنا. ما بقي عليهم إلا التفويض الى الله عز وجل، يفوضون تماماً؛ لأنهم ما
يستطيعون أن يفعلوا الأسباب، أما مع إمكان فعل الأسباب فإن الواجب فعل السبب؛
ولهذا نقول: إن من الاستهتار أن يذهب إنسان يقاتل بعصاه آو بسكين مطبخه مع أناس
يقاتلونه بالدبابات والرشاشات ويقول: أنا متوكل على الله! ! هذا غلط، نعم لو أنك
حوصرت ولم تستطع الفرار حينئذ قاتل ما استعطت بأي سلاح معك.___
ومن فوائد الحديث: النهى عن قول: "لو" يعنى: إذا فعلت الأسباب ولكن لم يحصل
المقصود لا تقل: لو، وكما تعلمون أن الحديث يدل على ان النهي عن قول:
"لو" إنما هو ني هذه الصورة المعية، وهي أن يكون الإنسان قد حرص على ما
ينفع وبذل الأسباب واستعان بالله ثم اختلفت الأمور، منها لا تقل لو أني فعلت كذا
لكان كذا مثال ذلك: رجل سافر إلي مكة لأداء العمرة واستعان بالله عز وجل، ثم أصيب
بحادث قي أثناء الطريق فهل له أن يقول: لو أني ما سافرت لسلمت؟ لا؛ لأن الرجل ما
ذهب ليصاب بالحادث، إنما ذهب لفعل ينفعه مستعينا بربه مستمراً على ما أراد، فحصل
الأمر على خلاف المراد، فحينئذ يفوض الأمر إلى الله ولا يقول: لو أني فعلت كذا
لكان كذا وكذا، وأما استعمال لو من حيث هو ففيه تفصيل: إن استعملت لمجرد الخبر فهي
جائزة وليس فيها شيء مثل: أن تقول لصاحبك: لو جئتني لأكرمك، هذا ليس فيه شيء، بل
خبر محض ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم "لو استقبلت من أمر ما استدبرت
ما سقت الهدي"، الثاني: أن يقولها - أي: له - للتمني، فهذا على حسب ما تمناه،
مثل أن يقول: لو أن لي مثل مال فلان لعلمت فيه مثل عمله، فهذا الذي تمناه إن كان
خيراً فقول: "لو" خير وإن كان شراً فقول: "لو" شر، الثالث: أن
يقولها على سبيل التحسر والندم، فهذه منهيٌ عنها كما في هذا الحديث.
ومن فوائد الحديث: أن قدر الله 0 تبارك وتعالى 0 فوق كل الأسباب، وأنها قد تأتي
الأسباب تامة؛ ولكن قدر الله يحول بينها وبين مسبباتها؛ لقوله: "ولكت قل قدر
الله".
ومن فوائد الحديث: إثبات القدر، وأنه سابق لإرادات كل مريد؛ لقوله: "ولكن قل قدر
الله"
وهل القول هنا باللسان ـو
باللسان والقلب؟ باللسان والقلب.
ومن فوائد الحديث: إثبات الهيئة لله عز وجل وإثبات الفعل؛ لقوله: "وما شاء
فعل"، واثبات الفعل لله عز وجل هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، فهم يثبتون
لله الأفعال الاختيارية ويقولون: إن الله يفعل ما يشاء، والذين ينكرون الأفعال
الاختيارية يقولون: لو قام بالرب فعل لكان حادثاً؛ لأن الفعل حادث، والحادث لا
يقوم إلا بحادث، فيقال لهم: من قال لكم هذا بل قيام الأفعال بالله عز وجل تدل على
كماله، وأنة يفعل ما يريد ويرزق، ويحيي ويميت ويعز ويذل، ولكن قل: قدر الله وما
شاء فعل.
ومن فوائد الحديث: أن الشيطان قد يسلط على الإنسان لقوله : "فإن لو تفتح عمل
الشيطان"،
ولا شك أن الشيطان يسلط على
المرء في إدخال الأحزان عليه وإدخال التحسر عليه وتشتيته في أمور لا أصل لها
وتخيله أموراً لا حقيقة لها، كل ذلك من أجل إدخال الحزن على الإنسان، وإلي هذا
يشير قوله تعالى: (إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين امنوا وليس___
بضارهم شيئاً} [المجادلة:
10].
ومنه: الحلم في المنام, فقد
يرى الشيطان حلماً يكدره وينغص عليه حياته ويأتيه التعبير من كل وجه يكدره في
نفسه, وكل هذا من الشيطان.
ومن فوائد الحديث: بيان شدة عداوة الشيطان للإنسان حيث يفتح عليه باب اللو." اهـ
وفي "مجموع الفتاوى"
(7/ 653) لشيخ الإسلام:
"وَأَمَّا طَرِيقُ
الْوُصُولِ إلَى ذَلِكَ[1]: فَبِالِاجْتِهَادِ فِي فِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ
وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ." اهـ
Komentar
Posting Komentar